في البدء كان الناقد
قال «تيبوديه»: «قبل القرن التاسع عشر كان هناك نقّاد، لكن لم يكن هناك نقد»[1]. من هنا يبدو أن النقد قبل القرن التاسع عشر لم ينشأ بعد بوصفه نوعًا أدبيًا. وتجدر الإشارة إلى أن مصطلح «نقد» عرف تطورًا في أصوله الإغريقية، حيث أخذ معنى البتّ في أمر خصومة ما. وفي ارتباطه بالطب؛ يعني «اللحظة الحرجة»، وهي لحظة التحول في مرحلة المرض. أما في العصر الهيليني فقد اكتسب معنى دراسة النصوص الأدبية[2].
بذلك، عرف النقد منذ القرن التاسع عشر تطورًا مهمًا، في ارتباطه الوثيق بالنظريات الفلسفية المؤطرة له، وبالمناهج النقدية التي سعى من خلالها نحو تحقيق شرط الصرامة العلمية، بدل الإطلاقية التي ترمي إلى أن كل حقيقة تنبثق عن العقل، و«أن (..) الجمال والطبيعة الإنسانية والخير واحد في كل الأمكنة وكل الأزمنة»[3].
إن النقد في القرن السادس عشر لم يأت بشيء إيجابي يذكر، بل انشغل بالخلق والعمل، ولا أدل على هذا ما جاء به ماليرب في تعليقه على ديسبورت حين اهتم بنظريات في مادة اللغة والعروض أكثر من الحديث عن المآخذ التي أخذت عليه ومزاياه، نظرًا لسيطرة مشكلة القواعد والقوانين في النقد حتى عام 1660.
أما في القرن السابع عشر وبعد أن انتظمت الحياة الأدبية، وأصبح الكاتب له مهنة مستقلة، فإن النقد باسم القواعد، نتجت عنه مشاحنات عنيفة، ليأخذ في أغلب الأحيان شكل الهجاء. لذلك، تعد الخصومة التي انفجرت عام 1687 بين القدماء والمحدثين حدثًا مهمًا في تاريخ النقد، إذ أظهرت هذه الخصومة في حجج أنصار المحدثين بذور تغير النقد نحو نظريات حديثة، تتأسس على فكرة التقدم وعمومية العقل.
تبعًا لهذا السياق، نجد فونتيل –على سبيل التمثيل لا الحصر- قد جعل من العقل مقياسًا موضوعيًا للحكم، وذلك ليُنحِّي كل ما هو خارجه وما له علاقة بالخيال سيما الشعر. لقد سعت هذه الحركة الحديثة؛ من خلال اعتمادها العقل وتفضيلها للفكر على الفن أن تنفي الشعر، و«تجعل من العقل الحاكم الوحيد في موضوع النقد الأدبي. وكتاب «الخواطر النقدية» (1719) لدبوس، يحوي ردة فعل ناجحة لخلق النقد الذي يعتمد على الشعور. إنّ العمل الفني بالنسبة إلى المؤلف، لا يمكن الحكم عليه بالعقل بل بالقلب»[4].
لهذا، فحصيلة الفكر في القرن الثامن عشر، سمحت للنقد أن يجد طرقًا منهجية جديدة أكثر ثباتًا وذات نتائج هامة. ولعل ظهور كتاب «مدام دوستال»، عام 1800، بعنوان: «عن الأدب في علاقاته مع النظم الاجتماعية»، قد أدى إلى اعتبار المؤلفات الأدبية ليست انبثاقات لماهيات أزلية، بل ظواهر يمكن دراسة أسبابها ونتائجها وَفْقَ الظروف التي أنتجتها، لا وَفق مقاييس ثابتة وعامة. فضلًا عن ظهور كتاب «عبقرية المسيحية» لشاتوبريان، عام 1802، الذي ربط بين الأدب والدين. ولذلك، أصبح النقد لا يسعى إلى البحث عن العيوب أو فحص المؤلفات الفكرية بشكلٍ هزيل وتافه، بل أصبح -حسب شاتوبريان نفسه- «نقد مواطن الجمال»، ما جعله يتنحى شيئًا فشيئًا عن الأسس العقائدية، وقد أسهمت التحولات السياسية والاجتماعية في خلق وضع حقيقي له، بل ذهب أبعد من ذلك؛ إذ أصبح مهنة ازدادت أهميتها في القرن التاسع عشر بفضل جحافل الصحفيين والأساتذة؛ أيّ الشروع في عصر حرية النقد.
