نظمت وزارة الثقافة السعودية قبل أشهر أمسية بعنوان “أطباء أدباء” تحدث فيها أطباء لبيت الأدب عن جوهرية العلاقة بين الطب والأدب التي تنوولت كثيرًا حتى غدت فكرة رومانسية حالمة، دون معاينة هذه الفكرة عبر التحليل الذي قد ينزع من الأفكار رومانسيتها. وأنا أقرأ خبر الأمسية رجعت بي ذاكرتي إلى زميلي الطبيب الأمريكي المتأدب الذي وجدتُ في مكتبة بيته في كليفلاند، كتابًا مهترئًا تكاد أوراقه تتساقط، بعنوان مذكرات “طبيب شاب”، لاحظ توقفي عنده فبادرني الشكوى عن عدم قدرته على التوفيق بين شغفه بالأدب ورغبته في كتابة النصوص من جانب وممارسته الطب وانخراطه في الإنتاج العلمي من جانب آخر، رغم تبرمه أن الكثير غيره امتلكوا هذه القدرة كتشيخوف وآرثر كونان دويل وغيرهم. ثم سألني، مستطردًا كعادته، إذا ما لاحظت أن أبوللو، آلهة اليونانيين، كان إلهًا للشفاء والشعر معًا. شعرت وقتها أن فكرة التوأمة بين الطب والأدب ترددت على مسامعي كثيرًا منذ الطفولة، دون أن أفكر فيها تفكيرًا جادًّا من قبل، فساقني ذلك إلى تتبع بعض سير “الأطباء الأدباء” مسائلًا مكانتهم العلمية. فهل كانت لهم مؤلفات علمية؟ أيهما كانت المهنة في حياتهم، الطب أم الأدب أم كلاهما؟ ما أثر الظروف التي عاشوا فيها على علاقة الطبيب بالأديب فيهم؟ فكانت لي جولات في سيرهم الأدبية والعلمية التي دلتني على أنماط محددة لدى هؤلاء: الموسوعيين، المهاجرين الأجانب، المهاجرين العرب، الممارسين الأجانب، الممارسين العرب، بالكاد علماء، بالكاد أدباء، أدباء ولكن، أدباء علماء أطباء.
لكن قبل الخوض في هذه الأنماط أود طرح بعض المقدمات. أولًا- تغير معنى العلم عمليًّا عبر التاريخ، فبعد أن كان أرسطو هو أول من ولد العلم من الفلسفة رغم أن علمه الذي وهبه لقب العالم ما كان إلا تسجيل ملاحظات دقيقة عن النباتات والحيوانات وتصنيف الكائنات في أجناس وأنواع، أما اليوم فمطلوب منك نشر ورقة علمية كي تحظى بصفة العالم، والأفضل أن تكون هذه الورقة عن تجربة ما، في مجلة علمية تكون في الغالب الأعم محكومة بمحكمين من التخصص العلمي التي تتبناه المجلة لضمان جودة العلم الذي يصدر عن هذه المجلة. ولكل مجلة “عامل تأثير” يستخدم لتقييم المجلة العلمية مقارنة بغيرها من المجلات العلمية. ثم إن الورقة الواحدة تُقيم من خلال عدد استشهادات العلماء الآخرين بها في أوراقهم العلمية كدلالة على التأثير. فحين المرور على شخصيات التاريخ لا بد من الالتفات للاعتبارات الظرفية، فتعريف العالم أعلاه، أنه عمليًّا مؤلف الأوراق العلمية في المجلات العلمية لا يصح تطبيقه قبل نشأة العلم الحديث، وإلا لما عُد الرازي وابن النفيس وجالينوس وأبقراط علماء!
وتتعقد العملية العلمية مع مرور الزمن، فنجد اليوم لكل مجتمع علمي سدنته، على غير ما كان عليه العلم الحديث في بداياته أيام النهضة الأوروبية والشروع في التجريبية حينما كان العلم أرضًا شاسعة خصبة لكل من أراد زراعتها دون تنظيم كثير القيود. فلا يمكن اليوم اعتبار أي أحد عالمًا دون أن يكون له إسهام في العلم من خلال نشر الأوراق العلمية، إلا عند بعضهم الذين يعدون الخبير ذا الخبرة الطويلة في المجال العلمي عالمًا دون أن يكون مسهمًا فيه، وقد يضمر هذا الاستثناء قريبًا. أما الأدب في المقابل فلا تحكمه معيارية؛ بل بالعكس، كلما كان هناك إبداع جديد خارج المألوف لدى المجتمع الأدبي، نجد انشغال النقاد به بين مؤيد ومعارض؛ وبالتالي عمل على تطوير الأدب. ومن الظروف التاريخية التي التفت إليها هي جِدّة العلم الحديث، الذي هو غربي النشأة، في الجزيرة العربية التي لم تكن على اتصال ثقافي مفتوح بالغرب قبل القرن العشرين، كما كانت الشام مثلًا الذي أنجبت فرانسيس مراش الذي درس الطب في باريس في القرن التاسع عشر؛ لذلك لا نجد طبيبًا نظاميًّا عربيًّا في الجزيرة العربية قبل نشأة دولة المملكة الثالثة.
تغيرت مع الزمن كذلك ظروف التنظيم والإدارة الطبية التي صارت تشكل الطب والعلوم الطبية بشكلها الحالي ملقية بظلالها الثقيلة على الأطباء الأدباء. وتجد أكبر الأثر لذلك في الولايات المتحدة الأمريكية التي يجد فيها الطبيب المبتدئ صعوبة بالغة للتوفيق بين الأبحاث والإنتاج العلمي الذي يتطلب جهدًا ووقتًا وأموالًا وبين الممارسة الطبية المزدحمة التي تطالبه بها المؤسسة الطبية التي وظفته لضمان ربحيتها، فأنت مطالب بالوصول إلى أرقام معينة من العوائد المالية وإلا فأنت مهدد بالطرد من المؤسسة. والحال هكذا، من الصعب كتابة نصوص أدبية مبدعة لما تحتاج إليه من اهتمام ووقت كذلك.
