“على خلفيةِ الإسلاموفوبيا اليوم، فإنّ دراسةَ بلوخ إنجازٌ استثنائيٌ. إنها تُظهِرُ بوضوح كيف أنَّ أحدَ الأصولِ المخفيةِ للحداثة الأوروبية هو تفسيرُ ابن سينا لِأرسطو. الفكرُ الإسلاميُّ في جذورِ أفكارِنا عن الحُرِّية والتَّحَرر؟ إن كنتَ مُنصدِمًا؛ فاقرأْ كتاب بلوخ! الآن فقط، بعد قرابةِ قرنٍ منْ إصدارِه الأولِ؛ حان وقتُ هذا الكتابِ.” — سلافوي جيجك[1]
- مقدمة
أرسلَ إرنست بلوخ، أحدُ أبرز المفكرين الماركسيين، رسالةً إلى صديقه هوركهايمر (Horkheimer) سنة ١٩٣٦، يخبرهُ فيها بحماسٍ، أنه جَمَعَ نُقُولاتٍ عن بعض المادّيينَ كابْنِ رُشْدٍ وابن جبيرول (Avicebron) وجوردانو برونو (Giordano Bruno).[2] وقد شَكَّل هذا الدفترُ الخاص، فيما يبدو، نواةَ الكتابِ الذي بين أيدينا؛ إذ نَشَرَ المؤلفُ مقالةً عام ١٩٥٢ في مجلة (Sinn und Form) بعنوان “ابن سينا واليسار الأرسطوطاليسي” (Avicenna und die Aristotelische Linke)، ثم أضافَ عليها أشياء، ونَشَرها ككتابٍ في نفسِ العام، وبعد ذلك نَقَّحَهُ في نشرة لاحقة سنة ١٩٧٢.[3] الكتابُ مطبوعٌ كذلك ضمن الأعمال الكاملة لبلوخ، والتي أصدرتها (Suhrkamp) في فرانكفورت، وقد تَرْجَمَهُ للعربية الأستاذ الدكتور محمد التركي، من ضمن إصدارات المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون[4].
أرجو أن تكونَ هذه المراجعةُ كالمدخلِ المختصرِ لِفِكْرِ إرنست بلوخ، فيلسوفِ الأمل الذي لابد أن يُقرأ عَرَبِيًّا بِشَكْلٍ جَيّدٍ.[5] وقد حرصت في هذه المراجعة على أمرين: أن تكون مُرَكّزَةً ومستوعبةً لأبرز أفكار الكتاب (précis)، وأن تكون بِلُغَةٍ واضحةٍ تُقَرّبُ لغةَ بلوخ التي لا تخلو من تعقيد أحيانا؛ بحيث يكون الكتاب مُتاحًا لغير المتخصّصين. نعم؛ لقد آن وقت بلوخ ليس للسبب الذي ذكره سلافوي جيجك فحسب، ولكن أيضا لأن الظرف التاريخيَ للبشرية، في ظل جائحة الكورونا، يحتم علينا تَلَمّسَ الفألِ العاقلِ والأملِ الموضوعيّ.
واللهُ قديرٌ على رفعِ البلاء عن هذا العالَمِ.
- ومضاتٌ من حياةِ الكاتب[6]
وُلِدَ إرنست بلوخ سنةَ ١٨٨٥ في لودفجشافن (Ludwigshafen)، التي أمضى فيها طفولته، ثم انتقلَ إلى فورتسبورج (Würzburg) وميونخ (Munich) في ١٩٠٥ لِدِراسَةِ الفلسفة في جامِعَتَيْهِما، وحصل على الدكتوراه في الفلسفة تحت إشراف كوهن (Hermann Cohen) الكانطي المعروف. وبعد إنهاء الدراسة انتقل إلى برلين (Berlin) للدّراسةِ عند عالِمِ الاجتماع سيمل (Georg Simmel)، حيث تَعَرّفَ هُناك على الفيلسوف والناقد لوكاش (Georg Lukács)، وبقي في برلين إلى ١٩١١. قضى بلوخ الفترة التالية بين جارمش (Garmisch) وهايدلبرج (Heidelberg)، حيث انضم في هايدلبرج إلى حَلَقَةِ ماكس فيبر (Max Weber). في عام ١٩١٧ هاجر إلى سويسرا مع زوجته واستقر في برن (Bern). وهناك، في سويسرا، أَنْجَزَ أَوَّلَ أَعْمَالِهِ الفلسفية البارزة؛ كتابه “روح الطوباوية” (Geist der Utopie)، وَتَعَّرفَ في تلك الفترة على فالتر بنجامين (Walter Benjamin)، الذي صار أحدَ أقرب أصدقائه.
في الفترة التالية، عشرينات القرن العشرين، أَكْثَرَ بلوخ من التّنقل والسفر في أوروبا، مَكَثَ في أكثر من مدينة، وأنجز العديد من المؤلفات، كما تعرّف على شخصيات بارزة منهم أدورنو (Theodor Adorno). غادر بلوخ، بسبب الوضع السياسي، إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة ١٩٣٨ وبقي فيها إلى ١٩٤٩، وهناك أنجز بلوخ كتابه الأهم “مبدأ الأمل” (Das Prinzip Hoffnung) بصيغته الأولية، وقد كتب أجزاءً منه في مكتبة وايدنر (Widener) في جامعة هارفارد. عاد بلوخ إلى ألمانيا عام ١٩٤٩ حين عُرِضَ عليه كرسي الفلسفة في جامعة لايبزج (Leipzig)، وكانت تلك المرة الأولى التي يُحاضر فيها كأستاذ جامعي، أي أنه لم يدخل المجالَ الأكاديمي إلا بَعْدَ أن ناهز الرابعة والسّتين. ولكنه مُنِعَ من التدريس عام ١٩٥٧ بسبب مواقفه السياسية.
بعد أربع سنين، ١٩٦١، عُيّنَ بلوخ أُستاذا زائرًا للفلسفة في جامعة توبنجن العريقة (University of Tübingen)، وكان يمنحُ أغلبَ وقته لطلابه. وفي السابع عشر من نوفمبر من نفس العام، ألقى محاضرتَهُ العامةَ الأولى بعنوان: “هل يمكن للأمل أن يخيب؟” (Kann Hoffnung enttaüscht werden?)، وكان يعد وقتها من أعلام الفلسفة في توبنجن. أمضى بلوخ المرحلة المتبقية من عمره يكتب ويحاضر ويناضل باسم الأمل، ويساعد المضطهدين، كما استمر بتدريس الفلسفة لطلابه، وقام بمراجعة أعماله الكاملة في ستة عشر مجلدا. توفي بلوخ في صيف ١٩٧٧ عن اثنين وتسعين عامًا.
- عرضٌ لأفكار الكتاب
يَنْقَسِمُ الكتابُ—القصير نِسْبِيّا؛ حيثُ يبلغُ عَدَدُ صفحاته في النسخة الألمانية 67 صفحة—إلى قسمين: القسم الأساسي، ومُلْحَقٌ يحتوي على نقول عَن ابن سينا وغيرِه، مَعَ تعليقاتٍ وشروحٍ يسيرة للمؤلف، يدعم بها أفكارَه في الكتاب. وسأركز فيما يلي على القسم الأساسي، مع الإحالةِ إلى أرقام الصفحات من الترجمة العربية،[7] وذلك بين قوسين معقوفين؛ هكذا: [ ]، وإضافةِ المصطلحات الألمانية (أو اللاتينية، نادرا) من النسخة الأصل بحسب ما أراه مُثْريا.[8]
يَسْتَفْتِحُ بلوخ كتابَهُ بفقرةٍ يُلَخّصُ فيها حركةَ الأفكارِ في التّاريخ، وحَيَوِيَّتها، ومسلكَه في هذا الكتاب، وذلك وضع فكر ابن سينا في سياق جديد، وإلباسه ثوبا آخر لم يخطر على بال ابن سينا. يقول بلوخ إن كل فكرة عظيمة إذا نُظِر فيها من جديد، في أزمنة مختلفة وأماكنَ أخرى؛ فإنها لا تبقى كما هي، بل تتغير، وهذا هو ما صنعه المفكرون المسلمون—الذين يسميهم المفكرين الشرقيين—مع الفكر اليوناني: “لقد أنقذوا النورَ اليوناني وساهموا كذلك في تطويره” [٥٣]. وكما أن ابن سينا استخرج من أرسطو مسارا جديدا؛ فإن بلوخ ألقى ضوءًا جديدًا على ابن سينا، بما يتفق مع مشروعه، وأوضاع القرن العشرين.
