مقالات

صداع الحقيقة بين إكسير المجاز وترياق الجسد: قراءة في شعر جاسم الصحيح 2-2

سامي العجلان

لتحميل المقالة :صداع الحقيقة بين إكسير المجاز وترياق الجسد – القسم الثاني

5- فِردوس هابيل المفقود:

في مواضع متعددة من شعر جاسم الصحيح نصادف ما يبدو أنه رثاء متأخر لابن آدم المسالِم الوديع الذي غادر الحياة مُرغَمًا على يد أخيه المستأثِر العنيف، ومعه غادرتْ فكرة: التسابق السِّلْمي النبيل على خيرات الحياة، استحال بعدها (هابيل) إلى أيقونة متعالية على الواقع: تُلهم؛ دون أن تتسيّد، وتُوحي؛ دون أن تتحكم، بينما تفرّغ (قابيل) بعده لقيادة العالم، ولأن الشعر بطبيعته: تطلُّع لما لم يحدث، فإن الكائن المسكون به سيظلُّ أكثر الناس تعلُّقـًا بهذا الفِردوس السِّلْمي المغزول بالأماني والكلمات؛ كلما أرعبتْه شفرات السيوف المشرَعة، وحاصرتْه أنهار الدم الجارفة، وفي (رقصة عرفانية) متوقَّعة يقول الشاعر:

في النشيدِ الحرِّ نمشي كلّما         سـاقنا (قـابيلُ) نحـو المـذبحِ

الخساراتُ إلى هاماتِنا         تتعالى، والردى لم يربحِ

حسبُ (هابيلَ) بأنْ ألهَمَنا         فكرةَ المـوتِ النبيلِ الأريحي

وهو إلهام ما يزال يتجدَّد كلَّما أعاد العالم التذكير بوحشيته: «هنا نعشُ هابيلَ ملْء المكانِ وغِربانُ أحزاننا عاكفاتٌ عليه.. فهل يستطيع الغرابُ اختصارَ المراثي على رِيشِ عتْمتِهِ الطائرةْ ؟».

وفي ديوانه الأخير يتراءى له جدث هابيل المقتول كرُفات أبدي لكلّ القِيَم والمثاليات التي عجز البشر عبر تاريخهم المترامي أن يرتقوا إلى آفاقها، وأن يمتثلوا لها ويجسِّدوها -حقيقةً لا ادعاءً- في عالمهم الأرضي المتكالب، وفي كسرٍ لغوي لا يخلو من دلالة يؤنِّث الشاعر لفظ (الرُّفات) عِوَض تذكيره؛ وكأنما يراه جمعًا مؤنّثًا لكلِّ القِيَم والمثاليات المقبورة:

نحن الرُّفاتُ التي حجَّ الغرابُ لها         حجًّا حكيمًا فلا فسقٌ ولا رَفَثُ

ما كان إلّا نبيًّا حيث حُجَّتُهُ         روح الإخاءِ ومِن آياتِهِ (الجَدَثُ)

أهدتْ وصاياهُ مِيراثَ السماءِ لنا         لكنّما نحن لم نحفلْ بِما نَـرِثُ

ومِن هنا: مِن هذا الحِداد الكوني على فقْد (هابيل) انبثق الشعر في العالم، ونظمت الإنسانية أُولى مراثيها الباكية:

الشعرُ مِن (هـابيـلَ) جاءَ كأنّما         أُولى قصـائـدِنا قصيدةُ فـقْدِهِ

فمِن مرثيّة (هابيل) الأزلية في أعماقه، ومن ميراثه السِّلْميّ المبدَّد يمتح جاسم رؤيته الشعرية، وهنا تحديدًا يلتقي مع الرؤية الصوفية للعالم؛ وبخاصة في القِيَم المرتبطة بالتسامح، وإنكار الذات، والتوحُّد مع المشترَك الإنساني الكُلّي: شعورًا، وانتماءً، ومسؤولية؛ ولهذا يرى في قصيدته (فحيح في غابة الذاكرة) أنّ تناحر الغُزاة والطوائف على أرض لبنان ليس ذنبهم فحسب؛ بوصفهم: آخرين، بل إن الذات بطريقة أو بأخرى تتحمّل نصيبها الإنساني من هذا الإثم المشترك:

زُوراً أبرّئ نابي إذْ أُبرّئه        من النيوبِ التي اجْترَّتْكَ في العلفِ

كلُّ الغُزاةِ الأُلى كرَّتْ جحافِلُهُم        عليكَ كرَّتْ وأيمُ اللهِ مِن طَرَفي

وعند جاسم يبدو أن قربك من فهْم (الآخر) وتقبُّل اختلافه عنك يعتمد على مقدار المسافة التي تضعها بينك وبين ذاتك؛ كأنّ التوحُّد الصوفي مع (الآخر)، والانسجام مع فكرة وجوده: حضورًا، ومشروعيةً، وفاعلية يقتضي خلْخلة هذه الوحدة المتخيَّلة التي تتصوّرها الذات عن نفسها، أي أنك لن تفهم حكمة التنوُّع في البشر؛ ما لم تدرك وجود هذا التنوُّع ذاته داخلك؛ متجاوزًا التصوُّر الزائف عن النفس بوصفها: كتلة واحدة مصمَتة، ولن يحدث هذا إلّا بالتأمُّل المتجرِّد الذي يُعيد تأويل الذات كلما اختبرتْ معنى جديدًا، أو خاضت تجربة فريدة، أو اصطلتْ بجذوةٍ من مِحَن الحياة:

أبداً يُؤوِّل نفسَه متجرِّدًا        مِنها فيُوشِكُ أن يكونَ سِواهُ

يزداد كَيلَ تأمُّلٍ في ذاتِهِ        مِقدارَ ما يزدادُ كَـيل شَقاهُ

وسيدفعه هذا التأمُّل الاستبطاني إلى استنطاق الذات عمّا تختزن داخلَها من ذوات:

فساءلتُ حتى حيرتي: هل أنا هنا        نزيلُ كياني، أم هنا الآخَر الضِدُّ ؟

من إدراك هذا (التنوُّع في الوحدة) تتكشّف لنا (الوحدة في التنوُّع)، وبهذا الوضوح في الرؤية ستدرك الأنا أن أيّ نقد للآخر يؤول في النهاية إلى نقد الذات، وإذا لم تتلطَّف الحكمة هنا لتخفِّف من غُلَواء المفاصلة؛ فإنّ (التدمير الذاتي) هو محصّلة هذه المواجهة:

حتى متى وأنا أشكو غيابَ (أنا)          كُلِّي هنـاكَ ولكنّي أُقيمُ هنا

أنا الـمجنَّد في جيشٍ يُقاتِلني          فيـا إلهيَ: هَـبْني القُـوّةَ/الوَهَنا

أوحتْ ليَ الحربُ ألّا أدّعي سَفَهًا          فهْمَ (الحسينِ) إذا لم أفهمِ (الحسَنا) !

ولا بأس أن يتناهَى هذا التأمُّل المتجرِّد إلى مستوى: نُكران الذات، فهذا بالضبط (ما وراء حنجرة المغنّي) الذي يُطرِب سامعيه بشدْوه، بينما يسري الشكُّ داخله في معنى ما يصنع وقيمته وجدواه:

لا يعرف الناسُ مِنّي غيرَ حنجرةٍ        يا ليتَهم عرفوا ما خلْفَ حنجرتي

أنا الجمالُ الذي عيناه تُنكِرهُ       هل بعد ذلك للنُّكْرانِ مِن سعةِ ؟

إيمانًا بالإنسان في كُلّيته، وسعيـًا إلى الضيافة المتبادلة بين الذات والآخر كتب جاسم شطرًا كبيرًا من شعره، ولهذا يقول في ديوانه الأخير: «جاوزتُ وزنَ القافياتِ فغايتي.. ليست سوى أن يُوزَنَ الإنسانُ»، وبتصويرٍ يبدو فيه وكأنه يتساقى خمرة الحقيقة مع عمر الخيام يقول:

وقبل تبادلِ الأنخابِ حولي        شرِبتُ على هوى الإنسانِ نخبي

ولم أبرح بهذا الحانِ أُومِي        بكأسي: يا فتاةَ الحانِ صُبِّي !

وربما يكون المحرِّض الأكبر على هذا الانتماء للإنسانية عند الشاعر: أوجاع البشر ومآسيهم المتشابهة؛ ولهذا يقول:

أبكي على البشر المنثورِ في زمنٍ        عرّى الخليقةَ من وزنٍ وتقْفيةِ

ويمضي جاسم في شوط التعاطف مع البؤس إلى آخره، حتى يتراءى له أن راهبًا لاذع الشفقة شجيَّ التعاطف يسكن بين أضلاعه:

ترهَّبتُ من فرطِ (المسيحِ) بداخلي       فكادتْ على اللاشيءَ تجري مدامعي

وهذا الانكسار الجيّاش مع أوجاع الناس وتنهُّدات البائسين هو زاد (الشاعر المتشجِّر بالكائنات)، والسبب الأبرز لمشروعية صوته الشعري:

زيتُ القناديلِ الحزينةِ زيتُهُ        وضِياءُ مِشْكاةِ الهمومِ ضِياهُ

كلُّ الذين تفرَّقوا بمجاهلٍ        في البؤسِ، لـمَّتْ شَملَهم نجْواهُ

يجتاحهُ وجعُ الحقيقةِ كلَّما        سقطتْ على قاعِ الحقيقةِ آهُ

أنفاسُ كلِّ المتْعَبينَ هواؤُهُ         فتكادُ تُحرِقُ نايَهُ رِئتاهُ

لكن هل كان الشاعر متجاوبـًا باستمرار مع (أنفاس المتعبين)، ومتمثّلاً على الدوام هذه الرؤية الكونية عن (وحدة التنوع وتواؤم الاختلاف) بين البشر، ومستعدًا لتحمُّل أعباء الالتزام بهذه الرؤية؟

ليس تمامـًا، ومن يقرأ شعر جاسم سيفتقد مثلاً حرارة التعبير عن كوارث الشام وفجائعه المعاصرة، بينما تضجُّ كثير من قصائده بأحزان العراق ومآسيه التاريخية، وكأنّ هذه المفارقة في الموقف ضريبة لازمة لحرص الشاعر المستمر على التعبير عن الانتماء والانضواء الذي كان يمضي في مسار مُوازٍ مع تعبيره المتكرر عن الاستقلال الذاتي و(مزاج الضد) ومُجافاة أوهام الجموع. صحيحٌ أن الدلالة الشعرية أرحب من أن تُحصَر في موضوعها المباشر، وأن الشعراء كثيرًا ما يستعيدون حدثـًا تاريخيـًا للتلويح الرمزي نحو واقعٍ ضاغط؛ ولكنّ ما نتحدث عنه هنا هو: حرارة التعبير، ولوعة النحيب على العراق خصوصًا لا تخطئها عين المتلقي لشعر جاسم.

ومن ميراث هابيل أيضًا: يتغنى الشاعر كثيرًا بثبات الموقف، والصبر الجميل، والتضحية من أجل المبدأ، فثبات الموقف هو الذي يجعله منتميًا دون تردُّد لخصوبة التجربة التي خاضها على امتداد العمر؛ بكل ما اشتملتْ عليه من اختيارات ومصاعب وعثرات:

لو خيّرتْني الأرضُ نحو بدايةٍ         أخرى، فذاتَ بدايتي أختارُ

والصبر الجميل المستلهِم للعِبَر هو الوصيّة الثمينة التي يقدمها الشاعر لابنه في كيفية التعامل مع وطأة المعاناة وعذابات الحياة: «وإنْ عذَّبتْكَ الليالي.. فثقِّفْ عذابَكَ.. ثقِّفْ عذابَكَ كي يصقلَكْ»، وبهذا الصقْل يغدو العذاب (المثقَّف) جسرَ انعتاق نحو حدائق الروح:

يُبشِّرني قُربي مِن الشَّوكِ أنَّني         غدوتُ –مدى جُرحٍ- مِن الزهراتِ

فلا غروَ أن أمشي إلى الجرحِ مِثْلما         إلـى رقـصةٍ مـوزونـةِ الـخـطـواتِ

والرضا بالتضحية المبدئية هو الذي يجعل الشاعر حفيًّا بالمعاناة الناتجة عن الترفُّع، متأبّيًا على إغراء التملُّق، جذِلاً ببعض الجراح التي تؤكد إيمانه بمبادئه:

بعض الجراحِ إذا كاشفْتُها انكشفتْ        في العمقِ عن عمقِ إيماني بمعركتي

لا بدّ من طعنةٍ كبرى أقيسُ بها        مقدارَ ما تنتمي روحي لأوردتي

عندي من الزيتِ ما أُذكي به قمراً        لكنني لم أُضِئْ وجهـًا لطـاغيةِ

تظلُّ من أحرُفي (لاءٌ) مُسلَّحةٌ        إذا الحروفُ تأبّتْ حملَ أسلحتي

والشاعر يؤكد هذا التأبّي في قصيدته الأخرى (غُربات)، وعنوان القصيدة دالٌّ على الضريبة الملازمة لهذا التمنُّع:

شُلَّتْ يدُ الإغراءِ وهي تُشيرُ لي        كي أشتري قمرًا ببيعِ سماءِ

عاصٍ على الإملاءِ منذ تدحرجتْ        عينايَ في كُرّاسةِ الإملاءِ

كما يُعلن بوضوح أن فمه لا يسع سوى لسان الحب، وأنه «احتزَّ لسانَ المديح»، وكأنما يستحضر هنا جواب عمر بن أبي ربيعة لسليمان بن عبدالملك، نعم؛ قد يجمح الشاعر في تصوير غواية الجمال؛ ولكنه لن يخون مبادئه المناهِضة للعنف والعسف: «غيرَ أني لم أزغرِد قطُّ في سمعِ المجازِر»، ويطّرِد هذا الموقف المترفِّع وصولاً إلى ديوانه الأخير، فحين يُقيم (سهرة في حضن الأغاني)؛ فإنه لا ينسى هذا الالتزام المبدئي:

أنا لا أغنِّي للفُؤوسِ، فربّما         أبكيتُ غُصنـًا في الحقولِ يُهانُ

كم بلبلٍ غنّى بحضرةِ حاطِبٍ         فتجرَّحتْ بغِنائِهِ الأغصانُ

ويبدو أن الشاعر كان يتعاهد نفسه على مدى زمني طويل بهذا الالتزام المبدئي، ففي ديوانه الأسبق (كي لا يميل الكوكب) نصادف الصورة نفسها تقريبًا، ومعها تتكرر نبرة الإدانة للبلبل الغرِّيد في حضرة الحطَّاب:

قالت ليَ الأشجارُ في صرخاتِها         والفأسُ تحطِبُ أُمنياتِ الغابِ:

ما نفعُ زغردةِ البـلابـلِ فـي الـرُّبــا         إنْ لـم تُـرقِّـقْ مُـهـجــةَ الـحـطَّــابِ ؟

ويغذِّي هذا الالتزامَ نفورٌ غائر في النفس من الظلم، وتوق مؤرِّق إلى تحقيق العدالة بين البشر، وإنه لَيتأمّلُ هبوب الريح في اليوم العاصف، فلا يسترعي نظره شيء أكثر من عدالة هذا الهبوب في توزيع تياره الهوائي على كلّ ما يمرّ به:

عدالةُ الريحِ في توزيع ثروتِها         تُغري بأنْ أتمنّى الريحَ مقبرتي !

