تَوَاشجَ الإنسانُ بالأدب مُنذ خُلِق، فَجُبِل على الانجذاب إليه والركوب عليه، ليهرب به إليه، لائذاً بحماه من قسوة النوايا وخشونة المشاعر، وفارَّاً من صفاقة المادي ورعونة التافه، وشارداً على تصلُّب الفلسفة وتخشُّب العلم. إن حاجة الإنسان إلى الأدب تزداد كلما حرَّكتْ التنميةُ تروسها، وأجَّجتْ ثوراتها، ووسَّعت مصانعها، وكدَّستْ العقول قبل المخازن بمنتجاتها ومخترعاتها. وتكمن الكارثةُ في أن هذه التنمية لا تحفل بالأدب ولا تقيم له وزناً، مكتفية له بأدوار شكلانية ديكورية في قوالب استعراضية ساذجة في أكثر الأحايين. ومع كل هذا التحامل والإقصاء للأدب، فإن الإنسان الشفيف يظل تَوَّاقاً إلى الأدب، كَلِفاً بفنونه وإبداعاته، وهذا ما يفسر سر إقبال الناس على قراءة النصوص الأدبية الإبداعية بكل أشكالها، فأكثر الكتب مبيعاً على مستوى العالم هي الكتب الأدبية أو تلك التي تطرح مواضيع دينية أو اجتماعية بقالب أدبي.
موضوعنا الرئيس هو عن ما يمكننا وصفه بـ ” الأَدْبَنَة”، أي صَبْغ الكتابة – البحثية والفكرية – بالنَفَس الأدبي بمعناه الجمالي الفني الأوسع، وذلك بحسب ما يكون لائقاً بالسياق الذي وُضع النصُ له. الذي يهمنا في الأدب في نصنا هذا ليس جانبه المعرفي التخصصي، بوصفه حقلاً معرفياً تقابله حقول أخرى مثل الحقول الدينية والطبيعية والاجتماعية والإنسانية، وإنما جوهره الفني الإبداعي الشاعري، وبالأخص في السياق الكتابي. وعليه، يصح منا القول بأن “الأَدْبَنَة” تقابلها “الكَتْبَنَة”، حيث تشير الثانية إلى الكتابة التي تتعرَّى من الأولى، أي من الجوانب الجمالية الشاعرية الإبداعية. كثير من الكتابات العلمية ونظائرها مصاب بِدائَي: الحَصَر، إذ تفقد سلاسة الطرح، والعيّ، إذ تعدم شساعة الإفصاح. دونكم في هذا الفلاسفة والمفكرون والباحثون المتورطون بـ “الكتبنة”، فهم لم يبرحوا قراطيسهم، ولم يصلوا إلى عقول قرائهم ووجدانهم، مع أن بعضهم يطرح أفكاراً ومفاهيم عميقة. الكتبنة لا تتقصد الكتابةَ لذاتها ولا تكترث لها، إذ هي تتوسل بها لتحقيق غاية التواصل مع الطرف الآخر بإيصال مضمون ما له، فهي كمن يتزوج بنية الإنجاب فقط. الكتبنة هي التي تبني المضمونَ بالكتابة، وأما الأدبنة فتجعل من كل واحد منهما للآخر بانياً، ليُنتجا معاً نصاً ذا “هيكل” قوي و”تشطيب” فاخر.
قبل ليالٍ، هاتفتُ الأديب العربي الكبير أبا عثمان الجاحظ (163-255هـ – 780-869م)، ملتسماً صحبته في رحلة “بيان وتبيين”، علَّه أن يعيننا فيها على الانشداد أكثر صوب الأدبنة، فلبَّى طلبَنا وغشيَنا بأريحيته المعهودة وروحه الماتعة، مبتدراً بتذكيرنا بشعار عام: “إذا كان المعنى شريفاً واللفظ بليغاً .. صنع في القلب صنيع الغيث في التربة الكريمة”[1]، وناهلاً من وافر الشاعر المخضرم “النمر بن تولب”:
أعذني ربّ من حَصَر وعيِّ ** ومن نفس أعالجها عِلاجاً
فَهَمْنَا في البداية من الجاحظ أن الأدبنة تدفع بالكاتب إلى تجاوز مجرد كونه مشتملاً على معلومات أو نتائج أو مشاعر، ويتوخى فقط رميها في قراطيس القارئ كيفما كتب، أي أنها تُجنِّبه أن يكون من قبيل مَنْ قِيل فيها “خرقاء وَجَدتْ صوفاً“[2]، فمن وجد صوفاً فلينظرنَّ كيف يُحيكه؛ ليخلق عبره جمالاً، ويُظهِر به خفياً، ويقرب بعيداً، ويؤلف وحشياً. اقترح عليَّ أبو عثمان أن نقسم رحلتنا على مراحل عشر، تُلتقَط فيها الأنفاسُ وتدوَّن النوادر، على أن يُفصِح في كل منها عن سر من أسرار الأدبنة، ويجعلها في عناوين فرعية ليست متسلسلة منطقياً بشكل صارم، إذ هي أقرب إلى أن تكون عفوية تلقائية كعادة الأدب، حيث يدع للقارئ حرية تنظيمها بما يراه صالحاً له، ولعل في ذلك وأمثاله ما يجعلنا نُقرُّ بأن الأدبَ يؤمن بـ دمقرطة النص.
