الظل
يهمنا الظلّ من خلال ما فيه من سرعة زوال. الظل شيء هشّ، لا شكل له، مفتوح على جميع الانحرافات والانحناءات وعلى جميع الامكانات. ولهذا السبب يبدو متصل بجوهر الفنّ، فالفنّ كل شيء ولا شيء في آن، لعبة إيهام نطارد بها حقيقة أعظم من الواقع المبذول أمام الحواس.
– حوارات الظل لميشال نوردساني
بعد الحرب العالمية الثانية، حين تغيرت طبيعة نظام الأعمال في اليابان وحدث تغير حقيقي في مجالات عديدة من مجالات الحياة، حدث نوع من الفقد لا يمكن تعويضه. على الرغم من أن الأشياء التي فقدت بسبب التطور الحضاري، حل محلها أشياء أفضل منها وأكثر كفاءة في العمل والحركة والنقل إلا أن الآثار البسيطة، أو التفاصيل البسيطة التي كانت تحمل غنى روحي وثقافي، بل وجمالي لا يمكن أن تعوض. في مقالة مديح الظل للروائي الياباني جونيتشيرو تانازاكي يتساءل الكاتب حول الانتاج الحضاري لكل دولة من الدول، أو الشرق والغرب. إذا أنتج كل واحد منهم ما يمثل ثقافته وتاريخه الخاص، هل سيصبح النتاج-والذي ستستفيد منه البشرية جمعاء -يحمل ثراءً في الشكل والطريقة بحيث نجد في الأخير بأن هناك تنوع حضاري في الصناعات والأشياء، وكل نوع من هذه الأنواع يحمل في داخله خصوصية ثقافية، أم أن الرؤية الواحدة هي التي من ستتغلب وتزيح كل ما يصدر عن الآخرين؟ مكبر الصوت لا يناسب الياباني حسب تانيزاكي إذ هو غير مناسب مع طريقة الإلقاء اليابانية التي تعطي حضوراً مميزاً للوقفات والانطلاقة. وما إن يتحكم هذا الجهاز في الصوت كحضور، حتى يفقد الإلقاء جماليته ويصبح الإلقاء شكلاً واحداً لعدة أناس آخرين. ويطرح مثال آخر حول القلم والورق: لو كان مخترع القلم يابانياً أو صينياً، من المؤكد بأنه لن يجعل ريشة القلم معدنية، بل سيجعلها عادية. ولن يفكر بإستخدام الحبر الأزرق السائل، بل نوع من السائل مماثل للحبر الصيني القديم، يتفنن في إسالته من علبة الحبر حتى وبر الريشة. ومن أجل استخدام أمثل لهذا الشكل من الأقلام، يستلزم توفير نوع من الورق الياباني بكميات كبيرة، حيث أن الورق العادي أو الغربي لا يصلح لهذه الأقلام. لو حدث تطور على هذه الصورة لما احتل القلم والورقة مكانتها في الصدارة، ولما تفوقت وكثر استخدام الحروف اللاتينية إلى درجة احتلالها الصدارة. لو فعلنا ذلك-يقول تانيزاكي-لما قلدنا الغرب فكراً وأدباً حرفياً، ومن يدري، لربما كان لدينا نوع جديد ومبتكر. هذه الأشياء الصغيرة لا تشكل مساحة كبيرة، وقد تكون تافهة ظاهرياً، ولكن هذا الشيء البسيط جداً قد يحمل معه نتائج لا نهائية.
ولكن مثل هذا الفقد يبدو بسيطاً إذا تم مقارنته بأمور فقدت وكانت ذا اتصال حميم بالفرد. إن كثافة الإنارة قد أفقدت المنزل الياباني جماليته. المطبخ الياباني مصمم بحيث تبدو بعض أماكنه في الظل، لا يمسها النور، وتعطي له شكل جمالي آخاذ. المطبخ الياباني كما يصفها تانازاكي ليس مكاناً للأكل، بل وللتأمل، إذ يفرض التناسق بين الضوء والظل مساحة هائلة لممارسة التأمل والاستمتاع به في أجواء بسيطة. المسرح الياباني (مسرح نو) لا يتم فيه العمل المسرحي دون أن يكون مصمماً بحيث تبقى بعض أجزاءه غارقة في الظلال. في محاولة لرسم صورة جمالية في المنزل، لا يحتاج الياباني لأثاث حتى يملأ المساحات الفارغة في المنزل. لا يحتاج الأمر إلا لمعرفة نوع من التناسق الذي ممكن أن يحدث حين يخترق شعاع الشمس المنزل، وحين يحدث الانعكاس مخلفاً الظل، يحدث نوع من العمران داخل المنازل قوامه هذا الانعكاس.