بناءً على تحقُّق هذه القِيَم تتشكل –عند جاسم- مشاعر كثيرة؛ كشعور الانتماء مثلاً: الانتماء الذي يبدو أنه لا محيدَ عنه؛ إذْ هو جذْر ثابت في الكينونة:

ولو كانت الصحراءُ ثوبًـا خلعتُهُ        وألقيتُها عنّي.. ولكنّها جِـلْـدُ !

غير أنه الانتماء نحو جوهر الأشياء التي تتعزز بها قيمة الإنسان وكرامته؛ بعيدًا عن المزايدات وطنطنة الشعارات؛ ولهذا يقول في قصيدته (الوطن بأبجدية ثانية):

هم علَّقوكَ على السحابِ شِعارا            وأنا غرستُكَ في الترابِ بِذارا

وهنا حدودُك في المشاعرِ داخلي:            مقدارُ ما نحيا معاً أحرارا

وبناءً على هذه القِيَم أيضًا تأتي مركزية الحب في رؤيته الشعرية، فالحب عند جاسم هو المظلَّة الواسعة التي يترعرع تحت أهدابها أنبل ما في الإنسان من قِيَم ومشاعر، إنه «وردةُ خالقٍ.. سقطتْ إلينا من حديقةِ غيبِهِ»، فهو أسطورة البدء، ونبوءة الانتهاء، ومغزى الولادة المتجددة للبشرية:

منذ اغتسالِ الأرضِ في طوفانِها         مِن كلِّ ما حملتْ مِن الأدرانِ

والحبُّ كان (الفُلْكَ).. كان جميعَ (مَن ركِبوا).. وكان حقيقةَ (الطُّوفانِ)

والحب أيضًا هو (عمود الصبح) الذي ينبثق من أعماقنا؛ ليضيء طريقنا المتعثِّر في وادي الليل البهيم: «تُهنا بِوادي الليلِ ما بين البدايةِ والختامْ.. كنّا نفتِّشُ عن طريقٍ نحو جوهرِنا.. وكان الحبُّ مثلَ عمودِ صبحٍ في جوانحِنا استقامْ».

بيدَ أن الكثيرين غير مستعدين بعد لاستقبال هذا النهر الباهر من الضوء، لقد ألِفوا التعثُّر الأعمى في (وادي الليل)، والأكفّ المسترخية في كسل أضاعت -دون أن تعبأ- مفاتيح القلوب:

ما الحبُّ ؟ قلتُ وأوجِزْ.. قال لي: جَرَسٌ         في القلبِ لم نتعلَّمْ كيف نقْرعُهُ

والشاعر يرى أن الحب أعمق جذرًا وأبعد أثرًا من أن يكون مجرد عاطفة وجدانية، فإذا كان «الحبُّ أن نلتقي في اللانهاياتِ» كما يقول جاسم؛ فإنّ هذا يعني أن الحبّ سبيل للانعتاق من كلِّ ما يقيِّد حرية الإنسان:

ما قلتُ أنّ الحبَّ يُشرِقُ وحده         لا حبَّ حتى تُشرِقَ الحريَّةْ

لا حبَّ حتى ننتمي لقلوبِنا         ونـحُـزَّ رأسَ الفكرةِ القبليَّةْ

الحبُّ طِفلٌ (هاشميٌّ) ثاكِلٌ         أَسَرتْه عينُ صبيَّةٍ (أُمَويَّةْ)

وسيُدندِن الشاعر حول معنى البيت الأخير أكثر من مرة في شعره، فها هو مثلاً وبتعبير لا يخلو من الظرافة يقول للمحبوبة (المختلفة): «أحِبُّ لأجلِكِ كلَّ الصحابةِ والتابعين.. فلا تأنفي من مشاركتي في عزاءِ الحسين.. دعينا نُراوِغُ مِن حولِكِ العَسَسَ الأمويَّ ومن حوليَ الحرسَ الصفويَّ.. دعينا نُراوِغُ هذا الحصارَ الكبيرْ».

وهذا الحصار الكبير للحب هو ما سيدفعه في قصيدته المجلجِلة (دعوا الأرضَ عُريانةَ في يديَّ) إلى الإعلان -النادر في صراحته- عن ضِيقه ببكائيات الولاء:

دعوا الأرضَ لي يا حُماةَ السماءْ          أُوسِّع رُقْـعـتَها بـالـغـنـاءْ

ولا تزعموا أنني قد خُلِقتُ          لأكمِلَ في الأرضِ نهرَ البكاءْ

دعوا الأرضَ عريانةً في يديَّ          ولا تُـلـبِـسـوها قـمـيـصَ الرثاءْ

لكم ما رواه المدى من نجومٍ         مُسطَّـرةٍ في كـتـابِ الفـضاءْ

ولي أنجُمي: حبُّ هذا الترابِ         جمالُ الغِواياتِ.. سحـرُ النساءْ

لـيَ الآدمـيَّـةُ مِـن بُــؤسها         إلى بؤسها.. فالولاءُ ابتلاءْ

لمـاذا تـريدون أن تـنحنـوا         بـرأسـي على طـبـق (الاِنتماءْ) ؟

وما أنا ممن يُطيق الرؤوسَ         إذا اتخذتْ هيئةَ الاِنحناءْ

في النهاية ستلتقي هذه الخيوط في نفس الشاعر: خيوط القِيَم المبدئية، والرؤى المتحوِّلة، والمشاعر الجيّاشة تجاه الحياة وتمثّلاتها الإنسانية؛ لتنسج فِردوسه التأمُّلي المتمايز، وآخَريّته النزّاعة نحو الاختلاف، وموقفه المستقِلّ (العابر في التآويل):

مِزاجي مِزاجُ الضدِّ حتى كأنّني        تخمَّرتُ في قبْوِ المِزاجِ الـمُمانِعِ

أنا آخَـرٌ في الأرضِ، لو لم أجِد بها        سِوايَ، لثارتْ ضدَّ نفسي زوابعي !

يُراوِدني إحساسُ مَن ليس ينتمي        فأهزأُ مِن كفِّ الولاءِ الـمُبايعِ

وحيدٌ وتُؤذيني مِن العُمقِ وحدتي        إذا لازمتْني كالقرينِ الـمُتابِعِ

وسيغنِّي هذا (اللامنتمي) بإصرار لافت خارج (لحن العشيرة وسطوة السُّنن)، فهو كما يقول: «لحنٌ أضاعَ من القبيلةِ لحنَها.. وأشاحَ عن إيقاعِها بِغِناهُ»، فقد «نَسَفَ الوصايا»، و: «سحبتْه روحُ الفردِ مِن أسلافِهِ… واجتاز فخَّ الاِنتماء»، مُكتفيًا من العلم بأن يكون: «سؤالاً.. ولن أمشي مع الخِضْرِ إمَّعةْ»، ومقتنعـًا بأن الذات هي الدليل، وأنّ «مَن لم يجد ذاتَه فيهِ فلن يجِدا»، ولهذا يتساءل:

ما نفعُ من حرثوا الدنيا بِفكرتِهم          لكنّهم في عميقِ النفسِ ما حَرَثوا

الباحثون تضاريسَ الوجودِ، وما          مرُّوا على ذاتِهِم يومًا، ولا بحثوا

من هنا يأتي استدعاؤه لرموز الصوفية كالحلاج، وجلال الدين الرومي؛ لا بوصفهم (أقطابًا) متبوعين، بل بوصفهم روّادًا سابقين في البحث عن الذات، وفي جرأة التعبير الحرّ عن الرؤى المستقلة، ومن هنا سيُوصي قارئ شعره بالاستقلال الذاتي وتجاوز الحدود التي يضعها الآخرون: «كنْ أشدَّ هبوبًا مِن أن يتَّسع لك تيَّار»، بهذه العبارة/الوصيَّة يصدِّر قصيدته عن سقراط؛ مستخلِصـًا الموقف السقراطي المصغِي لأسئلة الذات التي طالما نغَّص بها على الواثقين بداهاتهم:

كنْ شيخَ ذاتِكَ في الحياةِ ولا تدع        سُــقْـراطَ ثـانيةً يـموتُ بِسُمِّهِ

على مستوى المحاكمة المنطقية لا يخلو هذا التوجيه الشعري من التناقض، فبأسلوب الوصايا الأمريّة: كنْ (يُوصي) الشاعر قارئه بأن يمارس استقلاليته ويتحرر من وصاية الآخرين عليه! ومع هذا يظلُّ هذا الموقف كاشفـًا عن احتفاء الشاعر باستقلال الذات: ذاتِه هو على الأقل، وفي ديوانه (نحيب الأبجدية) يصِل بهذه الاستقلالية الذاتية إلى أقصاها؛ مُتاخِمًا الرؤية الوجودية عن: أسبقية الوجود على الماهية، فيقول:

ماذا أكونُ أنا إذا وُلِدتْ هنا         في الأرضِ قبل ولادتي آرائي ؟

عارٌ على مثلي إذا هو لم يكنْ         في نـهجِـهِ طـفـلاً بِـلا آبـاءِ

وسيُقارب جاسم هذه الرؤية مرة أخرى في ديوانه اللاحق (ما وراء حنجرة المغنّي)، مصوِّرًا تحوُّلات التكوين على مِرجل الصيرورة:

هنا غيمُ تكويني يفورُ فلم أزلْ         على مِرجلِ الأحلامِ يخلُقُني الوعدُ

وكأنما يستعيد الشاعر هنا حديث أدونيس المتكرر عن الهوية المتحوِّلة والكينونة المؤجَّلة، أو تعبير محمود درويش في قصيدته (طباق) عن جواب إدوارد سعيد له حين سأله عن معنى الهوية: «إنَّ الهُويَّة بنتُ الولادةِ.. لكنَّها في النهايةِ إبداعُ صاحبِها، لا وراثة ماضٍ».

ولكنَّ هذا التحوُّل المستمر في الهويَّة باهظ الثمن؛ إذْ يفقد صاحبه امتياز الأُلفة مع العالم، أو بتعبير أدقّ: الأُلفة مع تصوُّر مستقر للعالم، وتستجيب النفس لاضطراب صورة العالم من حولها، فتضطرب وتتشظّى وتتباعد مسافات التلاقي بين أرجائها:

جسري طويلٌ إلى نفسي وقد قَصَرتْ         عن أن تُتِمَّ بِناءَ الجسرِ أحجاري

لا بـدَّ أن ألـتـقـي بـالـنـفـسِ فـي سَــفَـرٍ         مهما تـبـعـثر عمري بين أسـفـاري

وبتعبير جاسم الموجز: (خرجتُ ولم أعدْ)، وهو عنوان إحدى قصائده التي يصوِّر فيها مسيرته التائهة في البرزخ الممتدّ بين الروح والجسد: «أنا لم أصِلْ يومـًا إلى روحي وضيَّعتُ الطريقَ إلى الجسدْ»، هو إذن «السقوطُ بِبِئرِ نفسي»؛ كما عبَّر مرة، وهي أيضـًا متاهة التشظِّي التي يصوِّرها في موضع آخر فيقول:

بعضي تبرَّأ من بعضي مُكابرةً        يا جاسمَ الروحِ شيِّعْ جاسمَ الطِّينِ

لكن أيُّ (الجاسمين) في الواقع يُشيِّع الآخر؟ ما يشكو منه شعره دائمـًا هو اضمحلال الرفْرفة الروحية، وفي قصيدته (ما وراء حنجرة المغنِّي) يحاول أن يجد تفسيرًا لهذا العجز عن الرفْرفة:

لا أدَّعي الـوحيَ عُـلْـويَّ الـمدى فـأنـا          لم أنتسِبْ لسماءٍ غيرِ جمجمتي

نقصٌ مِن الريشِ في روحي يـهمُّ بِـها           نـحو الـتـرابِ إذا هـمَّــتْ بـرفْـرفـةِ

ويبدو الشاعر في مواضع كثيرة من شعره متصالـحـًا مع هذا النقص وذلك التشظّي، وبصراحته المعهودة سيُقِرّ أمام المحبوبة بكومة التناقضات داخله، وسيقدم لها مُنتشِيًا (خارطة غزلية) ترشدها وسط صحراء التيه التي تشكِّل شخصيته:

ستَرينَ نِصفي الواقـعيَّ خديعةً          وحقيـقتـي في نِـصفيَ السُّـريـالي

لا تكرهي فـيَّ التـنـاقُضَ، إنّني          رجلٌ تشكَّلَ مِن خليطِ رِجالِ

في داخلـي تجـدين نـوحـًا وابـنَـهُ          يتحـاورانِ، ومــوجُ صمتيَ عـالِ

تجدين يوسفَ في جميلِ صِفاتِهِ         تجدين قُـبحَ (الإخـوةِ) الأنـذالِ

في داخلي تجدين ألفَ تناقُضٍ         أسـمـو بِــهـا فــأُحيـلُـها لـجـمــالِ

بتعويذة الفن سيُجمِّل العيوب والنقائص، ويُحيلها إلى لوحة أنيقة من التأمُّل الشعري، على أن معنى (جماليات النقص) ليس بعيدًا عن أجواء الشاعر، فلطالما تغنّى بالضعف واحتفل بالانكسار، وتصالح مع فكرة الهزيمة ذاتها:

عـوَّذتُ كـلَّ هـزيـمةٍ بـتميمـةٍ        وسكنتُ بين هزائمي وتمائمي

ومع هذا فإن لمكابرة التخييل الشعري حدودها القصوى، وسيواجه الشاعر في النهاية تمزُّقه الداخلي وإحساسه الغامر بالانطفاء، وأمام إغراء الصبوة الجديدة سيقول:

ما كنتُ أحتاجُ إلى نجمةٍ        لو لم أكنْ ممتلئًا بالأُفُولْ

وسيقوده التولُّه الأخرس في (مرمى الانتظار) إلى إدراك الفرق بين غبطة السكينة وعجز السكون:

وسكنتُ لكنْ ما سكنتُ، وإنما        شــتَّـانَ بين سكينتي وسُكونـي

وستكشف له أخيرًا مِرآةُ المصائر والأقدار البون الشاسع بين مثاليات فِردوسه المفقود وضرورات الواقع الـمُعاش:

تُـــؤوِّلـنـي حـكــايــةُ كـلِّ مــاءٍ       يـودُّ الجريَ.. والأنهارُ كَسْلَى !

