«أعتذر، ولكن لا بد أن أعترض؛ فأنا لا أنتمي إلى دائرة الفلاسفة. إنّ مهنتي -إنْ جاز تسميتها مهنة- تنتمي إلى النظرية السياسية» كان هذا ردّ حنّة آرنت على سؤال الصحفي غُنتر غاوس في مقابلة تلفازية شهيرة أُذيعت عام 1964.
يبدو غريبًا أن حنة كوهين آرنت تتشدّد على فصل نفسها عن التخصص الذي درسته في جامعتي ماربورغ وهايدلبرغ. كتبت تقول: إنّ الجامعات الألمانية «لم تُدرِّس الأبستيمولوجيا، وفلسفة الجمال، والأخلاقيات، والمنطق؛ بل تفاصيل أغرقتنا في بحرٍ من الملل» (Thinking Without a Banister, p.420, 2018). ورغم جفاف الحياة الأكاديمية؛ إلا أنها نالت درجة الدكتوراه في موضوعٍ غير متوقع: القديس أوغسطين ومفهوم الحُبّ. كما أنها كانت المرأة الأولى التي درَّست الفلسفة في جامعة برينستون، وآخر كتاباتها -غير المكتملة- «حياة العقل» (نُشِرَ بعد وفاتها عام 1978) كانت تحليلًا لظاهرة التفكير، والإرادة، والحكم، وقد كان كتابًا تطفح التأملات الفلسفية من جنباته؛ فمثلًا، تقول «المبتذلات (الكليشيهات) -تلك العبارات المخزّنة التي تلتزم بآداب التعبير المقننة والسائدة- لها وظيفة اجتماعية متعارف عليها مفادها حمايتنا من الواقع؛ أي: حمايتنا من الحقّ في تركيز تفكيرنا على ما يصدر من جميع الأحداث والوقائع بحكم وجودها».(The Life of the Mind, P.4). ورغم سيرتها المهنية المذهلة في الكتابة، والاحتفاءات البرّاقة المصاحبة لها (مثلًا، كانت عضوة في الأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب عام 1964)؛ رفضت ما عُرض عليها من المناصب الأكاديمية، وفضّلت عليها أن تكون كبيرة محرِّري دار نشر، وكاتبة حُرّة.
لم تكن المفكرة آرنت بنّاءةَ أنساقٍ فلسفية مثل كانط، وليست فيلسوفة ميتافيزيقية مثل هيجل، وقد كان شِعارها: «التفكير دون درابزين الدَّرَج» (Denken ohne Geländer). أُلهِمَتْ دراسة الفلسفة بعدما قرأت كتب سورين كيركيغارد في مراهقتها، وكانت -كالوجودي الدنماركي- مهتمة اهتمامًا أوليًّا منذ مستهل حياتها الفكرية حتى نهايتها بالـ «وضع البشري»، وهو أيضًا، عنوان كتابها الرابع المنشور.
وُلِدَتْ حنّة في هانوفر، وهي الابنة الوحيدة لبول آرنت -مهندس مدني- وزوجته مارثا -ناشطة سياسية- وسرعان ما انتقل والداها اليهوديان العلمانيان معها إلى كونيغسبرغ (وتسمى كالينينغراد في يومنا) التي كانت وطن عائلة آرنت الممتدة لقرون، ولم تغيّر وفاة والدها المبكرة إثر الزهري من ظروف العائلة المُنَعّمَة. ورغم أن والدتها كانت تلميذة متعصبة للمفكرة الاشتراكية روزا لوكسمبورغ؛ إلا أنها تزوجت رجلًا ثريًا دعم دراسات ربيبته.
كانت حنّة الفَطِنَة والناضجةُ نضجًا مبكرًا صعبةَ المراس؛ فهي مدخنة شرهة، وشابة واثقة في عشرينيات القرن الماضي؛ حيث برزت من جموع طلاب جامعة ماربورغ الذين كان أغلبهم ذكورًا. وقد درَست اللاهوت على يد رودولف بولتمان، الذي قيل عنه: إنه واحدٌ من أعظم لاهوتي القرن العشرين. وضع بولتمان شروطًا متطلّبة للطلاب لمن أراد منهم حضور دروسه عن إنجيل العهد الجديد؛ إذْ طالبهم بحضور مقابلة يُحدّد على إثرها إنْ كانوا أهلًا لحضور دروسه. أما آرنت فقد قلبت الطاولة وذكرت للأستاذ الجامعي شروطها هي في حضور دروسه، ووافق الرجل العظيم على مطالبها (Hannah Arendt: For Love of the World, E. Young-Bruehl, p.61).
