1- معنى البطولة في الموسيقى:
من الوارد أن يبدو هذا العنوان غير مألوف بالنسبة لمستمعي الموسيقى العربية، بل والغربية المعاصرة كذلك؛ والسبب أن الموسيقى البطولية heroic music تطورت في رحم الرومانسية المبكرة أولاً؛ أي أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل التاسع عشر، في أوروبا، ثم يفعت، وتبلورت إلى الحد الأقصى، حتى انخفض منحنى تطورها، كل ذلك حتى أربعينات القرن العشرين؛ فمنذ أوائل الأربعينات تقريبًا لم تعد موضوعًا ممكن الطرح كما كان، وسنعرف فيما يلي لماذا. ولكن الأهم في هذه التقدمة هو الوقوف على معناها ذاته. فما البطولة أصلاً؟ وما الموسيقى البطولية؟ وكيف تجلت في تاريخ الموسيقى؟ ومن أهم أعلامها؟ بل ما أهم مراحلها، إن كانت لها مراحل متميزة؟ وما دورها في تطور الموسيقى الغربية ككل؟
لنقرب الفكرة: حين تقرأ ملحمة “الحرافيش” مثلاً لنجيب محفوظ، تجد أنك إزاء خيطين متوازيين في الدراما؛ أحدهما هو الأعمّ، الخط الملحمي، الذي يصف تطور القصة من البداية إلى الذروة والنهاية، منذ حكاية عاشور الناجي، وحتى نهاية الملحمة. ولكن الخط الدرامي الثاني هو الخاص بكل شخصية على حدة: فعاشور هو الفتوة الأول، يختلف عن جلال ذي الجلالة، يختلف عن زهيرة، وفتح الباب.. إلخ. ولكل منهم شخصية، وقصة مختلفة. حين نتتبع الخط الأول فنحن أمام قصة، تتضافر فيها قصص أصغر، كحكايات ألف ليله وليلة، أما حين نركز الانتباه على قصة شخصية معينة، فإننا نشهد في الواقع نشوء بطل معين، وارتقاءَه حتى ذروته، ومعاناته في هذا السبيل، وبقدر ما كانت الصعوبات التي اعترضت طريقه، بقدر ما نحسب قوة إرادته، وصبره، وتصميمه. فإذا دار العمل الأدبي حول هذه التيمة (نشأة البطل، وصعوده، ووصف آلامه، وكيف تحداها)، يمكننا عندئذٍ أن نصف العمل بصفة “بطولي”. لذلك فإن ملحمة الحرافيش عمل “بطولي” بهذا المعنى بالفعل، وبامتياز.
هذا هو المعنى العام للبطولة في الفن. ولا يشترط في هذه التيمة أن تنتهي بانتصار البطل؛ فملحمة الإلياذة البطولية، والتي يبرز فيها بطلان، هما هكطور البشري، وأخيل، الذي عمدته أمه في نهر (ستيكس) Styx بحيث يصير حصينًا ضد أي رمح وسيف (عدا كعبه)، تنتهي بموت البطلين في الواقع. وهما بطلان متباينان أبعدَ تباين؛ فهكطور مجرد بشري شجاع، مقاتل عظيم أي نعم، ولكنه مجرد بشر. أما أخيل فهو خارق بمعنى الكلمة. ومن المتوقع بالنسبة للقارئ، حين يتواجه البطلان في المشهد الدرامي الصارخ قرب النهاية، أن ينهزم هكطور أمام أخيل، ولكن الهدف من الملحمة المنسوبة لهوميروس –مع الشك في نسبتها تلك- تمثيل المواجهة الحاسمة الخطيرة بين الإرادة البشرية من جهة، وبين قوى الطبيعة، وما وراء الطبيعة، العاتية، من جهة أخرى. ومن الطبيعي أن ينهزم الإنسانُ في هذه المواجهة، ولكن المواجهة في حد ذاتها، بقطع النظر عن نتائجها النهائية، هي المقصودة. وبالفعل يبدو هكطور في النهاية البطلَ الأساسي للملحمة؛ لأنه مقبل على الموت، على يد خصم خارق للعادة، وأمه تشق ملابسها، وتهيب به أن يرجع، لكنه يصمم على تحقيق قدره. وقدره ليس أن يموت، بل أن يموت بطلاً، وأن يتحول إلى قصة، ترويها الأجيال، وقد روتها الأجيال فعلاً.
ونرى فيما أعلاه ملامح مميزة للبطولة، سواء في الحرافيش، أو في الإلياذة. لكن هذه الملامح تتضح أكثر حين نطرح نموذجًا ثالثًا مشابهًا، هو نموذج سيجفريد Siegfried (أو زيجورد Sigurd)، بطل ملحمة الشماليين Norse في (حكاية النيبِلُونج) Nibelung، والتي منها قصة (سيد الخواتم) The Lord of the Rings الشهيرة لتولكين، والتي كذلك استوحاها فاجنر –كما سيلي الكلام عليه- في أوبرا من أربعة أجزاء، هي أشهر أعماله. كان سيجفريد –بحسب الملحمة وصياغة فاجنر- كذلك، مثل أخيل محصنًا ضد جميع أنواع السلاح، إلا ظهره؛ والسبب أنه كان أشجع من أن يولي ظهره لعدوه. واستغل هاجِن Hagen هذه الثغرة، مثلما استغل باريس قاتلُ أخيل كعبَه الذي هو نقطة ضعفه الوحيدة في الإلياذة، وطعن سيجفريد في ظهره. وهذا التشابه بين أخيل وسيجفريد يوضح وحدة العقل الجمعي الذي أفرز هذه الأساطير الآرية: (البطل المطعون في ظهره –أو كعبه- )، والذي استغلته الدعاية النازية كما هو مسجل تاريخيًا ضد يهود أوروبا، ومعارضي حالة الحرب، باعتبارهم هم الذين طعنوا ألمانيا في ظهرها، وهي على وشك الانتصار في الحرب العالمية الأولى، أو ما كان يُعرَف في ألمانيا بين الحربين بـ “أسطورة طعنة الخنجر” Dolchstoßlegende.
