ها قد مرَّ خمسة وثلاثون عامًا على صدور فيلم “الكيف” وما زال المجتمات تعاني من المشكلات التي تناولها واهتمَّ بها وطرحها بقوَّة على مسمع ومرأى مشاهديه. وإذا كان الفيلم قد صُدِّر بشعار بيت الأستاذ “أحمد شوقي”: إنَّما الأمم الأخلاق ما بقيتْ .. فإنْ هُمُ ذهبتْ أخلاقُهُم ذهبوا؛ فليس أحوج مِنَّا الآن لاستعادة تجربة ذاتيَّة عربيَّة في تناول الواقع العربيّ، لإعادة ما طرحتْه وما نبَّهتْ عنه وما أرادته لنا.
تجربة جنونيَّة هي التي قادت أبطال فيلمنا كلَّه إلى اللقاء، وهي التي قادتهم إلى حافة الجنون. أخوانِ على نقيض “صلاح” (يحيى الفخراني) الحاصل على دكتوراه في العلوم الكيميائيَّة، ذو خلُق حميد منضبط، وذو أسرة يحاول تنشئتها على الصلاح في الفعل والقول، لكنَّه يُعاني ضيق ذات اليد وقلَّة ما جيبه أمام مُتطلبات عصره الدائمة. والآخر “جمال” (محمود عبد العزيز) الذي فشل في إكمال طريقه الجامعيّ في كليَّة “الحقوق”، وذهب يتكسَّبُ رزقه من طُرُق ملتوية أو شائنة، وعمل في النهاية مُنظِّم حفلات وضابط إيقاع (عازف على آلة الطَّبل)، وهو مُدمن على مُخدِّر “الحشيش” مُعاقر له. يخشى أخوه “صلاح” أن يُفتضح أمر حقيقة عمل “جمال” فيدَّعي أمام زوجه أنَّه يعمل في مجال المقاولات، لا ضابط إيقاع، كما أنَّه ينكر على أخيه كل أفعاله وأقواله المُبتذلة والبذيئة التي يتفوَّه بها دومًا. وبالعموم تمتاز علاقة الاثنين بالنفور الظاهريّ بسبب تنافر طبيعتهما وما آل إليه أمرهما، لكنْ في قرارة النفس يكمن حبّ الأخوة داخل نفسيهما.
وفي يوم من الأيام ينسى جمال قطعة حشيش في جيب ملابسه التي أعطاها لأخيه كيْ يغسلها له، فيذهب مسرعًا إلى بيت أخيه في الرابعة صباحًا. وتتسبب هذه المُفارقة في أن يكتشف صلاح إدمان أخيه جمال، ومن هنا تبدأ خيوط التجربة الجنونيَّة التي ستقود الجميع إلى مصير غير معلوم. يُقرر صلاح -وهو الكيميائيّ- أن يستخدم علمه في مُحاكاة صُنع قطعة تشبه قطعة المخدِّر التي أخذها من أخيه، لكنَّ الخلاف أنَّها مُكوَّنة من الحِنَّاء، وتخلو من المادة المُخدِّرة. ويُعطيها لجمال على أنَّها القطعة الأصليَّة، ويكتشف أنَّ جميع من تعاطوها اقتنعوا أنَّها المُخدِّر. وفور اكتشاف جمال خداع أخيه تلمع في ذهنه فكرة جهنميَّة في أنْ يبيع مادة الحِنَّاء المُعالجة كيميائيًّا لتاجر المخدرات الذي يتعامل معه. وينجح في مسعاه، لكنْ تقف إرادة أخيه صلاح أمام إرادته. وتدور بينهم الكثير من الحوارات والمساجلات والمداولات في محاولة إقناع أخيه في الاستمرار بصُنع الحِنَّاء المُعالج ليبيعه مُتكسِّبًا منه أمولاً طائلة.
وفي الأخير يقتنع الأخ ويمضيان في طريقهما الآثم. ويقرِّر جمال إصدار شريط غنائيّ بصوته، وتحدث الكثير من التطورات في حياتهما ماليًّا واجتماعيًّا ومهنيًّا. وهما لا يعرفان حقيقة ما يحدث على الجانب الآخر الخفيّ. وفي غمرة نجاحهما بعد أربعة أشهر من بدء تجربتهما الجنونيَّة هذه يفاجآن باستدعاء تاجر المُخدرات الكبير “سليم البهظ” (جميل راتب) لجمال، وهو حائر فزِع لا يعرف لِمَ استدعاه، وماذا سيفعل؟! وبعدها تتطور الأحداث في انحناء ضخم لا يكون أبدًا ما قبله مُشابهًا لما بعده، وما مرَّ عليهما من أيام حلوة هنيئة لم يكونا يعرفان أنَّها سترتدّ بعاقبة السوء؛ فماذا سيحدث؟ هذا ما يعرضه علينا الفيلم.