ولا بد من التنويه قبل البدء بأني وجدت في بحثي حوالي مئة شخصية، فلا يتسع المكان هنا لعرض هذه الأسماء كلها، ثم إني بحثت عن النتاجات العلمية من عدة مصادر؛ لكن اعتمادي الرئيس كان على موقع المكتبة الوطنية الأمريكية.
الموسوعيّون:
لم ينقص الحضارة الإسلامية إنجاب أسماء موسوعية مهمة مثل ابن رشد والرازي والفارابي؛ لكن قلة من هؤلاء من اشتهر بالشعر أو النثر. وأشهر مثال على هذا النمط هو ابن سينا، مؤلف كتاب القانون في الطب الذي علم أوروبا الطب في عصور ظلامها قرونًا.
رغم أن ابن سينا لا يعد ولا بشكل من الأشكال من مصاف الشعراء العرب أو الفرس كالمتنبي وابن الخيام، إلا أنه نظم الشعر بالعربية والفارسية، وتنسب له عينية اختلف النقاد في صحة نسبتها إليه لتميزها عن بقية قصائده. أما الموسوعيون العرب فيتسيدهم الشاعر ابن زهر الإشبيلي الذي سجنه المرابطون ووزره الموحدون! كان ابن زهر طبيبًا أبًا عن جدٍّ، وكان أستاذًا لابن رشد. ترك ابن زهر عدة مؤلفات طبية متخصصة، خذ كتابه عن أمراض الكلى أو كتابه عن أمراض البرص والبهق مثالًا.
هذا في حين كانت أوروبا ترزح تحت سلطة الكنيسة في أثناء ما تسميه أوروبا عصور الظلام؛ لكن بعد أن نهضت أوروبا من منامها بدا في ملامحها شخصياتها النهضوية، أمثال الفرنسي فرانسوا رابليه، الروائي الطبيب الذي درس الطب بدايةً تحت سلطة الكنيسة حتى خرج عليها وأصبح طبيبًا علمانيًّا متأثرًا بابن سينا ودارسًا للطب خارج الكنيسة.
كان محتومًا على نمط الموسوعيين هذا بطبيعة الحال أن ينتهي بحكم تطور العلوم والمعارف تطورًا لا يحتمل أن يجمع عقلٌ واحد مجالات علمية تخصصية مختلفة، حتى بات في عصرنا الموسوعي هو من يملك ثقافة ومعلومات بكم هائل، دون أن يمتلك معرفة علمية في هذه المجالات الشتى، مقارنةً بعصور ما قبل النهضة، حين كان العلم قليلَ الكم يسَعُ أن يمتلك منه شخصٌ واحد كثيرَهُ!
المهاجرون الأجانب:
يضم هذا النمط الشخصيات التي هجرت الطب بعد انتسابها له، وظهر هذا النمط في القرن الثامن عشر بعد أفول الموسوعيين وتوسع العلوم، متزامنًا مع نشأة المستشفيات العلمانية التي كان يشغلها أطباء وجراحون متدربون، مقابل المستشفيات المسيحية الأوروبية السائدة آنذاك. فنجد شخصية مثل توبياس سمولت، الروائي الإسكتلندي المتأثر بالأدب الإسباني، الذي ترجم رواية سرفانتس “دون كيخوته” من اللاتينية للإنجليزية، والذي تميز باقتباسه النوع البيكارسكي الناشئ في إسبانيا، هذا الفصيل الأدبي الذي يتخذ من طبقات المجتمع الدنيا مسرحًا له. تعلم سمولت الطب في جامعة غلاسكو وجامعة إدنبرة، ثم أرسل في بعثة عسكرية لجمايكا، ومن هنا يبدو تأثره بالأدب الإسباني، لكن بعد نهاية بعثته ورجوعه لإسكتلندا لم يستطع البقاء في ممارسة الطب لعدم تمكنه من تأسيس عيادة له، فقرر ترك الطب رغم أنه ترك مؤلفين علميين.
بعد ذلك بعدة عقود في بريطانيا العظمى قبيل العصر الفيكتوري، عاش جون كيتس، الشاعر الرومانسي الذي كان مغمورًا في أثناء حياته القصيرة الممتدة في خمسة وعشرين عامًا حتى عاجله مرض السل، ولكن صيته ذاع بعد وفاته بصفته أحد أهم وجوه الشعر الرومانسي، رغم أن نتاجه كله كان على مدى أربع سنوات فقط! كان كيتس طبيبًا؛ بل دخل عالم الطب قبل الأدب حين تتلمذ وهو في الرابعة عشر على يد طبيب قريته. كان يساعد أستاذه في تحضير دود العلق وتحضير الأدوية وخلع الأسنان ومعالجة الجروح. وبعد عدة سنوات، دخل سلك التدريب الطبي النظامي في مستشفى “جاي”، إحدى أوائل المستشفيات المستقلة عن الكنيسة، وأسفر عن نباهة حيث رقي بعد شهر واحد من انتسابه! كان يومه يزدحم بين مباشرة المرضى وحضور المحاضرات والعمليات الجراحية وتشريح الجثث. كان من رأي كيتس أن الطب، كعلم، يقوض قدرتنا على استشعار الجمال؛ إذ إنه يزيد من قدرتنا على فهم الظواهر وبالتالي يحجم مساحة الاندهاش. بعبارة أخرى هو يهدم الغموض الولاد للإبداع؛ لذلك ولاستهلاك الطب وقته ومال عائلته لتكاليف الدراسة الباهظة، قرر بعد ستة أشهر في المستشفى هجر الطب نهائيًّا.