1- الدلالة الظاهرة على المعنى الخفي[3]
يسير الجاحظ في ناحية الوضوح والإيضاح، جاعلاً من ذلك نهجاً عاماً للأدبنة، وذلك أن البيان هو “اسم جامع لكل شيء كشف لك قناعَ المعنى”[4]، ومُستطلفاً لفتة لـ سهل بن هارون بأن: “البيان هو ترجمان العلم”[5]. يُطيل الجاحظ في تقرير وجوب النأي بالكتابة عن الإغماض، وتَصيُّد الوحشي من الألفاظ، ويكره الولوغَ في غريب الكلام، على أنه لا يعني بذلك البتة استخدام الكلمات المبتذلة والسخيفة، حيث يؤمن بأن الأدبنة إنما هي في: “تحبير الكلام في حسن الإفهام”[6]، أي تَخَيُّر الكلمات والتقاط الرفيع منها، لتكون قادرة على بلوغ ما سوف يكشفه لنا في محطتنا الثانية، مع إشارة منه لطيفة إلى أن اختيار الإنسان لكلماته إنما هو “قطعة من عقله”[7]. وهذا ما يجعل الكتّاب في مرمى “التقييم العقلي”. وقبل أن ننزل من هذه المحطة، أبان لنا الجاحظ عن نبوءة طريفة تتمثل في الفشل الحتمي لكل مَنْ لا يُؤدبِن نصَّه، وذلك أنه منقوص في بهائه، مقصور في أثره “ولو حكَّ بيافوخه عَنان السماء”[8].
2- سخيف الألفاظ مشاكل لسخيف المعاني
اختار الجاحظ أن يكون السرُ الثاني مفاجئاً، وربما صادماً للبعض، حيث يقرر بأن الألفاظ السخيفة المبتذلة لا تنمُّ إطلاقاً عن معانٍ شريفة ولا دلالات عميقة، جاعلاً من الأدبنة مباراة بين اللفظ والمعنى للظفر بالقارئ، إذ “لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظَه ولفظُه معناه، فلا يكون لفظُه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك”[9]. ومؤدى هذا أن الأدبنة تجهد لأن تستجلب المعاني العميقة اللامتناهية من ساحق أفكارنا وغائر مخيلتنا ودفين عاطفتنا بقالب لفظي جميل، وذلك أن “المعاني القائمة في صدور العباد المتصوَّرة في أذهانهم، والمتخلِّجة في نفوسهم، والمتصلة بخواطرهم، والحادثة عن فكرهم: مستورة خفية، وبعيدة وحشية، ومحجوبة مكنونة، وموجودة في معنى معدومة .. وإنما تحيا تلك المعاني في ذكرهم لها وإخبارهم عنها واستعمالهم إياها. وهذه الخصال هي التي تُقرِّبها من الفهم وتُجلِّيها للعقل، وتجعل الخفيَ منها ظاهراً والغائب شاهداً والبعيد قريباً .. وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الإشارة، وحسن الاختصار، ودقة المدخل يكون إظهار المعنى. وكلما كانت الدلالة أوضح وأفصح، وكانت الإشارة أبين وأنور، كان أنفع وأنجع”[10]. وبالنظر إلى أن المعاني غير متناهية واللغة متناهية، فإن الأدبنة يعوزها دوماً أن تتدبر أمرها فتبتكر لها حيلاً تعبيرية ناجعة، عبر التوليد بالاشتقاق والنحت بكل الطرق المعيارية المقبولة لغوياً، على أن هذه الأدبنة لا تصح بجمال اللفظ وساذَج الرأي، إذ قيل لحكيم: “متى يكون الأدب شراً من عدمه؟ قال: إذا كثُر الأدب ونقصت القريحة”[11]، وتعظم خطورة هذا المسلك حينما نعلم بأن “الناس موكلون بتعظيم الغريب واستطراف البديع”[12]، حتى لو كانت الأفكار جوفاء.