وفيلمنا حافل بالأفكار والفلسفات التي تدور جميعها تحت الفلسفة الأخلاقيَّة، أو مَبحث القِيَم في التصنيف الفلسفيّ الجادّ. ولعلَّ مُناقشة أهمّ الأفكار التي أتى بها أجدى من التعرُّض للسيناريو. لكنْ يجب التنويه على أمر هو أنَّ أهمّ ما في الفيلم والذي جعله أحد ألمع الأفلام العربيَّة بل الإنتاج العربيّ بإطلاق هو ما أثاره من أفكار وما عبَّر عنه من واقع وتأمُّل في الواقع لاستنباط الحقائق وتحليلها. فعل كل هذه العمليَّات العلميَّة والفلسفيَّة الصعبة للغاية بأسلوب سلِس ليِّن، يمتاز بالكثير من الكوميديا واللُّطف، وأداء تمثيليّ استطاع أن يجسِّد هذا العمل الفكريّ الضخم.
أوَّل ما فعله الفيلم ليُمهِّد لأحداثه هو تعبيره عن الواقع المَعيش -والذي للأسف ما زلنا نحياه حتى الآن- هذا الواقع الذي يمتاز بالتشتُّت الفكريّ، والضياع القِيَميّ والأخلاقيّ، وبانتشار المخدرات -والتي ازدادتْ وتيرتها بشدة عن عام 1985 ساعة إنتاج الفيلم ودخلت الكثير من الطبقات في مجتمعنا-، وكذلك انتشار ما قال عنها الفيلم إنَّها مخدرات للوعي وهي الأغاني الهابط المُبتذلة الفجَّة العبثيَّة التي نراها للأسف أوسع انتشارًا وأشدّ استيلاءً. ونرى في المجمل أنْ لا جديد تحت الشمس من عقود حتى الآن.
وبعد عرض الفيلم لعناصر الواقع بدأ بطرح أوَّل مسألة أخلاقيَّة توعويَّة عن طريق تصوير اللوحة التي عليها حِكمة وهي مُعوجَّة على الحائط في شكل غير سليم، وعن طريق تصوير الأراجيل وهي تقبع تحت لوحة أخرى لبيت شوقي المذكور سابقًا. والمسألة المُعبَّر عنها هي قضيَّة افتقاد المجتمع لمفهوم “المعنى”، وافتقاد المجتمع لقيمة “الأخلاق”، بل انتقاص المجتمع للمنظومة الأخلاقيَّة كلّها ولجدواها في واقع مليء بعديد التفاهات والترهات والأباطيل؛ حيث يسأل الإنسان نفسه: ماذا ستفيدني الأخلاق الحميدة في مُواجهة مثل هذا الواقع؟! وبما أنَّ وعيه لا يسعفه في الإجابة عن هذا السؤال، وبما أنَّ دور التوعية مُضيَّق عليه أو مُهمَل فلا يجد هذا الإنسان إلا أنْ يجيب بنفسه عن السؤال مُنكرًا أيّ دور لمنظومة أخلاق حميدة رآها -أو هكذا ظنَّ- أنْ لا جدوى لها من الأساس.
وبعدها نجد الفيلم يطرح قضيَّة أخلاقيَّة أخرى ولعلَّها الأعظم في مجال الأخلاق هي قضيَّة الأخلاق نفسها، أو مسألة وجود “أنطولوجيا” الأخلاق عن طريق اسم الفيلم، وعن طريق المناقشة بين البطلين حول ماهية ما يُسمَّى “الكيف” وهو هنا ما يريده الإنسان بغرائزه وشهواته ومتطلباته أمام ما يجب عليه. وهذه المعادلة هي السؤال الأخلاقيّ الأهم في كل الفكر الأخلاقيّ. فما يقصد أيّ أحد عندما يصف أحدًا بأنه “ذو أخلاق” أو “على خُلُق” إلا أنَّ في نفسه من الموانع التي تستطيع أن تجعله لا ينجرف إلى فعل السُّوء، وفي نفسه من الدوافع التي تدفعه أنْ يقدم على فعل الصالح أو الجيد. أيْ أنَّ لديه في داخل نفسه منظومة هادية ومُرشدة إلى فعل كذا وترك كذا. وهذا هو صُلب المسألة الأخلاقيَّة أصلاً.