تخصَّصت فيما بعد في اللغة اليونانية القديمة والفلسفة، وكان معلمها الفلسفي الأول هو الوجودي مارتين هايدغر، وهو الذي عاشت معه علاقة عاطفية مستَترة. ولقد كانت رسائل الحُبّ المتبادلة بينهما مليئةً بالشوق، والعاطفة المرهفة، والغرام حدَّ أنها أصبحت إلى الشِّعر أقرب: «أقبّل جبينكَ وما بين عينيكَ» كتبت تقول إلى هايدغر، الذي أجابها مسميّا إيّاها Meine Liebste (« محبوبتي») في العديد من رسائل الحُبّ. حين تُحبّ؛ تصبح حتى المهام اليومية العادية أخفّ، وتحملك نسائم البهجة. وقد كانت رسائل حُبّ حنّة آرنت، وهايدغر مثالًا على ذلك.
ندرَ أن اقتبست حنة كتابات هايدغر في كتاباتها الأولى -بله ذكره مصدرًا- ولكنها استلهمت أفكاره كثيرًا في كتابها «حياة العقل». وتُبِينُ رسائلها أن أحاديثهما الخاصة تمحورت حول الفلسفة التي كان يشتغل عليها آنذاك، وأنها أصبحت فيما بعد محورية في تفكيرها؛ ففي كتابه «الكينونة والزمان» (1927)، قطع هايدغر مع تقليد الفلسفة الغربية، كما تشكلت منذ ديكارت، الذي عدَّ العقل شيئًا شبيهًا بمتفرج على العالم. إنّ العقل أو الذات (دازاين) في تحليل هايدغر يحدده «وجوده في العالم» و«الكينونة نحو الموت»، باستعارة مصطلحاته غير الأنيقة دائمًا، والتي تميّز فلسفته.
إنّ هذا التركيز على الوجود في العالم يحوم في ظلال أهم أعمال آرنت الفلسفية، «الوضع البشري» (1958). فقد حلّلت في هذا الكتاب سمات الوجود الإنساني الثلاثة: العمل، والخَلق، والحياة النشطة (أو: Vita Activa). وكان همّها أن «العمل» -محض الحياة- عادةً ما يقدّم على حساب الخلق والحياة النشطة. وبحسب آرنت: «الفعل» (action) مع الآخرين أسمى صور الوجود الإنساني؛ ففي المجتمعات الحديثة -مقارنةً بالصورة المؤمثلة في بالها دومًا عن سياسات المدينة اليونانية القديمة- لم يعد «الفعل» تفكيرًا إبداعيًا؛ بل «يكاد يُحْصَرُ معناه في الصنع والصناعة» (P.322). ورأت ذلك مما يؤسف له، كما عدّته مفارقةً؛ إذْ «أثبتنا براعتنا في العثور على سُبل نخفِّف بها الكدح حدَّ أن فكرة إزالة العمل من عدّة أنشطة بشرية لم تعد فكرة طوباوية».
كان كتابها المهم التالي هو «في الثورة» (1963)، وقد قام على هذه الأفكار؛ ففي هذا الكتاب، تضع الثورتين الأمريكية والفرنسية إزاء بعضهما. ورغم أن العديد يمدح اقتحام سجن الباستيل في الثورة الفرنسية عام 1789؛ إلا أن آرنت تفضّل عليها ثورة الأمريكان على الإمبراطورية البريطانية. وقالت: إنّ الثورة الفرنسية انحطتْ؛ لأن قادتها أصابهم الهوَس بأوضاعها الاجتماعية؛ أي «العمل» (Work) بمصطلحاتها. بينما الآباء المؤسسون الذين كتبوا دستور الولايات المتحدة عام 1787 كانوا رجال فعل، «يعبّرون، ويتناقشون، ويقرّرون؛ وهذه كلها بالمعنى الإيجابي أنشطة الحُريّة» (P.235).
ولطالما فُتِنَتْ آرنت برجال الفعل ونسائه؛ أي: أولئك الذين يُشكّلون التاريخ تشكيل فنانين موهوبين، وذلك بتفاعلهم مع الآخرين. وكما قالت في موضعٍ آخر: «دأب الإغريق على استخدام استعارات مثل عزف الناي، والرقص، والتشافي، والإبحار تمييزًا للسياسية من الأنشطة الأخرى… لقد اعتمدت المؤسسات السياسية، بصرف النظر عن حسن تصميمها أو سوئه، على كون البشر فاعلين باستمرار؛ حيث يحمون هذه المؤسسات كما جلبوها من العدم» (Between Past and Future, p.153, 1961).