 وأمام خيبة الآمال وتهاوي بساط الريح من تحته سيمدُّ هذا الحالِم المرتبِك يده نحو المدى متسوِّلاً وطنًا يحضن وحشة اغترابه، ومُعترِفًا -هذه المرة- دون مُواربة بمرارة الهزيمة:

ليَ وحشةُ الغصنِ الجميلِ إذا اغتدى        سـهمًا بِـأحـلامِ الـرُّمــاةِ مُـحـمَّـلا

أجْـثـو هـنـاك علــى رصيـفِ حـكـايـتـي        وأمــدُّ كـيـسـًا لـلـمــدى مُـتـســوِّلا

وطـنًا لـوجهِ اللهِ يــحـضـنُ غُـــربـتـي        وطـنًاً يـجيءُ مِن السماءِ مُـنـزَّلا

تُرى هل وجد الشاعر هذا الوطن المحتضِن لغُربته اللاذعة؟ مع جاسم يبدو أن المرأة هي أول ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن الأوطان الحاضنة؛ ولكنّ شعره يكشف أيضًا عن وطنين آخرين يحتضنان غربته، وهما: الصداقة، والموسيقا.

أمَّا الأصدقاء فقد أهدى إليهم ديوانه الأثير (ما وراء حنجرة المغنّي): «إلى أصدقاء المقهى الضالعين في رِفقة الشاي وعِشرة القهوة.. الموبوئين بالشعر والشبهات»، وكتب عنهم في مقدمة هذا الديوان نثرًا أشبه ما يكون بالشعر الخالص، يصوِّر فيه إبحارهم الكونيّ ليلة الجمعة على شراع المقهى، حين «يأتي الأصدقاء شطرًا بعد شطر حتى تكتمل القصيدة»، ويتبارى هذا السرد النثري الرشيق مع قصيدة (الأصدقاء هم مطر الليل) -التي يضمُّها الديوان نفسه- في وصف هذا السمر السخيّ بعناقيد الحكايات والبوح والذكريات.

وأمَّا الموسيقا فهي عند جاسم: المرادف الإيقاعي لمعنى الحرية والانعتاق من كل القيود، ولهذا كان يقول:

حُرّيّتي في الموسيقا إنَّ أغنيةً        تكفي لأكسرَ أغلالَ الهُويَّاتِ

وبهذه القدرة الهائلة على التحرير «تقودُ الموسيقا قِطارَ الحياةِ» كما يقول الشاعر، فهي الوطن الذي يهاجر في أنغامه كلُّ من يروم الوصول إلى نهايات الوعي وأقاصي الإمكانات: «ليَ هجرةٌ في اللحنِ تأخذني إلى أقصى المصائرْ»، وهي هجرة لا تخلو من إشراق صوفيّ: «حين تختلط الموسيقا بِنا ويحرِّرُ الأسرارَ كشْفُ»، ولا تنجو من شطْحٍ عِرفاني:

وليَ الموسيقا أستشفُّ بِروحِها        روحَ السماءِ وجوهرَ الأديانِ

والشاعر لا يجد وصفـًا لما تصنعه الأغنية في نفسه أدقَّ من تعبير: الاحتضان والصفح والغفران؛ يقول ضمن وصف مسترسِل لشجن الغناء وتهويدة النغم في قصيدته (سهرة في حضن الأغاني):

في كلِّ أغنيةٍ أحِسُّ سواعدًا        تـمتـدُّ لي، وتـضمُّني أحضانُ

في كلِّ أغنيةٍ ضريحُ خطيـئـةٍ        يُحثَى عليها الصفحُ والغفْرانُ

ولهذا لا يتردد الشاعر في الإعلان عن انحيازه لمملكة الإيقاع؛ مهما امتدتْ أطرافها وتناءتْ أصقاعها:

آمنتُ أنيَ للموسيقا أنتمي        سيّانِ شرَّقَ لحنُها أو أشملا

وسينبهر جاسم أكثر من مرة وهو في مجلس السماع؛ حين يتأمل هذه العلاقة الفريدة بين العازف والمعزوف، متتبِّعـًا أصداءَها القصيَّة في نفوس المتلقّين، وفي ديوانه (أولمبياد الجسد) قصيدة كاملة يصف فيها عزف الفنان عبدالوهاب الحسن، وما صنعه في نفسه ونفوس الحاضرين:

اعـزِفْ على الذنبِ حتى يغفرَ القدَرُ         بعضُ الذنوبِ بِحُسنِ العزفِ تُغتفَرُ

أُصغي إليكَ وخيطُ القلبِ تسحبه          تـنهيدةٌ من أعالي القهـرِ تنحدِرُ

روحي على خَـرَزاتِ اللحنِ عـاكفةٌ          جـمعًا، ومِـسبحـةُ الأنـغـامِ تـنـتـثـرُ

اصـعــد بِــنـا جـبـلاً نــجـلــو خـطــيـئَـتـنا          واهـبِـط بِـنا واديـًا نـبكي ونــعـتـذِرُ

وأنـتَ تــغــسـلـنا شَــدوًا بِــحـنـجـرةٍ          فـي مـائـها عـالَـمُ الأنـهارِ يُختصَرُ

مـا بـينَ يُــسـراكَ والأوتــارِ خــابــيـةٌ          مِن الـعنـاقِ بِـها الأسـرارُ تُـعتصَـرُ

والريـشةُ الـبِـكْـرُ فـي يُـمناكَ تعطفُها           غـيـبـوبـةٌ، ويُــدلِّـي رأسَـها الـخدَرُ

باللهِ يـا ثَـمِــلَ الـكـفِّـيـنِ كـم بــقـيـتْ           كفَّاكَ في ملكوتِ الغيبِ تختمِرُ ؟

أغمضتَ نجمينِ مِن عينيكَ فانكشفتْ           لكَ النجومُ التي لا يدرِكُ البصرُ

وسيتكرر هذا الانبهار الإيقاعي مرة أخرى مع (عازف الناي)، وسيتقطَّر الشعر: لوحةً تصويرية لهذه المكاشفة المتبادَلة بين جرح العازف وأنغامه:

كــأنّـي بِــهِ فـي مـهــرجـانِ جِــراحِـهِ         يُكاشِفُ جرحًا حيثُ جُرحٌ يُكاشِفُهْ

إذا يـنـتمي فـالنايُ يـغـدو أخـًا لـهُ         شـقــيـقـًا، علـى جَــورِ اللـيـالـي يُـحـالِـفُـهْ

يصيحُ: كِلانا يا شـقيقي مُثـقَّـبٌ         بِـأحـزانِــهِ: نـايُ الـمُـغـنِّـي، وعــازِفُــهْ

ومن يُصغي إلى هذه المناجاة الخفيّة بين الشقيقين المثقّبين سوى شاعرٍ مثقَّبٍ –هو الآخر- بغربته المثالية؟

وبعد؛ فهل يمكن أن يقدِّم لنا هذا المحور (الاغترابي) تعليلاً إضافيـًا للظاهرة التي رصدها المحور الأول من هذا المقال: ظاهرة انهماك هذه التجربة الشعرية في التصوير الحسي لأعراس الجسد؟ هل يمكن أن تكون هذه الظاهرة الحسية أقرب إلى تعبير مُناكِف عن شعورٍ بالخيبة واليأس من تحقُّق بعض القِيَم المثالية في الواقع؟ هل اتساع التعبير عن حضور التحقُّق الحسي تعويضٌ عن غياب التحقُّق المعنوي؟

6- رقصة الشعر وظِلال الأسلاف:

بدهشةٍ متجددة لا تخلو من رعشة الوجل والتولُّه والإكبار: هكذا ينظر جاسم لهذا الكائن المجازي الذي يُسمَّى: الشعر، لا اعتياد هاهنا ولا أُلفة؛ حتى بعد مرور ثلث قرن من مزاولة الصنعة، فأنت هنا تتحدث عن خلاصة الحكمة الإنسانية، عن: البرق الداخليّ الذي يضرب بسوطه الناريّ بعيدًا، فيخترق متاهة الرؤى، ويشقُّ عباءة الأسرار، ويغزو عوالم المستحيل، عن: «ضمير الأرضِ مسنودًا بِآلافِ الضمائرْ»، عن: روح المقاومة النبيلة والنبوءة البعيدة التي تتعالى على انكسار اللحظة:

هو الشعر صوتُ الخلاصِ القديمُ        يـصـيـحُ بِـنـا: قــاوِمـوا.. قــاوِمـوا

و«الشعرُ طِفلُ الروحِ وابنُ سؤالِها»، فهو وليد البكارة ودهشة الاكتشاف: بكارة الخفقة الأولى، واللهفة الأقدم، واللوعة العتيقة: لوعة السقوط الإنساني الفاجع نحو العالم الأرضي:

الشـعــر أولُ صـيـحـةٍ مــولــودةٍ         مِن حزنِ آدمَ مِن فجيعةِ طَـردِهِ

ما جاءَ إلّا مِن مخاضِ ندامةٍ         بَذَلَ الأسى فيها عُصارةَ كـبْدِهِ

شاءت تُمهِّدُهُ الحقيقةُ فـارتمى         مِن كفِّها، وانسلَّ خارجَ مَهْدِهِ

من هذه المرجعية الإنسانية للشعر تتحدد طبيعته عند جاسم، فهو ليس نصـًا لغويًّا يُقاس بِمسطرة القواعد النحوية، إنه في الأساس فعل تحرُّر من القيود الشكلية:

نُـحــرِّرُ يـنـبـوعَ الـمجــازاتِ كـلَّـمـا         أعاقتْ خُطاهُ صخرةُ النحوِ والصرفِ

وحين يكون (الشعراء بكامل أناقتهم) –وهذا عنوان إحدى قصائده- فإن أزكى هداياهم إلى الحياة أن يُحرِّروا مفرداتها من (قبضة المصطلح) بدلالته المألوفة والمسبَقة، فهناك معانٍ لا يمكن التعبير عنها إلّا بالإيماء والإشارة، «وما يقتضيه الشعرُ مِن صمتِ العبارةْ»، كما أن هناك معانيَ شعرية لا يمكن التلويح بها إلّا عبر ائتلاف التنافر واتساق التضاد:

ما الشعـرُ إلّا رؤيـةٌ أسـكـنـتْ      في جسدِ القيصرِ روحَ المسيحْ

وهذا كله يجعل الشعر عصيًّا على الفهم القريب، وكلّما ادّعى المفسِّرون أنهم أمسكوا بمعناه المتفلِّت ودلالته الهاربة: «قطعتْ رحلةَ الكلامِ (ولكنْ)»؛ ذلك لأن الدلالة الشعرية ما تزال ترسب نحو القاع كلما تناوشتْها شِباك الـهُواة على سطح الماء:

والشعرُ –منذُ الشعرِ- لم ينبتْ على      سـطـحِ الـكـلامِ، وإنـمـا فـي قـعـرِهِ

وبما يشبه مفهوم (الطباق) عند إدوارد سعيد المؤسَّس على فكرة: التناغم بين لحنين متعارضين في الموسيقا يصوِّر جاسم القصيدة وكأنها نسيج مزدوج التركيب، فهي نصٌّ ممكن يحتجب خلف نص متحقق، وبين النصين توتُّر راقص يعتمد على القارئ كي يلتقط تناغم الأضداد فيه: « مزِّقْ حِجابَ النصّ مزِّقْهُ.. فخلفَ النصِّ نصُّ.. ليس النهارُ إذا توهَّجَ غيرَ أضواءٍ تُرَصُّ… واصعدْ فضاءاتِ القصيدةِ مِن مدارجِ ما يعمُّ إلى معارجِ ما يخصُّ.. لكَ مِن خيالكَ ما يُكمِّلُ فكرةَ الصلصالِ.. فالصلصالُ نقْصُ… لكَ مِن خيالكَ ما يُؤَوِّلُ رعشةَ الكلماتِ.. إنَّ الشعرَ رقْصُ.. لكَ مِن خيالكَ ما يُجمِّلُ.. فالخيالُ بخاتمِ التأويلِ فَصُّ.. مزِّقْ حِجابَ النصّ مزِّقْهُ.. فخلفَ النصِّ نصُّ».

هكذا ينافح جاسم وبحرارة لافتة عن الشعر: منزلةً، وأثرًا، وتصعيدًا للمعنى والتأويل، وهناك في الواقع نغمة امتنان غامر للشعر ما تزال تتردد أصداؤها في قصائد جاسم، فمِن خلاله استطاع التعبير عن نفسه المتناثرة بين منعطفات الحياة وقوافي القصيد: «أودعتُ كلَّ عناصري في الشعرِ.. إنَّ الشعرَ (أنكيدو) الصديقْ».

نعم؛ إنَّ (جلجامش) المهموم بلغزِ الحياة وسرّ الخلود: «هو الذي رأى كلَّ شيء»، كما تستهلُّ الملحمة وصفها الشائق لرحلته الأسطورية «في تخوم البلاد»؛ ولكنَّ من أشعل (قنديل السؤال) داخله، ودفعه إلى اجتراح هذه الرحلة الممتدة نحو المجهول لم يكن سوى صديقه اللدود (أنكيدو)، حين سرى همود الموت في جسده وأخرس كلَّ ذلك العنفوان والصخب، رحلة جلجامش بكلِّ ما فيها من وَثَبات وتطلُّعات وحُدُوس لم تكن لتتحقق؛ لولا ظِلُّ «أنكيدو الصديق»، وكذلك هي رحلة جاسم داخل ذاته والعالم لم يكن لها أن تمتدّ وتتعمق؛ لولا مركب الشعر الذي شقّ له درب الرؤى وسبيل التحرُّر،كما جازَ بِه بحار الألم ومفازات الوجع، وأكثر من هذا: لقد أعطاه مِصباح الأمنيات وبِساط الريح، ودفعه دفْعـًا ليُفلت من قيود المكان، ويُعاند الزمان، فيستشرف النبوءة البعيدة: «غدًا يُفطِر الأملُ الصائمُ»، ويُطِلُّ من فجوة الحلم، فيغمره «فجرٌ نبيلُ الشُّعاع»، كما يستحضر مرابع الطفولة، مُتنزِّهًا بين أفيائها، وعائدًا بِها إليها:

هو الشِّعرُ أرتادُ الطفولةَ عبرَهُ          طريقَ رجوعٍ لا طريقَ تراجُعِ !