ثم ظهر في بريطانيا في أثناء العهد الفيكتوري السير آرثر كونان دويل، مبدعًا أبرز شخصيات القصة البوليسية شارلوك هولمز، الذي يرى الطب رومانسية متجهمة. أتم دويل متطلبات دراسة الطب ومن ثم قضى أربع سنوات في أطروحته عن مرض “التابس النخاعي” التي حاز خلالها درجة الدكتوراة؛ لكنه تعثر بعد ذلك ولم يجد نفسه في المؤسسات المتاحة له، فحاول أن يتخصص في أمراض طب العيون دون أن ينجح، ثم قرر ترك الطب بعد تسع سنين فيه وهو في عمر الثانية والثلاثين.
وممن هجر الطب من إمبراطورية النمسا والمجر، آرثر شنيتزلر، الذي أعجب به مواطنه الشهير فرويد، وقال عنه إنه تعلم بالحدس الواضح في أعماله كل ما اضطر هو إلى إثباته من خلال العمل الشاق. لن يكون من المستغرب بعد هذا التصريح أن تجد نصوص شنيتزلر ممتلئة بالإباحية الصريحة. لقد درس شنيتزلر الطب ومارسه في فيينا، لكنه آثر الكتابة على الطب.
أما في الولايات المتحدة التي بدأت مع مطلع القرن العشرين في إبراز شخصيات ثقافية وفنية ذات صيت عالمي، منها الروائية والشاعرة جيرترود ستاين، الذي شجعها وليام جيمس الأب الروحي لعلم النفس الأمريكي، على دراسة الطب في قبلة الطب الأمريكية جامعة جونز هوبكنز، فانصاعت رغم عدم رغبتها في ذلك، وبعد أربع سنوات، وعلى إثر رسوبها في أحد الاختبارات، تركت الدراسة وعزفت عن الطب تمامًا. ثم ذهبت إلى باريس التي قضت فيها أغلب حياتها وأنشأت فيها صالونًا شهيرًا استضاف شخصيات عدة مثل بيكاسو وهيمنجواي وفيتزجيرالد. كانت جيرترود مكتئبة في بالتيمور، فلا هي كانت ترغب في الطب، ولم يناسبها المجتمع الذكوري الطبي آنذاك، إلا أنها تعرفت على شريكتها هناك. بل كتبت أولى رواياتها عام ١٩٠٣م عن تجربتها المثلية. وفي حين أن الأدب المثلي قد ارتيد من قبل، بل قبل ذلك بسنة حاز جائزةَ نوبل حديثة النشأة آنذاك، أندريه جيد عن روايته التي كتب فيها عن تجربته الشخصية “اللاأخلاقي”، إلا أن جيرترود كانت من الرواد النساء للأدب المثلي.
عودة إلى بريطانيا في الفترة نفسها، حين ظهر الروائي والقاص سومرست موم، الذي اتخذ دراسة الطب هربًا من عمه ومن مهنة المحاماة، مهنة عائلته. نشر موم أول أعماله الأدبية “ليزا اللامبثية” وهو طالب طب في الجامعة، وفوجئ بنفاد طبعتها بسرعة مما شجعه على ترك الطب ليتفرغ للأدب؛ لكنه خدم بعد ذلك في الصليب الأحمر في الحرب العالمية الأولى، ثم جنده جهاز الاستخبارات البريطانية الشهير وأرسله إلى سويسرا ثم إلى روسيا القيصرية حتى سنة الثورة البلشفية ١٩١٧م. ألف عن تجربته الجاسوسية هذه رواية “أشندن”، التي أخرجت في عمل تلفزيوني.
ومن كييف، التي كانت تنزح تحت الاستعمار الروسي قرنين من الزمان، ميخائيل بولغاكوف الروائي والمسرحي والطبيب الذي أرسل فور تخرجه في الكلية إلى مستشفى ناءٍ بعيدٍ وبدائي وكان الطبيب الوحيد فيه؛ ليخوض تجاربه العديدة مع مرضاه التي كان بطلها قلة خبرته وظروفها وحراجة حالات المرضى وهم على مشارف الموت. عمل هناك شهورًا طويلة أكسبته خبرة مكثفة، وكان قد تخصص بالممارسة في مرض الزهري المعدي الذي كان شائعًا آنذاك قبل اكتشاف علاجه. تنبه بولغاكوف إلى أن تقوسًا وتعظمًا يصيب ساق المصابين بالزهري، وسمي ذلك “علامة بولغاكوف”. وقد عرف بولغاكوف المرضَ من الداخل كمريض، ومن الخارج كطبيب. فأصيب هو، كما أصيب والده من قبل، بالتصلب الكلوي، كما أصيب بنوبات صداع الشقيقة وعدوى التيفوئيد التي أخذها من مريضه. بعد هذه التجربة المكثفة، ترك بولغاكوف الطب متفرغًا للصحافة والأدب مشرعًا أعماله برواية “الحرس الأبيض”، والعنوان يعود للحرس الأبيض الفنلندي الذي قاد حربًا أهلية مع خصمه الحرس الأحمر السوفييتي. كما أنه مؤلف الكتاب الذي ذكرته في بداية حديثي: “مذكرات طبيب شاب” مسجلًا فيه بدايته في الطب، وكان آخر إصداراته “المعلم ومارغريتا” التي هجا فيها الاتحاد السوفييتي، والتي ظل يكتبها وما أنهى مخطوطتها إلا قبل شهر من وفاته عام ١٩٤٠م. ومن الطريف أن باحثًا فحص عددًا عشوائيًّا من صفحات هذه المخطوطة وعاينها، فوجدها ملأى بالمركبات الحيوية الدالة على الفشل الكلوي وتعاطي المورفين، فقد كتب عن تجربة تعاطيه “مورفين” نصًّا كان أقل من التوقعات.