فليس مصادفةً أنها أصبحت فيلسوفة فعل؛ أي، مَنْ فتئ يتجذّر تَجَذّرًا دائمًا في عالَم الحياة النشطة، رغم أنه مطّلع وقارئ نهم إنّ الفيلسوف الذي يسمو بالحياة النشطة إلى أرقى منازل الأنشطة البشرية ليس منظِّرًا ينظّر من كرسي الراحة؛ بل هو فيلسوف فاعل اجتماعيًا. فلا غرو أن تقول: «العظمة الحقّة كانت تُرى في الأفعال الحسنة والكلمات، كما مثّلها أخيل؛ فاعل أعظم الأفعال والناطق بأحسن الكلام، أكثر مما مثّلها الصانع والحرفي؛ بل وأكثر من الشاعر والكاتب» (Between Past and Future, pp.45-46). فلعله ليس مفاجئًا إذن أن ترفض لقب «فيلسوفة».
ولهذا كتبت آرنت ما كتبته في قصيدة حملت عنوان Trost (مواساة) لمّا كانت طالبة جامعية، وكانت هذه الكلمات أوثق صِلة وأنسب بالأعوام التي قضتها في الترحال بعد التخرج. فحتى عبارة «على قيد الحياة» -بأشدّ معانيها حرفيّة- كانت تزداد صعوبة بازدياد تصاعد معاداة السامية.
وبعدما انفصلت عن هايدغر، تزوجت زميلها غانتر أندريس (أو غانتر ستيرن، كما كان اسمه في الأصل). وقد اعتقلها الغيستابو (الشرطة السرية الألمانية) لفترة وجيزة، ولكن بسبب نفحة حظ، وشرطي متعاطف أُخِذَ بسِحرها؛ أطلق سراحها. ونظرًا للظروف، لم يُخطر على بالٍ أصلًا أن تُتمّ الدفاع عن أطروحة الدكتوراه الثانية المطلوبة (Habilitationsschrift) كي تصبح أستاذةً جامعية في ألمانيا (وهذه الأطروحة -دراسة عن اليهودية ذات الوجاهة الاجتماعية؛ راحيل فارنهاجن- لم تنشر إلا في خمسينيات القرن الماضي). فرّت إلى باريس، وفيما بعد عُيّنت رئيسةً لمنظمة «عاليات هانوعار»، وهي منظمة تروم إنقاذ الأطفال من مذابح النازيين.
وأجبرها الغزو الألماني لفرنسا أن تهرب إلى أمريكا. وكانت حينها قد طلقت أندريس، وتزوجت هينريش بلوتشر، وهو شيوعي سابق درّسَ الفلسفة في كلية رفيعة المستوى في نيويورك؛ رغم أنه لم يتم دراساته الجامعية. وقد كان الزوجان قريبين من بعضهما بكل المقاييس، وكانت لهما دائرة صداقة واسعة تضمنت غيرهما من المهاجرين؛ مثل الشاعر الإنجليزي ويستن هيو أودن. وقد كتبت آرنت أعظم كتبها في نيويورك، وبلغة دولتها المختارة.
وثمّة جانب من مفارقة في أن المرأة التي كتبت «أحسن الكلام» عن شرور الاشتراكية الوطنية، وساعدت بـ«أعظم الأفعال» شعبها اليهودي في الهرب من هذه الشرور؛ لم تُترجم إلى العبرية حتى عام 1999، لمّا ظهر كتابها «أيخمان في القدس» (1963) تُرجم أخيرًا لهذه اللغة. وقد كان هذا الكتاب الصغير مسؤولًا عن هذا التأخير. كانت مخالفة رأي الأغلبية صفة ملازمة لآرنت إلى حدٍّ ما، ولم ترتح لفكرة منح اليهود دولةً في فلسطين. وكان هدفها المثالي دولة ذات قوميتين مع الفلسطينيين (Eichmann in Jerusalem, Introduction, p.x).
وفي عام 1946 -قبل قيام دولة إسرائيل- أوجست خيفة أن تصبح الصهيونية «شبحًا حيًّا في وسط خراب زماننا» (‘Zionism Reconsidered’, Menorah Journal 1945, p.172).