وهكذا مات كل من عاشور الناجي، وزهيرة، وجلال ذي الجلالة، وهكطور، وأخيل، وسيجفريد، مَيْتات متباينة، لكن لأجل أن يتحول كفاحه إلى قصة ملهمة لأجيال، وربما عصور، من بعده. وأضف إليهم جلجامش، وأوزيريس، وأوديسيوس، وعددًا كبيرًا من الأنبياء، والقديسين؛ فقد استعملت الكتب المقدسة كذلك هذه التقنية من الإلهام في الديانات المختلفة، بل وأضف لهم العلماء كذلك، مثلما خلّد كريستوفر مارلو مأساة جيوردانو برونو في دكتور فاوست Doctor Faustus، وفاوست نفسه بالتبعية، الذي ألهم جوته، وتوماس مان، وكلاوس مان، وغيرهم، بقصة فاوست. وحتى كاتب هذه السطور له صياغة فاوستية هي (منهج تربوي مقترَح لفاوست)-2009. وكل من هؤلاء له من وراء تجسيده للبطل غايته الخاصة، وكل من هؤلاء الأبطال له حكمته، التي ختَمَ بها على خارطة التاريخ.
ومن هنا نستطيع رسم الملامح العامة للبطل: فهو فرد واحد غالبًا، وإن كان بعض القَصص يقدم قصة شعب كامل، كما هو العهد القديم مثلاً. وهو بشري في الغالب، أو بشري خارق لم يتخلَّ على أية حال عن بشريته تمامًا؛ والعلة أنه يجب أن نتوحد كقراء مع البطل، ولو جزئيًا؛ فلو كان البطل إلهًا مثلاً، لما كانت مأساته، وكفاحه، بهذه الخطورة؛ لأنه في النهاية قادر على كل شيء (باتمان مثلاً بطل بشري صرف، أما بقية الأبطال الخارقين في تراث مارفل ودي-سي فهم خارقون بدرجة ما، ونوع ما، وهو السبب في أن باتمان هو أشهر بطل خارق في العالم حاليًا رغم أنه في الحقيقة ليس “خارقًا”). وهو يتطور أمامنا غالبًا: من الطفولة، أو الضياع، إلى الاهتداء إلى طريقه، ومعرفة نقاط قوته، إلى الصراع الأساسي له، ثم إلى النهاية الانتصارية، أو التراجيدية. وهذا التطور مقصود؛ لأن هدف الكاتب الأصلي كما قلنا هو إلهام البشر بما يمكن أن يصيروا إليه، لو شحذوا إراداتهم، وهو ما لا بد من بيانه عن طريق حكاية قصة البطل بما يعرض لنا مسار صعوده. وهو حامل لقيمة معينة، تتحدد بحسب الكاتب، وحسب جمهوره؛ فقيمة هكطور هي الشجاعة، وقيمة فاوست هي النهم المعرفي. ومن الطبيعي أن يكون بطل العصور القديمة (هكطور مثلاً) محاربًا صنديدًا، وأن يكون بطل العصور الوسطى (فاوست مثلاً) عالِمًا فضوليًا؛ لأن قيمة العلم، والمعرفة لم تتحول إلى قيمة محرمة، نحتاج إلى دعم أصحابها إلا في ظل طغيان ديانة مركزية (الكاثوليكية)، لم تتغول إلا في العصر الوسيط. فإذا كان سؤال العصور القديمة هو الأخلاق، فإن سؤال العصور الوسطى هو المعرفة. ولكن، وفي الغالب، يحمل البطل في أغلب الملاحم البطولية قيمة الشجاعة، وقوة الإرادة، مهما كان توجهه الخُلُقي، والمعرفي. وحتى بطل كامو في (الغريب)، والذي كتب عنه سارتر في (مقالات أدبية وفلسفية) أنه يواجه عبث الحياة بحياة العبث، حتى هذا البطل العبثي يتميز بشجاعة الحياة في العبث. ولا يشترط في البطل أن يكون تاريخيًا، أو خياليًا؛ فالحكاية نفسها ملهِمة، ولكن غالبًا ما يكون البطل خياليًا؛ لأن في “تبطيل” الشخص التاريخي الواقعي “إبطالاً” لبطولته أحيانًا؛ بسبب أننا نتفاعل تاريخيًا فعلاً مع البطل الحقيقي، وعندئذٍ يصير محلاً للنقد، كما سنرى مع نابليون بونابرت، ومعالجة بيتهوفن لقصته البطولية.