ومن إسكتلندا، آرتشيبالد كرونين، صاحب رواية “القلعة” الصادرة عام ١٩٣٧م التي استخدم فيها تجربته القصيرة في الطب، فكان بطلُها طبيبًا أمام معضلة الخيار بين معالجة الفقراء الذين لا يرجى منهم ربح أو التربح بفحش من الأغنياء ذوي الأمراض عديمة الخطورة بعلاج وهمي، مثل “التوهم المرضي” الذي يصر المصابون به على إصابتهم بالمرض العضوي في حين أنهم أصحاء عضويًّا. خدم كرونين في الحرب العالمية الثانية وبعد تخرجه في كلية الطب عمل طبيبًا في قرية تعدين يستخرج سكانها الفحم. ثم عمل مفتشًا طبيًّا للمناجم في بريطانيا، وكان من أوائل من التفت إلى علاقة استنشاق غبار الفحم بتليف الرئة. كانت الرغبة في الكتابة كرونين سنوات ممارسته الطب؛ لكنها كانت معطلة لكثرة انشغاله بكتابة الوصفات لمرضاه أو كتابة الأوراق العلمية. ولم تتفتق هذه الرغبة عن الخوض في الكتابة الإبداعية إلا حين ألزمه الأطباء بالنقاهة لشهور على إثر إصابته بالقرحة المعوية؛ لكنه لم يعد للطب منذ بَدء فترة النقاهة. إنما انخرط في مجتمع المثقفين والممثلين البريطانيين من أمثال أودري هيبورن الذي صار عراب ابنها.
ولا يجب أن ننسى الأرجنتيني جيفارا، الثائر الأرجنتيني الذي اشتعل شهرة بصفته ثائرًا؛ لكنه مغمور بصفته أديبًا أو طبيبًا. دخل جيفارا كلية الطب في بيونس آيريس، واهتم بعدوى الجذام السائدة في أمريكا الجنوبية، فقرر اقتطاع سنة من سنوات الكلية ليقوم برحلة على ظهر دراجة في أرجاء قارة أمريكا الجنوبية، ليدرس هذه العدوى ميدانيًّا. كان وقتها قد اطلع على الكتب الشائعة آنذاك ككتب الفكر الماركسي، ومكنته هذه الرحلة من مشاهدة الفقر عيانًا وهو ينهش في أجساد العمال وأرواحهم، فكان ذلك بمثابة البوابة التي دخل عبرها للمعسكر الشيوعي. وثق جيفارا هذه الرحلة في مؤلفه اليتيم “مذكرات دراجة نارية” الذي تجد فيه جيفارا قبل الثورة. تخرج جيفارا في كلية الطب وشرع في التدرب في مجال أمراض الجلد في مكسيكو سيتي؛ لكن سرعان ما قتلت الثورة الطبيب والأديب في جيفارا لتتمكن الثورة من كل شيء فيه حتى إعدامه في بوليفيا عام ١٩٦٧م.
ومن المهاجرين كذلك، مؤلف رواية “عدوى” التي اشتهرت مؤخرًا لتمثلها واقعنا اليوم التي تشكل العدوى بتفاصيلها على بقاع الأرض كلها. لاحظ كوك اتساع الفجوة بين الطبِّ الذي ما زالت تتعقد لغته مع مرور الزمن وعمومِ الناس، فبدأ بالكتابة بهدف تقريب الطب الحديث للناس انطلاقًا من شعوره أن مجال العلم هذا هو الأوثق بالناس ويجدر بهم أن يكونوا على اتصال مباشر به. فبدأ مشواره بتأليف رواية “سنة الامتياز” التي أحبطته لأنها لم تلق صداها؛ لكن على إثر إخفاقها راح يدرس الروايات الأكثر مبيعًا ليتفحص سرها فأسفر عن روايته “غيبوبة” التي أسس بها جنس التشويق الطبي. ترك كوك ممارسة المهنة إلا أنه لا يزال على صلة بمستشفاه وبآخر الأبحاث الطبية حتى يوظفها في رواياته.
أما ما يميز كاتب “جوراسيك بارك” الأمريكي مايكل كرايتون، فهو كرهه للطب منذ أيامه الأولى في كلية الطب بهارفرد؛ لكنه ظل يقاوم رغبته في ترك الطب معللًا مشاعره أنها مشاعر تجتاح كل دارس للطب، بما في ذلك فطاحل الطب الكبار، حتى استطاع التخرج في كلية الطب بهارفرد، إلى أن وعى حقيقته فيما بعد واتخذ قراره بترك ما يكره واتجه لكتابة النصوص الأدبية حاصدًا العديد من الجوائز.
وننهي هذا القسم بصاحب الرواية “عداء الطائرة الورقية” خالد حسيني، الأفغاني المولد الأمريكي الجنسية، الذي ما أن ضمن نجاح روايته محققة انتشارًا واسعًا حتى تقاعد من ممارسة الطب بعد عدة أشهر من إصدارها ليتفرغ لكتابة الروايات.
المهاجرون العرب:
هنا نتعرض للمهاجرين في العالم العربي، ابتداءً بفرانسيس مراش في القرن التاسع عشر الذي مال للطب منذ صباه ولازم طبيبًا بريطانيًّا في حلب لمدة أربع سنين حتى قرر السفر لباريس، محج التعليم الطبي آنذاك، للدراسة النظامية. إلا أن بصره المتضرر منذ طفولته قد ازداد سوءًا لدرجة استصعب معها البقاء طبيبًا؛ فعاد لحلب عازفًا عن التطبيب، إلا أنه ترك أعمالًا أدبية أبرزها رواية “غابة الحق” الذي عرض فيها فلسفته للحياة. ترك مراش أثرًا كبيرًا في أدباء تلك الفترة، ومن هؤلاء جبران خليل جبران الذي قرأ أعماله في بيروت قبل هجرته لبوسطن.
أما من المدرسة التجديدية للشعر “أبوللو” فطبيبان: أحمد زكي أبو شادي الذي هاجر الطب وإبراهيم ناجي الذي ظل يمارس الطب فسنتحدث عنه لاحقًا. درس أبو شادي الطب في مصر ثم في بريطانيا؛ لكنه هجر مصر والطب معًا إلى الولايات المتحدة ممتهنًا التجارة والإذاعة. ورغم هجرته، إلا أنه ترك مصنفين علميين، “الطبيب والمعمل” و”أوليات النحالة” حيث اهتم بالنحالة في مصر في فترة ما.