النقد والنقد المطلق
لقد أصبح النقد، في ارتباطه بوظيفة الناقد، يهتم بالحكم على المؤلفات الأدبية من حيث قيمتها، ما دام الأدب مجالًا للقيم. لكن الإشكال هو انحيازه للإطلاقية؛ فتحت ذريعة الموضوعية، أصبح الناقد يحتكم إلى معايير قبلية مطلقة بالغة القسوة، لتبقى نظرته قابعة في برجها العاجي، دون تمهيد مسبق بالشرح والتفسير والفهم أو بمجرد تعليق.
وَفق هذا، يعد النقد المطلق من ناحية نظرية، لا يمكن فصله عن نظرية فلسفية جمالية تتميز باعتبار الحق والخير والجمال قيمًا مطلقة «وفعلًا إن النقد وعلم الجمال مرتبطان جدًا عند معظم نقّاد المدرسة المطلقة، حتى أنهما يختلطان، أحيانًا، كما لو كان الحكم النقدي -بالضرورة وفي الوقت نفسه- نظرية بمنتهى التأكيد، بالنسبة إلى الأدب»[5].
ومن أمثال رواد هذا النقد؛ نجد نيزار، المبشر بالحقيقة في مؤلفه «شعراء لاتينيون» ، وسان مارك جيراردان، منشد الفضيلة باعتبارها مقياسًا للجمال، إلى جانب ينبوموسين لومرسيه، «الذي كان قد كتب أن واجب الكُتَّاب هو نقل فلسفة صحيحة، والدفاع، في محكمة الشعور، عن حقوق الأخلاق العامة والأخلاق الخاصة، وقضية الفضائل المطعومة»[6].
إنّ سعي النقد نحو هذه الوجهة ليس في شيء، لأنه بقدر ما كان عليه أن يلامس حقيقة الأثر الأدبي في حد ذاته، إلا بقدر ما يقترح فلسفة جمالية قبلية من خلال المعارف والرؤى فقط. لكن، مع ظهور سانت بوف، ومن جاء بعده؛ سيتم انتشاله من وهدة الإطلاقية نحو طريق مقاربة السر الأدبي بعيدًا عن الذاتية والانطباعية.
النقد: بحثًا عن صورة المؤلف
إنّ الجهد الذي بذله النقاد في بداية القرن التاسع عشر، كان جهدًا نحو تحقيق موضوعية علمية بعيدًا عن العقائدية أو الأحكام المطلقة التي كان يرتهن إليها النقد. ومن أبرز هوؤلاء النقاد: سانت بوف، وفيلمان، وتين، وبرونتيير، وهانكان، وبورجيه؛ وغيرهم.
يعد سانت بوف من أوائل النقّاد الذين بذلوا جهدًا جديًا للتخلص من النقد المطلق. حيث كان معاصرًا لنيزار، وسان مارك جيراردان. وقد اضطره فشله في أن يصبح شاعرًا وروائيًا إلى أن يتحول إلى النقد الذي اعتبره فنًا بشيء من الضّغينة. وهذا ما جعله يضع مواهبه الخلاقة في النقد الذي لم يعد اختصاصًا هامًا آنذاك، بل فنًا أدبيًا كغيره من الفنون. لذلك، بدأ نقده مبشرًا وداعيًا للمدرسة الرومانسية، «وهذا ما يتجلّى في كتابه «الجدول»، وكذلك في مقالاته لمجلة «باريس»، باحثًا –لدى الكلاسيكيين أيضًا- عن أسلاف أو عن خصوم للرومنطيقية، أو بترويج مؤلفات أصدقائه»[7].