وتلخيصًا لملامح البطل فيما سبق: فهو في الأغلب: فرد، بشري، له قصة تطور معينة، ويحمل قيمة خلقية محددة، ويتصف بالشجاعة وقوة الإرادة.
أما ما يحدد الموسيقى البطولية موسيقيًا، أي ما يتعلق بها من جانب نظرية الموسيقى، والتوزيع، والتأليف، فمن المتفق عليه بين الموسيقيين أن مقام مي بيمول الكبير (المقام العام لكل من السيمفونية الثالثة لبيتهوفن، وكونشرتو الإمبراطور رقم 5)، ومقام دو الكبير، هما المقامان الأكثر استعمالاً لهذا النوع من الموسيقى، بما يوحيان به من صفاء نفسي، وقوة، واستقرار. كما أن استعمال النحاسيات، وآلات الطرق النحاسية، من جانب التوزيع، له دلالة قوية في هذا الصدد كذلك، كما نجد في القصيد السيمفوني “هكذا تكلم زرادشت”، وسيمفونية سيبيليوس الخامسة، وغيرهما من الأعمال البطولية. ويمكن للسامع كذلك تمييز المقطوعات البطولية من المدونة الموسيقية؛ فاصطلاح “مايستوسو” maestoso (عظيم) دال على سرعة عزف وقورة، هادئة، لكنها كذلك ليست دلالة فحسب على السرعة، بل على طابع الأداء المتهادي في خيلاء، كموكب إمبراطوري. وهناك طرق مختلفة بطبيعة الحال لاستعمال هذه الإمكانات، ولكننا سنتعرض لها حين نحاول استكشاف “مدارس” بطولية متباينة في تاريخ الموسيقى الغربية فيما يلي بعد قليل.
2- دور البطولة في تطور الموسيقى:
وكما قدم الأدب فيما أعلاه نموذج البطل، قدمت كل الفنون التيمة نفسها: الفن التشكيلي، والسينما، والموسيقى، وغيرها. ولكن دور البطولة في الموسيقى كان ذا شأن بالغ الأهمية والجسامة؛ لعدة أسباب؛ فقد قفزت الموسيقى قفزة حقيقية مع هذه التيمة على يد بيتهوفن. ولم يكن بيتهوفن موسيقيًا ذا شأن عظيم إلا بعد هذا الإلهام البطولي، الذي أوحى له بالسيمفونية الثالثة (إيرويكا Eroica: أي البطولية بالإيطالية)، والتي عزفت للمرة الأولى بفيينا عام 1805، فقبل ذلك الحين كان موسيقارًا كلاسيكيًا مهمًا، وتلميذًا نجيبًا لهايدن، وموتسارت، ولكن “نجاح” إيرويكا هو الذي عبّد له طريق معالجة تيمة البطولة في أعمال عديدة مهمة تالية، وخاصة أن إيرويكا هي أهم أعماله في هذا الصدد من جهة تعلقها بشخص بونابرت التاريخي المعاصر لها، وتعقيدها التقني، والتركيبي، وثرائها الأوركسترالي، وطولها الملحمي، الذي يقترب من ساعة كاملة، وجمال ألحانها، وأناقتها، وعمق الدراما فيها.

يمكن القول بأن سيمفونية إيرويكا هي التي غيرت تاريخ الموسيقى إلى غير رجعة؛ فبدون نجاحها لم يكن للموسيقى أن تتحول من الكلاسيكية إلى الرومانسية، على الأقل بالصورة التي تم بها هذا التحول. ونجاح العمل، الذي يفتح طريقًا لأسلوب جديد، مهم في حد ذاته؛ لأنه إثبات للجميع: الفنانين، والمتلقين، والنقاد، بأن هذا الأسلوب قادر على إنتاج أعمال مؤثرة، وقائمة بذاتها، دون الحاجة إلى تنظير يدعمها. وكان من المهم كذلك –مثلاً في سياق الشعر العربي الحديث- أن تنجح أعمال نازك الملائكة، وعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، وعبد المعطي حجازي، كي تنتصب حركة الشعر الحر على قدميها، كما كان من الجوهري أن تنجح أعمال أدونيس وأنسي الحاج مثلاً لكي تفرض قصيدة النثر نفسها على الواقع الأدبي العربي.
ولكن الأهم أنّ من أسباب نجاح إيرويكا الأساسية تعبيرها نفسه، أي تعبيرها عن تيمة البطولة؛ فقد ارتبطت الرومانسية الموسيقية بهذا الرابط الناجح، والجديد، موضوعًا، وأسلوبًا، بقيم الثورة الفرنسية من العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، حين كان نابليون لم يزل بعدُ بطلَ الثورة الفرنسية، وابنها البارّ، الذي عنها يُدافِع بكل ما أوتِيَ مِن مَدافِع. صحيح أن بيتهوفن قرر شطب اسم بونابرت –العنوان الأول للسيمفونية- واكتفى بتسميتها بإيرويكا، ولكن هذا جاء في صالح السيمفونية بالتأكيد؛ فلو ظلت مرتبطة ببونابرت لصارت ممجوجةً عند أعدائه، من أعداء الثورة الفرنسية، ومن أبنائها، على السواء؛ بعد أن ناقضَ بونابرت بنفسه القيم الثورية، ونصب نفسه إمبراطورًا. وبهذا صارت السيمفونية معبّرة عن البطولة المجردة، بقطع النظر عن موقف المستمعين من الثورة الفرنسية تحديدًا، أو حتى الثورة عمومًا.