في القسم الثاني من الكتاب (إذ إنه قَسّمَ كتابَهُ إلى أقسام غيرِ مرقمةٍ، تتراوح ما بين فقرةٍ واحدة إلى عشر صفحات تقريبًا)؛ يُقدم المؤلف ترجمةً مختصرةً لابن سينا ومؤلفاته، ثم يُقِرّ بأن على الأوروبيين أن يعترفوا بأنهم مدينون للمَدْرَسِيّةِ الشرقية (orientalischen Scholastik)؛ لأن هذه الأخيرة—وخلافا لأغلب الفكر الغربي—”تمثل أحدَ مناهلِ فلسفة التنوير” [٥٦]، وذلك من خلال تقديمها قراءةً حيويةً ماديةً غيرَ مسيحةٍ لأرسطو؛ “فهناك تيارٌ فلسفي ينطلق من أرسطو لينتهي عند جوردانو برونو والمادة الكلية الزاهرة، وليس عند توما الأكويني والعقل الأخروي؛ ويُمثّلُ ابنُ سينا، إلى جانبِ ابْنِ رُشْدٍ، أحَدَ أوائلِ وأَهَمّ معالم هذا التيار” [٥٦]—وهذا هو، باختصار، مضمون الكتاب، كما سنرى إن شاء الله.
يُكمل المصنفُ مَوْضَعَةَ الدراسة في سياقها الاجتماعي والتاريخي في القسم التالي، بعنوان: “مدن تجارية وأرضية فكرية يونانية“، حيث يؤكد على أن الأُسُسَ التي قام عليها العالمُ العربيُّ آنذاك كانت مختلفةً عن الأسس التي قامت عليها أوروبا في بداية العصور الوسطى، من حيثُ اعتمادُ العربِ على الصّناعةِ والتجارةِ وتنقلِ البضائع، كما ذَكَرَ أنّ الجوّ العلمي كان مختلفًا كذلك، بحيث إن النور الذي كان يسطعُ في العالمِ العربي كان “نورا (Licht) يفوقُ في حركته نورَ المدارس الرهبانية الأوروبية وما تَفَرّعَت عنها بعد ذلك من جامعات” [٥٨]. كما يُعَرّجُ كاتبُنا على ما يُسَمّيهِ “الفكرَ المتحرر (freigeistige Gesinnung)” [٥٩] الذي نشأ في بغداد وانتقل إلى أقصى الغرب، ويذكر ملاحظةً مفادها ندرة الفلاسفةِ ذَوِي الميول العلمية في أوروبا القروسطية، في حين كان الأمر على العكس عند المدرَسِيّينَ العرب—كانت العلوم الطبيعية تتفوق على اللاهوت في كتاباتهم [٦٠].
ينتقل بنا المصنفُ في الفصل الرابعِ إلى الحديث عن العلاقة بين العلم وبين الدين لدى الفلاسفة المسلمين. هنا يعقد المصنفُ مقارنةً بين ابن سينا وأتباعِه وبين المدرَسِيّة المسيحية، ويخلص إلى أن الأَوّلِينَ بالرغم من اعترافهم بالإيمان، إلا أنهم كانوا يَرَوْنَ أن مهمةَ الفلسفة هي أن تعطي الأولويةَ للبرهان على الإيمان [٦١-٦٢]، وأنّ الوَحْيَ لَيْسَ إلا مَجَازا للحكمةِ العقلية—وهي فكرة تعود أصولها للأفلاطونية الجديدة [٦٩]—، في حين أنه من لدن أنسلم كانتربري (Anselm of Canterbury) وحتى توما الأكويني (Thomas Aquinas) لم يُنْظَرْ للوحيِ باعتباره أمثالا مجازيةً (Parabel)، وكانت الحقيقةُ العقليةُ تَخْضَعُ للسلطة الكنسية، كما عُدَّت الحكمةُ مرحلةً تمهيديّةً للوحي [٦٢-٦٣]. بل ويذهب بلوخ أبعدَ من ذلك ليقول إن ابن سينا لم يقبل الفرضيةَ القائلة بأن مضمونَ الوحي يتفقُ مع التقريرات العقلية (die Vernunfterkenntnis) [٦٩]. أما القسم الخامس، فَيُخَصِّصُهُ المصنفُ للرواية الفلسفية الشهيرة حي بن يقظان التي كتبها ابن طفيل، والتي تُعَدُّ من أوائل القصَصِ الفلسفي، وَقَدْ وَجَدَتْ صدى واسعا في الأدب الأوروبي، حتى أن رواية روبنسن كروسو (Robinson Crusoe) مستوحاةٌ منها. وأما فكرتها فتعودُ إلى ابن سينا الذي تخيّل وجودَ إنسانٍ في عزلة تامة عن البشر ولكن يهتدي، رغم ذلك، إلى الوعي العقلي الكامل [٧٠]. حسب قراءة بلوخ، فإن هذه الرواية—التي يستند فيها ابن طفيل على الفلسفة المشرقية لابن سينا [٧٢]—عَزّزَتْ اعتقادَ أهل التنوير بأن الإيمان ليس ضروريًّا عند وجود العقل [٧١].
“أرسطوطاليس-ابن سينا والجواهر الدنيوية” هو عنوان القسم السادس من الكتاب، الذي يمثل الجزءَ المفهومي الأساسي للكتاب، ويُقَدّم فيه بلوخ أطروحَتَهُ المركزيةَ. بدايةً، يُوَضّحُ المؤلفُ أنّ الذي يُمَيّزُ فلسفةَ ابْنِ سينا هُوَ تَأكيدُهُ على التّوجهِ الفلسفيِ الذي ينطلقُ من أرسطو ويقود إلى جوردانو برونو وأتباعه، وليس إلى توما الأكويني؛ وهو التيار الذي اقترح بلوخ تسميته—تَشَبُّها بتيار اليسار الهيجلي—: اليسارَ الأرسطيَّ (Aristotelische Linke) [٧٦]. وقد مثل ابن سينا نقطة التحول في هذا التيار الذي انطلقَ من المفهومِ الأرسطي للمادة والصورة وآثاره، وقام برفع القوة الإلهية ذاتها إلى القوة الفاعلة ضمن المادة نفسها [٧٨].
بصياغةٍ أُخْرى؛ يقترحُ بلوخ في هذا الكتابِ أن فلسفةَ أرسطو أخذت من بعده، بشكل عام، مسارين: اليمين واليسار الأرسطيّين. أما التيار اليميني فَيَسْتَقي من قراءة المدرسيين المسيحيين لأرسطو، من أمثال توما الأكويني، ويُشَكّلُ نواةَ الفلسفةِ المثاليةِ الأوروبيةِ، وأما اليسارُ الأرسطي فَعِبَارَةٌ عن “تفسيرٍ” مغايرٍ لفلسفة أرسطو، ابتدأ مع ستراتو (Strato)، الرأس الثالث لمدرسة المشائين، وتَفَعّلَ مع ابن سينا، الذي شَكَّلَ نُقْطَةَ الارتكاز لهذا التيار، ومنه جرى وانطلق، وصولا إلى ماركس في القرن العشرين—الفلسفة الماركسية (والمادية الجدلية) إذن، وطبقا لبلوخ، مَدينَةٌ لابن سينا. والفروق بين التيارين كثيرة، من أبرزها تفسير مفهوم المادة والصورة الأرسطي: بينما أبقى اليمين الأوروبي المادة “في مجرد حالة الإمكان” (der bloßen Potentialität ) [٧٨]، فقد رَفَعَ اليسارُ من منزلة المادة من حيث القدرةُ والفعلُ. وسيأتي مزيد من الكلام حول هذه المسألة.
إذن؛ ما هي أبرزُ ملامحِ “يساريةِ” ابن سينا؟ أو بعبارة أخرى، كيف تم “تطبيع” أرسطو؟ يذكر بلوخ ثلاثَ قضايا أساسية تُشَكّلُ في رأيه ملامحَ التيارِ اليساري عند ابن سينا، وهي كالتالي:
- علاقةُ الجسدِ بالروح (Leib und Seele): رأيُ ابنِ سينا بأن الروحَ تخلد، بمعنى أنها لا تفنى بفناء الجسد، أي بالموت؛ مُتَّسِقٌ مع القرآن، ولكنه—وهنا يكمن جزءٌ من يَسارِيّتِهِ—أنْكَرَ حشرَ الأجساد، أي المعاد الجسماني. وينبني على ذلك أن الروح تُبْعَثُ فقط، لا الجسد، والروحُ كما يرى ابن سينا لا تشعر بالنعيم ولا بالعذاب [٧٩]. يَلْمَحُ بلوخ من هذا الفصل السينويّ بين الروح وبين الجسد في الحياةِ الآخرةِ—الذي لم يكن موجودا عند المفكرين المسيحيين في العصر الوسيط—بُعْدا دينِيًا اجتماعيًا؛ فهذه العقيدةُ “حَرَّرَتْ، على الأقل، أولئك الذين يَعْتقدونَها مِنْ خوف العذاب الخالد” [٨٠]. ولا غرابة إذن، في رأي بلوخ، أن عمدتْ سلطة الكنيسة إلى اضطهاد هؤلاء المنكرين للعذاب الأخروي [٨٠].
