“في نظر بدو الصحراء التقليديّين، على سبيل المثال، فإنّ المياه ليست “نادرة” بل ثمينة، وهذا سواء كانت وفيرة أو شحيحة“.
ميشيل فريتاغ (Michel Freitag)
منذ خمسة عشر عامًا، وربّما كان ذلك في أحد أيّام الآحاد التي تندر فيها الأخبار، كتبت صحيفة أمريكيّة كبيرة، وعلى طول خمسة أعمدة على الصفحة الأولى، نتائج استطلاع غريب تحت عنوان: “أمريكا تُهدر الوقت!“. وقد كان ذلك أحد استطلاعات مؤسّسة غالوب (Gallup Poll) التي باشرتها على فترات منتظمة بهدف استكشاف التغييرات الطارئة على طريقة الحياة الأمريكيّة، وخلُص إلى تزايد شكوى مستخدمي المورد الزمني من ضيق الوقت في حياتهم، سنة بعد أخرى.
وللوهلة الأولى، عجزتُ عن فهم علاقة الوقت بالمسألة: فإذا كان الوقت وعاءً، إذا جاز التعبير، فإنّه يلزم لكي يزداد ضيقًا، أن يزداد صغرًا؛ أمّا إذا كان تدفّقًا، فسيتعيّن أن يقلّ تدفّقه أو ضغطه (أو كليهما معًا) لكي يقلّ استهلاكه. لكن دعونا من المزاح، ولنقل إنّ فكرة تزايد نُدرة الوقت لا تعدو، كما نعرف جميعنا، سوى طريقة للتعبير عن الشعور بضرورة الجري بوتيرة أسرع. وما يهمّنا هنا، هو انتشار هذا الشعور على نطاق واسع.
فالأمريكان، وعلى غرارهم غالب البشريّة في البلدان المتقدّمة، تتزايد معاناتهم من وجود كثير من الأشياء التي يجب عليهم ملء حياتهم بها ومن ضرورة مواجهة عدد متسارع من “الاستخدامات البديلة” لهذا المورد “النادر“. ومع أنّهم أضحوا يملكون جميع وسائل رفاهة العيش بما لا يُقاس، ويُخصّصون “وقتًا” أكثر من أجل التعلّم والترفيه والعُطل، إضافة إلى تحديد ساعات العمل الأسبوعيّة وزيادة معدّل الأمل في الحياة، إلاّ أنّنا نراهم اليوم وبعد مرور خمسين عامًا على الإعلان الرسمي عن ولادة مجتمع الوفرة، يرزحون تحت ضغط الوقت. لقد ارتفع “مستوى العيش” العامّ، لكن على كلّ منّا أن يجري بسرعة أكثر نحو نهاية حياته من أجل الاستمتاع بها. وباختصار، فإنّ كلّ شيء يحدث كما لو أنّ السباحة في عمق عشرين متراً من الماء أكثر صعوبة من السباحة في عمق عشرة أمتار، وكما أنّ العيش في وفرة أكثر إجهادًا من التعايش مع الجوع.
ولقد سبق لمارشال سالينز (Marshall Sahlins) أن أظهر من خلال التلاعب بهذه المفارقة في كتابه “العصر الحجري، عصر الوفرة” الصادر في عام 1976، أنّ أفراد بعض المجتمعات العتيقة يمضون معظم وقتهم في تجاذب أطراف الحديث تحت ظلال الأشجار، وأنّهم لا يخصّصون سوى بضع ساعات في اليوم لتلبية الحدّ الأدنى من احتياجاتهم. وفي الاتجاه الآخر، جادل هربرت ماركوز (Herbert Marcuse) في كتابه “الإنسان ذو البعد الواحد” الصادر في منتصف ستّينيات القرن الماضي، أنّ المجتمعات الاستهلاكيّة أضحت تُغرق الإنسان، من خلال عدم التوقّف عن إنتاج احتياجات جديدة باستمرار، في لُجّة عدم الرضا، بحيث أضحت تلبية إحدى الحاجات لا تُؤدّي إلاّ إلى تزويد منتجيها بالوسائل اللازمة لخلق حاجات جديدة تُجدّد عدم الرضا، وهذا ما يُبقي الطبقات الوسطى في حرمان نسبي من خلال جعل الاستهلاك معادلًا لعمل يستنفد وقتًا كبيرًا: فما أن يتمّ تثبيت الأضواء الرفّافة لحبّات القرع في عيد القدّيسين (هالوين) حتّى يبدأ شراء لوازم الاحتفال بعيد القدّيس نيكولاس (سانتا كلوز)، ثمّ التهيّؤ لعيد الحبّ، مع التفكير في إجراء الحجوزات لعطلة الربيع لأنّ عيد الفصح على الأبواب، وبعده عيد الأمّهات وعيد الآباء وعيد الغجر، وقريبًا تنتهي السنة الدراسيّة ويبتدئ التخطيط لعطلة الصيف وبعدها للعودة المدرسيّة وشراء الديك الرومي لعيد الشكر. هذا هو النظام الهائل لترذيل تقويم ديني يتّجه بخطى ثابتة نحو مقبرة النفايات ويلتحق بملايين الأطنان من حقائب الدعاية التي تُردّد القُدّاس: لا يمكنك الرضا، ولكن إذا حاولت، فقد تنجح أحيانًا.