الدور الثاني الأقل أهمية لإيرويكا، ولكنه المركزي كذلك في تطور الموسيقي الغربية، أنها صارت نموذجًا فنيًا، أو كما يمكن القول: “مرجعًا” في التعبير الموسيقي عن البطولة. هذا المرجع اعتمد عليه بيتهوفن نفسه في سيمفونياته البطولية التالية، التي تحمل الأرقام الفردية: الخامسة، والسابعة، والتاسعة، كما في افتتاحياته وكونشرتواته وأوبراه الوحيدة “فيديليو”؛ فالنموذج الناجح قابل لأن يغدو مرجعًا بطبيعته. وبعد بيتهوفن جاء شوبرت، وبرامز، وتشايكوفسكي، وفاجنر، وغيرهم، ممن تأثروا به، وأنتجوا أعمالهم البطولية: سيمفونية شوبرت الرابعة، الافتتاحية التراجيدية لبرامز، سيمفونية تشايكوفسكي الرابعة، وجلّ أعمال فاجنر، وغيرها من أعمال لغيرهم من المؤلفين. وهكذا يمكن تلخيص دور إيرويكا في الفن في أنها: أولاً ساهمت جوهريًا في الانتقال من الكلاسيكية إلى الرومانسية في الموسيقى، وثانيًا صارت مرجعًا في التأليف في موضوعها، حتى انتصاف القرن العشرين تقريبًا. وما أطال من تأثير إيرويكا تاريخيًا في الواقع هو ازدهار الحركات القومية في أوروبا في نهايات القرن التاسع عشر، وحتى هزيمة الفاشية قرب منتصف القرن العشرين؛ حيث اتخذت الحركات الفاشية نماذجها ومَراجعها مِن أبطال الشعوب، ومُثل الأمم العليا، كما سنرى.
2- دور الموسيقى البطولية في دعم الحركات الفاشية في أوروبا:
وهو دور فعّال ولا ريب، ودور مزدوج كذلك؛ بحيث دعمت الموسيقى البطولية فاشيات أوروبا الوليدة من جهة، كما دعمتها تلك الفاشيات بقوة هائلة في الوقت نفسه. فمع أفول نجم بونابرت، وانكماش أثر الثورة الفرنسية النسبي في أوروبا، كان يمكن لهذه الموسيقى البطولية أن تنحسر بدورها، لولا صعود الفاشيات التدريجي منذ أواخر القرن التاسع عشر، وبدايات العشرين. لقد وجدت الفاشية أغنيتها الخاصة المميزة في الموسيقى البطولية. وهنا تبرز ثلاثة أسماء مهمة في مرحلة (ما بعد الرومانسية): يان سيبيليوس، وريتشارد شتراوس، وكارل أورف. هناك اسم بالغ الأهمية كذلك في هذا السياق، هو ريتشارد فاجنر (+ 1913)، الذي –كما هو معروف وثابت بقلمه- كان نازيًا قبل النازية، أي قوميًا اشتراكيًا معاديًا للسامية. ولكن أغلب أعماله لم تعاصر ذلك الصعود الصاروخي للقوميات المتطرفة، وإن بقيتْ معبّرة بوضوح عن موضوع البطولة القومية الآرية، خاصةً أوبراته المتخَذة من أساطير الشماليين كرباعية النيبلونج: “ذهب الراين”، “الفالكيري”، “سيجفريد”، وأخيرًا “غَسَق الآلهة”.
ولكن الفريد في تلكم الأسماء الثلاثة أنها اجتمعت على قلب رجل واحد لنصرة النازية في ألمانيا، والرايخ الثالث فيما بعد. فمن الثابت والمعروف أنه في عام 1934 قبِلَ سيبيليوس تعيينَه في منصب نائب رئيس “المجلس الدائم للتعاون الدُّوَلي للمؤلفين الموسيقيين” Ständiger Rat der internationalen Zusammenarbeit der Komponisten في ألمانيا النازية مع كل من ألبير روسيل، وأدريانو لوالدي. أما رئيس ذلك المجلس، الذي كان سيبيليوس نائبَه، فكان ريتشارد شتراوس، الذي تولي كذلك رئاسة “غرفة موسيقى الرايخ” Reichsmusikkammer عام صعود هتلر للسلطة 1933. أما كارل أورف فهو مؤلف ترنيمة النازي الأساسية: “كارمينا بورانا” الشهيرة، التي كانت أهم مقطوعة احتفي بها النازي في قمة صعوده، وقد وضعها أورف بين 1935 و1936، وعزفت لأول مرة بفرانكفورت عام 1936.