- وحدةُ الإدراكِ الإنسانيِّ: في حين لم يُناقِشْ أرسطو العلاقةَ بين العَقْلِ الفَعَّال وبين وحدةِ الإدراكِ الإنسانيّ—لأنه لم يكن يعتبر الناسَ كلهم سواسيةً، بل كان يُمَيّزُ بينهم، ويعتبر غيرَ اليونانيين عبيدا على الفطرة [٨١]—؛ فقد كانت المسألةُ حاضرةً عند ابن سينا وابن رشد. لقد ارتأيا—في لمحةٍ تُظْهِرُ تَفَوّقًا أخلاقيا على أرسطو—أن العقلَ الفَعّالَ هو مَحَلّ وحدة العقل البشري (Einheit des Intellekts im Menschengeschlecht)، بمعنى أنَّ العقلَ الفَعّالَ يُصْبِح عَقْلاً إنْسانِيّا كُلّيًا [٨١]. وفي تعبير آخر عن رؤية ابن سينا المتعلقة بوحدة الإدراك، يكتب بلوخ أنَّ نظرية وحدة العقل “تقول بأنّ كلّ الناسِ يَقْتَسمون عقلًا واحدًا، وأن العقل لدى جميعِ الناسِ يُمثّلُ وحدةً لا تتجزأ” [٨٢-٨٣]. ثم يضيفُ أن ما يَتَجَلّى في وحدة العقل لدى ابن سينا “هو نبرةُ تسامحٍ جديدةٍ“، وأنّ “العقل الفعال الكلي يحمل في طياته تكريسا لمفهوم السّلم، ويعني السّلمَ للجميعِ” [٨٤]، ولذلك أقضت هذه الفكرةُ مَضَاجعَ رجالِ الدين واعْتُبِرَتْ زَنْدَقَةً [٨٣]. إذن؛ خلاصةُ هذه النقطةِ هي أن ابن سينا، من خلال القول بوحدة العقل الإنساني، جعل الناسَ كلهم متساوين في القدرة على الوصول إلى الحقيقة—لقد “أَمَّمَ” المعرفة، كما قام بإلغاء الطبقية الفكرية. وقد أحسن مُتَرْجِما النسخةِ الإنجليزية للكتاب حين لخصا هذه المسألة بِقَوْلِهِمَا:
“This move … democratizes access to truth, contrasting it against an Aristotelian Right that claimed privileged epistemological insight.”[9]
- أنطولوجيا المادة، أو: العلاقةُ بين المادة وبين الصّورة (die Stoff-Form-Beziehung angeht): أَحَدُ أَبْرَزِ ركائزِ اليسارِ الأرسطيّ يَتَمَثّلُ في إعادةِ تشكيلِ العلاقةِ بين مفهوم المادة ومفهوم الصورة عند أرسطو، وهو أمرٌ قامَ بهِ ابنُ سينا. نَعَم؛ لم يكن ابنُ سينا أولَّ مَنْ طَوَّر المفهومَ الأرسطي، ولكن فقط بَعْدَ ابنِ سينا، ومن خلاله، نستطيعُ أن نلحظَ مدرسةً واضحةً بهذا الصدد [٨٤-٨٥]. وهنا سؤالان: ما هو مفهوم المادة عند أرسطو؟ وما هو التغيير الذي طرأ عليه من قِبَلِ التّيّار اليساري؟
بالنسبة للسؤال الأول؛ مِن المهم التأكيدُ على أنّ أرسطو فَرَّقَ بين المادة وبين الصورة؛ فهو “يتصور الجسمَ الطبيعيَ مُرَكّبا من مادةٍ، ومن مبدأٍ [يسميه: الصورةَ] يردّ المادةَ إلى الوحدة ويعطيها ماهيةً معينةً“؛[10] بعبارة أخرى: طبقًا لأرسطو “المادة أصلُ امتدادِ الجسم في المكان، والصورة أصلُ وحدتِهِ وخصائصه الذاتية.”[11] وهذان المبدآن “هما أساسُ فلسفة أرسطو الميتافيزيقية وبهما شَرَحَ العالَمَ.”[12] والذي يهمّ بلوخ بشكل محدد هي صفة وحيوية كل من المادة والصورة عند أرسطو؛ فقد رأى أرسطو أن المادة شيءٌ لا مُتَعَيّن، أي أنها قوة سلبية غير فاعلة “في حالة الإمكانِ أو ما هو في طَوْر الكينونة” [٨٦]، “أما الصورة (كَعِلّةٍ غائية، أو كمال الصورة، إنتليخيا، أو غاية الشيء) فهي الوحيدة هنا المحركة والفاعلة” [٧٦-٧٧]. إذن؛ المادةُ عند أرسطو “تتقبل” الفعلَ، تَنْفَعِلُ ولا تَفْعَلُ؛ إنما يأتي الفعلُ من الصورة التي لها أولويةُ الحركةِ والفاعليةِ: “فالصورةُ الفاعلةُ والمحققةُ لذاتها هي الظاهرةُ الوحيدةُ التي يعتبرها أرسطو قوةً بالفعلِ وحركةً في طريق الإنجاز” [٨٦]. ولمزيد البيان والإيضاح؛ أنقلُ شرحَ الأستاذِ حسين مروة لماهية المادة الأرسطية: “مادةُ أرسطو إمكانيةٌ خالصةٌ، صافيةٌ، وهي مبهمة كلَّ الإبهام، غير محددة، وليست أكثر من قابلة أو حاملة للصورة، فهي إذن منفعلة حسب، لا فاعليةَ لها في “عملية” الوجود سوى قبولِ الصورةِ التي بها يصير الشيءُ موجودًا بالفعل.”[13] ويُعبّرُ أرسطو عن هذه الفكرةِ باختصارٍ مفيدٍ حين يقول في كتابه عن الروح: “المادة هي الإمكانية، والصورة هي الفاعلية” [١٢٨].
والآن؛ وبعد أن تَبَيّن لنا التفريقُ الأَرسطيُّ بين المادة والصورة؛ نَنْتَقِلُ إلى ابن سينا وإعادةِ تشكيله لهذه العلاقةِ، وهو سؤالُنا الثاني. لقد سار ابن سينا على خطى أرسطو من حيثُ فصلُ الصورةِ عن المادة، ولكنه فَعَلَ ذلك بِشَكْلٍ يُعطي المادةَ أهميةً أكبرَ، وهذا مَكْمَنُ الفرقِ الأساسي بينهما، وهنا يفترقُ تيارُ اليمينِ عن اليسارِ: “فالمادةُ، إِذَنْ، جوهرٌ أزليٌّ، شأنها شأن الصورة، وليست ذلك الموجود البسيط الذي يفقد وجوده الخاص” [٨٨]، بمعنى أن “التوجه اليساري الأرسطوطاليسي تَوَصّل عبر تحوير لعلاقة المادة بالصورة، إلى تصور فَعَّالٍ للمادة (aktiv begriffenen)، وليس إلى تصور آليٍّ لها (mechanistisch begriffenen)” [٩٠]. والمقصودُ بذلك أن ابنَ سينا أخرجَ المادةَ “من دائرةِ القابِلِيّة الصرف إلى دائرة الفاعلية كذلك، فجعل لها دورَ التأثيرِ في عملية الوجود.”[14] إذن؛ في مسلك ابن سينا، وكما يَقْرَؤُهُ الدكتور طيب تيزيني، “تُطرَحُ مسألةُ الوجودِ المستقل للصورة تلقاءَ المادة كليا جانبا، ويُؤَكَدُّ على الوحدة الجدلية بين المادة والصورة كتعبير عن وحدة عملية التّكَوّن والتَّحَوّل والتّطور في العالم المادي.”[15] وبعد أن استعرضنا، بشكل سريع، مفهومَ المادة والصورة عند ابن سينا كما فهمه الأستاذ بلوخ، وكما هو مُسَطَّرٌ في المصادر الثانوية؛ أليس جديرًا بنا أن نَدَعَ ابْنَ سينا يُعَبِّرُ عن نفسه؟ يقول الشيخ الرئيس في قسم الإلهيات من كتابه الشفاء:
“إن هذه المادة الجسمانية يستحيل أن توجدَ بالفعل مُتَعَرّية عن الصورة.”[16]
“المادة لا تبقى مُفارِقة [أي: للصورة].”[17]
“المادة هي التي يصلحُ فيها أن يقالَ لها إنها في نفسِها بالقُوّةِ تكون مَوْجودةً، وإنها بالفِعْل بالصُّورة.”[18]
“وبالجملة؛ فإن الصورة الماديةَ، وإنْ كانت علةً للمادة في أن تخرجها إلى الفعل وتكملها، فإن للمادة أيضا تأثيرًا في وجودها وهو تخصيصُها وتَعْيينُها، وإنْ كان مبدأ الوجود من غير المادة كما قد علمت، فيكون لا محالة كل واحد منهما علةً للأخرى في شيء، وليسا من جهةٍ واحدة.”[19]
ولكنْ أُنبه على أنّ فاعليةَ المادة ليست على الإطلاق؛ فلا بد طبقًا لابن سينا من علةٍ خارجةٍ عن المادة، مِنْ تدخلٍ إلهيّ، لبعثِ وإيقاظِ ما هو موجودٌ في المادةِ [٨٨].[20] وإذا أردنا التعبيرَ عن هذه الفكرةِ بعبارة أقرب؛ من الممكن أن نقول إن الذي صَنَعَهُ ابنُ سينا هو أنه جعل لمقولة المادة فاعلية أكبر، وتأثيرًا أظهر، ولَقَّاها حيويةً وروحا ترتفع بهما إلى ما يقارب رتبة الصورة؛ وهذه الفكرةُ مُتَّسِقَةٌ مع تَوَجُّهاتِ بلوخ الماركسية المادية، وإن كنتُ أعتقدُ أنه لَمْ ينجحْ—حين اعتمدَ على ابن سينا—في تَنْحية الدورِ الإلهي كليًا، كما يبدو لي أنه يُحاولُ أن يُجادِلَ [٩٠].