ولا يفوتنا ذكر الشهير مصطفى محمود مؤلف كتاب “حوار مع صديقي الملحد” الذي كان يطمح إلى أن يكون عالمًا مثل الفرنسي باستور صاحب فكرة التطعيمات. مارس مصطفى محمود الطب سبع سنوات ثم هجره ليتفرغ لنشاطاته الأخرى التي اشتهر بها، إلا أن المثير أنه لم يترك آثارًا علمية رغم رغبته القديمة في العلم.
وفي مصر كذلك، رائد القصة العربية الذي ظن أنه سيفوز بنوبل التي كانت من نصيب نجيب محفوظ عام ١٩٨٨م، الطبيب النفسي يوسف إدريس، الفلاح المهموم بمجتمعه وأمته حتى أنه لم يكتف بمناهضة الاستعمار في مصر بل حمل السلاح ضد الإنجليز في الجزائر بعد جلائهم من مصر. وعلى أثره مواطنه الطبيب النفسي محمد المخزنجي، الذي درس الطب في أوكرانيا أيام حادثة شيرنوبل. استفاد المخزنجي من شهوده لهذه الأمة في إبداع مجموعته القصصية “لحظات غرق جزيرة الحوت”. كلاهما، إدريس والمخزنجي تركا الطب للتفرغ للأدب.
وللمملكة العربية السعودية نصيبها من المهاجرين، فعبد الله مناع، طبيب الأسنان الذي ولد في جدة بعيد إعلان المملكة العربية السعودية كان قد غادر الطب بعد سنين من ممارسته ليتفرغ للعمل الصحفي والأدبي.
الممارسون الأجانب:
يضم هذا النمط الأطباء الذين مارسوا الطب دون أن يهجروه؛ لكن دون أن يكونوا علماء. بَدءًا بعملاق القصة الروسي الذي عاش في روسيا القيصرية التي أرهقتها حرب القرم وقبيل نهايتها إيذانًا بولادة الاتحاد السوفييتي، صاحب المقولة الشهيرة “الطب هو زوجتي الشرعية والأدب عشيقتي” التي لها تتمة أقل شهرة: “حينما أضجر من إحداهما، أمضي ليلتي مع الأخرى”. كان تشيخوف طبيبًا ومريضًا في آن واحدٍ، عاش مع مرض السل الذي قوض ريعان شبابه، بعد أن قضى طفولة خالية من الطفولة على حد وصفه. يذكر أنه لا يتذكر سبب دخوله الطب إلا أنه لم يندم، ولم يتكسب من الطب، بل كان يكتب القصص في أثناء دراسته ليصرف بعوائدها على أهله. كان قد بدا قلقًا في البداية من أثر الطب السلبي في الأدب، فالطب برأيه لا يغذي الخيال بل يُسهم في حيازة نظرة جافة للحياة؛ لكنه يستدرك بعد سنوات أن الطب وسع مداركه وأثرى معارفه بطريقة يصعب على غير الطبيب تقديرها. ظل تشيخوف يمارس الطب حتى أقعده مرضه عن ذلك؛ بل وقضى عليه في عمر الرابعة والأربعين. ترك تشيخوف إرثًا أدبيًّا خالدًا، وبجانب ذلك ترك مؤلفًا وحيدًا قد يجوز تصنيفه بالعلمي آنذاك: “جزيرة سخالين”. كتب هذا الكتاب في أثناء رحلته إلى جزيرة سخالين الواقعة على الحدود اليابانية الروسية، مدونًا فيه تجربته هناك عن المساجين والجلادين ومرض السل والدعارة وإدمان الخمر وعن كل ما استرعى انتباهه عن الأوضاع المعيشية هناك. ثم تقدم به كأطروحة ليحصل بها على دكتوراة العلوم الطبية بعد أن طعمه ببعض الإحصاءات، ولكن طلبه رفض.
وفي فترة مماثلة، في الولايات المتحدة، معاصرًا إعادة الإعمار بعد دمار الحرب الأهلية الأمريكية ثم الحربين العالميتين: ويليام كارلوس ويليامز، الذي نجح في مزج الطب والأدب، حرفيًّا! حيث كان يكتب القصائد على ظهر ورقة الوصفة الطبية بينما ينتظر مريضه القادم للعيادة بعد أن يغادرها مريض آخر! كان تلميذ إزرا باوند وصديقه، وخصمًا لتوماس إليوت (تي إس إليوت)، اتهمه أستاذه وخصمه بضحالة الثقافة ونصحاه بتوسيع اطلاعه، لكن وجهة نظره أن موقفهما يتضمن تعاليًا أوروبيًّا كان بدوره يقاومه، فكان يريد أن يكون بين ناسه وعلى لسانهم، فلا يكتب بالبريطانية، بل بالأمريكية، وكان ينزل الأدب من مكانته الصوفية في أذهان نخبة ذلك الجيل فيقول، وهو الذي ولد مئات الأطفال، أنه لا توجد طقوس خاصة لكتابة الشعر، فتلك عملية مثل أي عملية أخرى، مثلها مثل عملية توليد الأطفال؛ بل إنه يعالج المرضى كأنهم أعمال فنية. وهنا يتباين أكثر مع إليوت حيث انتقل الأخير إلى بريطانيا واكتسب جنسيتها ثم تنازل عن الأمريكية، بينما لم يغادر ويليامز مدينة باسيك الصغيرة منذ تعيينه فيها. أصيب ويليامز بعدد من الجلطات التي أكلت دماغه؛ لكنه ظل يقاومها ما استطاع قائمًا بعمله بصفته شاعرًا منتجًا وطبيبًا ممارِسًا حتى توفي.