وكان دعم النازي لهؤلاء الموسيقيين، ودعمهم هم له، مفهومًا في سياقه التاريخي بالتأكيد؛ فقد خصصوا أعمالاً كثيرة، قد تزيد على نصف ما قاموا بتأليفه، وهم مؤلفون محترفون، إما لمعالجة تيمات قومية صريحة، أو تعبيرًا عن قيم التفوق والإنسان الأعلى النيتشوي بوضوح: وضع أورف “كارمينا بورانا” المأخوذة من التراث الآري القروسطي، النابذة لقيم المسيحية وبالذات العفة، والتسامح، وألف سيبيليوس المتتاليتين الفولكلوريتين، والسيمفونية الثانية، و”كولرفو” Kullervo(السيمفونية الكورالية) والقصيد السيمفوني تابيولا Tapiola، وكلها مأخوذة من التراث الشمالي، أما ريتشارد شتراوس فهو مؤلف القصيد السيمفوني الشهير، ربما الأشهر: “هكذا تكلم زرادشت”، بمقدمته البطولية المُدَمْدِمَة الهائلة، و”سيمفونية جبال الألب”، التي دعاها باسم (عدوّ المسيح) وهو عنوان آخر لنيتشه. وتتضح في كل تلك الأعمال تيمة معاداة المسيحية من جهة، والصعود بالتراث القومي، الآري-الشمالي بالذات. كل هذه الأعمال، وأكثر، تم وضعها في سياق النازي، أو لخدمته بشكل غير مباشر.
ويمكن القول أن تعاون الموسيقيين البطوليين مع الفاشية هو السبب في أن هذا النوع من الموسيقى لم يعد مطروقًا كما كان؛ وذلك بعد هزيمة الفاشية. فبعد سقوط النازي، وانهيار الرايخ الثالث، وبعد تورطه في جرائم وحشية ضد الإنسانية، ارتبطت هذه الموسيقى عمومًا بتلك الأيديولوجيا المهزومة أولاً، والتي تسببت في دمار أوروبا على كل المستويات ثانيًا، ووقوعها غربًا تحت النفوذ الأمريكي، وشرقًا تحت الستار الحديدي السوفييتي.
3-أثر الفاشية الموسيقية على المفكرين العرب:
وقد أثرت هذه النازية الموسيقية على المفكرين العرب كذلك، الذين كان لهم الباع في فهم الموسيقى الكلاسيكية، ونظرية الموسيقى، والنقد الموسيقي، ربما كان أبرزهم في هذا الشأن فؤاد زكريا، الذي (سَبَّ) الموسيقار والمايسترو اليهودي ليونار برنشتاين L. Bernstein بأنه يقود الأوركسترا “بطريقة تحسده عليها عوالم [أي راقصات] محمد علي”، وأن اسمه يمكن أن يُنطَق عند الأمريكان “بِرْنِسْطين” –إشارة إلى الطين- في كتابه “مع الموسيقى”! في الموضع نفسه، الذي فيه يمدح المايسترو الألماني، عضو الحزب النازي هربرت فون كارايان H. von Karajan (زكريا: مع الموسيقى، ص 27-28)، ومقابل تخصيصه لكتاب كامل عن “فاجنر”، الموسيقار الوحيد، الذي خصص له فؤاد زكريا كتابًا. ولا شك عندي في أن زكريا قد تأثر بنازية أستاذه عبد الرحمن بدوي ( ت 2002 م) الصريحة، وهو القيادي بحزب “مصر الفتاة” الفاشي، الذي دعم النازي، وهتلر، بجلاء ومباشرة، وشجعه على دخول مصر إبان الحرب الثانية. صحيح أن زكريا يعلن: “إنَّ معظم آراء فاجنر في الفن والسياسة لا تَرُوقني” (زكريا: فاجنر، ص 7)، ولكن من المتوقع أن يقع ذلك التناقض في نفس زكريا بين الإعجاب العاطفي بالقومية الآرية من جهة، وتوجهه السياسي الليبرالي من جهة ثانية، وشتى أوجه النقد التي وجهت للنازية، خاصةً في ستينات الحرب الباردة وصعود اليسار، ونتائج هزيمتها الماحقة، من جهة ثالثة. يحاول زكريا زبّ النقد مسبقًا، ويقول أن آراءه في “برنسطِين” فنية بحتة، لا دخل لها بالأيديولوجيا السياسية، وأنه “مايسترو بالصدفة”، ولكن مَن يعرف برنشتاين، المايسترو، والمؤلف، ومُحاضر هارفارد، لا يمكن أن يقول عنه ما قاله زكريا بهذه البساطة؛ فإن له أسلوبه المميز في إخراج أعمال بيتهوفن بالذات (افتتاحية إيجمونت والسيمفونية السابعة مثلاً)، وله نظرية توليدية في الموسيقى، توازت مع بحوث الفيلسوف اليهودي تشومسكي في النحو التوليدي. هناك فعلاً سيطرة من اليهود على مقاليد الفن في أمريكا بالذات، ولكن هذا لا يمنع من تميز البعض منهم حقًا، إذا كنا نقيم أعمالهم -كما قال- تقييمًا فنيًا بحتًا. هذه الانتقادات المُهينة، وذات النبرة العنصرية، تطعن أول ما تطعن في الموضوعية الممكنة للنقد الفني لدى صاحبها.

ولعل القارئ يتساءل بحق: وما وضع موسيقى بيتهوفن بالنسبة للنازي، وهو ألماني؟ (في الواقع ينحدر بيتهوفن من أصول فلمنكية-إسبانية). هنا يتضح الفارق، كالسماء نفسها، بين مدرستين متباينتين للبطولة؛ فبيتهوفن يختلف اختلافًا جذريًا: أيديولوجيًا، وأسلوبيًا، وموضوعيًا عن ثلاثي النازي سابق الذكر، وعن فاجنر. وهو لب هذا المقال الحالي.
