تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري
ماذا لو لَم نكن نرى تاريخ الفلسفة نظامًا عظيمًا من النقد المُتصل، وإنما سلسلة مِن المقولات البارعة؟
يَعرِض المنهج الجامعي في الفلسفة لمفكريّ الحضارة الغربية العظماء في شكل موكبٍ فخم يتقدَّم من أفلاطون إلى أرسطو إلى ديكارت إلى كانط إلى هيغل إلى نيتشه. قدَّم هؤلاء المفكرون البارعون أفكارهم في مجلداتٍ فلسفية ضخمة تضِجّ بتعريفات دقيقة، وحُجَج مُحكَمة ونقودٍ متصلة. ثمّ يَعرِض المحاضرون سرديّات الأفكار الكبيرة للجيل الجديد من الطلاب.
يُجسِّد إيمانويل كانط هذا النهج السُّلطَوي. ففي الصفحات الأخيرة من كتابه “نقد العقل المحض” (1781)، روى الفيلسوف الألماني تاريخ الفلسفة الأوروبية من أفلاطون إلى أرسطو إلى لوك إلى لايبنيتس إلى أن يصل إلى نفسه، سلسلةً من محاولاتٍ لبناء أنظمة. والحقّ أن كانط نفسه مهندس فكريّ مدقق: أقصد بكلمة “هندسيّ” فن الأنظمة؛ ذلك لأنّ الوحدة النظامية هي أوّل ما يحوّل الإدراك والفهم العام إلى علم.
يقصد بذلك أن العلم يُحوّل ما هو مُجرَّد تراكم أفكار عشوائية إلى شيء متماسِك. وحينئذٍ فقط يُمكِن للفلسفة أن تكون عقيدة أو منهجًا في الحِكَم على ما يكون معرفة وما لا يكون. فلا فلسفة بلا أنظمة.
ولكن هل يُمكِن أن يكون في السماء والأرض أمور أكثر من التي كان يحلم بها كانط في فلسفته؟ ما الذي يحدث إذا نظرنا إلى تاريخ الفلسفة لا من منظور “بناء الأنظمة”، وإنما من خلال رواية بديلة تصرِف انتباهها إلى شَذَرات من الفكر؟
انظر مثلًا إلى قول هرقليطس: “الطبيعة تحبّ التواري”. أو قول بليز باسكال: “يُرعِبني الصمت الأزليّ في الفضاء غير المتناهي”. أو قول فريدريك نيتشه: “إقامة مَعبد هادمة لآخر”. كان هرقليطس سابقًا على أفلاطون وأرسطو مخالفًا لهما، وجاء باسكال بعد كانط وج. و. ف. هيغل كان مخالفًا لهما. هل يمكن أن يكون تاريخ الفلسفة مدفوعًا بالحِكَم حقًّا؟
أكثر تاريخ الفلسفة الغربية يُمكِن روايته وكأنه سلسلة من المحاولات لبناء أنظمة. وعلى العكس فإنّ كثيرًا من تاريخ الحِكَم يُمكِن أن يروى وكأنه مقولة ناقِدة، أو انصراف عن تلك الأنظمة الكبيرة ببناء مقولاتٍ أدبية. يُبدِع الفيلسوف ويَنقُد جُمَلًا متواصلة من الحُجَج، بينما مؤلِّف الحِكَم يؤلِّف بين جُمَل حدسية متناثرة. أحدهما يسير في سلسلةٍ من المنطق، والآخر يتحرّك في قفزاتٍ سريعة.
كانت الحِكَم موجودة قبل ميلاد الفلسفة الغربية المعروفة. وفي بلاد الإغريق القديمة مثّلت حِكَم أناكسيماندر أو زينوفانيس أو بارامينيدس أو هرقليطس الجهود الأولى في التفكير التأمُّلي، ولكنها كذلك مثار عداء عند أفلاطون وأرسطو. إنّ أقوالهم المُبهمة تُعمي على تحليلهم الخِطابي. وتستعصي على سوقها في سلك النظام. ولا ينكر أحد ما قد يكون في مقولاتهم الفصيحة من حِكَم، لكن كان لأفلاطون وأرسطو تحفظاتهما عليها. إذ ليس فيها فحوى قويّ البتة، وإنما ألفاظ متناثرة صدرت عن رجالٍ أذكياء.