الممارسون العرب:
أقدمهم إبراهيم ناجي، شاعر “الأطلال” الذي قال عن الجمع بين الطب والأدب:
والناس تسأل والهواجس جمة ***طب وشعر كيف يتفقان
الشعر مرحمة النفوس وسره***هبة النفوس ومنحة الديان
والطب مرحمة الجسوم ونبعه*** من ذلك الفيض العلي الشان
تجاوزت أعماله التأليف إلى الترجمة، وظل مخلصًا لمرضاه حتى توفي في لحظة سوريالية في عيادته وهو يستمع لقلب مريضه. ثم في مصر ذاتها في عصرنا هذا، علاء ابن الأديب عباس الأسواني، الروائي وطبيب الأسنان وعضو حركة كفاية المصرية التي سبقت ثورات مصر في القرن الحالي. ورائد أدب الرعب العربي، الطبيب المصري، أحمد خالد توفيق، الذي كان غزير الإنتاج الأدبي، بل كان مترجمًا كذلك، وكسب شهرة واسعة بين شباب هذه الأيام، فكان أحد كتاب المجلة الإماراتية الشهيرة “ماجد” والتي كانت موجهةً بدورها للطفل العربي.
ثم تميزت من سوريا في النصف الأول من القرن المنصرم عدة أسماء، ابتداءً بعلي الناصر الذي درس في إسطنبول ثم في باريس، الذي لقبه العقاد بـ “بودلير الشعر العربي” وهو أول من خطا تجاه تجديد الشعر العربي بحسب بعض النقاد، حتى قبل العراقيين: نازك الملائكة وبدر شاكر سياب منذ ديوانه الأول الذي قدمه أمين الريحاني “ظمأ”. ثم وجيه البارودي الذي تخرج في كلية الطب في الجامعة الأمريكية ببيروت أيام الاستعمار الفرنسي، وظل يمارس الطب حتى وفاته بعد أن جاوز التسعين، كان شاعرًا مقلًّا لم يصدر غير ثلاثة دواوين، ومن طُرَفِه أنه صاحب أول دراجة في دمشق حيث استخدمها لتطبيب الناس. ثم الشاعر والسياسي السوري عبد السلام العجيلي الذي تخرج في كلية الطب في دمشق في أربعينيات القرن الماضي ثم تطوع في حرب ١٩٤٨م ووزر عدة وزارات في حكومة الانفصال (بعد انهيار الجمهورية العربية المتحدة).
ومن السودان التي طغت على أدبائها كلها شهرة الروائي الطيب صالح، ابن أخته الطبيب الأديب أمير تاج السر، مبتدئًا نصوصه بالمحكية السودانية في قالب القصة البوليسية حتى طور سرده وكتب باللغة العربية الفصحى.
ومن العراق، الشاعر وجراح الأنف والأذن والحَنجرة وليد الصراف الذي حاز جائزة برنامج “أمير الشعراء” عام ٢٠٠٩م، وأشاد به الناقد العراقي الكبير علي جواد الطاهر مرتين وتغنى فيه الشاعر العراقي الراحل عبد الرزاق عبد الواحد.
وأقدم شخصية من هذا النمط في المملكة هو عصام خوقير، من أوائل أطباء الأسنان في المملكة العربية السعودية، والذي ألف نصوصًا روائية ومسرحية وإذاعية، وظل يمارس طب الأسنان، بل وتناول العمل الإداري الطبي كذلك شاغلًا منصب مدير مستشفى الملك فهد في المدينة المنورة. وقد يكون أشهر الأدباء السعوديين من هذا النمط الجراح منذر قباني بسبب روايته “حكومة الظل” الذي لاقت رواجًا واسعًا لاعتمادها على عنصر التشويق وحس المؤامرة الذي ظل يستخدمه في رواياته المتتالية، وهو ما يزال يُتهم بأنه يستنسخ تجربة دان براون رغم نفيه لذلك غير مرة. ولا بد من ذكر طبيب الأطفال والقاص عدي الحربش، الأديب الجميل الذي يمتلك قدرة فذة على الاندهاش. للحربش موقف من علاقة الأدب بالمستشفى لم أتيقن مغزاه حتى الآن، فقد قال لي ذات مرة في تويتر، حين استفسرت منه عن السبب الذي يحول بين ظهور الأديب الضخم فيه في ممرات المستشفى، أنه قرر فصل حياته الطبية عن حياته الأدبية، مذيلًا قراره برأيه أنه لا يوجد شيءٌ أكثر انتهاكًا لحرمة المستشفيات من بيت شعر. وهو بطبيعة الحال يوظف معارفه الطبية في نصوصه، فخذ مثلًا قصته “الزوكانة” الذي يشخص قارؤها الطبيب حين قراءتها “اكتئاب ما بعد الولادة” و”السكر” و”القيء الحملي”. وللحربش ملصقٌ علمي قد حاز به على جائزة أفضل ملصق علمي في أحد المؤتمرات الطبية العلمية الشمال أمريكية.
بالكاد علماء:
يضم هذا النمط الأطباءَ الذين لهم أعمال أدبية، ومشاركات ضئيلة العدد علميًّا. والمثير أني بحثت عن المنتمين لهذا النمط فما وجدت إلا العرب وهم كثر هنا. من هؤلاء بوشعيب المسعودي، الطبيب والقاص والمخرج المغربي الحائز جائزة المهرجان الدولي للفيلم بدلهي عام ٢٠١٥م عن فيلمه الوثائقي “أثير الألم” موثقًا فيه معاناة مريض روماتيزم.
أما من السعوديين، فإبراهيم الخضير الذي نشر روايته “عودة إلى الأيام الأولى” عام ٢٠٠٤م رغم أنه كتبها عام ١٩٩١م، وكانت بناءً على تجربته الشخصية بصفته طبيبًا نفسيًّا عاد من بريطانيا للمملكة في تلك الفترة. ومنصور الجابري الذي ألف كتاب “طبيب عبر الزمن” الذي يشخص فيه أمراض شخصيات تاريخية عربية، من ضمنها سم الرسول محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. ومحمد القويز الكاتب والشاعر الذي صدر ديوانه مؤخرًا “شهادة الأرض” عام ٢٠١٧م. وطارق الجارد، جراح أعصاب الأطفال الذي نشر المجموعة القصصية “حكاية رجل على هيئة ساعة”.