جمال الظل ليس إلا سمو بأشياء الحياة الواقعية. القدامى اليابانيين الذين كانوا مجبرين على الإقامة برضى أو إكراه في غرف مظلمة، اكتشفوا الجمال في الظل، وتوصلوا إلى استخدام الظل من أجل الحصول على تأثيرات جمالية. جمال الغرفة اليابانية ناتج عن لعب بدرجة كثافة الظل فقط. يقول تانازاكي:
عندما نتأمل الظلام المخيم خلف العارضة العليا أو حول مزهرية، أو تحت رف، نعرف أن هذا الظلام ليس سوى ظلال قليلة جداً، نشعر أن الهواء في هذه الأماكن يتضمن كثافة الصمت، وأن سكوناً لم يتغير منذ الأزل، يسود هذا الظلام. حين يتحدث الغربيون عن أسوار الشرق، فمن الممكن جداً أنهم يعنون بذلك هذا السكون المحير قليلاً الذي يفرزه الظل حين يمتلك هذه الميزة. عندما كنت صغيراً كنت أجازف وألقي نظرة على توكونوما (نوع من الزخرفة اليابانية عبارة عن تجويف في جدار الحجرة الأساسية، يشكل زاوية مع الحديقة)، في قاعة استقبال أو في مكتبة لا تمسها الشمس أبداً، لا أستطيع أن أقاوم إحساساً غامضاً بالخوف والرعشة. أين هو اللغز؟ حين نتأمله جيداً، نكتشف أنه ليس سوى سحر الظل. عندما نزيل هذا الظل الذي تنتجه كل هذه الزوايا المخيفة، فإن التوكونوما يعود فوراً إلى حقيقته العادية التي تتمثل في أنه فصاء فارغ وعار. وهنا أثبت الأجداد أنهم عباقرة. استطاعوا أن يُضفوا ميزة جمالية أعظم من ميزة أي رسم جداري أو زخرفة على عالم الظل الذي خلقوه بعد تفكير طويل.
لكن الظل ليس شكلاً جمالياً وحسب، إذ قد يكون بوابة للحياة أو الموت. في الجزء الثاني من كوميديا دانتي الإلهية: المطهر-النشيد الثالث، يتابع دانتي رحلته الطويلة مع مرشده فرجيل. زمن النشيد في بدايات الصباح. كانت الشمس في أول شروقها، وكان الظل يرتمي أمام السائر غرباً. يكتشف دانتي شيئاً غريباً على الأرض وهو يسير: حين حدث الانعكاس والأثر الذي يحدثه الضوء، لم يجد دانتي على الأرض سوى ظل واحد، ظله. ولم يجد أثر لظل مرشده فرجيل. خاف أن يكون قد ظل عن طريقه وتاه في هذا المكان. لكن فرجيل كان معه ولم يفترق عنه. فسر مرشد دانتي الأمر بأن عدم وجود الظل بسبب أنه إنسان ميت، والأرواح لا ظلال لها. ما إن تفارق الروح الجسد حتى يحدث ذلك الشيء الأشبه بالاختفاء أو الرحيل مع الروح.
الشمس تحبو خلف ظهري لاهبة حمراء
فنورها يسقط على الأرض أمامي
راسمة بأشعتها ظل جسدي.
بالخوف شعرت، وحولي استدرتُ
لفكرة طرأت وهي أن مرشدي تخلى عني
إذ لم أر على الأرض سوى ظل واحد
لكن فرجيل الفت إلي وقال:
“لم ما تزال مرتاباً؟ لماذا تشك
في وجودي هنا، وإني أرشدك في طريقك؟
لقد مرت الأماسي على قبر جسدي
الذي فيه دفنت ظلي. وقد نقلوه
من برنديزيوم إلى نابولي
فإن كنت بلا ظل، فهل يدهشك
هذا أكثر من أن السموات التي تبث
النور ترسله من سماء إلى أخرى؟