لكنه، سرعان ما وجد طريقته في النقد التي ارتبطت عنده بالمنهج التاريخي، وقد أطلق عليها: «الصورة الأدبية»، من خلال مقالاته التي جاءت بعنوان: «الصورة قبل أحاديث الاثنين»، وذلك منذ عام 1830، حيث تنتظم الصورة عنده بالبحث عن عدد كبير من الحكايات عن الكاتب، بالبحث عن أصل البطل وظروف عيشه وعقدة شخصيته، مع بعث عدة تفاصيل من حياته المعبرة ليؤلف صورة الأديب موضوع البحث.
وسيعرف منهجه النقدي تطورًا ملحوظًا في «أحاديث الإثنين»، و«أحاديث الإثنين الجديدة»؛ حيث تميز أسلوبه بالميل نحو موقف «علمي» أكثر حرية ومعرفة. مع العلم أنه سقط في أخطاء عديدة تجاه معاصريه، بسبب كلاسيكيته التي وإن كانت متحررة من العقائدية، فإنها لا تخلو من البهرجة «بسبب بعض التنافر في المزاج الذي يجعله ضد الأثر أو ضد شخصية أحدهم: لم يفهم، مطلقًا، بلزاك، كما رفع إلى القمة كتّابًا سقطوا، اليوم، في عالم النسيان. كما أجحف بحق شاتوبريان إحجافًا كبيرًا (…)»[8].
النقد والموضوعية العلمية
أدى التطور، في منتصف القرن التاسع عشر، للعلوم الفيزيائية الكيميائية بالفعل إلى استعمال منهج جديد، وهو منهج التوضيح العلمي على المؤلفات الأدبية، حيث يَعْتَبِر أولًا، الأثر الأدبي نتاجًا تاريخيًا ونفسيًا واجتماعيًا. وثانيًا، ينبغي أن يهتم به بالشرح والتفسير. وثالثًا، الحكم عليه بشكل موضوعي من خلال عملية التفسير هاته. وهكذا، انفتح النقد، آنئذ، على رؤية جديدة.
برز في هذا الاتجاه أمثال: فيلمان، وتين، وبرونتيير، وروجيه (…). حيث فسح فيلمان مجالًا كبيرًا للموضوعية باعتباره أحد تلامذة «مدام دوستال»، فمفاهيمه النقدية جديرة بالاهتمام على الرغم من إفراطها في الافتراضات، و عدم دقة منهجه. لكنه يبقى من رواد تاريخ الأدب والأدب المقارن.
أما تين فإنه دأب على منهج قائم على التجربة والمنهجية، حيث يعاين ويشرح، كما يفعل عالم النبات، «إن هذا العلم هو نفسه نوع من علم النبات التطبيقي، لا على النبات، بل على المؤلفات الإنسانية»[9]. وبحكم تأثره بالفلسفة المعاصرة، من أمثال: سبينوزا، وهيجل، فقد كان ينطلق من الوقائع للتوصل إلى الأسباب التي تدعمها، حيث ينبغي اسخلاص «العلاقات التي تفضي إلى السبب الجوهري لمجموعة وقائع خاصة، وإلى الظروف أيّ إلى الجواهر الأخرى التي ارتبط بها السبب الأساسي»[10].
لذلك، فالمتطلبات النظرية المعروفة عنده هي «الملكة الرئيسة» من جهة، و«العرق والبيئة والزمان» من جهة أخرى. لهذا، فهو يجمع بين النقد النفسي من جهة والنقد الاجتماعي من جهة أخرى، حيث يرجع العاملين الاجتماعي والتاريخي إلى العامل السيكولوجي، مع العلم أن نقده ينتهي به بالفعل إلى عموميات وفرضيات وحتميات ضيقة لا تعدو أن تكون رؤية مجردة للفكر، ومع هذا يرجع له الفضل في أنه أعطى معنىً للإنسان، من خلال انتصاره إلى فكرة الجمال في الأثر الأدبي، المستوحاة من هيجل، «الجمال هو التجلي الحسي للفكرة». لهذا السبب أو ذاك، بقي رهين فلسفة مثالية أبعدته عن الفلسفة الموضوعية الحق.