وإنّ هذا الانهيار الحديث لقيمة الزمن في سوق العقود الآجلة، وهو انهيار لا صلة مباشرة له بالنّشاط الدؤوب لرجل الأعمال البرجوازي القديم (الوقت هو المال) أو بحقيقة إناسيّة (الإنسان مصيره الموت)، لأمر يبعث على القلق. وقد يكون من الواجب لتفحّص الأمر عن كثب، أن نستعين بمثال الماء: ولا نقصد هنا ماء الصحراء (الذي صدّرنا به مقالنا)، بل ذاك المتدفّق بوفرة في شبكات أنابيب الدول الغنيّة، والذي سيدخل قريبًا هو أيضًا، مجال الندرة.
إنّ ماءنا، ولنطلق عليه هذه التسمية تمييزًا له عن ماء الصحراء، يُمثّل لنا في الواقع وسيطًا شاملاً. فما من شيء نقوم به إلاّ وهو حاضر فيه. فماؤنا يُمكنه تدفئة المنازل وتبريد محطّات الطاقة النوويّة. كما يُمكنه فرز النفايات بالتعويم أو إدخال السفن إلى ساحات المصانع بنفس الطريقة. وهو مذيب شامل، يُمكنه نقل مبيدات الآفات إلى أوراق الشجر، والسماد إلى الجذور، والألوان إلى الجدران وطعم الدجاج إلى الحساء، تمامًا كما يمكن أن يحمل معه جميع السموم من المصانع الكيماويّة نحو المياه الجوفيّة. وباعتباره سائلاً، يُمكن استخدامه في نقل الفواضل البشريّة والمنتجات المنجميّة المفتّتة والأخشاب المقطوعة والموادّ الصناعيّة الكاشطة. كما يمكنه أن يُبقي ملايين الهكتارات من العشب رطبة بعد تنظيف المدن أثناء نزوله من الجبال. كما يُمكنه إحياء الوديان الصحراويّة المزروعة بالنباتات المعدّلة وراثيًّا أو إغراق غابات بأكملها وتحويلها إلى بحيرات كبيرة. بل ويمكنه أيضًا، وهذا أقلّ عيوبه، أن يتشارك مع الهواء والضوء، وهما لا شيء تقريبًا، لتشكيل أساس كل “مادّة حيّة“، وهي كلّ شيء تقريبًا. ولجميع هذه الأسباب، فإنّ ماءنا لا طبيعة له أو وجهة أو خصوصيّة أو أهميّة: فهو هو، سواء كان في كأس مشروب فاخر أو في بالوعة أوساخ. ونحن لا نحترمه ولا نكنّ له أيّ عاطفة، فكل ما لدينا من عواطف مائيّة تتركّز بشكل أساسي إمّا على المطر المكروه المفسد لحياتنا، أو على الأمواج الممتعة ومسابح المنتجعات التي لا يرتادها إلاّ الأثرياء. وحين يكون علينا استخراجه وتصريفه وتصفيته وإيصاله لمستخدميه، فإنّ لاستخدامه هذا ثمن، وهو التكلفة الماديّة لتلك الأعمال؛ أمّا حين يُمكننا تلويثه دون كبير انزعاج، فهو لا يُكلّفنا شيئًا تقريبًا. وبما أنّ التقاء فروق الأسعار هذه واختلاف القدرة على الدفع هي ما يُحدّد كيفيّة استخدامه، فقد أضحى في نظرنا مجرّد “سلعة نادرة ذات استخدامات بديلة“، أي مجرّد كيان اقتصادي أساسًا يُمكن تحويله إلى أيّ سلعة اقتصاديّة أخرى بواسطة آليّات حساب التكلفة والعائد. وبما أنّنا لا نخصّصه بحكم طبيعته لوظيفة محدّدة، ولا نربط استخدامه بجانب محدّد من الحياة، ولا نصونه من التعدّي بترشيد استخدامه، ولا نجعله غير قابل للتحويل بسبب تعدّد استخداماته، فإنّه يغدو قابلاً للتّدهور بلا حدّ كلّما أمكننا دفع ثمنه، حتّى وإن أدّى ذلك في نفس الوقت إلى غيابه عن تأدية وظائف حيويّة تُحقّق أسمى الغايات منه، وهي الوظائف التي تُعاني بانتظام نقص سيولة نقديّة: فمن يعانون العطش، وهذا أمر معروف جيّدًا، لا مال عندهم، وهذا ما يُنذر باقتراب اليوم الذي سيُعاني فيه كلّ من لا مال عندهم من العطش، إن لم يغمرهم الطوفان.