ولننظر إلى نقد أفلاطون لهرقليطس: “فلو سألتَ أيًّا منهم سؤالًا، فسيستَلّ جملة مُبهمة من كِنانته ويرميك بها كالسهم، وإذا حاولت أن تجعله يُقرِّر ما قاله لتَوِّه، فستُرمى بجملةٍ أخرى من ألاعيب اللغة الغريبة”.
يرى أفلاطون أنّ في تحايل الهيرقليطسيّين بمراوغاتهم الدائمة مشكلة؛ لأنهم لا يفتأون يُنشئون أقوالًا جديدة لتقويض ختام النقاش. وهرقليطس بهذا المعنى مخالف لأفلاطون من وجهَيْنِ أساسيّيْنِ على الأقل: الأوّل أنّ قوله “بالتدفق” flux مناقض لنظرية المُثل، والثاني ما يقع لدى قارئه من أنّ تفكيره مُنعزِل أحاديّ مُبغِض للبشر بينما أفلاطون اجتماعيّ تحاوريّ مُرحِّب.
إنّ نبذ أفلاطون لأسلوب الأقوال المأثورة الذي عُرِف به سلفه مرحلة مهمة في تطوّر الفلسفة القديمة: التحوّل من أسلوب المتنبّئين في الكلام إلى الخِطاب الحِجَاجي، ومن الغموض إلى الوضوح، ومن ثَمّ تهميش أسلوب الأقوال المأثورة لصالح الحُجَج المنطقية المُحكَمة. وبدايةً من سقراط فمَن تلاَه لم يَعدُ وجود لفلسفة بلا دليل أو حُجة.
ومع ذلك فإني أرى أنّ من الممكن الدفاع عن هرقليطس ضد هجوم أفلاطون. فمن غير الضروري أن تُسبِّب الحيرة الناشئة عن الأقوال الغامضة تشنُّجَ التفكير. بل يُمكِنها على النقيض أن تَستحِثّ التحقيق البحثي المنتج. انظر مثلًا هذه المقولة الشهيرة:
“الطبيعة تحبّ التواري”.
[أو]
“الطبيعة تنزِع إلى التواري”.
شرحتْ هذه الكلمات مرارًا. ما “الطبيعة”؟ ما “التواري”؟ وما “الحُبّ”؟ يقترح الفيلسوف الفرنسي بيير هادو في كتابه “حجاب إيزيس “ The veil of Isis (2004)، خمسة أوجه لتفسيرها على الأقلّ: أن المعنى الحقيقي لأمر صعب المعرفة؛ معناه يريد أن يتوارى؛ الطبيعة أصول، وهي صعبة التتبع؛ الموت يتبع الولادة؛ وأخيرًا، المظاهر خداعة. إنّ طبيعة هرقليطس نفسه -وطبيعة اللغة عمومًا- تحبُّ التواري. وعلى هذا المنوال يمكن أن نزعم لازمتين: “الحِكَم كذلك تحبّ التواري”، و”التأويل يحبّ الاستجلاء”.
إنّ طبيعة اختزال هيرقليطس تَصدُق على الحِكَم عمومًا. إنّ الحِكَم تستعصي على التفسير الأوفى وكذلك تستدعيه، ولذا فإنّ الهرمنيوطيقا [التأويل] مطلوبة من كل قارئ. فالشذرات القوليّة مناقِضة للفلسفة الحِِجاجية وكذلك مُمهِّدة لها: مناقضة لها؛ لأنها بالغة الإبهام، ومُمهِّدة لها؛ لأنها تحثّنا على التفكّر في أصول وطبيعة الأشياء.
تطلُب الحِكَم أن تُفسَّر. وفي تفسيرها دعوة للقرّاء للمُضيّ في رحلتهم الفلسفية الشخصية، أن يتفلسفوا بأنفسهم. إذن، فالحِكَم قبل وضد وبعد الفلسفة في الآن نفسه.