وبخصوص برونتيير، فقد حاول بدوره مناهضة الذوق الفردي في النقد، وذلك بإقامة أسس بعلم نقدي يعمد إلى الموضوعية. وعلى الرغم من تلاعبه بهذا المفهوم، فيحسب له بخصوص منهجه العلمي مفهوم «النوع الأدبي»، الذي يعبّر بطريقة عن الجوهر الأدبي، فالأنواع الأدبية مثل الأعراق تتطور «وفق مفاضلة تقدمية، وتعقيد متزايد. (حيث) هناك تتابع وليس مجرد تغيير في تاريخ الأنواع، فهي تولد وتتثبت وتتحول ويوجد بين الآثار التي هي من نوع واحد روابط تسلسلية، يجب على (المنهج التطوري) أن يجدها (…)»[11].
لكن يبدو في ما بعد، أن كلاًّ من هانكان، وبورجيه قد أخذا مفهوم «النقد العلمي» بمضمونه الجدي من حيث اعتمادهما على التحليل النفسي الاجتماعي، على الرغم من أن الفارق بينهما يتجلى في ميلهما نحو الجانب النفسي؛ فإذا كان الأول يعتبر النقد وسيلة مجدية في تحليل الحالات النفسية سواءً عند الأفراد أو في البيئة. فإن الثاني يهتم بالقيمة الاجتماعية للأثر، القادر على نقل الإرث السيكولوجي الذي لا يعدو أن يكون تأثيرًا متشائمًا وقع تحت تأثير الانفعالية أو الحبّ أو الحياة الكونية، أي عدم التلاؤم بين الإنسان والبيئة، وهذا ما ينتج عنه ما يُسمى بـ«الأزمة الأخلاقية»[12].
من الانطباعية نحو مناهج سِعة العلم
وعلى الرغم مما وصل إليه النقد من موضوعية ومنهجية علمية، لم يتوان في التوجه نحو الذاتية، خاصة بين عامين 1885 و1914. فإذا كان النقاد يحاولون التوصل إلى معرفة علمية أو حكم موضوعي تجاه الأثر الأدبي، فإن الانطباعيين لا يعنيهم سوى لحظة التقاء الذات بذلك الأثر. لهذا حادوا بشكلٍ كبير «عن الغاية التي حددها سانت بوف للنقد إن لم يكن قد توصل إليها، ألا وهي الوصول إلى النفس، وإلى ذاتية غريبة. لكن الناقد الانطباعي يجب أن يعلن أن غايته هي ألا يتكلم إلا على نفسه»[13]. ومن أعلام هذا الاتجاه، نذكر بول لوميتر، وأناتول فرانس، وريمي دوغورمون، وأندريه جيد، وآخرين.
ويَعْتَبِرُ النقادُ الانطباعيون النقد نوعًا من الرواية التي تستخدمها العقول الواعية؛ فهي خليط من الفلسفة والتاريخ التي تؤسس لسيرة الناقد الجيد الذي يروي مغامراته وسط روائع المؤلفات. «إنّ منهجهم هو ألا يكون لهم منهج، فكل نظام يبدو لهم قبليًا مريبًا. ثم إن الانطباعيين يكرهون -أيضًا- الرياء؛ إنهم يقولون: لنكن صريحين أليس كل نقد -بالفعل- انعكاسًا للأثر، من خلال النقد؟ ولماذا لا نقبل -بحرية- هذا الوضع؟»[14].
لقد ذهب كل من لوميتر وفرانس إلى أن يصبح النقد لطيفًا بالاستناد إلى فلسفة أبيقورية عمادها اللذة والفن، وعلى الرغم من هذا، فإن لوميتر يحاول الابتعاد عن الانطباع الصرف نحو ضرورة التأليف، والتنظيم، والتجريد، بما يوحي بوجود نظرية ضمنية، في حين أن فرانس يجعل من النقد أبعد من مجرد لذة القراءة، حيث تشكل لديه دراسة الكتاب وسيلة فعالة لفهم الإنسان على نحو أوسع. أما غورمون فالنقد في نظره لا يقتصر على زرع الشكوك أو الهدم أو النفي، بل قائم على الفهم، والكشف عن القانون الداخلي للأثر الأدبي والوعي بمركز تعبير المؤلِّف. والأمر نفسه مع أندريه جيد الذي عمل من خلال مجمل كتاباته على أن يبني سيرة حياة فكرية.