ولن ينسى جاسم هذه الأيادي البيضاء للشعر، وبكلِّ ما تمنحه إيقاعاته من رفْرفة علويّة سيصدح: «ورقصتُنا اليومَ كونيَّةٌ.. تَخَاصَرْ إذنْ أيُّها العالَـمُ»، وسيتغنّى بـ(رِيح الكتابة.. مِمحاة الضجر):

يا شعرُ يا ذنبَنا في الأرضِ نرفعُهُ         نحوَ السماءِ وندعو اللهَ: لا غَفَرَكْ !

يا شعرُ ثَـمَّ شُعـوبٌ مِن مواجعِـنا         قد انـقـرضْـنَ غداةَ الـعـالَــمُ ابـتكـرَكْ

نـشـمُّ رائـحـةَ الـمـنـفـى بِـداخِـلـنـا         مِـن فـرطِ مـا نـقْـتفي في ذاتِـنا أثـرَكْ

مـا كـان أفـقـرَنا رُوحـًا وعـاطـفـةً         لو لم يكنْ صانكَ التاريخُ وادَّخَرَكْ

من هنا فإن ممارسة الكتابة الشعرية هي عند جاسم نوع من الاستشفاء، حيث ينتشل المكتوب كاتبه مِن ضغط الواقع إلى أفق الحلم ورحابة الإمكان:

والحِبرُ ليس سـوى مَـمـرٍّ آمِـنٍ        كي يهربَ الإنسانُ مِن بَـلْواهُ

وبلْوى الحياة هنا ليست حـدثــًا عارضـًا، وإنما هي سِمة تكوينية أصيلة لها؛ بحسب التصوُّر المعرِّي الذي تشرَّبه الشاعر –كما أسلفنا في المحور الثالث- مع نكهة وجودية معاصرة؛ ولهذا نحن بحاجة دائمة إلى الشعر –بـمعناه الواسع- كي يخفِّف على نفوسنا وطأة الحقيقة:

حياةٌ لو رفعنا الشعرَ عنها        لألْفَينا الحقيقةَ (بِنتَ كلبِ) !

وألْـفَـيـنا ابنَ آدمَ لـم يُـغـادِرْ        غـريـزتَـهُ.. غــريـزةَ كـلِّ ذِئـبِ

وعلى امتداد دواوينه سيُدندِن جاسم مِرارًا وتكرارًا على هذا الوتر: الشعر ترياقٌ لأوجاع الحقيقة، والمجاز إكسيرٌ لجِراحات الوعي، وخَدَر التصوير دواءٌ لرعب التصوُّر، سيتساءل حينـًا: «أتُرى يُهدهِدُني المجازُ إذا الحقيقةُ روَّعتْ في داخلي قلبَ الغزالِ؟»، وسيُجيب حينـًا آخر: «أحتاجُ القصيدةَ كي أُطبِّبَ بعضَ أوجاعِ الحقيقةِ تحتَ تخديرِ المجازِ لعلَّني يومًا أُطيقُ مِن الأسى ما لا أُطِيقْ»، وسيذكِّر رفيقه الشعر -في التفاتة تشجيع- بالعهد المشترك بينهما: مواجهة وجع الـمِحَن بمعاناة الإبداع: «الشعر يشهدُ: لم أعصر مثانتَهُ.. إلّا لأغسلَ بعضـًا مِن جِراحاتي»، ثم سيكتشف في منعطف أخير أن التداوي بالتخييل الشعري لم يعد مجرد مسكِّن مؤقَّت، وإنما مِنوال حياة:

دأبي أرقِّـقُ بالـمجــازِ حقيقتـي         حتى أُحيلَ مِن الغرابِ هَزارا

هذا الإدمان العلاجي على الشعر ربما يحمل بعض التفسير لظاهرة: طول النفَس الشعري في كثير من قصائد جاسم، فلديه عدد كبير من القصائد الطوال التي يتجاوز بعضها مئة بيت، بل وصلتْ قصيدته الأطول (ما وراء حنجرة المغني) إلى 177 بيتًا ! وقد سبقنا غازي القصيبي إلى التضجر من إسهاب جاسم، وحضّه على التكثيف؛ لأنّ «حلاوةَ العنقودِ تكمنُ في عُصارةِ نَخْبِهِ»، والعجيب أن جاسم نفسه –متأثرًا ربما بوصية غازي- كان قد أعلن مُجافاته للإسهاب، وتفضيله الإقلال، ففي قصيدته (جرح مفتوح على نهر الكلام) يقول:

وبوصلةُ الشعورِ تقود نصّي          إلى ما قـلَّ مِن وجعـي ودلّا

تُشـوِّهـني الطِّـوالُ من القوافي          فوجْهي يُشبهُ الكَلِمَ الأقلّا

ليس سِـرًّا أن هذا الإعلان الشعري الذي يفضِّل الإيجاز ظلَّ إعلانًا نظريًا تعارضه مئات الشواهد من الممارسة الشعرية عند جاسم، الميالة إلى الإسهاب والتفصيل، لأسباب سيأتي الحديث عنها في المحور السابع، ولكنّ أقربها للذكر هنا أن القصيدة المدلّلة كثيرًا ما تتمرد على شاعرها المتيّم بها، وفي ديوانه الأخير (طيور تحلِّق في المِصيدة) قصيدة لافتة جعل عنوانها (القصيدة)، وفيها يحكي حوارًا طريفـًا بين الشاعر وقصيدته الجامحة الميّالة إلى التجاوز والتجريب والانفراط والشطط، وهو لا يملك أمام تمرُّدها عليه، وردودها المفحِمة له سوى الانقياد في النهاية لمشيئتها الغالبة:

خذني إلى تِيهِكَ المجهولِ يا شَطَطُ          هذي القصيدةُ لا تُجدي بها الخِطَطُ

أشُــدُّهـا بـالـقــوافـي فـي صـحـيـفـتِــهــا          فـتـمـتـطــي صـهـــوةَ الـمـعـنــى وتـنــفـرِطُ

أقولُ: لا تجمحي، قَــرِّي على نَمَطٍ          تـقـولُ: إنَّ جِـمــاحـي مـا لـه نَـمَـطُ

أقـولُ: فــلْــنـتـوسَّـطْ فـي مـســيــرتِــنـا          تـقـولُ: لا حـمـلـتْـنـا الـخـطْــوةُ الـوسـطُ !

أقـولُ: شَـطَّ خيالي وهو يركُضُ بِي          تـقـولُ: مـا زالَ فـي أشـــواطِــنا شَــطَــطُ !

هـذي الـقـصــيـدةُ أعــيــانـي تـمــرُّدهـا          فـلا (الفـواصلُ) تَـثْـنـيـهـا، ولا (النُّـقَـطُ)

وفي قصيدة أخرى يُفلسِف الشاعر هذا التمدُّد في النظْم -الذي يبدو في بعض القصائد وكأنه لا يريد أن يتوقف- بأنه استجابة طبيعية لغواية الشعر، وأن القصيدة الحقيقية هي التي تصنع شاعرها، لا العكس:

ما زلتُ أسألُ: هل هناك قصيدةٌ        تـركـتْ لشاعرِها اختيارَ كلامِهِ ؟

هل يستـطـيع الشـعـرُ كـظْـمَ غــوايـةٍ        طـاشـتْ بِماءِ الوحيِ مِن إلهامِهِ ؟

وهذا التساؤل المفتوح سنجده في قصيدته الأطول (ما وراء حنجرة المغنّي) بصيغةِ جوابٍ مفروغٍ منه: القصيدة في الحقيقة لا تنتهي أبدًا، وإنما الذي يحدث أن طاقة الشاعر على ملاحقة خيوطها المتراقصة أمامه تضعف مع تمادي التجربة الشعرية حتى تذبُل، وحي القصيدة إذن يتوقف مع انحسار قدرة الشاعر على التلقي، وليس بانقطاع الفيض الشعري، فإذا كان لدى بعض الشعراء استعداد أكبر لإطالة أمد التلقي، فمن الطبيعي أن تتمادى قصائدهم:

ما للقصائدِ مِن حدٍّ لأختِمَها            يفنَى خيالي ولا تفنَى مُـخَـيِّـلتي

لن يملَّ هذا الكائن المجازيّ من مراقصة الشعر؛ ولكنه لن يتمكن من أن يؤدي عرضه الخاص في مسرح الإبداع دون إيقاع تنتظم في أنغامه أفانين الرقص، وفي الشعر لن يكون هذا الإيقاع الناظِم شيئـًا سوى: ظِلال الأسلاف.

في سياق تتبُّع ظلال الآخرين المنعكسة على هذه الذاكرة الشعرية، أو ما يسمّيه النقاد المعاصرون: التناص، يمكن أن نُضيف هنا وصفًا جديدًا لشعر جاسم، وهو وصف (الشعر المقوَّس)، فمِن النادر أن تصادف شاعرًا معاصرًا لديه مثل هذا الحرص العجيب على تقويس أسماء الأعلام والمصطلحات والإحالات الثقافية –والألعاب اللفظية كذلك- التي ترِد في شعره، وما أكثرها! ولهذا تنتشر الأقواس في قصائده بقدر لافتٍ جدًا، وإذا تجاوزنا هذا الملحظ المرتبط بطريقة الكتابة؛ فإن الشاعر يُعيد لفت أنظارنا إلى هذه الظلال المنعكِسة بصراحته المعهودة أكثر من مرة، فيقول مثلاً:

أنا المحشوُّ بالأسـلافِ حشْـوًا         وإنْ حاولتُ أدرِكُ ما أفاتوا

وبتعبيرٍ أكثر تخصيصًا يقول:

فإذا هززتُ مشاعري في نغمةٍ         مالَ (ابنُ زيدونٍ) على (قـبّاني)

وخريطة التناص عند جاسم تبدأ أولاً من هذا الاستدعاء المتكرر للسرديات الكبرى في تاريخ البشرية: (تفاحة الرغبة الأولى، فاجعة الأخوين: هابيل وقابيل وحكمة الغراب المعلِّم، طوفان نوح، رحلة جلجامش، مصير سقراط، يوسف وإخوته، يونس والحوت، موسى ونار طوى ورحلته نحو مجمع البحرين، الهدهد السليماني، رِقَّة المسيح، فتح النبي عليه الصلاة والسلام لمكّة وتحطيم أصنامها، مأساة الحسين)، واتساع المروحة التاريخية لهذه السرديات يُنبئ عن انفتاح الرؤية الشعرية عند جاسم، وتنوُّع اهتماماتها، وخصوبة البواعث الفكرية لها.

وتتسع خريطة التناص عنده باستدعاء الرموز الشعرية: إحالةً، أو حوارًا، أو معارضةً احتذائية؛ بدءًا بآباء الشعر العربي: امرئ القيس، وطرفة بن العبد، وعمرو بن كلثوم، وعنترة العبسي، مرورًا بأمراء الشعر في العصر الوسيط: علي بن الجهم الذي (عارضَ) رائيته بقصيدة (مجرّات هَجَريّة)، والمتنبي الذي أفرد قصيدتين له: (المتنبي.. كونٌ في ملامح)، و(مطالَبة متأخرة بدمِ المتنبي)، والمعرّي الذي سبقت الإشارة في المحور الثالث إلى حضوره المؤثر في شعر جاسم ورؤيته، وابن زيدون الذي (عارضَ) نونيته بقصيدة (حديقة بِلا غِناء)، وانتهاءً بشعراء العصر الحديث؛ مثل: أحمد شوقي، فقد (عارضَ) أولًا ميميّته في المديح النبوي بقصيدة (نهج البردة النبوية)، واقتفى فيها جاسم –وكان في بداياته الشعرية- المعاني والأساليب المعهودة في هذا الغرض عند شوقي والبوصيري معًا؛ ولكنه حين (عارضَ) لاحقًا الهمزية النبوية لشوقي بقصيدة (وطنٌ لاسمي المشرَّد) ظهر الاختلاف واضحًا بين الهمزيتين في الموقف الشعري، فقد تجنَّبتْ همزية جاسم الرسوم المعهودة في المدائح النبوية، وبدتْ أقرب إلى شكوى روحية من الداء المقيم: جموح العقل، وسَورة الحس.

أمَّا الشاعر العراقي مظفَّر النواب؛ فقد مرّ بنا في المحور الرابع كيف استلهم جاسم قصيدته العامية (للريل وحمد)، وهو الاستلهام الذي نصادف شاهدًا آخر عليه في ديوان جاسم (أعشاش الملائكة)؛ إذْ يُضمّن إحدى قصائده شطرًا من قصيدة مظفّر الفصيحة (اللون الرمادي) التي تغنّى فيها بدمشق.

والتناص غير المصرَّح به أدلُّ على حضور ظِلال الأسلاف وتمكُّن التأثر الذي قد يخفى أحيانًا على الشاعر نفسه، فحين يقول جاسم مثلاً: «كأنَّ المدى رمحٌ بمليونِ شُعبةٍ.. فمِن أين لي أن أتَّقي طعناتي؟»، فإنك لن تستطيع منع ذاكرتك من استدعاء صورة المتنبي الشهيرة: «رماني الدهرُ بالأرزاءِ حتى.. فؤادي في غِشاءٍ مِن نِبالِ…»، وعندما يقول جاسم: «لُعِنتَ! أتبتغي في الأرضِ مُلْكًا.. وبين يديكَ مملكةُ الجمالِ»، فقد لا تذهب بعيدًا قبل أن تتذكر صاحب هذه البصمة الخاصة في الشتيمة: الشاعر العراقي محمد الجواهري.