4- خاتمة: المدارس البطولية في الموسيقى الكلاسيكية الغربية:
البطولة البيتهوفنية أعقد في الحقيقة، وأثرى، بكثير منها لدى أورف، وشتراوس، وسيبيليوس، وفاجنر، وأي موسيقار كلاسيكي آخَر. أولاً: هناك بطولة بيتهوفن نفسه (السيمفونية الخامسة): فهو بطل في نظر نفسه، وهو الذي أصيب بالصمم في منتصف العشرينات، ثم استمر في التأليف، لينتج أعظم أعماله بعد بدء صممه، وحتى بعد صممه الكامل في سن الثانية والأربعين تقريبًا، وهي فترة تأليفه للسيمفونية التاسعة. وثانيًا: هناك بطولة نابليون بونابرت في مرحلته الثورية قبل الإمبراطورية (السيمفونية الثالثة)، والتي كانت بطولة ليبرالية، تؤمن بالمساواة بين جميع الأعراق والأجناس والملل والنحل. وثالثًا: هناك بطولة الإنسانيةِ كلِّها في السيمفونية التاسعة، ونشيدها (أنشودة إلى الفرح) لشيللر، والذي هو إنساني إخائي عام، لا يمكن تأويله تأويلاً قوميًا، وكان أصلاً نشيدًا يتغنى به الألمان تأييدًا للثورة الفرنسية.
المعروف أن النازيين قد حاولوا إعادة تأويل بيتهوفن تأويلاً قوميًا، ولكنهم فشلوا في ذلك بوضوح؛ فبينما هم يعزفون أعمال بيتهوفن تمجيدًا للروح الآري، كان الحلفاء، في الوقت نفسه، يذيعون افتتاحية السيمفونية الخامسة لبيتهوفن شعارًا في وجه النازي؛ حيث كانت تيمة دائمة لإذاعة بي-بي-سي البريطانية أثناء الحرب، كما عُزِفتْ بفيينا أوبرا فيديليو، الأوبرا الوحيدة لبيتهوفن، بعد هزيمة النازي احتفاء بالخلاص من سيطرة الرايخ على النمسا. والمعروف كذلك أن ألحان بيتهوفن لنشيد شيللر، الحركة الرابعة من تاسعته، هي النشيد الرسمي اليوم للاتحاد الأوروبي، إلا إذا أوّلنا الاتحاد الأوروبي ككل باعتباره رايخَ ثالثًا! ومن المعروف أيضًا أن بيتهوفن كان جمهوريًا على مبادئ الثورة الفرنسية، حتى وهو يؤلف في بلاط نبلاء فيينا، وهدد أكثر من مرة بالانسحاب من فيينا -حسب وِل وإيرل ديورانت- والعودة إلى ألمانيا، التي كانت تحت سيطرة بونابرت بشكل غير مباشر في ذلك الوقت، بعد أن حلّ بونابرت الرايخ الأول عام 1806. ومن المعروف أخيرًا أن بيتهوفن قد وضع “تنويعات على أوراتوريو يهوذا المكابي لهاندل” عام 1796. ويهوذا المكابي Judas Maccabaeus زعيم يهودي، قاد تمردًا ضد الدولة السليوقية، إحدى الدول التي انقسمت إليها إمبراطورية الإسكندر الأكبر، بين عامي 160-167 ق.م. ومن العسير نوعًا تأويل هذا العمل مثلاً تأويلاً نازيًا!
هذا عن الجانب الموضوعي والأيديولوجي، فماذا عن الجانب الأسلوبي؟ في حقيقة الأمر فإن الجانب الأسلوبي هو الأميز، والأهم؛ فالمعلومات التاريخية قد تكون منقوصة، أو محرفة، أو منحرفة التأويل حتى لو صَحَّ ذكرُها، وصَدقَ ناقلُها. استمعْ إلى الحركة الأولى مثلاً من سيمفونيته الثالثة لتدرك الفارق؛ إنها ليست موسيقى “قوية” فحسب، هي في مقام البطولة الأهم (مي بيمول الكبير)، وهي تستعمل النحاسيات بوضوح بارز، ولافت، إذا وضعناها في سياق أعمال بيتهوفن تاريخيًا، وسياق تراث الموسيقى الكلاسيكية قبله ككل؛ فبيتهوفن هو الذي أعطى للنحاسيات (كالكورنو، والترمبون، والترومبيت، والتوبا) هذه الأهمية في المؤلفات السيمفونية، بعد أن كانت مجرد لمحات خاطفة مصاحبة للوتريات والخشبيات عند موتسارت وهايدن. استمع إلى دور الكورنو وحده في هذه الحركة لتدرك الفارق؛ فهو يكاد يكون صوت نابليون نفسه، وهو يثير الأوركسترا قرب ختام الحركة؛ لتعزف اللحن الأساسي كاملاً للمرة الأولى (فاللحن في هذه الحركة، وعلى خلاف تاريخ الموسيقى المعهود، لا يكتمل إلا في الختام). كل هذا صحيح، ولكن الاختلاف الأهم في طبيعة التفاعل بين الألحان، وهوية الألحان نفسها.