تَقَدّمَ معنا رأيُ بلوخ أن المَدْرَسِيّةَ المسيحيةَ سَلَكَتْ مَسْلَكا يمينيا، ولكنه الآن، في القسم السابع من الكتاب، بعنوان “تأثير ابن سينا على [توما] الأكويني، والأشياء التي ردّها الأكويني“، يستدرك قليلًا، ويناقش نقاطَ الاتفاق والاختلاف بين اليمين واليسار، مع التركيز على توما الأكويني. في البداية، يقول بلوخ إن المدرسية المسيحية ليست على نمط واحد، بل هي متعددة الوجهات، وذلك يعني أنه ليس من السهلِ نَعْتُها باليَمينِ الأَرسطي. هذا فضلا عن نقاطِ الاتفاقِ بين الأكويني، أحد مُمَثّلي المدرسيةِ المسيحيةِ، وبين ابن سينا؛ على سبيل المثال، في نظرية المعرفة، وتحديدا مشكلة الكُلّياتِ (das Universalienproblem) [٩١-٩٢]. إلا أن الخلافَ بينهما يبقى أساسًا—وكما تَقَدَّمَ—حول تَصَوّر مفهومِ المادة، الذي يُعَرّجُ عليه بلوخ مرةً أُخْرى ولكن هذه المرة من وجهة النظر الأكوينية؛ فالأَكْوِينِيّ—خلافا لابن سينا وابن رشد الَّذَيْنِ حاولا تقليصَ الفاصل الأرسطي بين الصور وبين المواد—أَكَّدَ “على ثنائيةِ الصور المفارقة والصور المُحايثة بكيفية تجاوزت نظرةَ أرسطو“، كما أقامَ إلهِيَّةً متعاليةً [٩٢]، وقام بوضع “قوةِ الخلقِ الأولى، أي حركة الإله المتعالية، في صلب المركز الكوسمولوجي، وحَوّلَها إلى علة فاعلة على الإطلاق تتحلى بقدرة الإبداع والوجود” [٩٦]. ولم يَفُتْ بلوخ أن يُنَبّه، في سياق المسألة الأخيرة، على أن ابن سينا كان يرى أن الوجود الممكن للكائنات يفيض من واجب الوجود [٩٦-٩٧]، وهو عنصرٌ ديني بلا شك، كما سبقت الإشارة إليه. ولكن هذا كله لا يعني أنه لا دورَ للمادة في التّصور الأكويني؛ “فحتى المادة ذاتها تلعب دورا هاما لدى توما الأكويني: إنها مبدأُ الفرديةِ، وتعتبر بذلك شرطا أساسيا في تحديد الكثرة ضمنَ النوع” [٩٨].
ثُمّ يَنْتَقِلُ بنا بلوخ، في القسم التالي، إلى الحديثِ عَن أَثَرِ اليسارِ الأرسطيِّ على الحركةِ المناهضةِ للكنيسة (die Anti-Kirche)؛ إذ إنَّ أثرَ المفهوم السينوي للمادة امْتَدَّ إلى الهراطقة وغيرهم؛ بمعنى أنه صار للفكرةِ الفلسفية المجردةِ حركةً في الواقع، وأثرا يصِلُ للعُنْفِ [١٠١]. ولكنه يركز هنا على شخصيتين أخذتا مقولةَ ابن سينا وقامتا بصياغتها صياغةً جديدة ارتفعت بها درجةً أعلى في سُلَّمِ “المادية اليساريةِ” إن صَحَّ التعبيرُ: ابن جبيرول وجوردانو برونو. أما الأول، ابن جبيرول، فالذي قَامَ بِهِ هو أنه، وبناء على مفهوم أفلوطيني (نسبةً إلى أفلوطين)، طرحَ فكرةَ المادة الكلية (materia universalis)، التي تَتَفَرّعُ في جَمِيعِ طَبَقاتِ الكونِ، وتُعْتبر أساس وحدته، متفوقةً بذلك على الصور [١٠٢-١٠٣]. وتُعَبّرُ الأستاذةُ الدكتورة زينب الخضيري عن هذا بقولها: “أما الإضافة التي أضافها [أي: ابن جبيرول] لمفهوم المادة الأولى السيناوي؛ فهي ذهابه إلى أن ثمة مادةً ثالثةً أوليةً تشتركُ فيها المادتان السابق ذكرهما [المادة الأولى والمادة الثانية] أطلق عليها اسمَ المادة الكونيّة المطلقة“، وتشكل هذه المادةُ الكونيةُ “حاملًا” للصور والمواد.[21] وأما جوردانو برونو فكان أكثر رادكاليةً، من حيثُ تنحيةُ حضورِ الدين في مسألة المادة والصورة، ومن حيث الإعلاء من دور وشأن المادة بشكل أكبر من سابقه ابن جبيرول: “فَخِلافا لما سَبَقَ؛ تصبح [أي: مع برونو] المادة المخصبة لذاتها، والمعبرة عن نفسها [..] مستقلةً تماما” [١٠٤]. بل إن برونو يذهب أكثر من ذلك لِيُقَرّرَ أن المادة هي المبدأ الأول للوجود، والصورة هي المبدأ الثاني، وأن المادة هي أُمّ كل الصور، وأنه ليس هناك فرق جوهريٌ بينهما (und zwischen Materie – Form ist keinerlei realer Substanzunterschied) [١٠٥]، وهذه من مقولات وحدة الوجود.
الآن، وبَعْدَ أنْ أرسى بلوخ مفهومَهُ حولَ المادةِ والصورةِ، يأخذنا إلى قضية مهمةٍ ذات صلة بما تقدم: العلاقة بين الدّين وبين الأخلاق، ومرة أخرى؛ ابن سينا في الواجهة. الفكرةُ الأساسيةُ التي يناقشها بلوخ هنا، والتي يراها تابعةً للمسار الفكري الذي خَطَّهُ ابن سينا، هي مسألة القانون الأخلاقي الطبيعي (das natürliche Sittengesetz)، الذي يشكل العدلُ فضيلَتَه الأساسيةَ. هذا القانون، ومن خلال مبدأ العدل، يربط بين كل البشر بِغَضّ النظر عن معتقداتهم [١١٠-١١١]، كما أن هذا القانون الأخلاقي الطبيعي يُبْرِزُ، حَسْبَ بلوخ، أفضلَ ما في الدّين؛ وهو لُبُّه “العلماني” (nicht-religiöser Kern)، الذي يَتَمَثّلُ في الحياة الأخلاقية (Sittlichkeit) [١١١]، وهو مفهومٌ هيجلي بامتياز. ثم يقوم بلوخ بتقديم نماذجَ عن هذا الدين الطبيعي؛ منها: رواية حي بن يقظان، روجر بيكون (Roger Bacon)، وسبينوزا (Spinoza). أما رواية ابن طفيل، التي انْبَنَتْ على ابنِ سينا وارْتَبَطَتْ بِابْنِ رُشْدٍ؛ فقد كان غرضها الأساسيُ إبرازَ أن الإنسان يستطيع أن يتحصل، ليس فقط على معرفة الله والطبيعة، بل وكذلك على العلم بِحِكْمَةِ الفضيلةِ (Weisheit der Tugend)، من غير الاعتماد على الدّين الوضعي (positiven Religion) [١١١]. ويضيف بلوخ، في سياق هذا “التطبيع”، أنَّ صفاتِ الله بمثابة المُثُل للبشر كي يقتدوا بها، ولذلك كان ابنُ ميمونٍ (Maimonides) يقولُ بأنّ مَعْرِفَتَنَا بالله مقتصرةٌ على تلك الصفات الإلهية التي لها تعلقٌ بالإنسان. وأما روجر بيكون—الذي يُعَدّ مِثالًا عن تأثر أوروبا، والتنوير الأوروبي بالمذهب الطبيعي الشرقي (der morgenländische Naturalismus)—فقد عَلّمَ (lehrte) أن القانونَ الأخلاقي متطابقٌ لكل البشر، ويُؤَثِّر فيهم بنفس القدر، وأنه قادرٌ على احتواءِ مضمونِ أيِّ دينٍ عالمَي (Universalreligion) يُمْكِنُ تَخَيُّلُهُ في المستقبلِ. هذه الفكرة توجدُ كذلك عند سبينوزا، الذي أراد أن يُثْبِتَ أنَّ ماهيةَ الدينِ ليست كامنة في التمسك بعقائدَ معينةٍ، وإنما تكمن في الخُلُق الإنساني (humanen Gesinnung) والسلوك العملي الذي ينبع منه. وفي ختام هذا القسم يقول بلوخ إن ابن سينا كان يسعى لتحويل الدين إلى “تحسين” (Besserung) [١١٢-١١٣]؛ تحسينٍ خلقي كما أَفْهَمُهُ.