وعلى غرار الماء، يتعرّض الوقت حاليًّا، ولكن على مستوى الذاتيّة الفرديّة، لتوحيد مشابه لمجالاته من خلال إلغاء العقبات التي تحول دون سيولته بصفة نهائيّة. ففي مجتمع تُمثّل فيه الخدمات ما يصل إلى 70٪ من السلع الاقتصاديّة، يتمّ تقديم تلك الخدمات في جميع ساعات الليل والنهار وعلى امتداد أيّام الأسابيع والمواسم والسنة، وهي تشمل التدليك العلاجي وصولاً إلى فطيرة الفراولة الطازجة. ولا يعمل الناس سوى خمسة وثلاثين ساعة فحسب في الأسبوع، لكن بما أنّ الجميع يعمل طوال الوقت في كلّ مكان، فإنّ الوقت المجرّد للعمل، أي الوقت الذي يُساوي المال، هو من يفرض قانونه على الجميع. لقد تمّ القضاء على العوالم التي يتنافس فيها عدد محدود من الأنشطة على استخدامنا أمسيات الثلاثاء الشتويّة، وعلى الغسيل أيّام السبت وعلى وقت تناول وجبات الغذاء، بل إنّ ذلك تمّ في بعض الحالات بموجب القانون. لقد أضحى بإمكانك تناول طعام العشاء وأنت واقف في أيّ وقت من اليوم، وخلال سبعة عشر دقيقة في المتوسّط في سلسلة المطاعم الأمريكيّة، والاستفادة من التوقيت المرن، وشراء لوازم المؤونة ليلاً، والتعلّم ضمن دورات مدّة تسعة أيام كلّ مرّة، والذهاب في عطلة في شهر نوفمبر الخريفي. ونظرًا لعدم وجود حواجز مانعة بين الفترات التي يجب أن يُخصّص كلّ منها بشكل طبيعي للقيام بأنشطة محدّدة حسب ما تقتضيه بعض القيود الاجتماعيّة، فقد أصبح وقت الأفراد وسيطًا متجانسًا وقابلاً للتحويل على المستوى العالمي. وهذا ما جعل قوى الالتزامات النسبيّة، حقيقيّة كانت أو متوهّمة، والتي تدفع إلى تكريس بعض الوقت لأداء أنشطة مختلفة، تعمل وكأنّها نظام أسعار يُوجِّه استهلاك المورد النادر دون مراعاة القيود الرمزيّة التي قد تُؤثّر على “طبيعة” مختلف فترات اليوم والأسبوع والشهر والسنة، أو دورة الحياة برمّتها. وبما أنّ جميع طلبات الوقت هذه تمتح من نفس خزّان الوقت السائل والمتجانس، فإنّ الفرد يجد نفسه وحيدًا في مواجهة الاقتصاد التنافسي لأهوائه. وبفعل نُدرة ذاك الوقت، فإنّ الطابع اللانهائي لهذه أو تلك من رغبات الفرد أو التزاماته ينتشر ليُغطّي جميع مناحي حياته؛ وبذلك يغدو حبيس ضيق الوقت بصفة دائمة. وقد يكون الفرد العامل في شبكة تكنولوجيا المعلومات في بيته ووفق عقد، هو الأكثر تضرّراً: فبما أنّه لم يعد ملزمًا بالعمل في أوقات زمنيّة محدّدة ومضبوطة، فإنّه يمكنه الانغماس في الكآبة طوال النهار على أن يُنجز ما عليه ليلاً، كما يُمكنه تلقّي الرسائل الالكترونيّة أثناء قيادته السيّارة أو اصطحاب الحاسوب للعمل عليه خلال العطلة.
ومع ذلك، وكما هو حالنا، فإنّه لن يحسّ مطلقًا بالإشباع، ولن يكون لديه أيّ “وقت فراغ“، ويفقد كلّ دافع للعمل، ولن يعود للعالم من حوله أيّ مسار موضوعي، ثمّ وبصفة خاصّة ينعدم عنده كلّ فراغ. إنّه التحرّر من ضغط الوقت الذي يغدو مثاليًّا حين لا يُقيّدنا الوقت، لكن حين ينعدم كلّ وقت فراغ أيضًا.
هل ينبغي لنا حينئذ، لكي لا نُضيع وقتنا، كما يقترح المتخصّصون في “فنّ العيش” الجديد، قبول التحدّي وإضاعة بعض الوقت في التخطيط لاستخدام الوقت في فعل أشياء أقلّ شأنًا؟ قد نسمع في برامج الإذاعة المخصّصة لأساليب العيش: “لا بدّ من تخصيص وقت من أجل التخطيط لممارسة هواياتك“. فعلى غرار المال الذي يكسبه البنك من القروض التي يُسندها إلى الناس، يسعى الوقت اليوم إلى تحقيق مكسبه الخاصّ من خلال عمليّات يُطبّقها على نفسه: “خذوا الوقت الكافي للاحتفاظ بوقت لا تفعلون فيه شيئًا: بذلك تربحون وقتًا“. فباعتباره سائلاً مثل المال ومجرّدًا مثل الماء، فقد تقلّص الوقت ليُضحي مجرّد نُدرة قابلة للتحويل بلا حدّ. وباعتباره وسيطًا معمَّمًا للتبادل بين أبعاد التجربة الذاتيّة، فإنّه يمنع وجود أيّ لحظة زمنيّة لا تستمدّ قيمتها من ندرته.
* * *
ومن المؤكّد إنّه كان في القديم الكثير من أيّام الآحاد الصيفيّة التي نُقضّيها في البراري مستمتعين بأصوات الجنادب أو منتظرين على أحد الشواطئ أن تعلق سمكة في صنّارتنا، والكثير من الصباحات الشتويّة الكئيبة والباردة التي لا صوت فيها غير صوت خطى المتشرّدين فوق الثلوج. كما أنّه من المؤكّد إنّه ما يزال يُوجد الكثير من المؤسّسات الصغيرة التي لا تردّ على الهاتف عند الظهيرة وقت الغداء، والكثير من شركات النقل العامّ التي تُوقف نشاطها عند الثالثة صباحًا، والعديد من أوقات العمل غير المرنة في المصانع، والكثير من مواسم صيد الأسماك التي لا تستمرّ إلاّ لثلاثة أسابيع فحسب، والعديد من الحكومات التي تتطابق “أوقات عملها” مع ضوء النهار. ومن المؤكّد أيضًا صحّة القول بأنّ الاستخدام الفردي للوقت يُواجه هنا قيودًا موضوعيّة تمنع تقييده بالنُدرة، وتمنع بالتالي استغلاله العقلاني.
ومع ذلك، ولئن قبلنا بأن يكون التمييز بين “طبيعة” مختلف لحظات الحياة “مجرّد” نتيجة إسقاط التقسيم الجماعي للنشاط الاجتماعي على الزمن، فإنه ليس من الواضح بعد كيف يُمكن أن يتوافق ذوبان جميع أبعاد الحياة الفرديّة في عنصر وقت نادر، لكنّه هزيل، مع إثراء الكينونة. الحقّ أنّنا قد نكون بكّرنا، من خلال قابليّة الأشياء النادرة للتحويل فيما بينها، بإضفاء صفة الندرة على رؤيتنا الذاتيّة للعالم، أي إضفاء شكل تاريخي واجتماعي عليها، على غرار ما نفعله بالأشياء النادرة الأخرى.
المصدر:
Gilles Gagné, « La rareté du temps », Revue du Mauss, no 25, Éditions La Découverte, Paris, 2005, pp. 185-189.