في كتاب د. فاطمة الوهيبي: الظل: أساطيره وامتداداته المعرفية والإبداعية، ذكرت المؤلفة عبارة افتتاحية لابن منظور في لسان العرب: يقال للرجل إذا مات وبَطَل: ضحا ظلّه. يقال ضحا الظلّ إذا صار شمساً. وإذا صار ظل الإنسان شمساً فقد بَطَل صاحبه ومات. هذا الارتباط بين الموت والظل في عبارة ابن منظور فتح الباب واسعاً لبحث قيم حول الظل والثنائيات التي يحمل، وما يمثله من صور متعددة في شتى مجالات الحياة والفكر الإنساني: في النصوص الأسطورية والدينية والصوفية والفلسفية والشعرية والفنية والثقافية وعلم النفس. قرأت هذا الكتاب على فترات متباعدة لجاذبية الفكرة. ثم قرأته قبل أيام قليلة وكان مثيراً للغاية، وأشعر بأنه سيحدث تأثيراً أو نظرة جديدة في القراءة. وبعيداً عن التأثير، هذا البحث بمثابة رحلة حول العالم، يطارد الظل مفهوماً وشكلاً وتصوراً، محاولاً إيجاد سلسلة من الملامح التي تصف الظل وتحدد هويته، إذ لا يوجد أي مجال من مجالات الكتابة الإنسانية إلا ووصل لها هذا الكتاب محاولاً اختراق الحاجز الذي قد يختبئ خلفه الظل. هناك عدة نصوص لم ترد فيها مفردة الظل حرفياً. لكن التصورات والمفاهيم في هذه النصوص لها ارتباطات بالظل: صورة كاملة للتجلي والانعكاس، والمبدأ والفرع والأصل. الظل كشكل مادي بحت لم يكن مسيطراً في هذا البحث، إذا تم تناوله بهذا الشكل سيصبح البحث مبحثاً في العلوم الطبيعية ربما. ولم يتناول الظل كصورة من صور المجاز أو الاستعارات التي قد تستخدم في عدد من النصوص. ليس للظل حضور في هذا إلا شكله المادي وما يحدثه من تأثير شعري حسب تصور الشاعر. هناك حضور للظل في المدونة الإنسانية. هذا الحضور بشكله المادي يحمل تصورات ومفاهيم وأشكال. تقول المؤلفة:
للظل ارتباطات بأمور متنوعة، وله أبعاد وامتدادات كثيرة، ويمكن وصله بمفاهيم وكلمات تبدو قريبة أو بديلة أو مرادفة له في عدد من تجليات الظل في النصوص والكلمات. من جهة يرتبط الظل بمصدر الضوء أو يرتبط بشيء مادي متجسد ينعكس عليه ليحدث الظل، لكنه ذو علاقة ملتبسة، فهو غير متعين وغير مادي بالمعنى الكامل إلا من حيث تشكله أمام البصر. ومن هنا ارتباطه الوثيق بمفهوم التجلي والانعكاس ومفهوم المظهر والحقيقة، وفكرة المبدأ والأصل والفرع. تتبادل الكلمات مثل: الشبح والقرين مواقع ذات أهمية دالة في عدد من النصوص، وتحفر عميقاً في قلب النصوص الميثولوجية والدينية والفلسفية والأدبية. كما تتوازى معه مفردات مثل الصدى، والغيم، والماء، والمرآة، والمرأة، وهذا ما يثري مفهوم الظل من جهة، ويعقده ويعمقه من جهة أخرى.
قيمة الكتاب، بالغنى المعرفي الذي يحتويه، لم يتركني ابحث في هذا المجال. لكنه نثر كل ما كان في الذاكرة حول الظل. يوجد اقتباس عن فيكتور هيجو والظل في كتاب الظل، يقول فيكتور هيجو: من يريد رؤية الخارج عليه أن ينظر إلى أعماق نفسه. إن المرآة العميقة القاتمة موجودة في داخل الإنسان، هنالك توجد الظلمات المضيئة. إنها أكثر من صورة، إنها ظل، وفي داخل الظل يوجد طيف. عندما ننحني فوق ذلك البئر نرى فيه من خلال مسافة الهاوية وفي دائرة ضيقة كل العالم الفسيح.