في القسم الحادي عشر من الكتاب، بعنوان: “تحويل (Verwandlung) أرسطو من قبل اليسار، وتغيير اليسار لنفسه“؛ يقدم المصنفُ نوعا من التلخيص للثيمة الأساسية للكتاب. ويتلخص ذلك في أنّ ثمة عمليتين: الأولى هي قيامُ اليسار بتطوير مفهوم المادة الأرسطي؛ فالمادة طبقا لليساريين من أتباع الشيخ الرئيس “هي ذلك الشيء الذي يحمل في ذاته الصورَ الخاصةَ به ويدفعها في سياق حركته نحو التَّحَقّق“، وهو التصور الذي نَوَّهَ به ماركس (Marx) في كتابه العائلة المقدسة، حين كتب: “من بين الخصائصِ الكامنةِ في المادةِ؛ تُمَثّلُ الحركةُ أوّلَها وأهمَها” [١١٧]. إذن؛ التحولُ الأول الذي قام به اليسار الأرسطي كان هو “تفعيل المادة” (die Aktivierung der Materie) [١١٨]. أما العملية الثانية فكانت تطوير اليسار لنفسه، أي بِنَاء اليساريّين على فكرة ابن سينا، والارتقاء بها لمستوى أعلى، كما صنع جوردانو برونو الذي رأى “إمكانيةَ تحققِ المادةِ في الكون بصفة نهائية” [١١٨]، بمعنى أن المادة لم تعد فاعلةً بحسب، ولكنها أيضا غدتْ حبلى بالمستقبل، قادرةً على التمثل في صور متجددة (immer neuen)، ومتحركة في اتجاه ذلك الذي لَمْ يَتَحَقّقْ بَعْدُ (noch nicht herausgebrachten). بناء على ذلك؛ من الممكن القول بأن الطور الثاني من تحول مفهوم المادة كان في توسيع نطاق فاعلية المادة، أو بعبارة الأستاذ بلوخ؛ هو “تحولٌ يهتم بِأُفُقِ إمكانيةِ المادة” (den Horizont der Stoff-Möglichkeit) [١١٩-١٢٠].
أما القسمُ الأخير من كتابنا القصير—وأعني بذلك القسم الذي يسبق قسم النقولات—؛ فَقَدْ خَصَّصَهُ بلوخ للكلامِ عن الفنِّ ودورِهِ في تَوْليد المادة والصورة. هذا القسمُ—الذي يشير لاهتمام بلوخ البالغ بالفنّ وآثاره على مبدأ الأمل والطوباوية—يُقَرّرُ أن الفنَّ يُخرِج المادةَ إلى حيّزِ الوجود، وأن الفنانَ هو القوة المُحرّرةُ والمُتَمّمَةُ للمادةِ، بحيث يخرجُ “بكل وضوح ما تَحْمِله المادةُ من تشكيلاتٍ خاصة بها إلى النور.” بعبارة أخرى؛ من الممكن فهمُ اليسار الأرسطي من مدخل النظرية الجمالية، بحيث يُنْظَرُ لِلْفنّ باعتباره قادرا على تحريرِ الصُّور من داخل المادةِ الحُبلى بها، وإخراجِ صُورِ الوجودِ التي هي في طور الإمكان، كما يُنْظَرُ للفنانِ على أنه الذي يمنحُ الطبيعةَ طبيعةً ثانية، كما قال غوته (Goethe) [١٢٤-١٢٥].[22] ثم يختمُ بلوخ بكلمات تمثل منهجَه وفكره الطوباوي: الحقيقةُ المفتوحةُ كامنةٌ في المادة التي لم تَكْتمل بعد (unbeendeten Materie) [١٢٦].
وبعد هذا العرضِ لمحتويات الجزءِ الأساسيِّ من الكتابِ؛ أرى أنه من المفيدِ أن أنقلَ تلخيصا لِعَمَلِ بلوخ في هذا الكتاب (وغيره من كتبه)، من كِتَابَةِ الأستاذ عبد الغفار مكاوي:
“هكذا يكون بلوخ قد قدَّم تصوُّرًا جديدًا للمادةِ بعد أن تَتَبَّع فكرتَها، كَإِمكانٍ غيرِ محدودٍ منذ أرسطو وابن سينا وابن رشد وابن جبيرول حتى ممثلي «اليسار الأرسطي» في أواخر العصور الوسطى، ومن جوردانو برونو في عصر النهضة حتى سبينوزا في القرن السابع عشر، إلى أن اكتملت – في رأيه – في المادية الجدلية والتاريخية عند ماركس وإنجلز [..] والمهم في هذا كله أنه قد توسَّع في تصوُّره للمادة أكثر بكثير مما فعلت الماديةُ الجدلية؛ فلم يكتفِ بأن يفهمها فهمًا تاريخيا واقتصاديا، وإنما جعلها المنبعَ الدائمَ لإمكانياتٍ مُتجَدِّدة تتخَلَّق في أَشْكَالٍ مختلفةٍ على مستوى الطبيعة العضوية وغيرِ العضوية، في الكون والإنسان على السواء [..] وهنا يكمن مبدأُ «الأمل» ومقولته الأساسية – وهي الإمكانُ أو «الليس – بعد» – التي تَحْتَلُّ مكانةً بالغةَ الأهميةِ في رُؤْيَةِ بلوخ الفلسفيةِ.”[23]
وهكذا؛ وإذا سِرْنا على مَنْطِق بلوخ ومَددْناه، يغدو ابن سينا مِن مُنَظّري أصولِ فلسفةِ الأمل، بل فيلسوفا للأمل، إن جَوَّزْتُ لنفسي المبالغةَ.
- نَقْدُ الكتابِ
كَأَيّ كتابٍ يُنَاقشُ قضايا ذات حساسية، ويتضمن أفكارا كبيرة لها أثرها في التاريخ؛ من الطبيعي أن يُشَكّلَ كتابُنا بيئةً خصبة للنقاش والنقد والتأييد والاعتراض، وهنا أَسْتَعْرِضُ بعض النقد الذي وُجِّهَ لهذا الكتاب. بداية؛ أَوَدُّ أن أُسَجّل أن مأخذي العام على الكتاب هو تَقْديمُهُ ابن سينا بصورة ربما لم يشأ أن يظهر هو عليها، وربما “تقويله” ما لم يقل؛ مثلا، وكما تَقَدَّمَ، تحييدُ المضمون الديني ليس شيئًا مَتّسِقًا بشكل كامل مع فكر ابن سينا.[24] وقد يوافقني بلوخ في هذا، ويضيفُ مُدافَعا عن صنيعه—كما فعل في الفقرة الأولى من الكتاب—أن كلّ فكرةٍ سابقةٍ تأخذ شكلًا جديدًا عند النظرِ فيها مرةً أُخرى؛ أي أنه تعمد استخراجَ مضمونٍ كامن في فكر ابن سينا، حتى وإن لم يُفَكّر به ابن سينا، تماما كما صنع ابن سينا مع أرسطو. وقد صاغ جولدمان وثومبسون هذه الفكرة بشكل جيد:
Avicenna and the Aristotelian Left [..] illuminates tendencies in bygone thought that can only be properly grasped from a later temporal perspective [..] Bloch’s treatment of the conceptual matter of Avicenna mirrors the Avicennans’ treatment of physical matter in Aristotle, invigorating it with possibilities that its original author may have overlooked.[25]
وفي نقاشها لأنطولوجيا المادة عند بلوخ، وعرضِها لبعضِ جوانب كتابنا؛ تكتب الدكتورة عطيات أبو السعود: “إن هذا التفسير المادي لابن سينا يحتاج إلى وَقْفَةٍ، فهل كان ابنُ سينا فيلسوفا مادّيًا كما فَسّرَهُ بلوخ؟ إن نصوصَ أي فيلسوف هي مجالٌ خصب لتأويلاتٍ وتفسيراتٍ عديدةٍ ومُتَنَوّعة، فهناك من الشروح والتفسيرات ما يخالف رأيَ بلوخ، كما إن هناك ما يوافقها.”[26] كما تشيرُ إلى أن بعضَ الباحثين، خلافا للأستاذ حسين مروة، يرون أن ابن سينا تَخَلّى عن مواقِفِهِ الماديةِ في آخر مؤلفاته وهو “الإشارات والتنبيهات.“[27] هذا بالإضافة إلى أن الدكتورة عطيات تَتَساءَل عن مدى توافقِ مادية بلوخ مع التصورات العلمية الحديثة للمادة، وترى أن بلوخ عبّر “عن عجز المادية الجدلية – منذ إنجلز وجدل الطبيعة لديه – عن إقامة فلسفة طبيعية وجدلية ملائمة للتصور العلمي الحديث ومناهجه الكمية والرياضية“،[28] ثم تَخْلُصُ إلى أنّ فلسفة بلوخ الطبيعية تقع “في أسئلة وإشكالات يبدو أنها لن تجدَ الإجابةَ عليها إلا في الحلول اللاهوتية.”[29] وفي هذا السياق، في حديثه عن إشكالية الإمكان عند بلوخ، يتساءل الأستاذُ عبد الغفار مكاوي: “ما هي طبيعةُ هذه القوة الكامنةِ وراءَ الطاقاتِ المذهلةِ للإبداع والتّجدد؟ وحتى لو حاولنا تَحْديدَها، فهل يَتَنَاسَبُ أي من هذه التحديدات مع أي مفهوم مادي للمادة؟“[30]
- الكتابُ ضمنَ سياقِ فلسفةِ الأملِ
الذي صنعه بلوخ في هذا الكتاب، بِرأيي، هو أنه اتَّخذَ من ابن سينا لبنةً في بناء نظرية الأمل؛ فَمَفْهومُ المادة-الصورة السِّينَوِيّ يُمَثِّلُ ركيزة أساسية في فلسفةَ الأمل التي عملَ على تطويرها بلوخ؛ لأن ابن سينا قام بتفعيل المادةِ، ومَنَحَها إمكانياتٍ حيةً، ومن هنا يصبح ابن سينا، ولو تَجَوّزا، فيلسوفا للأمل. هذا يقودنا إلى إلقاءِ بعضِ الضوءِ على نظرية الأمل التي نَظَّرَ لها بلوخ في كتابه المهم جدا: “مبدأ الأمل” (Das Prinzip Hoffnung)، الذي أراد إصدارَهُ أولا بعنوانٍ مُعَبّرٍ: “أحلام لحياة أفضل“، وصدر إبان الحرب العالمية الثانية، كَصَرْخَةٍ عقلانية ضد ذاك الواقع الأليم.