تنقسم الحركة طبقًا لصيغة الصوناتا إلى أقسام ثلاثة رئيسة: العرض، التفاعل، إعادة العرض، ثم كودا (تذييل). وبينما يستعرض قسم العرض الألحان الأساسية القوية، المتفجرة بالفرحة، والانتصار، ثم تنتهي الألحان، يدخل قسم التفاعل العصيب، في المقام الصغير، المخيف، والحزين، تدريجيًا، كلون قاتم يتسرب إلى بياض السماء الشاهق. ونستمع فيه إلى ضربات كالسيف، تليها نبضات كالقلب، ثم تنويعات مميزة، مختلفة، على اللحن الأول البطولي، الذي تبدأ به الحركة. هذه التنويعات هي أرقّ ما ألّف بيتهوفن في رأيي، ولكن رقتها لا تبدو إلا جوار أقوى، وأشرس ما وضعه من موسيقى كذلك، في هذه الحركة. وبصفة عامة يمكن القول أن بيتهوفن قد حاول –بنجاح- إظهار الجانب “الرهيف في الإرهاب، والرهيب في الإرهاف”، إن جاز التعبير. حاول بيتهوفن أن يُظهِر الجانب الهش، الإنساني، من البطل، هذا الجانب، الذي هو من أسباب معاناة البطل، وهو يتقدم، ليدوس على مشاعره هو، وهو يطأ الأرض التي فتحها. والواضح لكل مستمِع تلك الأجزاء الرقيقة، الحزينة، والأنيقة مع ذلك، كجمال أميرة نائمة من عالم ديزني، والمتحدة بصياغة عبقرية مع أهوال أسطورية، ومارشات عسكرية، وهتافات جماهيرية، وخفقات الرايات الثورية. هذا المزيج من الفروسية والبراءة لم يصنعه سوى بيتهوفن. ولم يقدمه فقط في ثالثته، بل في كل أعماله البطولية المذكورة، وغير المذكورة؛ فهو طابع عام مميز لموسيقاه في هذه المرحلة.
هذه الأناقة والرقة هي ما نفتقده تمامًا في أعمال فاجنر، وأورف، وشتراوس، وسيبيليوس، وبروكنر، ولِيسْت، وتشايكوفسكي، ورحمانينوف البطولية. إن تلك الأعمال لا تربو على كونها صرخات أوركسترالية نحاسية، مصحوبة بألحان انتصارية، قد تَظهر فجّة في بعض الأحيان، لدرجة أن النحاسيات فيها قد صارت أقرب إلى أوركسترا مُوَازية؛ مِن التطرف في الاتّكاء عليها، وكأن البطولة بطولة الآلة، لا المؤلِّف، ولا أي فرد إنساني! استمع إلى الحركة الأولى من خامسة سيبيليوس لتدرك الفرق: فالنهاية الانتصارية للحركة، والتي تأتي بعد إنماءات غزيرة، طويلة، مع ذلك –أي رغم طول فترة الإنماء- تظهر الكودا الانتصارية بشكل مفاجئ، وصادم للأذن، والعقل، ومنبتّ الصلة تقريبًا بما يسبقه، كأنما هي دخيلة على العمل، ومقصوصة، ثم ملصوقة في هذا الموضع من حركة أخرى (وقد دمج المؤلف فعلاً الحركة الثالثة في الحركة الأولى بعد تعديلات عدة للسيمفونية، لتصير من ثلاث حركات فقط، وليس أربع). استمع كذلك إلى الحركة الرابعة الانتصارية في كل من رابعة تشايكوفسكي، وثانية رحمانينوف. انظر إلى هذا الانتصار المفاجئ غير المتوقع، ولا المدبَّر له. في السيمفونيتين المذكورتين تأتي الحركة الأخيرة انتصارية بعد حركة ثالثة لا توحي بما هو قادم، ولا تمهد له، ولا تتصل به بأي شكل، مجرد انتصار على سبيل المصادفة! وفي المقابل قارنهما بالحركة الرابعة من خامسة بيتهوفن، والتي تتصل –دون فاصل صامت- بالحركة الثالثة. تعبر الحركة الثالثة من خامسة بيتهوفن عن روح الصراع، وهي مبنية أصلاً على معكوس جملة الحركة الأولى المميزة الشهيرة، كأنما هي طرقات الإنسان المتحدية لطرقات القدَر المهدِّدة، ثم تتفكك الحركة إلى بيتسيكاتّو (عزف متقطِّع)، ويسود الهدوء، ليبدأ الطبل تدريجيًا في عزف إيقاع الحركة الثالثة، ثم تندمج طرقاته؛ ليدخل بنا إلى إيقاع الحركة الرابعة، مع تحول المقام من دو الصغير الكئيب المفزِع، إلى دو الكبير الانتصاري القوي، كل هذا بشكل تدريجي، كأنه فوران تلقائي من الهدوء والانسيابية إلى الذروة المتفجرة، ثم تسود ألحان الحركة الرابعة، وتستقر. كل هذا بشكل أبسط كثيرًا، وتوزيع أوركسترالي أقل، وانسيابية أَتَمّ، مما يقدمه لنا سيبيليوس، أو تشايكوفسكي، أو رحمانينوف. وهو الفارق فعلاً بين موسيقيي الدرجة الأولى كيوهان سيباستيان باخ، وهايدن، وموتسارت، وبرامز، وشوبرت، من عمالقة التركيب، وهؤلاء الموسيقيين من الدرجة الثانية، رغم عظمتهم التي لا شك فيها، والذين رغم أهميتهم لا يمكن لهم دخول منافسة واحدة مع بيتهوفن.