كما أنَّ الفيلم قد ناقش قضيَّة في غاية الأهميَّة في الفكر الأخلاقيّ الشعبيّ وهي: ما الفارق بين القيمة والثمن؟! وهل لا بُدَّ للقيمة من ثمن؟. لكنَّ الفيلم هنا لمْ يجُبْ عنها إلا بقول “صلاح”: “القيمة لا تُقدَّر بثمن.. تقدر تقولي ثمن الحق كام أو ثمن الخير كام”. وهذه الجملة صحيحة حيث يُنكر بها مسألة التقييم، لكنَّها قد لا تكون مُقنعةً للكثيرين. وبالعموم هذه المسألة داخلة في حيَّز السفسطة والمغالطة المنطقيَّة؛ لسبب بسيط أنَّ بها خلطًا بين شيئَيْن لا يمكن الخلط بينهما. وهما: القيمة المعنويَّة أيْ عمليَّة “التقييم”، والقيمة السوقيَّة أيْ عمليَّة “التثمين”. العمليَّة الأولى “التقييم” وهي عمليَّة عقليَّة نفسيَّة تعتمد على المعيار الذي نؤمن به وهو الدين أو الفلسفة العُظمى التي نعتنقها، وكذلك إحساس النفس المُباشر، والفطرة الإنسانيَّة. أمَّا العمليَّة الثانية “التثمين” وهي عمليَّة سوقيَّة آنيَّة ليس لها علاقة بالأولى. والمُثمِّن لقيمة الأمور أشياء كثيرة؛ منها الحاجة إلى الشيء نفسه، ودرجة التشبُّع منه، ومنها اكتشاف الإنسان لقيمة الشيء المُثمَّن. والعنصر الأخير له علاقة ضخمة في هذا الشأن فمثلاً تلك اللوحة التي من المُمكن أنْ يلقيها إنسان في سلَّة المُهملات -لأنَّه لا يعرف قيمتها- هي نفسها اللوحة التي تُباع بالملايين عند أناس يعرفون قيمتها. هذا هو حلّ المُعضلة التي عرضها الفيلم في حواراته.
والسؤال الأكبر المُتعلِّق بحبكة الفيلم هو قضيَّة كيفيَّة إصدار حُكم أخلاقيّ على الأشياء، أو ما هي المعايير التي نلتجئ إليها حينما نحكم على أفعالنا من حيث الأخلاق؟ يتمثَّل هذا في أنَّهما يريدان أنْ يغشَّا لكنَّ عُمق التعقيد في الفعل أنَّهما يغشَّان المُحرَّم أو الممنوع (وهو هنا المخدرات) فما هو حُكم الأخلاق في هذا؟. ولعلَّ كثيرًا من الأفعال الإنسانيَّة التي نقوم بها في حياتنا اليوميَّة يدخل تحت هذا التصنيف؛ أقصد به الأفعال غير البيِّنة أو غير الواضحة أخلاقيًّا، حيث لا يوجد حُكم أخلاقيّ حاسم وباتٌّ فيها، بل توجد الكثير من وجهات النظر والاعتبارات التي يتغيَّر الحُكم الأخلاقيّ بتغيُّرها. ومن هنا يتضح عدم قدرة العقل الإنسانيّ وحده على معرفة الحُكم الأخلاقيّ السليم، ومن هنا نكتشف قيمة المُوجِّه -وهو الدين في الغالب- في توجيه عقلنا وإرشاده.
وقد عرض الفيلم لوجهَتَيْ نظر في المسألة: صلاح الذي يميل إلى عدم الفعل، وجمال الذي يُغرقه بالسفسطة والجدال ليحثَّه على الفعل مُلخِّصًا الأمر بأنَّهما لا يفعلان مكروهًا؛ لأنَّه لا مكروه في أنْ تغشَّ المُخدِّر لتقدم للناس مادة صالحة على أنَّها ضارَّة. المسألة حقًّا قد تبدو مُحيِّرة من هذه الوجهة لكنَّها على وجه التدقيق مسألة محسومة فالفعل منافٍ للأخلاق أولاً لأنَّه غشّ بالعموم، وثانيًا لأنَّه ترويج للمُخدِّر حتى لو خلا منه في الحقيقة، فهو ترويج للفعل عمومًا وإنْ زال الضرر الفيزيائيّ عنه.
وهناك مسألة في غاية الأهميَّة أيضًا عرضها الفيلم بذكاء في ثنايا أحداثه وحواراته هي: هل شيوع الانحلال داعٍ إلى تسويغه؟ رأي جمال أنَّ الاستغلال والغش أصبحا عُرف كل نشاط تجاريّ، ويستنتج من هذا أنْ لا داعي للقلق فهما بهذا لا يفعلان شيئًا غير سليم، إنَّما هو مُعتاد السوق والشائع فيه. وبالقطع التفكير الصحيح يهدينا إلى أنَّ هذه أيضًا قضيَّة بها الكثير من السفسطة والخداع المنطقيّ؛ حيث خلط فيها بين أمريْن لا يؤثر كلُّ منهما في الآخر هما: الحُكم الأخلاقيّ، وتنفيذ الإنسان له. وهما أمران مختلفان حيث مهما فعل الإنسان أو مارس الخطأ فهذا ليس مُبرِّرًا أبدًا لعمليَّة تسويغه بداعي الشيوع. وهذا هو الوجه الصحيح.