3- كم بين السماء إلى الأرض؟: دعوة مستجابة!
هذا العنوان يشي بأن الأدبنة تقتضي في بعض المواضع نوعاً من المفاجأة المُستلَذَّة، إن في المقاربة للأسئلة أو في الطرح للأفكار. يحكي أبو عثمان أن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه- سُئل: “كم بين السماء إلى الأرض؟، قال: دعوة مستجابة”. وإحداث مثل هذه المفاجأت لا تعني البتة الخروج عن المنطق أو العلم أو التلاعب الشكلاني الساذج بالكلمات كما يصنع كثيرون في الفترة الأخيرة، ولذلك حينما أعقب السائلُ بسؤال ثانٍ: وكم بين المشرق إلى المغرب؟، رد عليُّ بعلم: “مسيرة يوم من الشمس، ومن قال غير هذا فقد كذب”[13]. فبعد سوق مثل هذه المفاجأة الحسنة، عاد إلى الأصل مباشرةً، وهو ما يحفظ لها قيمتَها، ويرسِّخها في ذاكرة المتلقي.
4- تحاشَ “الوسط” الفاتر
يلفت أنظارَنا أبو عثمان بذكائه الفذ إلى سمة عجيبة في الأدبنة، حيث يرى بأنها في كثير من المواضع لا يصلح معها التوسط “الفاتر”، حيث يقول: “النادرة الباردة جداً قد تكون أطيب من النادرة الحارة جداً، وإنما الكرب الذي يختم على القلوب ويأخذ بالأنفاس النادرة الفاترة التي لا هي حارة ولا هي باردة، وكذلك الشعر الوسط والغناء الوسط. وإنما الشأن في الحار جداً والبارد جداً”[14]. ماذا يعني هذا؟ يعني أن الأدبنة تسمح بقدر مستساغ من المبالغة في التوصيف للمشاعر والأشياء والأحداث والسلوكيات، فهي ليست مقياساً دقيقاً كما يجهد العلم ليكونه. ولعل القارئ النابه أن يفطن إلى مسألة أخفى من هذه وربما أهم منها أيضاً، وهي أن الأدبنة حينما تمارس النقد فإنما تمارسه باستخدام: الكي الحار، والكي البارد (كالذي يُستخدم حالياً في إزالة البثور). كلا الكيين مؤلم، والنتيجة المتوخاة هي “إحداث الأثر”.
5- لكل ضرب من الحديث ضرب من اللفظ[15]
يحثنا أبو عثمان على جعل الأدبنة “سياقية”، أي مُراعية للسياق وحيثياته، بما في ذلك أهداف الأدبنة ونوعية الشرائح المستهدفة بها، حيث يقول: “متى سمعتَ –حفظك الله- بنادرة من كلام الأعراب، فإياك أن تحكيها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها، فإنك إن غيَّرتَها بأن تلحنَ في إعرابها وأخرجتَها مخرج كلام المولَّدين والبلديين خرجتَ من تلك الحكاية وعليك فضل كبير. وكذلك إذا سمعتَ بنادرة من نوادر العوام ومُلْحَة من ملح الحشوة والطَّغام، فإياك وأن تستعمل فيها الإعراب، أو أن تتخير لها لفظاً حسناً، أو أن تجعل لها من فِيك مخرجاً سرياً، فإن ذلك يفسد الإمتاع بها، ويُخرجها من صورتها، ومن الذي أُريدت له، ويُذهِب استطابَتهم إياها واستملاحَهم لها”[16].