الظل في أدب فيكتور هيجو لا يكتمل حضوره دون أن يكون مقترناً بالماء. هذا الظل يتمدد إلى الليل والظلام. والماء هو البحر، أو المحيط. وما يجمع بين الظل والماء هو المعركة والنضال. يصل قلق الوجود إلى حده الأقصى في هذه الحالة. الماء بصوره: البحر والمحيط يمثل السلطة الاجتماعية التي تستبعد الإنسان، هو الظلمات الأبدية، هو الليل الاجتماعي المتحجر الفؤاد الذي يلقي ضحاياه في عبابه. هو الشقاء الذي لا حد له. النفس التي تتلاعب بها أمواج البحر تصبح جثة، فمن ذا الذي يعيدها إلى الحياة؟ البحر هو باب المعركة الكبرى ضد القديم المتسلط، والطبيعة بعواصفها وثوراتها. لا سكون ولا اطمئنان ولا كمال في النفس البشرية دون أن يواجه الفرد معركته الكبرى ضد البحر بأمواجه. يتخذ الماء عنفه غضباً متميزاً. هذا الغضب الذي سرعان ما يسعد الإنسان بقهره. ها هنا تبدأ الأذية بين الإنسان والبحر. في فصل الموج والظل في رواية البؤساء، رجل في عرض البحر، يصارع من أجل النجاة. إنه يطرق كل الأبواب، محاولاً النجاة، غير أنه لم يتلقى استجابة من أحد. المهمة الملقاة على عاتقه، أي النجاة، يجب أن تكون بفضله هو ولا أحد غيره. وأية عاصفة عنيفة سوف يخترقها في محاولته الكبرى هذه للنجاة. هذا الفرد الذي يصارع لا اسم له، رغم أن من يقرأ الرواية سيعرف اسمه لكن المؤلف أزاح اسمه وفضل أن يكون الجسد، الجسد الوحيد، أو الظل الوحيد في هذا البحر. عندما كان إميل زولا في بدايات حياته الأدبية، كان عليه ككاتب يفضل التصوير الفوتوغرافي في الكتابة كما يقول أن يجتاز جزء محدد من البؤساء حتى ينطلق. وهذا الجزء كان ملحمياً إذ أن بطل الرواية هبط إلى الأسفل، إلى الأعماق المظلمة، في محاولة للنجاة، وما أقصده هنا هو نزول جان فالجان إلى بالوعات باريس. نقل فيكتور هيجو الفلسفة من أعلى السطح إلى قاع الأرض. النزول إلى الأسفل، إلى أبعد مكان في الأرض يجب أن يحدث عند فيكتور هيجو. لأن الأسفل، القعر، هو مكان الحقيقة الواضحة كل الوضوح. أما الزيف والكذب فهو طابع لا ينفصل عن كل سطح، وبالتالي عن كل سلطة. وهو ما عبر عنه بطل رواية الرجل الذي يضحك جوينبلان في مجلس اللوردات حين قال: لقد أُلقي بي في اللجة، لأي غرض؟ كي أرى قاعها. فأنا غطاس، وأعود باللؤلؤة، بالحقيقة.
الظل والسينما
الإضاءة ليست شيئاً هامشياً في السينما، بل هي ركن من أركانها، إن تم التعامل بها باحترافية، قد تنتج صورة مميزة للغاية. وشرط التميز هو التعامل الحذر مع الضوء والظل. القصة الدرامية أو النص الحواري، مع تعامل من النوع المتوسط – ليس باحترافي-مع الإضاءة قد يحدث تفاعلاً كبيراً. لكن الصورة بحد ذاتها، كحالة ينزع منها النص والقصة تصبح فارغة وليس لها أي تأثير. التناسق بين الإضاءة والظل، وزاوية التصوير، يعطي الصورة طابعها الأجمل. إن كنت سأذكر مثال فهو المخرج كريستوف كيشلوفسكي وتحديداً ثلاثية الألوان. كيشلوفسكي يقع بين حالتين: تأملية المخرج آندرية تاركوفسكي، وأدب إنجمار برجمان. ليس متأملاً صرفاً كتاركوفسكي، وليس ذو قبضة كاملة على العمل السينمائي مثل برجمان. هو أشبه بالمتنقل بين هذين الاتجاهين. هذا التنقل أعطاه مساحات كبيرة في التعامل مع شخصيات ثلاثية الألوان، وكمثال الأزرق لجوليت بينوشيه. بعيداً عن طابع العمل ككل، من قصة وحوارات وشكل نهائي إبداعي للعمل السينمائي: متعة المشاهدة لكريستوف كيشلوفسكي أساسها الصورة. جماليات الصورة من زوايا التصوير والتركيز والتقريب والتماهي. والجمالية التي أظنها قادت العمل ليحصل على تلك الجماليات هو الظل. الظل الذي يقسم الوجه البشري للنصف، يجعل النصف الأول منه مضاءً تحت تأثير الشمس، الإضاءة، والنصف الآخر يحمل شذرات من الظل. أقول شذرات لأن إغراقه في الظل يفقده الطابع المميز كصورة. شذرات تغطي أجزاء بسيطة من النصف، ترسم تموجاً يحدث ما يشبه الانفعال. تعامل كيشلوفسكي مع الظل متعدد، وليس في حالته الانعكاسية الطبيعية فقط. هناك التركيز على الوجه بالكامل بإضاءة من زاوية بحيث يظهر كل ما خلف الوجه عبارة عن ظلال. وهناك الظل الذي يحيط بالوجه، ويغطي غالبيته ويترك جزء يسيراً يحمل شذرات من الإضاءة، كما في المشهد الأخير من الأزرق حين تحول الظل إلى ما يشه الموج. هذا التعامل مع الظل يحمل تصورات قائمة على الحالة النفسية للشخصية، من سكون ووحدة وبكاء.
بالاشتراك مع مدونة ” أرصفة”