إن المسألة تَتَعَلّقُ بِتَعَلّم الأمل (Es kommt darauf an, das Hoffen zu lernen)؛[31] هذه الكلماتُ التي يكتبها بلوخ في مقدمة كتابه “مبدأ الأمل” تُعَبّر عن مشروعه الكبير—الأمل يُتَعَلّمُ ويُكتَسَب، النفس تَتدرب عليه، وإنما الحلمُ بِالتَّحَلُّم. ولكنّ الأمل الذي يريده بلوخ ليس هو التمني الساذج أو الأمل المخادع (schwindelhafte Hoffnung)، وإنما هو الأمل الواقعي الصادر عن معرفة (Wissend-konkrete Hoffnung)،[32] الذي يُطْلِقُ عليه أيضا وَصْفَ الأملِ المُدْرَكِ المفهومِ (begriffene Hoffnung).[33]
لقد أرادَ بلوخ في كِتابِه هذا أن يجمعَ بين الفلسفة وبين الأمل، أو أن يُحْضِر الفلسفةَ إلى الأمل كما صَرّح بذلك بوضوح؛[34] لأن اليأسَ (Hoffnungslosigkeit) لا يخدم حاجةَ الإنسان،[35] ولأن الأملَ عند بلوخ ليس شعورًا فقط، وليس نقيضًا للخوف فحسب، ولكنه فِعْلٌ مُوَجِّهٌ ذو صفةٍ عقليةٍ (wesentlicher als Richtungsakt kognitiver Art).[36] كما أن الأمل كان هو الدافع لِتَحَرّرِ الإنسانِ على مَرّ التاريخ؛ فالكتابُ الموسوعيُّ مليءٌ بأمثلةٍ كثيرةٍ عن “واقعية” الأمل، وكيف أَثَّرَ في حركاتِ التغيير على مرّ العصورِ، وذلك في شَتَّى المجالات، من أدب وفنون وعمارةٍ وعلوم وأديان. ومن هذا المنطلقِ يرى بلوخ أن الأمل—الذي لابد أن يكون مُوَجَّها نحوَ تحقيقِ “الخير الأسمى” (des höchsten Guts)[37]—لا يعني بحال من الأحوال الاستغراقَ في المستقبل والركون للحلم بغد جميل، بل وعلى العكس، يقتضي الأملُ الاشتغالَ باللحظة الحاضرة؛ أن نكون حاضرين حقًّا، أن نشعر بالإنجاز، وأن نمتلك اللحظة الراهنة.[38] ثم لنا أن نتساءل؛ هل يمكن للأمل أن يخيب؟ وهل خيباتُ الأمل مَدْعاةٌ لاطّراح هذا المسلك؟ أجاب بلوخ عن السؤال الأول في محاضرته العامة التي ألقاها عام ١٩٦١؛ فقال:
“حتى الأمل المبني على أساسٍ راسخٍ من الممكن أن يَخيبَ، وإلا فَلَنْ يكونَ أملًا. إنَّ الأملَ، في واقعِ الأمرِ، لا يَضْمَنُ شيئًا. إنَّهُ بطبيعته جريءٌ، ويشيرُ بكل صراحة، إلى الإمكانيات التي تعتمد جزئيًا على الحَظّ كيْ تَتَحَقّقَ. ومِنْ ثَمَّ؛ قد يخيب الأمل ويحبط، ومن الخيبة والإحباط يُمْكِنُ أن يَتَعلّمَ الأملُ [حُسْنَ] تقدير اتجاهات المُعَالَجَاتِ التي رُبّما قَدَّرَها بشكل غير صحيح. الأَمَلُ يُمْكِنُ أن يَتَعَلَّمَ ويُصْبِحَ أكثرَ ذكاءً مِنْ خلال التّجارب المُتْلِفة [أو: الأليمة والمريرة]، ولكن لا يمكن إزاحته عن مساره [أو: هدفه]”، ثم ختم بلوخ بمقولة هركليس (Hercules) التي تُلمِح إلى أنه لا حدودَ للأملِ: “إنَّ الذي لا يأملُ ما هو غَيْرُ مأمولٍ؛ لن يَجِدَهُ.” [39]
وأما من منظور تاريخ العلم؛ فَفِكْرَةُ الأمل، كما يخبرنا بلوخ، ليست جديدةً، وليست وليدةَ فِكْرِهِ، بل لها امتداداتُها التاريخيةُ؛ فَكُلُّ المسيحيين يعرفون الطوباويةَ من خلال سِفْر الخروج وغيرِهِ من أجزاء الكتاب المقدس، والأملُ كامنٌ كذلك في فِكْرِ أفلاطون، وفي مبدأ المادةِ عند أرسطو (كما تقدم معنا)، كما يَعْمَلُ الأملُ بِتَمَثّلاتٍ مختلفةٍ عند لايبنتز، وفي مسألة الوعي الأخلاقي عند كانط، وعند هيجل في الجدلية التاريخية (historischen Dialektik)، وإن لم يكن ذلك بالصورة التي نَظَّرَ لها ويريدها بلوخ.[40]
وبما أن الكتابَ المقدسَ شَكَّلَ أحد أبرزِ مصادر الاستمداد والإلهام عند بلوخ، وَأَثَّرَ على فلسفةِ الأمل وفِكْرِه الطوباوي بشكل واضح؛ قد يكون من المفيد أَنْ أُلْمح بشكل سريع إلى طريقة بلوخ في قراءة الكتابِ المقدس، إذ تُمَثّل نموذجًا، من الممكن أَنْ يُعَمَّمَ، لكيفية قراءة النصّ المقدسِ من وجهة نظر مبدأ الأمل—من غير الإخلال بقداسة النص بالضرورة.[41] بلوخ، الذي خَصَّصَ الجزءَ الأخيرَ مِنْ كِتابِهِ “مبدأ الأمل” للكتاب المُقَدَّسِ، كان دائمًا يحاول قراءةَ الكتابِ المقدس قراءةَ الُمحَقّقِ الذي يَتَقَصّى الحقائق (detective reading)؛ لأن الكتابَ المُقَدَّسَ، في رؤيته، ينطوي على إشارات ذات آثارٍ طوباوية، ينبغي على القُرّاءِ أن يَتَتَبّعوها ويُبَيّنوها ويَنْفتحوا على الوعي الليس-بعد كي يلتقطوها، وهذا الأمر لا يقتصر عند بلوخ على اليهودية والمسيحية؛ بل يرى بلوخ أن كلّ دينٍ يَحْمِلُ في لُبِّه رمزًا يساهم في التكوين الطوباوي. ولذلك يقول بلوخ إن قِراءَة الكتابِ المقدس طبقا لمنهج النقد التاريخي—كما هو شائع في الأكاديميات الغربية وأقسام اللاهوت—تُغَطي على المحتوى الطوباوي، وتَصْرفُ النظرَ عن معاني الأملِ الكامنة في النص المقدس. وَأَظْهَرُ ما يكون منهج بلوخ في قراءة النص المقدس هو في قراءته لِشَخْصِيّتَي موسى وعيسى في التوراة والإنجيل. فقد كان يَقْرَؤُهُما باعْتِبارِهِما رَمْزَيْن للتَّحَرّر والانعتاق والخروجِ إلى مملكة الحرية (نسبةً لسفر الخروج من العهد القديم)، وكان يرى أنهما يحملان رسالةَ أَمَلٍ تُساعد الناسَ على اكتشاف النور. فلا غرابةَ إذن أن يَخُطّ بلوخ في الفقرة الأخيرة من كتابه “مبدأ الأمل” هذه الكلمات: “إن سِفْرَ التكوينِ الحقيقي ليس في البداية، وإنما في النهاية” (Die wirkliche Genesis ist nicht am Anfang, sondern am Ende ).[42]
استَفْتَحَ بلوخ المجلدَ الثاني من الكتاب المذكور بهذا العنوان: “الحَالِمُ يطلب المزيدَ دائمًا” (Ein Träumer Will Immer Noch Mehr).[43] وإذا أردنا أن نَسْلك طريقةَ بلوخ في اسْتِلهامِ الأمل من النصوص المقدسة، وتلمس المعاني الطوباوية ما بين الكلمات والسطور؛ فمن الممكن القولُ إن ظلالَ عبارة بلوخ، “الحَالِمُ يطلب المزيدَ دائما“، حَاضرةٌ—ولو بمقتضى الإشارة—في قوله تعالى: “وقل رب زدني علما.“[44]