ومخالفة الرأي هذه لم تكن مثَار جدلٍ حتى بين اليهود، ولكن العديد اعترض على وصفها للقاتل النازي أيخمان -أحد منظمي نقل الضحايا إلى غرف الغاز- إذْ لم تصفه على أنه عقل مدبِّر إجرامي؛ بل على أنه غبي أبله مثير للشفقة، وموظفٌ صغير حوّل أعظم الشرور إلى تفاهة (ومن هنا جاء عنوان الكتاب الفرعي؛ «تفاهة الشر»). ولكن أكثر ما أثار حفيظة اليهود هو أنها -بناءً على أدلة من محاكمته- لامت جزئيًا قادة اليهود في ظلّ الحكم النازي على تسهيل «الحلّ الأخير» وذلك كي «يوطدوا الأمن أو يتجنبوا الهلع» رغم أنه يبدو أن بعضهم قد عرف الأمور المرعبة التي تنتظر أولئك الذين نقلوا إلى المخيمات (Eichmann in Jerusalem, p.199). كُتب الكتاب كونه تحقيقًا صحفيًا في سلسلة مقالات صحفية لصحيفة «نيويوريكر»، ولم تختر جميع كلماتها بعناية في هذه المقالات كما لو أنها كتبت أطروحة فلسفية، ولكن رابطة التشهير في منظمة «بناي بريث الدولية» -وهي منظمة غير حكومية تحارب معاداة السامية- أرسلت تعميمًا يحضّ الحاخامات في أرجاء أمريكا على إدانتها. وجاء في توصيف آرنت في صحيفة « The Intermountain Jewish News» أنها «يهودية كارهة لذاتها»، وهو وصف مهين، ومغلوط، وغير دقيق. ولكن عناوين عريضة كهذه هي ما حفز الصحيفة اليسارية الفرنسية المحترمة «Le Nouvel Observateur» على طرح السؤال: « Est-elle nazie؟» (هل هي نازية؟). إنّ التلويح بمثل هذه التهمة لشخص أنقذ إخوته اليهود من موت محقق محزن وظالم، وكفاك أن آرنت أيضًا، مؤلفة ما قد يُعدُّ أثقب التحليلات الفلسفية عن معاداة السامية، والاستعمار، والاستبداد؛ أعني كتابها العمدة «أصول الشمولية» المنشور عام 1951.
وهو كتاب متشعب الذيول عصي على التصنيف، ويستلهم علم السياسة والتاريخ بقدر استلهامه الفلسفة. كان «أصول الشمولية» أول كتاب يؤرخ بروز ظاهرة الشمولية الجديدة، ويفسّر أسبابها؛ فهذا الضرب من الطغيان -بخلاف النظم الاستبدادية التي سبقته- يسعى إلى حيازة سيطرة شاملة على الأفراد وعقولهم. ويشابه الكتاب كتبًا أخرى في زمانه؛ مثل كتاب كارل بوبر «المجتمع المفتوح وأعداؤه» (1945) من ناحية أنه مساهمة في نقاش تاريخي محدد، ويُقرأ في هذا السياق، ولكن يسهل رؤية أن العديد من ملاحظاتها الثاقبة قد تجاوزت زمانها، وتطبّق على العقد الثالث من الألفية الثالثة؛ حيث يستهجن الغوغائيون «الخبراء» و«النخب». فكما كتبت آرنت في 1951: «حين يناضل الناس في الثورات العظيمة في سبيل التمثيل [السياسي] الحق؛ ستنادي الدهماء دومًا “الرجل القوي”، و”القائد العظيم”؛ وذلك لأن الدهماء تكره المجتمع الذي أُقصوا منه… فما الاستفتاءات العامة، التي نال فيها قادة الغوغاء الحديثون نتائج ممتازة، إلا مفهومًا قديمًا للسياسيين الذين يعتمدون على الغوغاء» (P.106).
لم تساوم آرنت قط، وبعدما أصابتها بجلطة وهي تحاضر في مدينة أبردين عادت إلى نيويورك، ولكنها لم تقطع التدخين، ولم تقلص من دائرة صداقاتها الواسعة. وفي الرابع من نوفمبر من عام 1975، بُعيد عيد ميلادها التاسع والستين؛ أقامت حفلة باذخة في شقتها في مانهاتن، وأصابتها سكتة قلبية في حضور ضيوفها، وقد أُعلنتْ وفاتها في نفس موقع الحادثة.
«العيش بمعنى أن تكون ممتلئةً بالحياة؛ كان ذلك وما زال أقدم آمالها ورغباتها» كتبت آرنت تقول عن الروائية الدنماركية كارين بلكسين. وهذه الكلمات أليق بآرنت وأحق!