قضيَّة أخرى عرض لها الفيلم وهي: كيف يفسد الذوق العامّ؟ في حوار “صلاح” مع تاجر المخدرات “سليم”. حيث الأخير يريد أنْ يقنعه بأنَّ الناس هي التي تُقبل بشهواتها على السيء من المخدرات والفنّ الهابط والسلع المغشوشة الفاسدة عمومًا. لكنَّ “صلاح” يردّ عليه بالردّ الصحيح: “أنت والغشاشين اللي زيك اللي فسدتم ذوقهم .. عوّدتوهم على الوِحش لغاية ما نسيوا طعم الحلو”. وهذه قضيَّة من أخطر القضايا التي تقف أمام بناء أخلاقيّ وجماليّ سليمين لأيّ إنسان؛ فكيف لإنسان لمْ يَرَ إلا السيِّء أنْ يُقبل على الجيد؟ وكيف لإنسان لمْ يعتدْ إلا على الشرّ أن يجرؤ على فعل الخير؟. وهذه هي مسؤوليَّة المُجتمع كلَّه لا الإنسان المُفرد.
ولعلَّ التربية هي الوجه العمليّ للأخلاق وفيها يطرح الفيلم قضيَّة خطيرة أيضًا هي: كيف نُربِّي أبناءنا عندما يكون واقعنا مُلوَّثًا بما فعلتْه أيدي الناس؟ هل نترك أبناءنا يواجهون مُجتمعهم بكل مُعطياته الأخلاقيَّة واللُّغويَّة (أيْ نتركهم يفعلون مثلما يفعل مُجتمعهم)؟ أمْ نقاوم هذا منذ البدء ونُثنيهم عن مُقارفة التلوث الشائع؟!عرض الفيلم لهذا السؤال في علاقة “صلاح” مع ابنه ومسألة تعليمه اللغة الإنجليزيَّة أم اللغة القبيحة التي يجدها عند أخيه “جمال” والتي تأتي بالنفع الحقيقيّ المُباشر.
وآخر ما يمكن أنْ يقال من أفكار الفيلم أمران: الأول، هو تنبيهه على معنى بالغ الجودة بجُملة ذات نغم موسيقيّ وهي: الشرّ ليس فقط في إرادة السُّوء، إنَّما الشرّ أيضًا في سُوء الإرادة. والثاني، هو قضيَّة أنَّ الأخلاق مُعدية، أيْ أنَّ الأخلاق تنتقل سريعًا بين البشر؛ نرى ذلك في تلك الكلمات التي كان يستهجنها “صلاح” كلّ الاستهجان من أخيه “جمال” ثمّ من فعل المُخالطة والاتصال بينهما نجد “صلاح” يكتسب الأخلاق والمعايير واللغة التي كان يمقتها ويستهجنها من قبل. وهكذا هو الإنسان لذا يجب الابتعاد دومًا عن أماكن التلوث الأخلاقيّ مهما كان نفورنا منها فلا بُدّ أنْ نتأثَّر بها بطبيعتنا أردنا أمْ لمْ نُرِدْ.
وبالعموم فإنَّ كل ما سبق يضع فيلم “الكيف” في مَصافّ الأفلام العربيَّة إطلاقًا، بل هو من أجود ما أنتجته السينما الناطقة بالعربيَّة عمومًا، ومن الممكن أن يشاهده أيّ إنسان من أيَّة ثقافة أو لغة وسيُقدِّره وسيحترمه وسيفيد منه.
الفيلم فيلم تأليف بامتياز، لعب فيه المؤلف الأستاذ “محمود أبو زيد” كلَّ أدوار البطولة لأنَّ النصّ هو صاحب التميُّز الأول والأخير هنا. لكنْ لا يمكن إغفال براعة التمثيل من كل عناصر الفيلم المُشاركة؛ فضلاً عن البطلَيْن. كما لا بُدَّ من ذِكر الدور العظيم للموسيقى على يد “حسن أبو السعود”. كل هؤلاء قد عملوا في منظومة مع المخرج “علي عبد الخالق” ليقدموا لنا فيلمًا يستحقّ المشاهدة، ويستحقّ الاحترام.