- لماذا بلوخ.. لماذا الأمل؟
بلوخ، كما يخبرنا سلافوي جيجك، ربما ينتمي لزماننا أكثر من انتمائه لزمانه.[45] إذن؛ راهنيّةُ بلوخ مُتَجَدِّدَةٌ، وبالتحديد مبدأ الأمل الذي عاش من أجله. وهذا ما نجده كذلك عند جاك زايبس في الفصل الأخير من كتابه حول بلوخ؛ إذ كتَبَ أن صرخاتِ بلوخ دفاعًا عن الأملِ وعن عالمٍ أفضلَ هي الآن أكثرُ إلحاحًا، وأن الذي يهم، في هذا المجال، هو التّوَجّهُ وليس الوصول (It is the direction that counts, not the arrival).[46] هذه الفكرةُ الأخيرة—التي يبدو لي أنه استوحاها من قراءته الطويلة لبلوخ على مدى سنوات طويلة، والتي تستفاد كذلك من تكرار بلوخ لمقولة أن الحياةَ مشروعٌ غيرُ مكتملٍ، وعليه، نحنُ في رحلةٍ مستمرةٍ—يشيرُ لها القرآنُ أيضا؛ إذ يُنَبِّهُ على أنّ المهم هو العملُ والسيرُ في الطريقِ، وليس الوصول للغاية، وأن الأجرَ يَثْبُتُ ولَوْ لم يَتَحَقّق الهدف: (ومَنْ يخرجْ من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموتُ؛ فقد وقع أجره على الله).[47] ثم يخبرنا زايبس أن الأملَ، طبقا لبلوخ، قوةٌ داخليةٌ نمتلكها كلنا، وتدفعنا للبحثِ عن أوضاع حياتيةٍ أفضَلَ—إننا نَأملُ لأننا غيرُ راضين، ولأننا نَفْتَقِدُ ما هو ضروريٌّ ليَهَبَ حياتَنا معنى.[48]
وختاما.. كَتَبَ البروفسور عبد الحكيم مراد، في كتابِه الأخيرِ، أنَّ قصصَ القرآنِ تَتَحَدّى السوسيولوجيا من خلال تقديمها نماذجَ عن خَلاصٍ غير مُتَوَقّعٍ..[49] وهذه بلا شكّ نزعةٌ تفاؤليةٌ ضمنيةٌ في القرآن تَتَجَاوزُ حتميةَ التاريخ.. ونجدها كذلك في البشارة بدخول مكة في أول آيةٍ من سورة الفتح (إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا)،[50] والتي نزلت—طبقا لبعض المصادر التاريخية—قبل دخول مكة بسنتين،[51] أي أن البشارة جاءت في ظروفٍ تاريخية لم تكن تَسْمَحُ بِمُجَرّدِ التّفْكِير بهكذا أمرٍ.. لعلها ترمزُ بذلك لمبدأِ الأمل الحكيم، وإلى فلسفةِ الطوباويةِ الموضوعية التي دافع عنها بلوخ أكثر عمره.. إرنست بلوخ—الذي قال إِنّ عَلَى الفلسفةِ أن تَنْحازَ للمستقبلِ، وتَعِيَ الغدَ، وتعرفَ الأملَ؛ وإلا فَسَتَفْقدُ كلَ مَعْرِفَة[52]—هو برأيي أحدُ أعمق مَنْ فَسَّرَ قولَه تعالى: (ولا تيأسوا من رَوْحِ الله)[53].
[1] جاءَ تعليقُ جيجك على الغلاف الخلفي للترجمة الإنجليزية:
Ernst Bloch, Avicenna and the Aristotelian Left, translated by Loren Goldman and Peter Thompson (New York: Columbia University Press, 2019).
[2] المصدر السابق، ص. xx.
[3] المصدر السابق، ص. vii.
[4] إرنست بلوخ، ابن سينا واليسار الأرسطوطاليسي، نَقَلَهُ من الألمانيةِ إلى العربيةِ محمد التركي (قرطاج: المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، ٢٠١٢).
[5] المُتَرْجَم من أعماله للعربية قليلٌ، وهذا سبب ضعف التفاعل معه؛ فحسب اطلاعي، تُرجِم له فقط كتابُ ابن سينا واليسار الأرسطوطاليسي، إضافةً لكتابِ فلسفة عصر النهضة، الذي تَرْجَمَهُ إلياس مرقص (بيروت: دار الحقيقة للطباعة والنشر: ١٩٨٠).
[6][6] أخذتُ هذه الومضاتِ من مَصْدَرَيْنِ:
Jack Zipes, Ernst Bloch: The Pugnacious Philosopher of Hope (Cham: Palgrave Macmillan, 2019), pp. 1-24.
Ernst Bloch, The Principle of Hope, translated by Neville Plaice, Stephen Plaice, and Paul Knight (Cambridge: MIT Press, 1986), vol. 1, pp. xix-xxvii.
[7] غير أنني لا أعتمد الترجمة العربية فقط؛ بل أراجع الأصلَ الألماني والترجمة الإنجليزية من أجل الضبط والتصحيح؛ لأن النسخة العربية غير دقيقة في مواضعَ كثيرةٍ، وتميل للاختصار؛ وهذا يفسر للقارئ الفرقَ الذي قد يَجِدُه بين ما أَنْقُلُه وبين الترجمة العربية. وأنتهز هذه الفرصة لِشُكْرِ الأستاذ محمد التركي على مجهوده الكبير في نقل الكتاب للعربية، لاسيما أن كتاب بلوخ ليس من الكتب السهلة.
[8] وقد اعتمدتُ النسخة الألمانية التالية:
Ernst Bloch, Avicenna und die Aristotelische Linke, Anhang zu: Das Materialismusproblem, seine Geschichte und Substanz [Gesamtausgabe, Band 7] (Frankfurt am Main: Suhrkamp, 1972 [2015]), pp. 479-546.
[9] Ernst Bloch, Avicenna and the Aristotelian Left, translated by Loren Goldman and Peter Thompson (New York: Columbia University Press, 2019), p. xxi.
[10] يوسف كرم، الطبيعة وما بعد الطبيعة: المادة، الحياة، الله (القاهرة: كلمات عربية للترجمة والنشر، ٢٠١٢)، ص. ٢٠.
[11] المصدر السابق، ص. ٢٠.
[12] زكي نجيب محمود وأحمد أمين، قصة الفلسفة اليونانية (المملكة المتحدة: مؤسسة هنداوي، ٢٠١٧)، ص. ١٤٢.
[13] حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية (بيروت: دار الفارابي، ٢٠٠٢)، المجلد ٤، ص. ٣٠٨.
[14] حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية (بيروت: دار الفارابي، ٢٠٠٢)، المجلد ٤، ص. ٣٠٩.
[15] طيب تيزيني، مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط (دمشق: دار دمشق للطباعة والنشر، ١٩٨١)، ص. ٣١٧.
[16] أبو علي الحسين ابن سينا، الشفاء: الإلهيات (١)، تحقيق الأستاذَيْن الأب قنواتي وسعيد زايد، راجَعَهُ وَقَدَّمَ له الدكتور إبراهيم مدكور (القاهرة: الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، ١٩٦٠)، ص. ٧٢.
[17] المصدر السابق، ص. ٧٤.
[18] المصدر السابق، ص. ٨٨.
[19] المصدر السابق، ص. ٤٠٥.