ومن إحكام صاحبنا الجاحظ للسياقية، أنني وجدت أنه يجعلها في مسارين اثنين: أولهما ما يمكن وصفه بـ “السياقية المجتمعية”، والذي يقول فيها: “ولكل قوم ألفاظ حظيت عندهم”[17]، وهذه السياقية تقتضي استيفاء متطلبات السياقات الجادة والهازلة على حد سواء، وعدم الخلط بينهما، أو إقصاء أحدهما في موضعه اللائق به “فالسخيف للسخيف، والخفيف للخفيف، والجزل للجزل”[18]. وثانيهما ما يمكن عَدُّه من قبيل “السياقية المعرفية” أو الحقلية (الصناعات المعرفية)، حيث يقول: “ولكل صناعة ألفاظ قد حصلتْ لأهلها بعد امتحان سواها، فلم تلزّقْ بصناعتهم إلا بعد أن كانت مُشاكلَاً بينها وبين تلك الصنعة”[19].
6- أحسنُ الكلام ما كان قليله يُغنيك عن كثيره
لا تتناغم الأدبنة مع الإطالة والترادف بلا مبرر مقنع، أي أنها اقتصادية غير مبذرة ألفاظها وجملها، وهذا ما يدفع أبا عثمان إلى تقرير مبدأ “أصاب الهدف إذا أصاب الحق في جملة”[20]، وهو يذهب في هذا إلى ما هو أبعد، حيث يقرر هذه المسألة في سياق إنساني كلي، قائلاً: “درجتْ الأرضُ من العرب والعجم على إيثار الإيجاز، وحَمْد الاختصار، وذمِّ الإكثار والتطويل والتكرار، وكل ما فَضَلَ عن المقدار”[21]. وفي هذا الاتجاه، يُذكِّرنا بالنهج النبوي الكريم الجانح إلى “جوامع الكلم” في قالب أدبي سديد عميق، وبما يقوله الأدباء المدَّاحين لـ “الحَذِق” الذي يصيب “عيون المعاني”.
يؤكد الجاحظ المبدأ السابق بأكثر من عبارة وبغير صورة وذلك لأهميته، كما في قوله: “وأحسن الكلام ما كان قليله يُغنيك عن كثيره، ومعناه عن ظاهر لفظه”[22]، مع تحذيره القاطع من التكلُّف، على أن هذا لا يعني البتة عدم استساغة البسط في المواضع التي تقتضيه، فلربما كان “الإكثارُ أحمدَ من الإيجاز، ولكل مذهب ووجه عند العاقل، ولكل مكان مقال، ولكل كلام جواب”[23]، مقرراً مبدأ مراعاة الغرض، وذلك أن “التقليل للتخفيف، والتطويل للتعريف، والتكرار للتوكيد، والإكثار للتشديد”، ووضعَ حداً يبين السائغ من غيره، بقوله: “وأما المذموم من المقال، فما دعا إلى المَلال، وجاوز المقدار، واشتمل على الإكثار، وخرج من مجرى العادة”[24]. وقُبيل ارتحالنا إلى المحطة الموالية، يهمس أبو عثمان بسرِّ التكلُّف، حيث يقول: “إذا طال الكلام عرض للمتكلم [وللكاتب] أسباب التكلف، ولا خير في شيء يأتيك به التكلف”[25]. هذه الهمسة تفيدنا،إذن، بألا نتورط في الكتابة بحجم محدد مسبقاً، فلا نتعاقد -مثلاً- على “عدد كلمات محددة”، وإنما على “نص مُؤدبَن”، صغُر أم كبُر.
تقوم الأدبنة على مبدأ التنويع في استخدام الذخائر اللفظية والتركيبية. وهذا لا يعني أن الأدبنة لا تقر إطلاقاً مبدأ تكرار الكلمات، بل هي على العكس من ذلك، إذ تمارس أحياناً تِرداداً لكلمة معينة عدة مرات في سياق مكثَّف لتحقيق غاية متوخاة، وهذا ما نجده على سبيل المثال في هذا المشهد الذي يصوِّره لنا أبو عثمان: “قال عمر بن عبدالعزيز-–رحمه الله- لعبد بني مخزوم: إني أخاف الله فيما تقلَّدتُ. قال: لستُ أخاف عليك أن تخاف، وإنما أخاف عليك ألا تخاف”[26]. كلمة الخوف ذُكرت هنا أربع مرات، دون أن يفقد التوصيفُ رونقَه، بل العكس هو الصحيح، حيث كساه بهاءً وقوراً، وهنا يُؤمى الجاحظُ لنا بما كان يُقال: “من التوقي ترك الإفراط في التوقي”[27]، فالتكرار إذن سائغ في موضعه.