الفروسية، والبراءة شبه الطفولية، وتناغُم المذكر والمؤنث، والأناقة، مع القوة، والانتصار، والمحنة، والألم، كل هذا المزيج يصنع في النهاية –عند بيتهوفن- طابعًا لا تخطئه الأذن من الفداء والاستشهاد. هذا العنصر الأخير (الفداء) هو المفتقَد الأساسي في بطولات غيره من التالين عليه؛ وهو البلوَرَة النهائية للبطولة البيتهوفنية. وهو ما يمثُل أمامنا على هيئة مدرستين على الأقل للموسيقى البطولية: الأولى هي المدرسة الفروسية (كما يمكن أن نسميها وبما تشمله الفروسية كتعبير من معاني خُلُقية)، التي تدمج بين القوة والفداء، وتظهر فيها قيمة البطل الخلقية، التي سلف الكلام عليها في التقدمة، والثانية هي مدرسة القوة المحضة، التي هي أقرب إلى تعبير موسيقيّ عن ذلك الجانب من فلسفة نيتشه (وإن كان نيتشه أعقد من ذلك الذي فهموه منه فيما يبدو). وتلخيص الفارق بينهما أنّ مدرسة الفروسية لا تهدف إلى إظهار قوة البطل بالأساس، بل معاناته، وتجربته، وصلابة إرادته، أما مدرسة القوة فتميل إلى بيان قوة البطل بشكل أساسي. ولا مراء في أن تلك الأخيرة، مدرسة القوة، سوف تعتبَر سطحية إلى حد كبير بمقارنتها بمدرسة الفروسية، ليس فقط موضوعيًا، بل كذلك أسلوبيًا. ولكن، وعلى كل حال، فمقارنة الموسيقيين عمومًا مع بيتهوفن مقارنة ظالمة نوعًا، ربما عدا أساتذته من باخ إلى هايدن، وموتسارت، وتلامذته الأساسيين كشوبرت، وبرامز، وشومان.
ومن محاور التقسيم الموضوعي كذلك لمدارس البطولة موضوع البطولة؛ فقد يكون فرديًا كبونابرت، وإيجمونت، كما قد يكون جمعيًا إنسانيًا كما في السيمفونية التاسعة. ولكن، وبسبب تصاعد حدة القوميات في أوروبا في وقت مدرسة القوة سالفة الذكر، لم يستمر خيط البطولة الإنسانية كثيرًا بعد بيتهوفن. وبقيَ لحن الفرح، لحن الحركة الرابعة من تاسعته، علامة بيّنة على ما كانت عليه الثقافة الأوروبية في مطلع القرن التاسع عشر، بُعَيْد الثورة الفرنسية، وما آلت إليه الثقافة نفسها، بعد أهوال الحرب الثانية، ومذابحها الدموية، لترجع أوروبا في النهاية، عودًا على بدء، مستعيدةً لحن بيتهوفن، فيما هو في الآن نفسه انتصار حقيقي لبيتهوفن، واختبار تاريخي، انتصر فيه الموسيقار السماوي على الأرض ذاتها.
المصادر والمراجع ولمزيد من القراءات
- حسين فوزي: بيتهوفن، دار المعارف، القاهرة، دون بيانات أخرى.
- فؤاد ذ كريا: فاجنر، مؤسسة هنداوي، مصر، 2018.
- فؤاد زكريا: مع الموسيقى، ذكريات ودراسات، مؤسسة هنداوي، مصر، 2018.
- كريم الصياد: انقطاعات سيبيليوس أو لغز السيمفونية المحترقة، مؤسسة معازف، لندن، 2015.
- كريم الصياد: منهج تربوي مقترح لفاوست، دار شمس للنشر والإعلام، القاهرة، ط1، 2009.
- نجيب محفوظ: ملحمة الحرافيش، مطبوعات مكتبة مصر، دار مصر للطباعة، القاهرة، مصر، دون بيانات أخرى.
- هوميروس: الإلياذة والأوديسة، ترجمة دريني خشبة، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط4، 2018.
- Campbell, Joseph, The Hero with a Thousand Faces (The Collected Works of Joseph Campbell), New World Library; third edition (July 28, 2008).
- Christopher Marlowe, Faustus, CreateSpace Independent Publishing Platform (July 7, 2015).
- Deutsche Welle, Beethoven as Nazi Propaganda: https://www.dw.com/en/beethoven-as-nazi-propaganda/a-53262640, 5-6-2020, 12: 00 (UTC+02:00) Cairo.
- Durant, Will & Ariel, The Story of Civilization, Age of Napoleon, Simon and Schuster, New York, 1975.
- Roberts, J. M. (1999). Twentieth Century: The History of the World, 1901 to the Present. London: Allen Lane/ The Penguin Press.
- Saemund Sigfusson (Author), Snorri Sturluson (Author), Benjamin Thorpe (Translator), I.A. Blackwell (Translator), The Poetic Edda & The Prose Edda (Complete Edition), e-artnow (March 1, 2019).
- Sartre, Jean-Paul, Literary and Philosophical Essays, translated from the French by Annette Michelson, Collier Books, New York, 1962.
- Taruskin, Richard (2005). The Oxford History of Western Music. 4 “The Early Twentieth Century”. Oxford: Oxford University Press.