وبوجه عام، فالنقد صعب أن يتمسك بحرفيته المنهجية والموضوعية. لذلك، فالانطباعية ضرورة يشعر بها النقاد مهما كانت صرامتهم التي تمثلت في اتجاهين: الاتجاه الصحافي مثل: نقد بول سوداي، وكليبر هادنز، وغيرهما. والاتجاه المقالي مثل: آلان في كتاباته عن ستندال أو بلزاك.
تبعًا لهذا، حاول النقد العلمي أن يتابع مسيرته نحو ضمان الموضوعية في الدراسات النقدية التي كادت الانطباعية أن تنفيها عنه، مستفيدًا، في هذا، من النقد الجامعي الذي حاول تجاوز الخطابية، نحو الحرص على الدقة والصرامة، وذلك بفعل إصلاح التعليم عام 1902.
وقد ظهرت مناهج النقد الموضوعي في مطلع القرن الحاضر؛ حيث حرصت على تدخل روح التاريخ في النقد الأدبي مثل ما ذهب إليه غوستاف لانسون. لذلك، تعمد هذه المناهج إلى تقصي التفاصيل؛ للتأكد أولا من النصّ الذي نقرؤه، ثم تقييمه من خلال دراسة القواعد والأسلوب وتفسير الإشارات العامة والخاصة المبثوثة بين ثناياه. علاوةً على النظر في مؤلفات الكاتب الأخرى وسيرة حياته ومشاركاته ومصادره في أفق التوصل إلى مكانته وأهميته في التاريخ الاجتماعي والتاريخ الأدبي.
لقد حاول هذا النقد، الانفتاح على تقنيات جديدة تمثلت في السهر على فهم الإبداع الروائي والشعري، أيّ كيفية بناء النص، وإنشاء القول من خلال الفهم والشرح لمثل هذه الأنواع الأدبية، بواسطة سُبل لم يعرفها صاحبها بشكل مباشر.
من النقد الإبداعي إلى النقد الوضعي
لاغرو أن أعمال هؤلاء النقاد جميعهم يمكن أن تلتقي في نقطة مركزية واحدة، هي مفهوم «الإبداع»، من خلال آرائهم التي تكونت عن الشعر والرواية والأثر الأدبي عامة. ويذهب أنصار هذا الاتجاه إلى اعتماد النقد الخلاّق؛ أيّ إعادة خلق الأثر الأدبي من جديد، وقد مثله كلّ من تيبوديه، وفاليري، ودوبوس، وجالو، وريفير، من خلال الخوض في مجال الأسلوب الفكري أو الشعوري، حيث «يستخدمون قواهم بعنف في نضال مع المادة الروحية التي تقدَّم إليهم، وقد جعلوا بينهم وبينها مسافة أكبر، موضّحين أنفسهم وغيرهم»[15].
ويرى هؤلاء النقاد أن الكُتَّاب لا يشكلون جزءًا من هذا العالم، بل هم عوالم بأنفسهم، ونظرًا للدور الذي لعبته الفلسفة «الإيونية» خاصة، ذهب ألبير تيبوديه إلى عدم فصل المعرفة الحدسية عن المعرفة الشاملة، حيث يعتبر نفسه مجرد متسكع في جمهورية الآداب، مقتفيًا أثر الأجيال السابقة والمعاصرة بتذوقٍ أبيقوري للكتب خاصة حين يكتب عن الشعراء، فإنه يكون مبدعًا في نقده لهم إلى درجة الشعرية. لكنه يحرص على الحدود الضرورية بين النقد والإبداع.