[20] في هذا الصدد يكتب د. كمال اليازجي: “وجود الإمكان، وانتقاله إلى الوجوب، عائدان عند ابن سينا إلى اعتبار ثالث، هو واهب الصور، وهو تعديل أساسي اقتضاه الإيمان الديني.” كمال اليازجي، معالم الفكر العربي في العصر الوسيط (بيروت، دار العلم للملايين، ١٩٧٩)، ص. ٢١٨. ومن المفيد كذلك تأمل كلام الأستاذ حسين مروة في هذا السياق: “بقيت قضية “التوحيد” الإلهي التي اتخذت طابعَ التنزيهِ المطلق في علاقة الله بالعالم، أو علاقة العالم مع الله – بقيت هذه القضيةُ هي المركز الذي يستقطب كلَ تناقضاتِ ابن سينا، وهي العقبةُ الوحيدة التي ظلت تعترض سيرَ اتجاهه المادي في خط مستقيم دون تعرجات ومنعطفات.” حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية (بيروت: دار الفارابي، ٢٠٠٢)، المجلد ٤، ص. ٣٠٢.
[21] زينب محمود الخضيري، “الفيلسوف اليهودي سليمان بن جبيرول بين اليهود والمسيحيين”، في: يوسف كرم: مفكرًا عربيًا ومؤرخًا للفلسفة، بحوث عنه ودراسات مهداة إليه، تحرير عاطف العراقي (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ٢٠٠٤) ص. ٣٣٠.
[22] وهذه الفكرةُ عن دورِ الفنّ متسقةٌ، بشكل عام، مع فلسفة مدرسة فرانكفورت حولَ النظرية الجمالية ودور الفن في تغيير الواقع؛ يقول الدكتور كمال بومنير بهذا الصدد: “للجمالية مكانةٌ مركزيةٌ في الخطاب الفلسفي الفرانكفورتي، حيث مَثَّلَتْ عندهم ذلك البعدَ المتبقيَ للإنسانِ، والذي يُمكن أن يَتَحَرَّرَ به من سيطرةِ العقلانيةِ الأداتِيّة [..] إن العملَّ الفني يعمل على نَقْدِ الواقع وتغييره من خلالِ خَلْقِ صُوَرٍ أُخرى تُمَثّلُ واقعا إنسانيا آخر مُغايراً نوعيا لما هو قائمٌ.” كمال بومنير، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت من ماكس هوركهايمر إلى أكسل هونيث (الجزائر: منشورات الاختلاف؛ بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، ٢٠١٠)، ص. ٨٨.
[23] عبد الغفار مكاوي، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت: تمهيد وتعقيب نقدي (المملكة المتحدة: مؤسسة هنداوي، ٢٠١٧)، ص. ٨٢.
[24] هذا التطويع لنصوص ابن سينا، هو أمرٌ أشار له أليان في مراجعته للكتاب:
Bloch’s unorthodox reading of Islamic (pre)medieval philosophy plays down the neoplatonic and other inconvenient aspects of Avicenna’s and Averroes’ thought, so they could serve their intended revolutionary purpose for his project. What appears at first as an intellectual openness to the ‘others’ of the West and an engagement with their cultural traditions thus comes to reveal itself more as the misappropriation of those traditions in an imposing tunnel vision. It is thus that, having finished the book, the reader is left not with the sense that Bloch traced his interpretation of dialectical materialism to those thinkers he studies, but that he planted that seed in there himself and made them confess his own doctrine. Bahareh Ebne Alian, ‘Hegelianisms without Metaphysics?’, (Book Review of Avicenna and the Aristotelian Left, by Ernst Bloch. Translated by Loren Goldman and Peter Thompson. New York: Columbia University Press, 2019. xxvi +109 pp.), Theoria, 67 (162) (2020), pp. 120-123.
[25] Ernst Bloch, Avicenna and the Aristotelian Left, translated by Loren Goldman and Peter Thompson (New York: Columbia University Press, 2019), p. xxiii.
[26] عطيات أبو السعود، الأمل واليوتوبيا في فلسفة إرنست بلوخ (الاسكندرية: منشأة المعارف بالاسكندرية، ١٩٩٧)، ص. ٢٠٠.
[27] المصدر السابق، ص. ٢٠٢.
[28] المصدر السابق، ص. ٢٠٥.
[29] المصدر السابق، ص. ٢٠٧.
[30] عبد الغفار مكاوي، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت: تمهيد وتعقيب نقدي (المملكة المتحدة: مؤسسة هنداوي، ٢٠١٧)، ص. ٨٦.
[31] Ernst Bloch, Das Prinzip Hoffnung [Gesamtausgabe, Band 5] (Frankfurt am Main: Suhrkamp, 1959 [2019]), vol. 1, p. 1.
[32] المصدر السابق (Ernst Bloch, Das Prinzip Hoffnung)، ص. ٣.
[33] المصدر السابق، ص. ٥.
[34] المصدر السابق، ص. ٥.
[35] المصدر السابق، ص. ٣.
[36] المصدر السابق، ص. ١٠.
[37] المصدر السابق، ص. ١٦.
[38] المصدر السابق، ص. ١٥.
[39] Jack Zipes, Ernst Bloch: The Pugnacious Philosopher of Hope (Cham: Palgrave Macmillan, 2019), pp. 16-17 .
[40] Ernst Bloch, Das Prinzip Hoffnung [Gesamtausgabe, Band 5] (Frankfurt am Main: Suhrkamp, 1959 [2019]), vol. 1, p. 6.
[41] وقد استفدتُ هذه الفكرةَ، كما لخصتُ (أغلب) هذه الفقرة، من زايبس حيث عَقَدَ فَصْلا تَكَلَّمَ فِيهِ عن تَوْظيفِ وفَهْمِ بلوخ للكتاب المقدس؛ انظر:
Jack Zipes, Ernst Bloch: The Pugnacious Philosopher of Hope (Cham: Palgrave Macmillan, 2019), pp. 85-101.
[42] Ernst Bloch, Das Prinzip Hoffnung [Gesamtausgabe, Band 5] (Frankfurt am Main: Suhrkamp, 1959 [2019]), vol. 3, p. 1628.
[43] Ernst Bloch, Das Prinzip Hoffnung [Gesamtausgabe, Band 5] (Frankfurt am Main: Suhrkamp, 1959 [2019]), vol. 2, p. 523.
[44] القرآن العظيم، سورة طه، الآية ١١٤.
[45] Slavoj Žižek, ‘Preface: Bloch’s Ontology of Not-Yet-Being’, in Peter Thompson and Slavoj Žižek (eds.), The Privatization Of Hope: Ernst Bloch And The Future Of Utopia (Durham: Duke University Press, 2013), p. xx: ‘fundamentally, with regard to what really matters, he was right, he remains our contemporary, and maybe he belongs even more to our time than to his own.’
[46] Jack Zipes, Ernst Bloch: The Pugnacious Philosopher of Hope (Cham: Palgrave Macmillan, 2019), p. 177.
[47] القرآن العظيم، سورة النساء، الآية ١٠٠. وهذا المعنى أشار له العلامة محمد أبو موسى؛ انظر: محمد أبو موسى، آل حم غافر-فصلت دراسة في أسرار البيان (القاهرة: مكتبة وهبة، ٢٠٠٩)، ص. ١١.
[48] Jack Zipes, Ernst Bloch: The Pugnacious Philosopher of Hope (Cham: Palgrave Macmillan, 2019), p. 186.
[49] Abdal Hakim Murad, Travelling Home Essays on Islam in Europe (Cambridge: The Quilliam Press, 2020), p. 122.
[50] القرآن العظيم، سورة الفتح، الآية ١. ولا بد هنا من التّنَبّه إلى أن العلماءَ اختلفوا قديما في تعيين المراد بالفتح في الآية على أقوال؛ أحدها أن المراد فتح مكة، وهو الذي أَبْنِي عليه فكرتي. انظر في اختلاف أقوال العلماء في تفسير الآية: فخر الدين محمد الرازي، مفاتيح الغيب [التفسير الكبير] (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ١٩٨١)، الجزء ٢٨، ص. ٧٧.
[51] أي أنها نزلت في صلح الحديبية؛ انظر، مثلا، عصام الحميدان، الصحيح من أسباب النزول (بيروت: مؤسسة الريان، ١٩٩٩)، ص. ٢٩١. وإذا كان صلحُ الحديبية سنة ٦ للهجرة، وفتح مكة سنة ٨ للهجرة؛ فإن بينهما سَنَتَيْن تقريبا. انظر: مهدي رزق الله أحمد، السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية دراسة تحليلية (الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ١٩٩٢)، ص. ٤٨١، و ٥٦١. خلاصة كلامي هنا: الآية، وإن نزلت في صلح الحديبية، إلا أن المرادَ بها فتحُ مكة، وبذلك تكون وَعْدًا لأمرٍ تَحَقَّقَ بَعْدَ سَنَتَيْن؛ بعد أن تَغَيَّرَتْ الموازينُ الجيوسياسية.
[52] Ernst Bloch, Das Prinzip Hoffnung [Gesamtausgabe, Band 5] (Frankfurt am Main: Suhrkamp, 1959 [2019]), vol. 1, p. 5.
[53] القرآن العظيم، سورة يوسف، الآية ٨٧.