كلّ الأمور المُتناهية شذرات؛ لأنها ليست إلاّ قطعًا نُزِعت من اللانهائيّة
دشَّن ديكارت الفلسفة الحديثة في القرن السابع عشر؛ بعرضه لقواعد وتوجيهات للتفكير الواضح، ثمّ بعده بعقودٍ قليلة عرض باسكال تصحيحًا قويًّا. فراهن أنّ: لعلَّ النظام قد بولغ في قيمته. ولقد كان باسكال عبقريّ زمانه بكل المقاييس. ففي سِنٍ مبكرة كان له مشاركات مميَّزة في الهندسة والجبر. ومع ابتلائه بالمرض تعرَّض لتحوّل دينيّ في أواخر عشرينيّاته وقضى آخر 10 سنوات في حياته القصيرة في محاولاتٍ عابثة للتدليل على المسيحية، قصد بها “دفاعًا عن الدين”، نُشر بعد وفاته بعنوان “خواطر Pensées (1670)”.
صارت مهمة العُمر عند باسكال تمرينًا لا نهاية له من ردّ الكلمات إلى جوهرها؛ بغرض استكشاف عدمٍ محضٍ وإيصالنا إلى حافّته. كان يرى أنّ كل الأمور المتناهية شذرات؛ لأنها ليست إلاّ قِطعًا نُزعت من اللانهائية. كذلك فإن طبيعة التناهي تقتضي أنّ حتى الكَمّ الكبير من الشذرات لا يمكن أبدًا أن يقترب من الكمال: “الوحدة المضافة إلى اللانهاية لا تزيد اللانهاية على الإطلاق إلاّ كما تزيد قدمٌ إذا أُضيفت إلى طولٍ لا نهائي”. ترك النظام عند باسكال اعتراف بفشل الفكر الإنساني في فهم مثل هذه اللانهائية، وبهذا المعنى يتحرّك كتاب “الخواطر“، في نِطاق شاعريّة الشذور.
وحين توفي باسكال عام 1662، ترك أكثر من 800 قُصاصة ورقيَّة، في مراحل مختلفة من عدم النظام. تلك القُصاصات في جانبٍ كبير منها نتيجة مباشرة لرفضه الإصرار الديكارتيّ على النظام والوضوح. وقوله: “إنّ للقلب أسبابًا لا يعرفها العقل”، أحد الأمثلة الواضحة على ذلك. إنّ انتقاد باسكال الأساسي هو أنّ ديكارت يَختزِل الفلسفة في نظامٍ مبالَغ في عقلانيته، ويرى باسكال أنّ مقولة: “أنا أفكّر؛ إذن أنا موجود”، قائمة على أساسٍ ضعيف؛ لأنّ هذه الذات الذي يَفترِض ديكارت أنها أساس كل الاستدلال ليست إلاّ أمرًا سقيمًا. وهذا رأيّ باسكال في حالة الإنسان: “يا له من وحش، يا لها من فوضى… دودة أرض ضعيفة، مستودَع الحقيقة، بالوعة عدم اليقين والخطأ.. مجد الكون ونفاياته”.
هذا الركام العظيم الذي يكوِِّن “الخواطر”، قد يُعتبر رفضًا جسيمًا لثقة العقل الديكارتيّ الهائلة في نفسه
يصل الجدل بين الحِكَم والفلسفة إلى ذروته في القرن التاسع عشر. مفكِّرون شتَّى بعد كانط، من أمثال: فريدريك شليغل، وآرثر شوبنهاور، وسورن كيركغارد، ونيتشه كلّهم استعملوا الاختزال في صراعهم لممارسة الفلسفة وفقًا للأنظمة. أحبَّ الرومانسيون الأطلال، والناقص، والظلال. انظر مثلًا لوحات المناظر الطبيعية التي رسمها كاسبر ديفيد فريدريتش، أو السيمفونية الناقصة لشوبرت، أو الهوس بآثار العصر القديم. كانت ثقافة الحِكَم هذه ردًّا على بناء الأنظمة الذي لا يَكَلّ عند كانط. وقد أصرَّ الرومانسيون -في مواجهة سؤال كيف تحسّن تقديم وحدة المعرفة المتجاوزة؟- على أنّ الوسيلة المُمكنة الوحيدة هي بفعل ذلك في عدة أجزاء. وعلى هذا فإنّ التفكير الحِكمي: التفكير النظامي، الصغير، الكبير.