في حين، نجد فاليري قد نحا بالنقد نحو معرفة ما هو الفكر؟ حيث يسبر أغوار المؤلفات باحثًا عن أسرار صُنْعها وسيرِها ليعيد بناء سير الفكر، ووَفْقَ هذه النظرية الفاليرية فـ«المُؤلِّف ليس هو سبب الأثر، إنما الأثر هو الذي يخلق المؤَلِّف (و) هكذا (ينبغي) أن نوجه أنظارنا نحو الأثر المكتوب»[16].
بينما يذهب كلّ من دي بوس، وجالو في كتاباتهما النقدية إلى حدّ الانصهار في شخصية المؤلف، فالمساهمة الكاملة في الموضوع تبقى، في آخر المطاف، مغامرة شخصية، حيث يقترب النقد هنا من التقدير التدريجي في التحليلات الدؤوبة.
إنّ عدم الثبات في مثل هذه الموضوعات جعلت كلاًّ من جيرودو، وتيري مولنيه يعمدان إلى الخيال المبدع الذي كانت عليه الرواية أو الشعر أو المسرحية، بواسطة الحدس؛ يتم استعادة القانون الداخلي للكتَاب. «ومجمل القول، إنّ النقد المبدع، في مظاهره كافة يجيب على سِعة العلم، كما أن الانطباعية تجيب على الوضعية الضيقة لتين»[17].
ومع ازدهار السيكولوجية التحليلية والمخططات الماركسية، ظهر النقد الوضعي، مُجَدِّدًا في الرؤية النقدية الحديثة، من خلال توافر الوسائل التقنية التي نباشر بها الأثر والتحيز نحو التفسير العلمي الذي لا يتجاوز أنظمته الأدائية، وذلك في أفق يهدف إلى فلسفة إنسانية، بعيدًا عن العقائدية أو الانطباعية.
ومن أهم المفاهيم التي يقبلها التحليل النفسي هو التحديد الضيق للسلوك، مع إيلاء أهمية للطفولة الأولى والدور الذي تؤديه الصراعات النفسية الداخلية، علاوةً على الاهتمام باللاشعور. وبذلك يولي أهمية لمقاييس التقدير الباطنية ما دام الأثر أصيلًا يعبر عن واقع نفسي عاشه المؤلف. وأبرز نقاد هذه الأصالة باشلار، ورولان بارت.
وإذا كان باشلار يغوص في حقيقة حلمية، كي تصل الصور والاستعارات إلى القارئ، فإن بارت يكشف النقد في نتاجه عن وحدة الموضوع والشبكة المنظمة لفكرة ثابتة، وذلك في أفق إماطة الحجاب عن الرباط بين الإنسان والأثر.
ومادام التحليل النفسي لا يتورع، بين الفينة والأخرى، عن الرجوع إلى العامل الاجتماعي؛ سواءً «من وجهة تأثير الأسرة في الشخصية، أو من وجهة الأصداء المتداخلة بين المبدع والقارئ (…)»[18]، مثل يونغ الذي عمد إلى «اللاشعور الجمعي»؛ فإن السيكولوجية للتحليل النفسي، تبدو جد ضيقة، في حين يبدو أن علم الاجتماع قادر على ربط الأثر، وبطريقة جديدة ومجدية، بظروف البيئة بواسطة مفاهيم ملائمة.
لهذا، ظهر النقد الماركسي، باعتماد النقط الآتية: البنية التحتية المرتبطة بالحياة الاجتماعية التي هي عبارة عن نتاج للحياة المادية، في مقابل البنية الفوقية التي تبنيها الطبقات أثناء صراعها، وهي ما تمثله الحياة الثقافية والسياسية والدينية وغيرها، فضلًا على الصراع الطَّبَقِي الذي يعد محركًا للتاريخ، سعيًا إلى الاستيلاء على آليات الإنتاج. وعمومًا ينبغي «ألا ننسى أن المواضيع التي تستند إلى التحليل النفسي تحفظ، دائمًا، طابع الفرضيات، وأن الماركسية ليست بفلسفة مغلقة، ولكنها منهج مفتوح»[19].