وحين تقرأ قول جاسم: «وعانقيني لكي تحلو ملامحُنا.. فنحنُ أجملُ مِنّا حين نعتنِقُ»، فربما يذكِّرك ببيت نزار قباني: «قولي: أحبُّكَ كي تزيد وسامتي.. فبغيرِ حبِّكِ لا أكونُ جميلا»، وعندما يقول جاسم عن (التفاح المحظور):

ما كنتُ آنَفُ أن أبوءَ بِأكْلِهِ          لو أنَّ (آدمَ) لم يشأْ أن يأكُلا

إنْ كان ثمةَ مِن (نـزولٍ) آخَـرٍ          لا بُـدَّ مِــن (تُــفَّــاحـتـيـنِ) لأنــزِلا

وأكْلُ آدم (المعاصر) تفاحتين، لا تفّاحة واحدة صورة تُعيدك إلى محمد عبدالباري:

في الموسمِ الآتي.. سيأكُلُ آدمٌ          تُـفَّـاحـتـيـن، وذنـبُـهُ لـن يُـغـفَـرا

وقصيدة عبدالباري أسبق من قصيدة جاسم بما يقارب السنتين، ونعم، قد يتناص الشاعر مع شاعر أحدث منه؛ خاصة حين تكون القصيدة ذائعة جدًا مثل: (ما لم تقلْه زرقاء اليمامة)، وسيأتي في المحور السابع شيء مماثل لهذا بين جاسم ومحمد الثبيتي.

وقد تشعر وأنت تقرأ إحدى قصائد جاسم بأن أجواءها الشعرية مألوفة لديك، فقصيدته (مُرابِط على ثغر الحياة) تستحضر بموضوعها ووزنها وقوافيها، وحتى بنبرتها المتحدِّية قصيدة (آية النسف) للشاعر العراقي أحمد مطر: «لا أريدُ الحرفَ كالثعبانِ في قُبَّعةِ المعنى ولا لعبةَ ساحِرْ.. لا أريدُ الحرفَ أن ينمو على قارعةِ الخندقِ بُستانَ أزاهِرْ.. لا أريدُ الحرفَ إلّا أن يُغامِرْ»، أمَّا قصيدته (قريبٌ من البحر.. بعيدٌ عن الزُّرقة) فكأنما تقتفي خطوات الشاعر محمد العلي على رمال الخليج؛ ولا سيما في قصيدته (لا ماءَ في الماء)، وفي المحور اللاحق مزيد تفصيل عن هذا التقاطع (الهَجَري) بين الشاعرين.

تبدو ظلال الآخرين في شعر جاسم أكثر لفتًا للنظر؛ حين تكون منتمية لنهجٍ شعري بعيدٍ نوعـًا ما عن أسلوب الشاعر المعتاد في الكتابة، وهو ما يجعل القارئ يميِّز بقدر أكبر حقيقة (تداخل النصوص)، وهذه الظلال (المختلِفة) تبدو أكثر بروزًا في القصائد التفعيلية عند الشاعر، ومن أوضح الأمثلة على هذا: ظلال محمود درويش في شعره، فحين تقرأ مثلاً قصيدة جاسم (تضاريس الهذيان) قد تشعر بأنك قريب من الأجواء الدرويشية المحتفية دائمًا بالمطلق والتلاشي والتبدُّد، والتمثُّلات المستحيلة: الأشباح، والظلال، واللاشيء، واللاأحد، و«التبخُّر في الأبد»، وكذلك الحال في قصيدة جاسم (الأرض أجملُ في الأغاني)، فهي قريبة أيضًا من أجواء محمود درويش، وفيها يقول جاسم: «لا بدَّ من عملٍ جماليٍّ لوجهِ الأرضِ.. قد كثرتْ تجاعيدُ المكانِ.. وهذه الجغرافيا الشمطاءُ لا تحنو على الغرباء…».

وتتناثر غيوم درويش في أفق جاسم، فتُمطِر أحيانًا؛ ولكنّ ثمرها يبقى ثمرًا خاصـًا تستطيع تمييزه عن الثمار الأكثر انتماءً للأرض المسقيَّة، يُنهي محمود درويش مثلاً قصيدته (قافية من أجل المعلَّقات) بهذه الخاتمة التنويرية الكاشفة: «لا بدَّ مِن نثرٍ إذن.. لا بدَّ مِن نثرٍ إلهيٍّ لينتصرَ الرسولُ»، فيقول جاسم في قصيدته (للحرب موسمُها المماطِل): «لا بدَّ مِن شِعرٍ إذن.. إنَّ القصائدَ في ضميرِ الكونِ شريانٌ من البشرِ المناضِلْ»، ويقول درويش في قصيدته (لا أعرف الشخص الغريب): «لكنّه هو وحده الشخصُ الذي لم يبْكِ في هذا الصباحِ.. ولم يرَ الموتَ المحلِّقَ فوقنا كالصقر»، فيقول جاسم في قصيدته (على مقلاة الوجع):

ويحومُ طيرُ الموتِ فوق رؤوسِنا       صقرًا، فترتعِشُ القلوبُ حَماما

يبقى أخيرًا أن أكثر الظلال المنعكسة امتدادًا في شعر جاسم هي ظلال الشاعر نفسه، ومن خلال هذا (التناص الذاتي) تتأكد البصمة الخاصة به، وأنَّ لدى هذه التجربة الشعرية ما تقوله عبر: أفقها المغاير، وأسلوبها المفارِق، وهمومها المختلفة، و(ثِيماتها) التي تختص بها دون بقية التجارب الشعرية، وما كان لهذا المقال أن يُكتَب بكل هذا الاسترسال؛ لولا الوجود اللافت لهذه الثيمات المتميزة بإيقاعها المستقل.

7- هاجس الشرح والتبسيط:

منذ بداياته المبكرة حدَّد جاسم الصحيّح نهجه الشعري المنحاز إلى ذائقة الجمهور، يقول في ديوانه الثاني (عناق الشموع والدموع):

فــلَّـيــتُ سُــوقـيَّ الـكــلامِ لأنــتــقـي        مِـن لـهجـةِ الـبـسـطـاءِ روحَ مـلاحِمي

هـل أنــتـمــي للــمـعـدميـن بــفـكــرةٍ        تــخـتـالُ فـي تَــرفِ (الـبديـعِ) النـاعمِ ؟!

في (ورشةِ) الحلُمِ الكبيرةِ لم أزلْ        مِن (خُردةِ) الكلماتِ أصنعُ عالمي

هل يُذكِّرنا هذا الإعلان المبدئي بشيء؟ نعم، كان محمود درويش في بداياته الشعرية مسكونًا بهذا الهاجس (الجماهيري)، وفي ديوانه الأول (أوراق الزيتون) قدَّم إعلانًا مماثلًا: «قصائدُنا بِلا لونٍ، بِلا طعمٍ، بِلا صوتِ.. إذا لم تحملِ المِصباحَ مِن بيتٍ إلى بيتِ.. وإن لم يفهمِ البُسَطا معانيها.. فأولى أن نُذرِّيها.. ونـخلُـدَ نحنُ للصمتِ!!».

لاحقـًا سيتجاوز درويش أجواء المدّ الثوري وصخب حركات التحرر الوطني التي أوقدتها الستينات الناصرية، وسينتقل بتجربته الشعرية تدريجيـًا من هذا الخطاب الحماسي المباشر في التعبير عن (القضية) إلى آفاقٍ شعرية أشدّ تركيبـًا، وبناءٍ أسلوبي أكثر التفافًا، وسيخلُص إلى أنّ التكثيف الخافت للتجربة اليومية الصادحة، والتصعيد الإيحائي للوقائع المباشرة هما ما يكفل ديمومة الأثر الفني وقابليّـته المفتوحة والمتجددة للتأويل.

هل حدث مثل هذا التغيُّر عند جاسم؟ ليس تمامـًا، إذْ يبدو أن شاعرنا أكثر إخلاصـًا للتبسيط من درويش، ففي ديوانه المتأخر (كي لا يميل الكوكب) يقول: «تفاصحتُ.. حاولتُ أدركُ كيف يسيرُ الكلامُ البليغُ على شفةِ الرغباتِ.. فأدركتُ أنّ البلاغةَ عرجاءُ في سكَّةِ العِشقِ.. لا بدَّ أن نأخذَ الحرفَ مِن لفظِهِ الشاعريِّ إلى لفظِهِ الشارعيِّ لكي يستقيمَ المسيرْ»،  ثم في ديوانه الأخير (طيور تحلِّق في المِصيدة)، وبعد ما يزيد على عقدين من إعلانه المبكّر سيردِّد جاسم الفكرة (الشارعيّة) ذاتها تقريبًا:

رعيتُ ولكنْ في مراعي هواجسي        تأمَّلتُ لكنْ في (حِراءِ) الشوارعِ !

صحيحٌ أن هناك فارقًا نوعيًّا بين خطاب (الشعارات) الذي تأثّر به درويش في بداياته، بما يغلب عليه من توجيهٍ حماسيّ وتسجيل تقريريّ ومواعظ مباشرة –وهو ما نجد شواهده حاضرةً أيضـًا عند جاسم في قصائده المنبرية بخاصة- وبين خطاب (الشارع) الذي يتبنّاه جاسم ويدافع عنه في نصوصه السابقة، فهذا الخطاب لا يرفع شعارات زاعقة، وليس معنـيًّا بالوعظ والتوجيه، وإنما يستهدف التخفُّف من جِدّيّة التفاصُح في أسلوب التعبير، ونخبوية (القارئ الضمني) الذي يتوجّه إليه الشعر؛ ومع هذا فإنّ كلا الخطابين (الشعاراتـيّ، والشارعيّ) معنيّان كثيرًا بإرضاء الجمهور، ومستعدان لبذل ما تتطلّبه شروط اللحظة ومقتضيات الطلب والانتشار العريض من تنازلات فنية.

وإذا تجاوزنا موقف الشاعر النظري من هذه القضية، وتتبّعنا بعض ملامح الشرح والتبسيط (الجمهوري) في شعره، فيمكن الإشارة هنا إلى ثلاثة ملامح، وهي: ترهُّل الصياغة بالإعادة التأكيدية للمعنى على طريقة (ردّ العجز على الصدر)، وتبديد كثافة التصوير بالشرح والتفسير، وتوظيف العبارات الشائعة والمأثورات المتداولة.

فمِن شواهد ترهُّل الصياغة بالإعادة التأكيدية للمعنى: قوله في قصيدة (الخلاص):

ويأسرني جُندٌ من الشوقِ لا تُرى        ومَن قال أنَّ الشوقَ ليس له جُندُ؟

فسؤال الشطر الثاني من البيت مجرد إعادة تأكيدية لما قبله؛ هذا إذا لم نقل: إن هذا (التأكيد) الذي استدعتْه القافية قد أضعف التصوير الشعري وجعله موضع تشكيك، ومثله قوله في قصيدة (حديقة بلا غناء):

نشكو الأسى فتُعزِّينا قصائدنا          حيثُ القصائدُ مِن أشجى الـمُعزِّينا

وأحيانــًا يبدو وكأنّ الشاعر صاغ المعنى نفسه في بيتين متقاربين، ثم عزّ عليه أن يستبعد أحدهما، فأبقاهما معـًا؛ كقوله في قصيدة (سهرة في حضن الأغاني):

أنا لا أغنِّي للفُؤوسِ، فربّما         أبكيتُ غُصنـًا في الحقولِ يُهانُ

كم بلبلٍ غنّى بحضرةِ حاطِبٍ         فتجرَّحتْ بغِنائِهِ الأغصانُ

ومِن شواهد تبديد كثافة التصوير بالشرح والتفسير قوله في ديوان (كي لا يميل الكوكب): «يا ربِّـي لا تتركْ في العتمةِ قلبي.. لا تتركْ (يوسفَ) في أعماقِ الـجُبِّ.. فهذا العالمُ جُبٌّ ينضحُ بِالوحشةِ والظلْماءْ»، وما كان أغنى هذه الصورة عن العبارة الأخيرة التي أضعفتْ طاقتها التخييلية بالشرح والتعريف، ومثلها قوله في ديوان (طيور تحلِّق في المِصيدة):

فأنا أُغنِّي كي أُؤمِّنَ حارسـًا        للأرضِ، حيث الأغنياتُ أمانُ

وفي أحيانٍ نادرة يُلامس التبديد كثافة الشعر نفسه، وانفتاح أفقه للتأويل المتعدد، فيتورط الشاعر في تقديم (إرشادات استعمال) لقارئ شعره؛ كقوله في ديوان (رقصة عرفانية):

قصائدي هي أسرارُ النخيلِ فمَن        لم يفهمِ النخلَ لم يفهمْ دواويني

ومن شواهد توظيف العبارات الشائعة والمأثورات المتداولة: استعماله المتكرر وفي ثلاث قصائد لعبارة (حظر التجوُّل) التي تتردد كثيرًا في لغة الأخبار: «فالعمرُ مِن يأسِهِ في حظْرِ تجْوالِ»، «سوى جُثَّةٍ تحتَ حظْرِ التجوُّلِ»، «فَمَا لَهم فرضوا عليكِ اليومَ حظْرَ تجوُّلِ؟»، وقد يتجاوز هذا التأثر العبارات المسكوكة؛ ليصل إلى الصياغة الأسلوبية المعهودة في لغة الأخبار والخطابات المرتجلَة؛ كقوله في قصيدة (للحرب موسِمُها الـمُماطِل): «وتحيّةً للعاملين بِلا مُقابِلْ»، وقوله أيضـًا في القصيدة نفسها: «والرعبُ نِصفُ الحربِ.. فيما نصفُها الثاني إشاراتٌ مُشفَّرةُ الرسائلْ».

ومِن توظيفه للعبارات المأثورة: قوله في قصيدة (حوار بين نارين): «خُذُوا عنّي مناسِكَه.. لكي تتبيَّنوا نهجَه»، وسيُعيد الشاعر توظيف العبارة نفسها في قصيدة (غراب على شجرة الميلاد):

قال الغرابُ: خذوا عنّي مناسِكَكُم          في الحزنِ ثم اصنعوا ما كنتُ أصنعُهُ

ويمكن أن نُضيف إلى هذه الملامح الثلاثة للشرح والتبسيط ظاهرتين شائعتين في شعر جاسم: الأولى: ظاهرة (الإسهاب وطول النفَس الشعري) التي تحدثنا عنها في المحور السابق؛ لأنّ مِن أسباب تمدُّد هذه الظاهرة عند الشاعر: اهتمامه البالغ بشرح نفسه أمام متلقِّيه والتفسير التفصيلي لرؤاه الشعرية وموقفه الوجودي من الحياة؛ فيما يُشبه (سيرة ذاتية) مدوَّنة بالشعر. والظاهرة الثانية: ظاهرة (الألعاب اللفظية والمشاكلات الحسية) التي (يتبسّط) فيها جاسم مع جمهوره، ويتلقى استجابة واسعة عليها، وهي ما سيفصِّل المحور اللاحق الحديث عنها.