بالكاد أدباء:
يضم هذا النمط أطباء لهم مؤلف أدبي وحيد وهم عرب حصرًا كذلك حسب ما وجدت. مثل طبيبة الأسنان السعودية رجاء الصانع صاحبة “بنات الرياض” التي قطفت شهرة عالمية رغم خيبة أمل كثير من القراء الذين اتهموا غازي في تشجيعها لها، والذي كان من عادته تشجيع صغار أدباء دول الخليج العربي عبر زاويته في المجلة العربية “صوت المجتمع”، حيث قال إنه ينتظر الكثير منها، ورغم انتظار غازي، إلا أن المؤلفة لم تلبِّ هذا الانتظار بأي جديد في الأدب رغم مرور خمسة عشر عامًا على هذا الانتظار. ومن البحرين نهاد نبيل الشيراوي، التي شجعها المفكر الخليجي الأبرز محمد جابر الأنصاري، صاحبة السيرة الذاتية “بنت المصرية” رواية فيها تجربتها في المجتمع البحريني وهي من أب بحريني وأم مصرية. وطبيبة الأسنان الهنوف الدغيشم التي نشرت تأملاتها “فرايبورغ رقة العزلة” عن تجربتها في الابتعاث لإتمام التخصص الدقيق في فرايبورغ.
أدباء ولكن:
يضم هذا النمط أطباء علماء، وأدباء في الوقت نفسه؛ لكن أدبهم محصور بتجربتهم السيرية المباشرة، سواء كانت هذه التجربة من أروقة المستشفى أم خارج عوالم الطب تمامًا. فهم يولون العلم والطب أولوية على الأدب؛ لذلك يأتي أدبهم تابعًا لمسارهم العلمي والمهني. ولم أجد في بحثي طبيبًا عربيًّا ينتمي لهذا النمط؛ بل كل من وجدتهم إما أنهم يحملون الجنسية الأمريكية أو يعيشون فيها. مثل البريطاني طبيب المخ والأعصاب أوليفر ساكس الذي عمل على تقريب طب الأعصاب إلى عموم الناس بأسلوبه السلس وانتقائه لمواضيع شائقة. فانتشرت كتبه انتشار النار في الهشيم كما كيف بعضها لتكون أفلامًا سينمائية. لكن تتمحور أغلب أعماله حول تجربته بصفته طبيبَ أعصابٍ إن لم تكن عن تجربته الشخصية كذلك، كما في كتابه “عين العقل” الذي حكى فيه عن فقدانه البصر في عينه اليمنى إثر إصابته بسرطان الميلانوما. وختم ساكس سيرته بكتابه “حياتي” حين علم باستفحال السرطان في جسده محتمًا عليه موته القريب، حاذيًا بذلك حذو هيوم حين كتب ورقة سيرية بعنوان: “حياتي” في ظرف مشابه.
ومن جيل لاحق، شخصية اهتمت بالعلم والطب والسياسة الطبية، أتول غاوندي. ولد عام ١٩٦٥م في الولايات المتحدة لوالدين طبيبين هاجرا من الهند. دخل كلية الطب في هارفرد، وبعد عامين فيها استقطع وقتًا لاستكمال عمله السياسي منضمًا لحملة بيل كلينتون الانتخابية، ثم عمل كبيرَ مستشارين في حكومة كلينتون، ثم عاد بعد ذلك لكلية الطب لاستكمال دراسته وتخرج فيها. دخل بعد ذلك زمالة الجراحة وبدأ منذئذ بكتابة المقالات حتى صار كاتبًا منتظمًا في مجلة النيويورك بمقالات تتمحور عن تجربته بوصفه طبيبًا منطلقًا منها إلى مواضيع أوسع تهم المجتمع. ألّف عدة كتب أشهرها كتاب “كونك فانيا”، الذي تناول فيه مفهوم الفناء وعرض فيه التغيرات التي طرأت على هذا المفهوم بفعل التطور العلمي. وظل ينشر أبحاثًا بعدد هائل تجاوزت مئتي ورقة علمية، وظل يمارس الجراحة، كما أنه يرأس الآن منظمة “هافن” الصحية غير الربحية.
ولدى إبراهام فارجيس قصة حياة فريدة، إذ حاز نجاحًا أدبيًّا أكبر من غاوندي رغم تفوق الأخير عليه علميًّا. ولد فارجيس في إثيوبيا لمعلمين هنديين، وبدأ تعلم الطب فيها حتى اضطر إلى مغادرتها على إثر الانقلاب العسكري على آخر أباطرتها هيلا سيلاسي عام ١٩٧٤م، مهاجرًا مع عائلته للولايات المتحدة التي عمل فيها مساعدَ تمريض لفترة قصيرة كانت مؤثرة جدًّا فيه حتى حثته على إكمال دراسته الطبية؛ ولذلك رجع لبلدِ والديه الهند ليكمل تعليمه هناك. عاد بعدها للولايات المتحدة مكملًا مشواره التعليمي. وأبرز مؤلفاته هو رواية “قطع الحجر” التي حكى فيها حكايته ونجحت نجاحًا مشهودًا حتى قدَّرته الدولة الأمريكية بميدالية تقدير.
وفي حكاية واقعية حزينة جدًّا، برز بول كالانيثي على الساحة الأدبية والطبية في أمريكا عام ٢٠١٦م. ولد بول كذلك لأبوين هنديين، لكنهما في الولايات المتحدة. ابتدأ مشواره التعليمي بدراسة الأدب الإنجليزي لميوله الأدبية، ثم انخرط في سلك التعليم الطبي والتدريب في جراحة المخ والأعصاب منشغلًا بتدريبه هذه السنوات الطويلة عن الأدب حتى شخص في آخر سنوات التدريب بسرطان الرئة المنتشر، فتوقف إنتاجه العلمي وبدأ إنتاجه الأدبي ناشرًا أربع مقالات أدبية تتمحور حول النهايات، إضافة لكتيبه الرائع عن تأملاته عن النهاية: “عندما يصبح النفس هواءً” الذي تمخض فيه عن كاتب أصيل وإن بدا في النص الأنا المتضخمة التي يُتهم فيها عادةً جراحو المخ والأعصاب.