النقد والفلسفة: التكامل الإيجابي
وتبعًا لعلاقة النقد بمختلف مظاهر التطور الوضعي، تبقى مهمة النقد الجوهرية، وباختصار، هي الفهم باعتباره «المورد الوحيد للتقدير الذي هو إدراك وعي يعكس، بطريقة مجدية أو غير مجدية عالمًا ملموسًا ومحددًا، تاريخيًا، لوعي يعيش من خلال الأثر الذي يخلقه وعلاقاته مع هذا العالم، إذ يشارك، أخيرًا، (في) خلقه من جديد»[20].
وسار على هذا النوع من النقد الفلسفي العديد من النقاد؛ سارتر، وبيغان، وموريس بلانشو، وجورج بوليه، وجان بيار ريشار، وغيرهم. ويستند هؤلاء إلى فلسفة واعية للأثر الأدبي، باعتبارها تمثيلًا للعالم وإعادة بنائه من جديد في نطاق الاختيار الوجودي، ما دام الأدب يشكل بعدًا من أبعاد الوعي الإنساني في علاقة مزدوجة مع العالم.
وبخصوص هذا الموضوع، نجد سارتر -على سبيل التمثيل لا الحصر- في مؤلفه «ما الأدب؟»[21]، قد حاول الإجابة عن ثلاثة أسئلة وهي: ما الكتابة؟ لماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟ في ارتباط الكتابة بالنثر. وبذلك، توصل إلى المبتغى من هذا هو الكشف عن العالم من حيث الوجود الإنساني بما هو وجود يتعرّى أمام الآخرين ليتحملوا كامل مسؤولياتهم تجاهه. أما الأدب عند نادو فهو تعبير عن العالم والإنسان لبعث انفعالات وأفكار وتصرفات جديدة. وعند بياردو بواديفير فهو «وساطة»؛ فكل إبداع أدبي يفصح عن الوجود الإنساني ومدى اندماجه في الكون المحيط به. وعند روا هو سؤال في حدّ ذاته. وعمومًا «فالموضوع هو أن يُظْهِرَ النَّقد كيف حقق كاتب ما في عصرٍ ما، وخاصةً في عصرنا، مهمة أن يشهد، أن يكون له موقف»[22].
إنّ النقد الفلسفي بهذا المعنى، ينبغي أن يقلل من البحث عن النيات العميقة، وبعد ذلك، محاولة إدراك الميتافيزيقية، ليست كأفكار نظرية، بل تجارب نقلت من قبل الكاتب ليعانق من خلالها الوضع البشري من الداخل. وهذا ما دأب عليه كلّ من كلود إيدموند ماني، ور.م.ألبيويس، وي.ه.سيمون، وفرانسيس جانسون. لهذا يسعى هذا النقد «أن يُكوِّن وعيًا للأدب الذي يحيا، أكثر من أيّ وقت مضى، من نبضات الإنسانية نفسها، ولقد تم الاتفاق على أن الوعي، في زمننا هذا، إن لم يكن كل النقد، فإنه -على الأقل- جناحه السائد»[23].
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
الهوامش:
[1] – كارلوني وفيلو؛ النقد الأدبي. ترجمة: كيتي سالم. كتاب الدوحة. ط1. مايو 2019. عدد139. ص7.
[2]– ميجان الرويلي وسعد البازعي؛ دليل الناقد الأدبي. المركز الثقافي العربي. البيضاء. ط2. 2000. ص201.
[3] – كارلوني وفيلو؛ سابق. ص25.
[4] – نفسه. ص15.
[5] – نفسه. ص22.
[6] – نفسه.ص24.
[7] – نفسه. ص29.
[8] – نفسه. ص33.
[9] – نفسه. ص41.
[10] – نفسه.
[11] – نفسه. ص46.
[12] – نفسه. ص52.
[13] – نفسه. ص55.
[14] – نفسه.ص56.
[15] – نفسه. ص81.
[16] – نفسه. ص86.
[17] – نفسه. ص91.
[18] – نفسه. ص100.
[19] -نفسه. ص104.
[20] – نفسه. ص108.
[21] – A regarder J.P.SARTRE: Qu’est-ce que la littératutre? Folio essais.Ed Gallimard 2015.
[22] – نفسه. ص110.
[23] – نفسه.ص120.