بعد هذا كله لنا أن نتساءل: ما الرسالة التي تقدمها كلُّ هذه الملامح والظواهر التبسيطية في شعر جاسم؟

قلنا: إن الشاعر قد انحاز منذ بداياته للوضوح الجماهيري، لقد أراد أن تصل رسالته -أو جزء منها على الأقل- إلى أكبر قدر ممكن من متلقّي الشعر ومتذوِّقي الأدب، ولا بأس من التقارب المشترك بين الشاعر وجمهوره: سيحلِّق بهم في قصائده المتميزة إلى مستوى عالٍ من التصوير البديع والتراكيب الشعرية المدهشة؛ ولكنه لن يتجاهل –حتى في القصائد المتميزة نفسها- استثمار المعاني القريبة والأساليب المبسّطة والألعاب اللفظية المشاكِسة، وبين هذا وذاك لن ينسى مطلقًا أن يقترب منهم: أن يشرح لهم ما يريد، ويردِّد ما يريدون هم أحيانـًا؛ ولكنْ –وهذه هي المعضلة- كلما اقترب العازف أكثر بنقراته المألوفة من معظم المستمعين؛ ابتعد أكثر عن فئة خاصة من المستمعين التوّاقين دائمـًا إلى سماع نقرات مختلفة.

لطالما كان في الشعر ذوقان: الذوق العام، والذوق الخاص، قديمـًا كان الخاصة ورُواة الشعر يُفضِّلون الأخطل والفرزدق على جرير، وكانت عامة الناس تُفضِّل العكس، وحديثـًا ظلّ نزار قباني أقرب إلى جمهور المتذوقين، وظلّ السياب ومحمود درويش أقرب إلى المختصين بالنقد، يبحث الناس دائمـًا عمّن يُشبههم ويُعبّر بعفوية مقتدِرة عما يشعرون به، ويفضِّل المختصون بالشعر أن يسمعوا نغمة مغايرة، إيقاعـًا مختلفـًا، وَتَـرًا لم يهتزّ من قبل، كما يُفضِّلون أن لا تكون أجواء القصيدة صافية تمامـًا وخالية من الغيوم، فالوضوح والشرح والتبسيط كلها تخنق التأويل، وتُلغي تميُّز القراءة وفرادة التلقّي.

في المحور الرابع من هذا المقال أشرتُ إلى ظاهرة (الاكتفاء التفسيري) في شعر جاسم، المتولِّدة من تفضيله للوضوح وحرصه على كشف رؤاه ومذهبه الشعري، وفي مطولاته خاصة ستجد إسهابـًا في عرض رؤيته وموقفه الشعري والوجودي، وربما عدد قليل من الشعراء من يمتلكون هذه المزيّـة أمام مِرآة النقد، إذْ يكاد يكون شعره مُكتفيـًا بنفسه: إبداعـًا وتأويلاً، فهو يشعر بالوجود، ثم يعبّر عن شعوره هذا، ثم يبيّن للمتلقي ماذا يعني هذا الشعور، وما دلالته ومغزاه، وما تأويله الأبعد، ثم إذا بقي عند بعض القُـرّاء شيء من الحيرة والتردد حول بعض الملابسات الشعرية، فبإمكانهم أن يعودوا إلى مقدماته النثرية الأربع، ليكتشفوا هناك جزءًا كبيرًا من الحكاية، مرويًّا بأسلوب سردي شائق؛ ولكنه أيضـًا: واضح الدلالة، هذا مع أني لم أجد شاعرًا كرر لفظ المجاز في شعره واحتفى به كما احتفى به جاسم؛ ولكنه المجاز الذي (يجوز) بك نحو المعنى المقصود دون عُسر أو التباس، لا غموض هنا ولا التواء، ولن تصادف إلا نادرًا احتباسـًا في التعبير والتصوير، فاللغة طيّعة بين أنامله بقدر مدهش ربما حتى للّغة نفسها، ومعه لن تشعر كثيرًا بحيرة المعنى وحرية التأويل اللتين تصادفهما عندما تقرأ لأدونيس، أو أمل دنقل، أو سعدي يوسف، أو محمد العلي، أو علي الدميني، أو محمد الثبيتي، ولتوضيح هذا التمايز في التعبير الشعري يمكن أن نتوقف عند نموذجين شعريين تقاطَعَ معهما شعر جاسم، وهو ما يمكِّننا من المقارنة بين أسلوب الشاعر في تصوير الموضوع الشعري، وأسلوب شعراء التكثيف في تصويره.

النموذج الأول هو: الشاعر محمد العلي، وهو أحد (الآباء الشعريين) الذين تمثَّلهم جاسم، وربما لأجل هذا تطلَّع وهو يُصدر أول دواوينه لأن يكتب محمد العلي مقدمة هذا الديوان، وقد فعل، كما أن محمد العلي هو أيضـًا أول من يستقبلك وأنت تقرأ الديوان الأخير لجاسم: (طيور تحلِّق في المِصيدة)، إذْ يتصدّر الديوان إهداء من أربعة أبيات موجّه لمحمد العلي بمناسبة بلوغه التسعين، والعلي كذلك هو آخر من يلوِّح لك وأنت تغادر هذا الديوان، فقد خصّه جاسم بالقصيدة الختامية التي استلّ منها أبيات الإهداء الأربعة، وبين هذين الديوانين: الأول، والأخير لم ينسَ جاسم أن يعرِّج على هذا (الأبِ الشعري) موجّهـًا التحية له، كلما برّح به شوق الأسئلة، كما صنع مثلاً في قصيدته (استقالة الظلّ) التي أهداها أيضـًا له، ومع هذا التقدير الكبير ظلتْ بصمة جاسم الشعرية متمايزة بقدر كبير عن بصمة محمد العلي، حتى في المواضع النادرة من شعر جاسم التي تشعر فيها أن محمد العلي مرّ من هنا، أو تبادل مع جاسم حديثـًا قصيرًا عن هدير الأمواج ورائحة الخليج.

في قصيدة جاسم (قريب من البحر بعيد عن الزرقة) ستجد أصداء مألوفة لروح محمد العلي الشعرية وعلاقته بالبحر -الخليج العربي تحديدًا- وبخاصة في قصيدته (لا ماءَ في الماء)، لكن بينما يعبّر العلي بأسلوب أقرب إلى التلويح الخاطف والإيماء من بعيد، ويعنّيك وأنت تبحث عن مُراده من «هذا الضباب الجميل» الذي يكتنف صياغته، وكيف يمكن أن تُؤوِّل «الـمحارَ الذي في الخيال»، وتفهم موقفه الشعري المتأرجح من حالة النفي المثبَت والثبات المنفيّ التي «تنداحُ تندحُ دون انتهاء»، ستجد جاسم الصحيح في المقابل معنيًّا بوضوح موقفه الشعري من «فصول مواجعنا الأربعةْ»، فهو أكثر اعتدادًا بــ«القطيع الذي شَبَّ عن خدعةِ العُشبِ وانشقَّ عن سُلطةِ المزرعةْ»، وأشدّ تبرُّمـًا بــ«هذا الخليجِ الخديجِ.. فأين الخليجُ الذي قد وُلِدنا مَعَهْ؟»، واللغة طيِّعةٌ أكثر مع جاسم، وربما لأجل هذا يتصرَّف بها، و(يتبسَّط) معها بقدر أكبر من محمد العلي، وكثيرًا ما تكون المزيّة هي الباب الأوسع لدخول النقص.

لهذا فإن الحلم –غير المكتمِل بطبيعته- أكثر حضورًا وأوسع مدى عند محمد العلي: الحلم الذي يحتاج دائمًا إلى هجْس -مجرد هجْس- بالتفسير، فما لم يُقَل عند محمد العلي أكبر، ومهمة القارئ لشعره تبدو أكثر وجاهة. نعم، جزء كبير مما لم يُقَل عنده عائد إلى أن اللغة لديه تبدو دائمًا منقبضة وشحيحة في التعبير عن نفسها، ولن نعلّق هذه الظاهرة على مِشجب النفّري لنقول: إن الرؤية عند محمد العلي أرحب، فالتباين بين التجربتين لا يتعلق بحدود الرؤية، بل ربما بالطبيعة النفسية لكلا الشاعرين: لا بأس عند محمد العلي أن يجلس إليك ويحادثك يما يتيسر من لغة الحلم، ثم يغادرك وقد ترك الكثير من الدهشة والأسئلة وأقواس الحواجب المرتفعة دون جواب، لأن الحيرة في النهاية درس الحياة الأعظم، أمّا جاسم فسيكون حريصـًا على أن يستضيف حيرتك في بهْو حيرته الأوسع؛ ليقول لك: إني أنا أيضـًا متحير، وربما بقدر أكبر منك، لنحتفلْ إذن معـًا باللغز الذي «أسكَرَ قبلنا الخيَّاما»، فاليأس -كما تقول العرب- إحدى الراحتين.

على غِرار محمد العلي إذن يبدو جاسم مُريدًا مخلصـًا من مُريدي الحيرة والسؤال المفتوح، وكما قال: «أنا مِن حجيجِ الحائرين»، ولكنه -على خلاف العلي- يحرص دائمـًا على أن يكون واضحـًا جدًا في تعبيره عن هذه الحيرة، حتى لا يُثقِل عليك باجتماع الحيرتَين، ولهذا لا يبعد أن يودِّعك مواسِيـًا لك بما واسَى به رفيقَه (الغراب.. شاعر المراثي وحكيم الخراب) حين قال له:

بي مثلُ ما بِكَ حيث يلمعُ داخلي        مِن نيِّراتِ الشكِّ ألفُ شِهابِ

والنموذج الثاني هو: الشاعر محمد الثبيتي الذي تتقاطع قصيدته الشهيرة (بوّابة الريح) مع قصيدة (معراجي إلى اسمي) لجاسم في وزنها، وقافيتها، وبعض صورها ومعانيها، وبخاصة في أجوائهما الليلية العاصفة، تعود قصيدة جاسم إلى سنة 1419هـ، وهي ضمن ديوانه (رقصة عرفانية) الذي صدر عام 1999م، أي قبل عشر سنوات تقريبـًا من نشر الثبيتي لقصيدته التي لا غبار على تميّزها الفني، وكيف استطاعت –على قِصَرها- أن تؤدي مهمة (التلويح الإبداعي الأخير) الذي ودّعنا به محمد الثبيتي رحمه الله قبل مغادرته، ولكنّ هذا كلَّه لا يمنعنا من تسجيل بعض التقاطعات –غير العابرة- بين القصيدتين:

يقول جاسم في مطلع قصيدته:

أتـيـتُ أحـرسُ أعــمــار الـمـصــابــيــحِ           وأتّـقي الريحَ.. إذْ لا عهدَ للريحِ

لـم أرجـمِ الـلـيلَ لكــنـي أضــأتُ بِــهِ           للـعـاشـقـيـن فـتـيـلاً مِـن تـسـابـيحي

في ليلة القدْر.. قدْرِ الشعر آنَسُني           مُـــزَّمـِّـــلاً مِـن مـعـانـيــه بِـمـا يُـــوحــي

ويقول محمد الثبيتي:

مضى شراعي بما لا تشتهي رِيحي         وفـاتني الفجـرُ إذْ طالتْ تراويحي

أبحرتُ تهـوي إلى الأعـمـاقِ قـافيتي         ويرتقي في جبال الريح تسبيحي

مُـــزمَّـــلٌ فـي ثــيــاب الــنـــورِ مُــنـــتـبِــذٌ         تِــلــقــاءَ مـكّــةَ أتــلـــو آيــةَ الـــروحِ

عند كلٍّ من الشاعرين نصادف العبور الليلي، والريح المعادية، ثم الانعتاق الروحي منها، كلاهما أيضـًا يقاوم شراسة المحيط بوداعة التسبيح، وكلاهما كذلك (مُزمَّل) معنويـًا بالوحي: وحي الآيات عند الثبيتي، ووحي الشعر عند الصحيّح.

وشيء آخر: كان محمد الثبيتي قد هجر لزمن طويل القصيدة التناظرية التي صحبتْ بداياته الخجولة في ديوانه الأول (عاشقة الزمن الوردي)، فمنذ ديوانه الثاني (تهجّيتُ حُلمـًا تهجّيتُ وهْـمـًا) انعطف نحو القصيدة التفعيلية التي كتب بها أفضل قصائده وأشهرها، فما السرّ إذن في هذه العودة المتأخرة والخاطفة نحو القصيدة التناظرية؟ هل يمكن أن يكون محمد الثبيتي قد قرأ قصيدة جاسم ذات أمسية، فحرّضتْه رحلتها الليلية وإيقاعاتها الشعرية على التجريب (المخضرَم) لإيقاعات الأبيات المتناظرة؟

نعم، قامة شعرية مثل محمد الثبيتي لن تكتفي بالاستجابة لاستهواء الإيقاع، ولكنها بالتأكيد ستحلِّق بعيدًا به وفق شروطها الخاصة، ومن هنا تتلفَّع قصيدة الثبيتي –كما هو متوقَّع- بضباب أكثر كثافة: إيحاءً وترميزًا واقتصادًا في النظم والتعبير، بينما يبحر جاسم في قصيدته مع أمواج الشعر أكثر، فلطالما استهوتْه لُـجَّة الإيقاع، وكعاشقٍ قديم لآداب الضيافة لا يستطيع جاسم أن يقاوم إغراء التمدُّد لأداء مهمة (شرح نفسه) أمام قارئه على خير وجه، وهنا يعود السؤال الذي واجهنا مع قصيدة محمد العلي: أيّهما أشدُّ وقْعـًا وإلهامـًا واستدعاءً لفاعلية التلقي: ضبابية الإيحاء والتعبير المقتصِد، أم الرصف الإيقاعي المتمدِّد لمعزوفةٍ فصيحةِ النقرات، مكتملةِ التكوين؟

8- غواية اللعب وفتنة الرنين:

لم تكن الاستجابة لذائقة الجمهور هي الباعث الوحيد لظاهرة التبسيط عند جاسم، لقد كان يستجيب أيضـًا لطبيعة إحساسه بالحياة، فبئر الحسّ فائض بمائه، وأناقة (الرسم التجريدي) المتعالي لا تتناسب مع هذا السيل المتدفق، إن الإحساس العارم يستحق عند جاسم تعبيرًا لاهبـًا يُضارع في حيويته سخونة الجسد وصخب الحواس وغواية اللعب، وكم كان الشاعر دقيقـًا في وصف حرارة التعبير الشعري عنده حين قال: «فالقصيدة عِلَّة خضراءُ فاقعةُ الصفات»، وسنرى بعد قليل شواهد -لا يخلو بعضها من طرافة- على هذه (العِلَل الخضراء)، و(الصفات الفاقعة) في شعره.