وفي سلسلةٍ من المقالات والمُراجعات والحوارات والبيانات المذهلة، التي نُشرت على مدار ما يزيد قليلًا عن ثلاث سنوات -1798-1800-، أسَّست الصحيفة الألمانية داس أثينيام Das Athenaeum الرومانسية، باعتبارها ردًّا جماليًّا موحَّدًا وبديلًا فلسفيًّا صالحًا للمثالية. فمن جانب، كما تقول مقولة ذكرت في أثينيام: “كل الأفراد أنظمة، على الأقلّ في البداية والنزوع”. ومن الجانب الآخر: “الحوار سلسلة أو إكليل من المقولات”. وبذلك: “سيّان في الأذى القاتل للذهن أن يكون به نظام أو لا. سيكون عليه ببساطة أن يُقرِّر جمع الاثنين”.
ونيتشه مُنتسِب متأخِّر إلى سلالة هذا الخطّ الفكري الرومانسي. يقول في كتابه “أفول الأصنام” (1889): “إني لا أثق بأيّ من واضعيّ الأنظمة وملتزميها وأتجنّبهم. إنما الرغبة في نظام انعدامٍ للنزاهة… إنّ الأقوال الوجيزة والحِكَم التي أنا المُعلّم الأوّل لها بين الألمان هي صور “الخلود”، إنّ طموحي أن أقول في عشر جُمَلٍ ما يقوله غيري في كتاب، وما لا يقوله غيري في كتابٍ أيضًا”.
كان نيتشه في بداية أمره كلاسيكيًّا يجمع أقوال الفلاسفة الإغريق الأوائل. وكان قد حصّل بنفسه من العلم القدر الكبير الذي أهّله أن يحصل على درجة أستاذ في الفيلولوجيا الإغريقية عام 1869، في جامعة بازل في سِن الرابعة والعشرين.
“دفتر المحراث the ploughshare notebook”، لفريدريك نيتشه، احتوى على 176 مقولة، كُتبت عام 1876. الصورة بإذنٍ من المكتبة الوطنية الفرنسية Paris/Nietzschesource.org.
ثمّ تحوّل ما كان عنده من فيلولوجيا الشذرات إلى فلسفة الشذرات حين ترك عمله بالكلاسيكية في أواخر سبعينيّات القرن التاسع عشر، وصار يكتب تلك المقولات بعد أن كان يدرسها. وفي أغزر فترات حياته إنتاجًا بدايةً من “إنسان مفرط في إنسانيته” (1878)، إلى “هو ذا الإنسان” Ecce Homo (1888)، كتب آلافًا من الأقوال الوجيزة القوية والحِكَم. ثمّ صار أسلوب الشذرات هذا أسلوبه المفضَّل لما بقيَ من حياته. ويتحدث الرسول في كتابه “هكذا تكلم زرادشت” (1883-1885)، في صيغة جُملٍ مُبهمة مسجوعة، مثل الديثرامب -تراتيل مسرحية إغريقية-، التي تُذكِّر بأدب الحكمة القديم.