7- في خطب البلغاء “أسجاع كثيرة”
يقر أبو عثمان أن الخطباء البلغاء لديهم “أسجاع كثيرة”[28]، إلا أنه يكره الإكثار منها، أو التكلف والتزيد فيها، ويورد شواهد عديدة على التسجيع المتقن، وفي قمتها ما يصنعه أحدُ أخطب العرب، حيث نجد في الخطبة الشهيرة لـ قس بن ساعدة هذا السجع التلقائي الآسر: “أيها الناس اجتمعوا، فاسمعوا وعوا. من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت”[29]، ومنها مقولة لأعرابي: “نحن والله آكل منكم للمأدوم، وأكسب منكم للمعدوم، وأعطى منكم للمحروم”[30]، ومنها أيضاً ما حدث لنوفل بن مساحق الذي كان “إذا دخل على امرأته صمت، وإذا خرج من عندها تكلم، فرأته يوماً كذلك، فقالت: أما عندي فتُطرِق، وأما عند الناس فتنطق. قال: لأني أدقُّ عن جَليلك، وتَجلّين عن دَقيقي”[31].
والأدبنة تُقرُّ بأن التسجيع الجيد هو الذي يكون بقدره وفي سياقه، ويكون أجود إذا كان مشتملاً على تصنيف أو تقسيم ما أو مقابلة ظريفة بين شيئين بقالب مفاجئ، بحيث يكون أداة فنية لتحقيق غاية في المعنى، وهذا يعني أننا قُبالة سجع من مستوى أعلى، وربما صح وصفه بـ “التسجيع الجمالي الوظيفي”. ولو أردنا أن نمثل لذلك، لافترضنا أن كاتباً عصرياً يروم معالجة المشاكل الاجتماعية والمشاكل الاقتصادية، واستحسن أن يستجلب كلمات أصيلة تراثية لتعبرِّان عن هاتين المشكلتين في مفهومين لامَّين جديدن، فيمكن أن يفعِّل مقولة لأعرابي تعوَّذ فيها بالله من “الفَواقر والبَواقر”[32]، جاعلاً الأولى للمشاكل الاقتصادية والثانية للاجتماعية، إذ إن الفاقرة هي المصيبة التي تكسر فقرات الظهر، وقد اشتق الفقرُ من هذا المعنى، والباقرة هي الداهية التي تصيب المجتمعَ بالفرقة والشَتات، حيث يعود أصلُها إلى الشَق والتشقُّق والانشقاق.
8- ليكن موقع الكلمة من أختها مُرضِياً
ذكي هو أبو عثمان حينما لم يكتفِ بعزف الأسجاع في المحطة السابقة، إذ قد لا تكون مُطربة أو مقنعة للبعض، فراح من جراء ذلك، يُنغِّم بأوتار التناغم اللفظي في هجاء للتنافر بين أجراس الحروف والكلمات، مقرراً بأنه “إذا كانت الكلمة ليس موقعُها إلى جنب أختها مُرضياً موافقاً كان على”[33] القارئ في هذا النص مؤونة كبيرة في قراءة النص واستساغته.
ومن الأساليب التي تحضُّ عليها الأدبنةُ السعي إلى المقارنة بين شيئين في قوالب التقابل والتوازي على أن تكون ِخلواً من التكلُّف في المعنى والتعسُّف في اللفظ، وهي حينذاك قمينة بأن تُظفرك بمقاربة ظريفة بديعة لا تُنسى، فمن يطيق نسيان هذه الصورة الخلاَّبة لعمرو بن عبيد حيث يقول: “اللهم اغنني بالافتقار إليك، ولا تُفقرني بالاستغناء عنك”[34]، ومن ذلك المقولة السابقة للجاحظ: “الدلالة الظاهرة على المعنى الخفي”، حيث قابل بين: الدلالة اللفظية والمعنى، وقابل بين: الظاهر والخفي.
9- لا تهذِّبه ولا تنقِّحه ولا تروِّقه جداً!