منذ حداثة عهده بالشعر كان جاسم حريصـًا على حيوية التصوير الحسي في قصائده؛ حتى ليبدو أحيانـًا وكأنه رسّام (كاريكاتيري) لا يرى لتصويره أيّ معنى إن لم يـنْطوِ على مبالغة ساخرة، أو عبثٍ فاقع بالأشكال والأحجام، فهو يصوِّر الحياة في ديوانه الأول بأنها: «وهْمٌ بِهِ تتكرَّشُ الأذهانُ»، وفي ديوانه الثاني يستنجز من المحبوبة مواعيدها التي طال (احتضانه) لها، ثم يسوق سؤاله الساخر: «فمتى ستفقسُ بيضةُ الكلماتِ؟»، وحين يحاول في الديوان نفسه أن يستدرّ عطف الحبيبة عليه، لا يستطيع أن يتجنب التصوير العابث لحزنه (المفترَض):

تدحرجتُ بين كُراتِ الدموعِ          إليكِ.. فلا تركُلي أدمعي !

كان اهتمام جاسم برسم هذه الصور الجزئية العابثة يأتي في أحيان كثيرة على حساب الحفاظ على تماسك البناء الدرامي للموقف الشعري في القصيدة، وهكذا بدا أن الشاعر لا يكاد يقاوم طرافة التصوير الحسي المباشر؛ أيًّا كان موضوع القصيدة، ولعلَّ محمد العلي كان يشير –ولو من بعيد- إلى هذا الملمح النقدي حين قال في تقديمه لديوان الشاعر الأول (ظِلِّي خليفتي عليكم): «لم يخرج الشاعر من مجاز المفردة إلى مجاز الجملة، أو مجاز السياق؛ لذا جاءت الصور مباشرةً حسّية».

ستتعمّق تجربة جاسم الشعرية بعد ديوانه الأول، وستتسع دائرة المجاز عنده لتطوي المستويات الثلاثة التي أشار إليها العلي؛ ولكن سيظلُّ (الطابع الحسي) في التعبير والتصوير حاضرًا بقوة عنده، على امتداد تجربته وتلاحق دواوينه.

وبسبب هذا الطابع الحسي العابث سيتعثّر القارئ مِرارًا ببعض الصور المبتذلة، والتشبيهات (البلاستيكية) التي تكتفي بالتقاط أدنى تشابُه ظاهري بين الأشياء أو الأوضاع الوجودية، وتعقِد بناءً على هذا صلةَ وصلٍ مُغرِقة في الشكلية بين موضوعين متنافرين من حيث طبيعة الحالة النفسية التي يولِّدها كلٌّ منهما.

ستصادف مثلاً تعبيرًا يحاول أن يصوِّر لك جلال التضحية من أجل الآخرين؛ ولكنّ طرافة التصوير اللاحق تبدِّد كلَّ جلالٍ أحسستَ به في البدء، وربما تتسلّل إليك ابتسامة غير مقصودة، يقول الشاعر في مطوّلته الأشهر (ما وراء حنجرة المغني):

أُهدي حياتي إلى من لا حياةَ لهم         لو يُنقَل العمرُ في صندوقِ شاحنةِ !

ويحاول في قصيدته (غُرُبات) أن يصوِّر حزنه ووحشة غُربته؛ ولكنّ الصورة تجعله يبدو وكأنه يقدّم تقريرًا صحفيًّا عن حالة الأسواق في البلد، وانطباعات المتسوِّقين، يقول:

وجهي كوجهِ السوقِ ينزف وحشةً        إن هاجَ بالأسعارِ وحشُ غَلاءِ !

وفي قصيدته (الوطن بأبجدية ثانية) يفاجئنا بأبجدية تصوير لا تخطر على البال:

وطني.. تُشـاغبني عليك عناصري         كالعظْمِ حين يُشاغِبُ الجزّارا !

و(العِظام) التي تُشاغب الشاعر كثيرة، وهو ما يجعل القلب مهمومًا بأتراحه، فهل يكون أقصر طريق لشفاء هذا القلب المكلوم أنْ.. يدخل حمّامـًا تركـيًّا مثلاً:

ويكـادُ قلبي أن يعـودَ من الأسى       متحمِّمـًا، ومِن الهمومِ حليقا !

وعندما يشكو الشاعر من فزع النفس وانزعاج الخاطر، فما الصورة المعبّرة التي يمكن أن تجول في مخيّلته لتجسيد هذا الفزع؟ لا شيء؛ غير لقطة حسية أخرى لا تخلو من طرافة؛ ولكنّ أجواءها (الكاريكاتورية) مُشاكسة تمامًا للحالة النفسية التي ترومُ تصويرها:

جَرَسٌ مِن الماضي يُفزِّع خاطري         فَزَعَ الصباحِ على رنينِ مُنبِّهِ !

ويحكي الشاعر في آخر دواوينه (طيور تُحلِّق في المِصيدة) رحلةً جليلة خاضها (الشعر كائن الدهشة) في عوالم الغيب والملكوت بصحبةِ عُشَّاقه المؤمنين به؛ ولكنّ التبسيط الحسي والتصوير العابث لا يغادران الشاعر حتى وهو يصف هذا المشهد الخياليّ المهيب:

وخِفْنا على طُولِ السُّـرى مِن مَلالةٍ         تُسوِّسُ مَسرانا، فقال: (نُدردِشُ) !

فــرُحــنــا بِـمعجـونِ الأحــاديــثِ بــيـنـنا         نُــنــظِّــفُ أســـنـانَ الـمـدى ونُـفــرِّشُ  !

وللأسنان عند الشاعر صورة أخرى لا تقلّ طرافة؛ ولكنها تحمل الداء نفسه: الانسياق مع التداعيات الشكلية، وانخطاف الوعي الشعري مؤقّتًا؛ نتيجة الخضوع لوهج اللمعان الظاهري للألوان والأشكال:

يشتدُّ قلبي ويشتدُّ البياضُ بِهِ        حتى انثنيتُ وقلبي بعضُ أسناني !

ماذا عن متاهة الدروب المحيِّرة: هذا المعنى الشجي الذي طالما (تاهَ) الشعراء في تصويره؟ هاهنا رسمٌ توضيحيّ له بإمضاء الشاعر:

وأبصرتُ الدروبَ دروبَ عُمري         مَتاهًا يُشبِهُ الأمعاءَ شَكْلا !

ومستقبلنا المغيَّب؟ ذلك المجهول الخفيّ المغلَّف بالأسرار: كيف يمكن أن تتعالى رائحة الشواء من خلف أسواره؛ لأن شاعرًا طَموحًا قرر فجأة أن يكون طبّاخ العالم:

أفكِّـرُ لو أنَّ السمـاواتِ مطبخي         أأطهو لهذا الخلْقِ مستقبلًا رخي؟

أمَّا همس العشَّاق ونجوى المحبين، فلدى العطّار المتيَّم الوصف اللائق به:

يُهامِسُ بعضُنا بعضـًا كعِطْرٍ          يُهامِسُ في الغِوايةِ دُهنَ عُودِ !

وعلى طريقة شعراء البديع القدامى حين يتكلّفون الغزل، فلا يجدون سبيلاً له سوى الألعاب اللفظية والمشاكلات الظاهرية يقول:

ثم افتحي ثغرَكِ الورديَّ مطبعةً         فقد أتيتُ بديوانٍ مِن القُبَلِ !

وهكذا تغدو عاطفة الحب مجرد فرصة يستثمر فيها الاستهلاك الأداتيّ إمكاناته في التلاعب اللغوي، والتشاكل اللفظي، وخِفّة التظارُف:

مِن قبلِ عامينِ أكملتُ (امتحاناتي)             على يديكِ ولم تظهر (علاماتي)

وما أكثر المشاكلات الظاهرية في غزل جاسم! وهي المشاكلات التي تروقُ كثيرًا لعشَّاق الألعاب اللفظية من جمهور الشاعر؛ كقوله مثلاً في ديوان (عناق الشموع والدموع):

وما أنا (هدَّافُ مرمى) الحياةِ         وربُّ الــتــأجُّـجِ والاِنـفـــعــالْ

ولـكــنّـنـي حــيــنـمــا ألــتــقــيـكِ         يُـتـوِّجـني ذهـبُ (المـونديـالْ)

ويبدو أن هذا (التصوير الكرويّ) للحبّ راقَ أيضًا للشاعر نفسه، إذْ نجده يستعيده أكثر من مرة؛ ليكمِل أركان هذه الصورة المفتعلة بمزيد من المصطلحات الرياضية، ففي ديوانه (تضاريس الهذيان) يقول:

وحرستُ (مرمى) الاِنتظارِ فلم تصِلْ        (كُرةُ) السُّلوِّ إلى (شِباكِ) حنيني !

وفي ديوانه الأخير (طيور تُحلِّق في المِصيدة) يقول:

عرفتُ بِها أن الهوى (رأسُ حربةٍ)         وقلبي (شِباكٌ) خانه (حارسُ المرمَى) !

ومن الغريب حقـًا حجم هذا الولع الشكلي والافتتان البديعي العتيق الذي تورَّط فيه شاعر متميز مثل جاسم، وكأنه نسي استنكاره القديم لترف (البديع):

هل أنتمي للمعدمين بفكرةٍ        تختالُ في ترفِ (البديعِ) الناعمِ ؟!

وكم اختالتْ قصائد جاسم في حُلَل البديع! ولك أن تعود إلى قصيدته (حجّ بِمناسك أخرى)، لتجد أنها مبنية بكاملها على التورية الغزلية بمصطلحات الحج ومناسكه، وفي قصيدة أخرى يتظرَّف كالبديعيين القدامى في حضرة (الملك الضلِّيل) بهذا التوظيف البارد لمصطلحات البلاغة:

جِناسٌ ناقِصُ الأركانِ بيني           وبينكَ، حالِمٌ بالاِكتمالِ

وللشاعر بيت ذائع جدًا يمضي فيه على هذا النمط المألوف قديمـًا في توظيف مصطلحات العلوم، وهو قوله:

 كلُّ النساءِ (أحاديثٌ) بِلا (سَنَدٍ)         وأنتِ أنتِ حديثٌ لِــ(ابنِ عبَّاسِ)

وفي قصيدته (حارس مرمى الانتظار) يقول معتمِدًا على تلاعب قديم الطراز بالمصطلحات النحوية واللغوية:

وأنا أشدُّ على عِناقِكِ ساعـدًا          مــالــتْ عـلـيـهِ عــرائـــشُ الـــزيـــتــونِ

وأشــدُّ ثــانــيةً.. أشــدُّ كــأنّــنـي          أتــعـهَّـدُ (الـحـركــاتِ) بـ(التـنـويـنِ)

وكأنّنا (قوسانِ) بينهما انطوى         شوقٌ أذابَ حُشاشةَ (التضمينِ)

هذه أبيات لا تستثير سوى القهقهات الغليظة؛ لأنها مجرد تصوير (بلاستيكيّ) لا روحَ فيه للقاءٍ حميم، والشعر البديعي القديم مليء بشواهد مماثلة لهذه (التوريات) المبنية على التلاعب اللفظي بمصطلحات العلوم؛ ولكنَّ الشعر أعلى منزلةً من أن يكون ألعابًا لفظية تُبهِج بِضجيجها السطحي ونتوءاتها الخشِنة الحواسَّ النافرة، كما أنه أعمق من أن يكون مجرد رنين مخاتل من الكلمات المتشاكلة التي لا تعمِّق فهمَنا للتجربة الإنسانية، ولا تقول في نهاية المطاف شيئـًا جديدًا.

والواقع أنك تقرأ كلَّ هذه التداعيات الشكلية المنساقة مع اللمعان الظاهري للأشياء، فتشعر كأننا ما نزال في بدايات القرن العشرين، وكأنّ مئة عامٍ لم تمر منذ لوّح العقاد بعصاه في وجه أحمد شوقي وهو يقول له: «اعلمْ أيها الشاعر العظيم أن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء، لا مَن يُعدِّدها ويُحصي أشكالها وألوانها، وأنْ ليست مزيَّة الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يُشبِه، وإنما مزيَّته أن يقول ما هو، ويكشف لك عن لُبابه، وصٍلَة الحياة بِه… وصفْوة القول: أنّ المحكّ الذي لا يُخطئ في نقد الشعر هو: إرجاعه إلى مصدره، فإنْ كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس، فذلك شعر القشور والطلاء».

شيءٌ ما طفوليُّ الجذور في هذا الولع الجاسمي بالقشور، ومما يشهد لهذا بعض صور الشاعر التي يبدو وكأنها بقايا مغامرات أو حكايات عالقة في مخيّلة الصبيّ، وهي صور طريفة جدًا تستدرج ابتسامتك دون عناء، يقول مثلاً في ديوانه (كي لا يميل الكوكب):

رقصَ الكـثيـرُ مِـن النسـاءِ بِـقـاعـةٍ          في الركْنِ مِن أحلاميَ العُذْريَّةْ

حتى إذا اشتجرَ المكانُ حسِبتُني          (طَـرزانَ) داخـلَ غـابةٍ نِـسْــويَّـةْ !

وإذا أردتَ استعادة فرحك الطفولي بمشاهدة عروض الحيوانات البحرية؛ فلدى الشاعر بطاقة مجانية لك:

دُولفينتي عُومي ببحرِ مشاعري        وترفَّـقـي بـمُروِّضِ الدولفيـنِ !

وقد يتبادل طرفا التصوير أدوارهما في هذا المسرح البحري، فيغدو العاشق (حوتـًا) يبتلع المعشوقة داخله، ثم يُطبِق عليها فمه إلى الأبد، موجِّهـًا لها هذا الخطاب الطريف:

لا تُكثري التسبيحَ ما مِن مخرجٍ         مِـنّي، ولا شـطٍّ ولا يـقْـطـيـنِ !