تصيب الحِكَم الصعبة كثيفة المعنى قلوب القُرّاء فتُربِك عاداتِ تفكيرهم
صار أسلوب الأقوال المأثورة وسيلة نيتشة لتدريب قرّائه ليس على الركون إلى عقيدة أو رأيّ لنيتشه في الحياة، وإنما لإبداع وصناعة فلسفتهم الشخصية في الحياة. فيكتب: “تضِجّ كتب الحِكَم ككتبي بالمحظورات بعيدة المدى، وسلاسل أفكار بين الحِكَم ووراءها”. ويعني بذلك أنه لن يُهوِّن مقاصده على قرّائه. فأسلوبه كأسلوب هرقليطس؛ مقولات حادة صعبة مشكلة، وسهام تصيب قلوب القرّاء فتأسِر أو تضطرب بها عادات تفكيرهم. لذا ينبغي عليهم بذل جهد كبير لاستكشاف ما بين كلماته الحادة وما وراءها. انظر هذه الملاحظة الثاقبة: “لقد تجاوزنا بالفعل إلى ما وراء ما يمكن أن تُعبِّر عنه كلماتنا؛ في كلّ كلام يكمن شيء من الحقد. لقد جعل المُتكلِّم نفسه من السُّوقة فعلًا بكلامه”.
يُجبِرنا نيتشه هنا على التفكير في التواصل الواهن بين أفكارنا الداخلية وكلامنا وكتاباتنا. ومع ذلك فإن إنتاج الأفكار -الحركة من الأفكار في أذهاننا إلى أفكار مكتوبة- ليس سَلِسًا أبدًا. تَقبُع دومًا في تلك الرحلة مشكلة أمانة انتقال الفكرة. إن أعمق أفكارنا لا يمكن تصويرها بدقة بأيّ لغة: إنّ الحِكمة الحقيقية متجاوزة للكلمات. وقد أبدع شليغل في قوله: “يجب أن تكون الشذرة معزولة بالكليّة عن العالم المحيط كعمل فنّي صغير ومتكامل في ذاته كالقنفذ”.
وليس مصادَفة أن يُقارِن شليغل بين الحكمة والقنفذ (ein Igel)، وأشهر قنفذ في الفكر الغربي أتى ذكره في قول لأرخيلوخوس، اشتهر على يد أشعيا برلين بعد ذلك: “يعرِف الثعلب أمورًا كثيرة، لكن القنفذ يعرِف أمرًا واحدًا كبيرًا”.
وعلى الرغم من أنّ الحكمة يجب أن تكون وجيزة كما يقتضيه تعريفها، إلا أنها تتخذ صيغًا غير محدودة في أكثر الأحوال. والحكمة بطبيعتها كالقنفذ حيوان منعزل. تُكافِح للتخلّص من أيّ زوائد لفظية، ولا تخفي رغبتها في حجب ما عداها حتى لا تُنازَع سطوتُها.
ومع ذلك فإنّ للحِكَم ذهنية الجموع. بداية من أدب الحكمة عند السومريين والمصريين فمَن بعدهم، تكتسب قوتها من اجتماع الأشتات في المختارات. كل قول قد يكون “تامًّا في ذاته”، كما يزعم شليغل، لكنه كذلك يُمثّل عقدة في شبكة، انتقالية في العادة، طويلة البقاء، قادرة على الاستمرار في التوسع. ولم يكتب أفضل كُتّاب الحِكَم المُحدَثين مقولة واحدة فقط، بل الأكثر يكتبون الكمّ الكثير جدًّا: فرانسوا دو لاروشفوكو ويوهان فولفغانغ فون غيته وجورج كريستوف ليشتنبرغ وباسكال ونيتشه نفسه، كلّهم كان لديهم الدفاتر بعد الدفاتر المملوءة بها، وعادةً ما تعذَّر عليهم إكمالها.
إذن، فبينما قد يكون القول الواحد قنفذًا مهيمنًا، إلاّ أن مجموعة الأقوال تندمج لتصبح مجموعة كبيرة من الثعالب الماكرة.
ومن الناحية التأثيلية تتكون كلمة aphorism (الحِكمة) من apo- اليونانية، وتعني: “من، بعيدًا من” + horizein “أن تربط”. ويُعرّف قاموس ميريام وبستر (الأفق) horizon كما يلي:
- الخط الواصل بين الأرض والسماء.
- الدائرة الكبيرة من القبة السماويّة، التي يُكوّنها تقاطُع القبة السماويّة مع الخط المُماسّ لسطح الأرض من موقف الناظر.
والوصول إلى الأفق محال؛ فكلَّما دنوتَ منه ابتعد؛ فهو حالٌّ مُرتحِلٌ. متجاوز أبدًا، إنّه خطّ بلا بداية أو نهاية يقطع المرئي والخفي.
أليست الحكمة مُحكَمة الصياغة هي ما يمشي ويقفز ويتسلَّق ويرقص؟
إنّ الحِكمة تقضي بقولٍ فصل، يضع حدودًا ويؤسِّس الملكية. ومع ذلك فإن أيّ تعريف جيد يَعي أوجه القصور في نفسه، ما يدخل فيه وما يخرج منه. فإن تعريف الأمر يعني حدّه. انحناءة الكرة الأرضية، كشكل التفكير، تعني وجوب حدودٍ لمجال إبصارنا دومًا. وبهذا المعنى فإنّ الحِكمة علامة على محدوديتنا، في السعي الدائم تجاه الأفق المتراجِع. ولا يستطيع التفكير مجاوزة أفق اللغة.
وفي الأوقات العصبية قد لا يكون في مقدورنا التركيز الكافي لقراءة المجلدات الضخمة – حتى إما\أو (1843) أجلّ أعمال كيركغارد، فيلسوف المقولات العظيم، المطبوع في مجلدَيْنِ في حوالي 1200 صفحة، من ترجمة دار نشر جامعة برنستون. ولا كذلك فينومينولوجيا الروح لهيغل (1807) في 700 صفحة، وجمهورية أفلاطون في 500 صفحة، وكتب النقد الثلاثة لكانط (1781؛ 1788؛ 1790)، التي قد يبلغ مجموعها حوالي 2400 صفحة. كتب ميشيل فوكو كذلك كتبًا ضخمة: الجنون والحضارة [تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي] (1961)، وولادة الطب السريري (1963)، والمراقبة والمعاقبة (1975)، ونظام الأشياء (1966)، وحفريّات المعرفة (1969) وغيرها. وقُرْب نهاية حياته، تكلَّم فوكو على نوعٍ أبسط من الكتابة القديمة يسمَّى الهيبومنيماتا “hypomnemata”، أقوال الرواقيين، الأبيقوريين، والمسيح. يقول فوكو في “الكتابة الذاتية” (1983): “كان في تلك الفترة ثقافة ما يمكن أن يسمَّى “الكتابة الشخصية”: تدوين الملاحظات على القراءات، والمحاورات، والآراء التي يسمعها المرء أو يتفكر فيها أو يقوم بها، والاحتفاظ بمذكراتٍ من نوعٍ آخر (وهو ما كان يسمّيه الإغريق هيبومنيماتا) ستُقرأ بالضرورة من حينٍ لآخر لتحقيق ما فيها”.
إذن، الاعتناء الذاتي يعني التفكير في الحِكَم والتفكير من خلالها. كتب نيتشه في كتابه “العلم المرح” (1887) أنَّنا: “لا ننتمي لأولئك الذين لا يحملون أفكارًا إلاّ في طيّات الكتب، حين تستحثهم الكتب. إنها عادتنا أن نفكر خارج المنزل، ونحن نمشي ونقفز ونتسلَّق ونرقص، ويفضَّل أن يكون ذلك في الجبال البعيدة أو قرب الشاطئ حيث الدروب تتفكَّر”.
وفي أيّام حظر تجوال جائحة “كوفيد 19” هذه، كثير منَّا حبيس بيته. أليست الحكمة المرنة اللدنة مُحكَمة الصياغة هي ما يمشي ويقفز ويتسلَّق ويرقص؟ ولعلَّ قراءة المزيد من الحِكَم وتأليف بعضها بأنفسنا يساعدنا على أن نحسّن من فنّ الحياة في هذه الأوقات الصعبة. وفي نهاية المطاف، مَن ذا الذي يُمكِنه قراءة هيغل خارج المنزل أصلًا؟.
الهوامش
1- كتاب “نظرية الحِكَم” (2019)، لـ أندرو هوي، من منشورات جامعة برنستون.
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.