وتشتهر بين الأطباء الأمريكان كذلك رواية “بيت الله” المكتوبة في سبعينيات القرن الماضي لقدرتها على محاكاة التدريب الطبي بسخرية حتى بإسقاطها على واقع اليوم. ألفها طبيب النفس الأمريكي ستيفان بيرجمان وكان يحاكي فيها تجربته في سنة الامتياز في المستشفى التابع لجامعة هارفرد حيث كان يتدرب.
وللشعر نصيبه هنا عبر رافييل كمبو ذي الإنتاج العلمي الوافر ونظم الشعر في الوقت نفسه، رغم أن شعره لم يلق حظه من الرواج في أوساط الأدب، كما أن مواضيع شعره محدودة بتجربته المباشرة مع مرضاه.
أدباء علماء أطباء:
يضم هذا النمط النادر العلماء الأدباء الأطباء الذين تمكنوا من النجاح في المجالات الثلاثة كلها. ابتداءً بالشاعر الألماني بول فليمنغ الذي عاش في القرن السابع عشر. عمل فليمنغ مبعوثًا دبلوماسيًّا إلى روسيا القيصرية وأصفهان وتعلم في جامعات لايبزينغ وهامبورغ ولايدن دارسًا الطب والأدب معًا، تاركًا مؤلفات علمية بجانب قصائده.
ومن الولايات المتحدة أولفر وندل هولمز الأب، الطبيب والشاعر والروائي الذي تعلم القانون ولم يمارسه، إنما مارسه ولده ليصبح ولده قاضي المحكمة الدستورية. تدرب هولمز طبيبًا في جامعة السوربون في باريس، ثم عاد وتخرج بدرجة الدكتوراة في هارفرد عام ١٨٣٦م عن أطروحته في التهاب البنكرياس الحاد. وفي العام نفسه أصدر مجموعته الشعرية الأولى التي أوحى في مقدمتها أنه سيترك الشعر لانشغاله بما هو أهم، الطب، رغم أن نبوءته لم تصدق، فقد ترك مؤلفات علمية وأدبية عديدة. ومن الطريف أنه كتب قصيدة عن السماعة الطبية كعمل أدبي، وكتب عنها في ورقة علمية يدعو إليها حيث لم يشع استخدامها في الولايات المتحدة آنذاك. وكان ثائرًا على الممارسات الطبية المتوارثة التي لا يدعمها سوى التوارث. وكان منخرطًا في المجتمعين الأدبي والعلمي، فكان صديق الشاعر الأمريكي رالف والدو إميرسون، وهولمز بالمناسبة هو من سمى مجلة الأتلانتيك باسمها. ومن الولايات المتحدة كذلك إرفن يالوم، الطبيب النفسي الذي استخدم معرفته التخصصية والفلسفية في رواياته “عندما بكى نيتشه” و”شفاء شوبنهاور” و”مشكلة سبينوزا”.
أما العربي الوحيد الذي وجدته ممن ينتسب لهذا النمط فهو جراح العظام المصري محمد كامل حسين، أول مدير لجامعة إبراهيم التي أعيد تسميتها بجامعة عين شمس بعد ثورة يوليو. كان جراح العظام هذا عضوًا في مجمع اللغة العربية إضافة لعضويته في المجمع العلمي المصري. ألف عدة أوراق علمية ومؤلفات أدبية منها رواية “قرية ظالمة” التي ترجمت لست لغات وحازت جائزة الدولة التقديرية للآداب عام ١٩٥٧م، وحاز محمد كامل حسين كذلك جائزة الدولة التقديرية للعلوم الطبية عام ١٩٦٦م. نقل عنه أحد تلامذته إجابته حين سُئل عن أفضل طريقة لتعلم الطب: “هناك طريقة واحدة للتعلم ولتصبح طالب طب جيدًا، أن تجلس بجانب سرير المريض وتتحدث معه وتفحصه وتتعلم منه، ثم تذهب إلى البيت وتقرأ شكسبير، هذا وهو شديد التفوق، بل كان الأول في دفعته في دراسة الطب. ومن المثير اتهام العقاد وزكي نجيب محمود له بالسرقة الأدبية حينما أشار العقاد، ووافقه محمود، إلى أن كتابه “وحدة المعرفة” كان سرقة من الفيلسوف البريطاني سامويل أليكساندر.
بعد هذا العرض، نجد أن علاقة الطب بالأدب ليست علاقة يسيرة وعفوية كما يعتقد بعضهم؛ بل هي علاقة معقدة وصعبة التوازن، خاضعة لظروف ومتغيرات الأوساط الطبية والأدبية معًا. نعم، لدى الطبيب نوافذ نادرة على الحالة البشرية؛ لكن ليس ذلك وحده كافيًا لولادة أديب ولا حتى لتنميته. فبزعمي أن الشخص لا يستطيع التميز في الطب كعالم فيه وفي الوقت نفسه في الأدب كمبدع فيه، حتى وإن استطاع الجمع بينهما في التأليف والإسهام. فإما أن يكون علمه هو المشهود أو أدبه هو المشهود. فحالة الإنتاج العلمي المؤثر وحالة الإبداع الأدبي حالتا ذهن مختلفتان لا تجتمعان في آن واحد، فهما ضدان إن لم يكونا نقيضين! فلا بد للمبدع أن يكسر القوالب متمردًا عليها ليبدع، بينما العالم لا بد أن يتمرس بجلد على منطقية العلم التي يفرضها المجتمع العلمي، ولا يستطيع العالم أن يتمرد على المجتمع العلمي إلا في حالات نادرة جدًّا تكاد تكون مستحيلة.