مع إقرار أبي عثمان لقدر من مراجعة النص وتنقيحه لكونه يُقرُّ بـ عداوة القارئ العالم المتفرغ للمؤلف[35]، إلا أنه يشدد مع ذلك على أن الكاتب “ليس له أن يهذِّبه جداً، وينقِّحه ويصفيه ويروِّقه، حتى لا ينطِق إلا بلبِّ اللبِّ”[36]، ذاكراً بأن ذلك من دواعي وعورة النص وصعوبة هضمه كحال كتب المنطق، وما ضَارعَها من كتب الفلاسفة الوعرين والمتفلسفة المتكلفين.
هذه الإشارة الذهبية تسمح لنا بطرح هذا المبدأ: لا يُزيل تنقيحُك الزائد لنصِّك زوائدَه فحسب، بل نكهتَك أيضاً. ولو رمنا اختصارهـ لقلنا: التنقيح الزائد مزيل للأسلوب، لأنك ستراعي عبر جولاته ومراحلة العديدة ذائقة فلان وعقلانية علان، فيتبخر من أوعية نصوصك رونقُك، فلا يجدك حينذاك قارئُك! وهنا لمحة بيانية حول كلمة “الأسلوب” نفسها، إذ هي مشتقة من “سَلَبَ” أي سَرَقَ، فكيف يكون الأسلوب سرقةً وسَطواً؟ يقرر أحد الأدباء بأن الأسلوب سُمِّي بذلك لأن الكاتبَ لا يكون مُجيداً ذا أسلوب إلا إذا عرف أنه يَسلِب من نفسه سرَها[37].
10- الإضراب عنها صَفْحاً أبلغُ في الدرْك
في محطتنا الأخيرة، يفتح لنا أبو عثمان قناةَ في الأدب العالمي، حيث يُطلِلنا على الأدب الهندي، الذي يُصرِّح بأن الأدبنة هي كامنة في “وضوح الدلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة .. والبصر بالحجَّة”[38]، ويدع لهذا الأدبَ الشرقي الرفيع أن يُسلسل حلقاته أمامنا، فنجد في حلقة منه، ذلك الأديب الذي يرقش لنا سراً من أسرار الأدبنة الرفيعة: “ومن البصر بالجدة والمعرفة بمواضع الفرصة أن تدع الإفصاح بها إلى الكناية عنها، إذا كان الإفصاح أوعر طريقة”، ويواصل فيمنحنا هذه النفيسةَ بقوله: “وربما كان الإضراب عنها صَفْحاً أبلغُ في الدرْك وأحقُ بالظفر”[39].
ومؤدى هذا أن ألأدبنة تُقرُّ بالفراغ أو لنقل الإفراغ القصدي، أي تَعمُّد ترك فراغ في النص، لدفع القارئ على إكماله بقالب استنتاجي نقدي إبداعي. ومن المؤكد أن هذا النص ترك عامداً فراغاً كبيراً في جوانب عديدة للموضوع، من أجل أن يملأه القارئ الكاتب، وهذا ما يجعل الأدبنة مولدة لنصوص إبداعية متنوعة في سلسلة لا تنتهي ولا تبيد.
رغب أبو عثمان أن يصحبَنا في محطتين تاليتين، ليعرض فيهما نهجه “العملي” في: (1) الاستطراد[40]، و(2) الترادف[41]؛ غير أنني همستُ إليه بأن الأسلوب العصري في الكتابة بات لا يقبل بهما ولا يعدُّهما ميزة بل مَثلبة، فضحك، ثم أردف قائلاً: إذن ننزل هاهنا هاهنا، ولكم ذائقتكم ولنا ذائقتنا.
[1] أبو عثمان الجاحظ (2015)، البيان والتبيين، تحقيق درويش جويدي، بيروت: المكتبة العصرية،1-3، ص 61.
[2] الموصوفة بهذا هي “ريطة بنت كعب بن سعد بن تميم بن مرة، وهي التي نقضت غزلها أنكاثاً، فضرب الله تبارك وتعالى بها المثل”. البيان والتبيين، ص 340.
[3] البيان والتبيين، ص 56.
[4] البيان والتبيين، ص 56.
[5] البيان والتبيين، ص 57.
[6] البيان والتبيين، ص 78.
[7] البيان والتبيين، ص 57.
[8] البيان والتبيين، ص 57. هذا النص هو جزء لمقولة وردت على لسان “يونس بن حبيب”.
[9] البيان والتبيين، ص 78.
[10] البيان والتبيين، ص 56.
[11] البيان والتبيين، ص 62.
[12] البيان والتبيين، ص 64.
[13] البيان والتبيين، ص 551.
[14] البيان والتبيين، ص 96.
[15] أبو عثمان الجاحظ (2015)، الحيوان، تحقيق: إيمان الشيخ محمد، غريد الشيخ محمد (بيروت: دار الكتاب العربي)، مج 3، ص 445.
[16] البيان والتبيين، ص 96. الحشوة: العامة، الطغام: أراذل الناس. المولدين والبلديين: أولئك الذين كانوا من أصول غير عربية، اي من خالطتهم عُجمة.
[17] الحيوان، مج 3، ص 583.
[18] الحيوان، مج 3، ص 445.
[19] الحيوان، مج 3، ص 584.
[20] البيان والتبيين، ص 97.
[21] أبو عثمان الجاحظ (1991)، رسائل الجاحظ، تحقيق وشرح: عبدالسلام هارون (بيروت: دار الجيل)، رسالة في البلاغة والإيجاز، مج 2، ص 151.
[22] البيان والتبيين، ص 61.
[23] رسالة في البلاغة والإيجاز، مج 2، ص 152.
[24] رسالة في البلاغة والإيجاز، مج 2، ص 152.
[25] البيان والتبيين، ص 78.
[26] البيان والتبيين، ص 132.
[27] البيان والتبيين، ص 132.
[28] البيان والتبيين، ص 177.
[29] البيان والتبيين، ص 186.
[30] البيان والتبيين، ص 180-181.
[31] البيان والتبيين، ص 184.
[32] البيان والتبيين، ص 549.
[33] البيان والتبيين، ص 50.
[34] البيان والتبيين، ص 549.
[35] في هذا المعنى يقول: “وينبغي لمن كَتَبَ كتاباً ألا يكتبه، إلا على أن الناس كلهم لهم أعداء، وكلهم عالِم بالأمور، وكلهم متفرغ له”. انظر: الحيوان، مج 1، ص 66.
[36] الحيوان، مج 1، ص 67.
[37] هذه المقولة سمعتها من الدكتور زكي نجيب محمود في مقابلة له مع فاروق شوشه حول “فن المقالة الأدبية”، ويمكن الاستماع إليها عبر: https://www.youtube.com/watch?v=EXqxQ8hXd54
[38] البيان والتبيين، ص 63.
[39] البيان والتبيين، ص 63.
[40] الاستطراد هو الخروج عن الموضوع المطروق ثم الرجوع إليه لتحقيق غاية ما. كثيراً ما يبرر الجاحظُ جنوحَه الثقيل نحو الاستطراد بأنه يتغيا من ذلك التنويع وإبعاد القارئ عن الملل، ولا سيما أنه يضع كتباً مطولة، وذات طابع علمي جاف في بعض الأحيان، كما في موسوعته البديعة “الحيوان”. وللسبب ذاته يُسوِّغ لنفسه طرح الموضوعات الهازلة، تزجية للنفوس الكادَّة الجادَّة، وتشجيعاً لها على إكمال القراءة. وفي الاستطراد، يستخدم الجاحظ بذكاء ملاحظاته الاجتماعية والنفسية والعلمية الثرية.
[41] الترادف هو تأدية المعنى بكلمات عديدة تحمل المعنى ذاته أو قريباً منه. اختلف علماء اللغة كثيراً في القديم والحديث حول حقيقة وجود الترادف، فمن منكر له على أساس أن اللغة لا تحمل كلمتين متشابهتين تماماً من كل وجه حيث ثمة فرق ولو لطُفَ، ومنهم من يُقرُّ به. وهنا نثبت ملاحظة فيما يخض صاحبنا أبا عثمان، حيث إنه لا يشجع على الترداف نظرياً من جهة تحصيل البلاغة التي جوهرها الإيجاز المتنافر مع الترادف، إلا أنه يُطبقه عملياً في قالبيه: اللفظي والمعنوي، مستخدماً ذخائره اللغوية والأدبية الهائلة، وهو ما يجعل ترادفه مُحببَّاً لنفوس كثيرين من قرائه، وبخاصة أنه عازف متقن لموسيقاه الأسلوبية والتركيبية. والكتابة الأدبية في كل أشكالها وفي كل عصورها لا تخلو من قدر من الترادف. وتقدير القدر الملائم نسبي، إذ ليس هنالك حد قاطع فيه، غير حساسية الكاتب وتقبل القارئ.