ولمحبِّي القِطَط نصيبهم من المتعة في هذا المسرح البهيج، فها هو ذا يصِف عودة القصيدة إليه بعد تمنُّع، فيقول:

تعودُ لي كلَّما طالتْ متاهتُها          كما تعودُ إلى أصحابِها القِطَطُ !

وعلى هذا المنوال الطفولي يحاول الشاعر أن يُقنع محبوبته بصدقه معها وإخلاصه لها، فلا يسعفه شيء إلّا أن يستعير من الصبيان أساليبهم المبسَّطة في الإقناع:

ولو كنتُ ألهو في هواكِ وجدتِني        أبـيـعُـكِ عصفـورًا على أنه صقْـرُ !

هذا (الصبيّ) الظريف العابث بالشعر، والساخر من تجهُّم الوجود: كيف يتسنّى له أن يمارس شَغَبه الأقصى وحريّته الأوسع؛ إن لم تُناوِش يداه (اللعبة) الكبرى في الحياة: لعبة الغريزة؟ من هنا كان متوقّعـًا أن تمدَّ هذه الشعرية المتدفقة أطرافها؛ لتتجاوز حدود الغزل الصريح؛ منساقةً مع أودية المجون؛ حيث تتلاقى أنهار: الحسّ، والعبث، والفُكاهة، والتحلُّل من القيود، وفي موازاة (شطحات التعبير) التي تتناثر في دواوين الشاعر، تتبارى (شطحات التصوير) في تعرية المستور، وبإصرارٍ (نُواسيّ) لافتٍ على مديح الغواية، أو كما قال مرة:

آتٍ بِـشــيـطـنـتي فـلا تــتــعــوَّذي         مِنّي، لكي تستمتعي بضلالي

ناضلتُ ضدَّ غِوايتي، حتى إذا         جـرّبْـتُـها، نـاضلتُ ضدَّ نِضالي !

وحكاية الشاعر مع هذا الضرب الخاص من الغزل الحسي الصريح قديمة، منذ قصيدة (هديل الأسلحة الوردية) التي ضمّها ديوانه الثاني (عناق الشموع والدموع)، ثم انتظمتْ بعد ذلك الخرزات.

في قصيدته (امرأة احتلّتْها الشمس) يصِف غزوة حمراء من غزوات الفحولة، متصلة «بحكايةٍ عن ليلةِ الدُّخْلةْ»، وفيها يتفنَّن الشعر الغويّ في تصوير اللذائذ الحسية؛ مع خِفّةِ ظِلّ ملازمةٍ لمجون الشاعر، وهو ما يتكرر في قصيدته الأخرى (اعذريني كما تعذرين المصير) التي لا تخلو هي أيضـًا من تصوير عابث طريف لـ(الأميرين) الجالسين على عرش الغواية، حيث: «ناجيتُ رأسي: تبيَّنْ لِمَن تنحني أولًا.. لا أُريدكَ أن تستفِزَّ أميرًا وتُرضي أميرْ !».

والشاعر لا يبالي كثيرًا بما تُثيره بعض تعبيراته الصريحة من انطباعات منقبِضة، أو سخريات مستخِفَّة؛ كقوله مثلاً في قصيدة (غواية الكعب العالي):

غـنَّـتْ خُـطـاها فلم أبرح أبثُّ لها         وجْدَ القميصِ وأُخفي وجْدَ سروالي

ولهذا يحذِّر المعشوقة -وبنزاهة لافتة!- من مغبَّة الاطمئنان إلى كيانٍ طالما تمرّدت الغريزة فيه على قيود الانضباط الـمُمِلّة:

لا تأمني لأصـابعي، فأنـا        أدري بأنَّ أصابعي حمقى !

وهكذا (حينما يستذئب الصلصال) داخله، فسيُسمِع الجميع عُواءَه؛ بكلّ ما تحمله الأصداء من شفافية؛ إذْ «ليس على فخذ الشهوة سروال» كما قال قديمًا؛ لكنَّ الشاعر قد يلجأ أحيانـًا إلى التلويح بما يريد، فيعتمد أسلوب التورية العتيق؛ من أجل أن يمرِّر صورة بالغة المجون، يقول في قصيدته (الـمُقيم في التراتيل):

يـحتلُّني شـاعـرٌ يـزهو بِــقُـبَّـعـةٍ          غربيةٍ، وهو شرقيُّ السراويلِ

من هنا يمكن أن نقول: إنّ شعر المجون عند جاسم هو ذروة التقاء أربعة روافد مهمة في تكوين شعريته: الحساسية الشديدة تجاه الظواهر الحسية وتداعياتها الشكلية المباشرة، والميل الفطري إلى العبث الطفولي، والانحياز الأسلوبي إلى التبسيط الجماهيري، والجرأة اللافتة في البوح والاعتراف؛ بوصفها: مظهرًا من مظاهر ممارسة الحرية.

هذا عن غواية اللعب، أمَّا فتنة الرنين الموسيقي للشعر فقد استدرجتْ الشاعر للنظر المتكرر في أعطاف الكلمة؛ كمعادل إيقاعي للنظر المستعاد في أعطاف الجسد، وحين قال جاسم في مطوَّلته (ما وراء حنجرة المغنّي):

(بِضْعٌ وعشرونَ) فـصَّـلتُ الجنـاسَ لها         تفصيلَ (زِيٍّ) على أعطافِ (عارضةِ)

فكأنما كان يُشير إلى هذه العلاقة الوثيقة بين احتفاله بالرنين اللفظي الناتج عن نظره المنتشي في أعطاف الكلمة، وبين احتفاله بالارتعاش الحسي المتأتِّي من النظر الشغوف في أعطاف الجسد الأنثوي.

ومع قريحة طيِّعة تمتلك فائضـًا من السيولة الإيقاعية ستبرز ظواهر الرنين في الشعر بقدر أكبر، سنجد مثلاً تنوُّعـًا واسعـًا في أوزان القصائد وحروف قوافيها، منظومةً بسلاسةٍ لافتة؛ حتى في الحروف التي تُعدّ من القوافي النادرة في الشعر؛ كالثاء، والزاي، والشين، وسنرى أيضـًا كيف تفيض القصيدة بالكلمات المتوافقة إيقاعيـًا؛ مما يدفع الشاعر مِرارًا إلى تكرار التصريع (=تقْفية الشطر الأول من البيت) حتى في الأبيات الداخلية للقصيدة.

وتبدو هذه السيولة في الرنين أوضح في القصيدة التناظرية (ذات الشطرين) التي كتب الشاعر بِها أهمّ قصائده، على أن قصيدته التفعيلية ريّانة بالإيقاع أيضـًا، وقد التزم في عدد كبير منها قافية موحّدة، ومع هذا فقد بدا الشاعر في دواوينه المتأخرة أكثر قدرة –بالمقارنة مع بداياته- على التواؤم مع الإيقاع الهامس وبُطء الرنين في القصيدة التفعيلية، وفي قصيدتيه المميزتين: (مُناجاة باتساع الوادي)، و(مُضْغةٌ منك خانتْك) تطويع لافت لإمكانات الإيقاع السردي الهادئ في القصيدة الحديثة.

ومن أبرز ظواهر الرنين في شعره: ظاهرة التكرار لبيت محدد أو شطر أو عبارة أكثر من مرة داخل القصيدة، كما في قصائده: (صعدتُ الطابق الخمسين)، و(أطفأتُ مِن حولنا المصباح فاشتعلي)، و(خذي الحديقة كاملةً)، و(القصيدة.. نجمة الأرض الأخيرة)، و(بيان النيل في فيضانه)، و(باب القصيدة)، و(غواية الكعب العالي)، وعندما قال الشاعر:

يـرقى بيَ الـوَرَقُ الـعــالـي على دَرَجٍ          مِـن البياضِ إلى آفاقِ مـملكتي

والليلُ يهوي على رأسي فيشطُرُهُ          قِنديلَ هلْوسةٍ.. قنديلَ هلْوسةِ

لِـلـمــفـــرداتِ لِــحـــاءاتٌ أُقـــشِّـــرُهـا          على يديَّ وأحـيـا عُريَ مُفْردتي

فإنه لم يكن يقدِّم فقط شاهدًا على احتفائه بالتكرار، وإنما أيضـًا إقرارًا بسطوة الكلمات ونبْرها العالي في إحساسه، حتى يمكن أن نقول: إنّ (اللفظ) -قبل (الليل)- هو من يهوي على رأس الشاعر، فيشطره: «قِنديلَ هلْوسةٍ.. قنديلَ هلْوسةِ» .

ويزداد تواتر ظاهرة التكرار في بعض القصائد لتستحيل إلى لازمة مقطعية تزيد من كثافة الرنين؛ كما في قصيدته (الشاعر.. المتشجِّر بالكائنات) التي تكررتْ فيها لازمة (كالوقتِ جاءَ) ستّ مرات.

ومن ظواهر الرنين أيضـًا في شعره: ظاهرة الجناس، وسبق الاستشهاد بقوله: «بِضْعٌ وعشرونَ فـصَّـلتُ الجنـاسَ لها…»، وفي قصيدة (مشهدٌ من بطولة الأنفاس) يُعيد تأكيد اهتمامه بهذا الفنّ البديعي الرنّان؛ إذْ يقول وهو يصِف بزوغ القصيدة داخله:

جُـملـةً جُـملـةً تسيـر فـيـزهـو       دربُها في (طِباقـها) و(الجِناسِ)

أمَّا شواهد احتفاء الشاعر برنين الجناس؛ فمِنها قوله:

لا فرقَ في معجمِ الرؤيا أُحِسُّ بِهِ         ما بينَ (عاطفةٍ) حرَّى و(عاصفةِ)

وقوله: «تعالي فبيني وبينَكِ ليلانِ: ليلُ (اعترافٍ) وليلُ (احترافٍ)»، وقوله: «تعِبْنا بهذا الخليجِ الخديج»، وقوله: «سريرتي سيرتي مِن فرطِ ما اتَّحدتْ.. روحي بِأسرارِ هذا العالمِ الرحبِ»، وقوله:

(تعالي) واكسري هذا (التعالي)         فـقـلـبي مِن بُـرودِكِ في اشتعالِ

وما فنُّ (اختيالِكِ) حين يـجـلو         حـقـيـقـتَـه سـوى فـنِّ (اغـتـيـالـي)

يبقى أن نقول: إنّ هذا المحور بجميع شواهده المتناثرة بين: غواية اللعب، وفتنة الرنين ربما لا يُبرز ظاهرةً أكبر من هذا التشرُّب الواسع عند الشاعر لأساليب التراث وروحه التعبيرية في التصوير؛ حتى لتبدو قصيدته أحيانـًا وكأنها –كما قال مرة-: «بعضُ أبياتِ شاعرٍ عباسي»، وهكذا ظلَّ قارب الحيرة المفتون بأسئلة العصر الحديث ورؤاه الوجودية عاجزًا عن أن يُلامس -بـمـِجدافه القصير- طينة الإبداع المعتَّق في نهر التكوين القديم، حتى إذا امتلأ بثراء المعنى (المعاصر)، وأراد التعبير عنه، فلن يجد أوفى من هذه الصورة ذات الطراز (التراثي):

أنا المعنى الذي جَـمَع المعـاني             إمـامــًا ثم قـامَ بِـها وصلَّـى !

خاتمة: عن شعرية التقديم:

صدّر جاسم أربعةً من دواوينه بمقدمات نثرية أشبه ما تكون بمقاطع من سيرة شعرية مغتسلة بالمجاز المدهش والبوح الشفيف، ولا أدري في الحقيقة ماذا أسمّي هذا السرد الاعترافيّ المرفرِف عاليًا فوق أسوار الذات: سيرة شعرية؟ أم سيرة ذاتية؟ أم قصائد نثر مغزولة بلهفة الحلم وانكسار التجربة والتوق إلى الظلّ البعيد.

قليلون جدًا من الشعراء من يحتفظون بلياقتهم الإبداعية حين يكتبون النثر، وجاسم -بهذه المقدمات الأربع- أحد هؤلاء القِلّة، ولك أن تعود إلى مقدمة ديوانه (ما وراء حنجرة المغني)، لترى كيف يبني أمامك مدينةَ شعر بينما يسرد تأملاته الصباحية حول حاويات القمامة، أو حين يُصغي لخشب السرير وهو يتنفّس حكايةً من حكايات الغابة، ثم كيف يُلهب خيالك حين يكشف في مقدمة ديوانه (كي لا يميل الكوكب) عن «جهنّماته الصغيرة»، وعن خواطر الفلاح وهو يبذر شجرة العائلة، وكيف «آمَنَ جداً بالظلّ»، وعن أبناء النار: تلك الفصيلة الآيلة للانقراض.

هذا القلم النثري الرشيق إذن هو موهبة أخرى لجاسم لا يعرفها الكثيرون، وكم تحتاج هذه المقدمات المتفرقة بين الدواوين إلى أن تأتلف ضمن كتاب سرديّ واحد يقدم نسخة ثانية -نثرية هذه المرة- عن رؤية هذا الكائن المجازي للعالم.

وبعد، فحسبُ هذه الرحلة الممتدة مع شعر جاسم: أُلفة الصحبة، ومتعة الشغب، ونُزهة الطريق؛ دون أن تدَّعي الوصول إلى أحكام ناجزة ونتائج مغلقة، فـ«الشعر أبعدُ من ذلك مَرامـًا، وأعزُّ انتظامـًا»، وعلى كثرة تردُّد اسم الشاعر في هذه القراءة، فمن الواضح أنه لا يُحيل إليه كشخص، بل إلى تجلِّيه الإبداعيّ كنصّ، وهو التجلِّي الذي سيظلُّ باستمرار عصيًّا على الاختزال، ومنفتحـًا على شُرفة التأويل، وسيبقى دائمـًا-كما قال الشاعر-: (يوسف أجمل في القصيدة):

لُـغـزي تـعــثَّـر فـي احـتـمـالٍ خـاطــئٍ           فَكَبا على أرضِ الحلولِ، وأشْكلا

كـلُّ الـمفـاتـيـحِ الـغـشـيمةِ أخطأتْ           سِــرِّي، فـلـم أبـــرح كــيــانـــًا مُـقـفَـلا

أنـا فـي امـتـدادِ حقـيـقـتي لا أنــتهي           مـهـمـا نــزلـتُ مِـن الـنـهــايــةِ مـنـزِلا

فـي كـلِّ حـاجــزِ لـحـظــتـيـنِ أطُــوفُـهُ           تــنـمــو الـــرؤى وأكــادُ أن أتـــبـدَّلا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى