يرمي الفنُ على الواقعِ رداء الشعرية ويُضفِي عليه وجودًا آخرَ مفرطًا في الصفات والأنساق والأداء، فيحوِّله إلى موضوعٍ في الروكوكو أي تحفةً فنيَّةً تمتاز بتصميماتٍ بالغة الوفرة. إنَّ الواقع مكثَّف مثلما ينحته الفن، فالإنسان أكثر جنونًا واللغة أكثر إبهارًا من تلك التي نستعملها في الحياة اليوميَّة، كما أنه يصدح بالثنائيات التي تخلقها إرادة الفنانين، فالعالم سوداويٌّ حين يكتب عنه كافكا، ومُبهجٌ حين يصوِّره بيار أوغوست رينوار، غامضٌ كالذي نقرأه عند جول فيرن، وقاسٍ عندما نشاهده في أفلام إيليا كازان.
لو تأمَّلنا لوحات الفنان الفرنسي «إدغار ديغا» الذي اهتم بمطاردة الحركة في الزمن فرسم النساء والفتيات الراقصات سنعثر على عالمٍ سائل اِخْتُزِل في الفِعل وهو الشيء الذي يجعل من أعماله زمنية، فالحركية التي يتمتَّع بها فنه تستهدف الجسد الذي يشغل المكان والزمان وما يستطيع تحقيقه من اتخاذ وضعيات مختلفة تبعث على نشاطٍ قيمته إيجابية.
إنَّ التفصيل الصغير إذن المشتق من تفاصيل عديدة يضمُّها الواقع جعله ديغا وكأنه الحقيقة الوحيدة فيه، على عكس لوحات «بول سيزان» الساكنة التي تبدو فيها شخوصه وموضوعاته صلبة وواقعها مختلف عن الأوَّل. فهذا ما ندعوه بقوَّة الفن؛ اختطاف تفاصيل معينة أو واحدة منها وتكثيفها، وما دامت المخيَّلة هي من تعمل على تمثيل الواقع فقل ما تشاء عنه وستجده فريدًا بغضِّ النظر عن قبحه، لأنَّ كلّ ظاهرة تفترسها الأعمال الفنيَّة تقدِّمها بطريقة مغالية وتجرى عليها تشويهات لا بدَّ أن تمرّ على محطة الخيال، فالواقع في اعتقاد البعض ناقص ولا يكفي تطلُّعات الإنسان ولذلك جاء الفن متخذًا من الخيال أداةً لتغييره أو تخليصه من جموده.
لقد اشتق مصطلح الواقع (Reality) من الكلمة اللاتينية (Realis) التي تعني «ما ينطبق على الأشياء» (1) ويُقصَد به «الوجود الفعلي» أو «الوجود المتحقِّق في الأعيان» (2)، ما يفرض عليه نسقًا جامدًا يخلو من اللعب ليُصبح مجرَّد منصّة تُعرَض فوقها الأشياء كما يجب أن تكون؛ وليس كما يُحتَمل أو يراد لها أن تكون.
ولا يعني الواقعي (Real) ما هو حقيقي (True) فالواقعي يشير إلى كل ما هو حادث ومطابق لاسمه؛ أي ما يوجد بشكلٍ صريح؛ إلَّا أنَّ هذا لا يستوجب منه تقديم حقيقة جوهرية محدَّدة. فعلى سبيل التوضيح بوسعنا وصف مؤسَّسة معيَّنة تتبع جهة سياسية أو اقتصادية أو دينية بأنَّها واقعية، فهي قائمة في الوقت الراهن أو الماضي ولها خصوصيات تحدِّد معالمها بدقة، لكن عندما يُطرح سؤال عن إذا ما كانت هذه المؤسَّسة تعبِّر عن الحقيقة فهنا يجب معرفة الجواب بالاستناد إلى منهج خاص للتثبُّت من ادعاءاتها إذا ما امتلكنا في المقام الأوَّل القدرة على انجاز المهمة. فـ «الواقعي» هو ما يمتلك وجودًا فعليًا لا سبيل للطعن فيه. أما «الحقيقي» بوسعه أن ينبثق من الواقعي بالقدر نفسه الذي يمكن أن ينعدم فيه كليًا وقد يتصِّف في مراتٍ كثيرة بالنسبية، ويُلحَق بالأفكار المجرَّدة والمعتقدات أو السرديات الكبرى عوضًا عن الظواهر الحسِّية والمحسومة مسبقًا فينغمر في الذاتية دون الموضوعية.
وينطبق السؤال ذاته الذي أدرجناه من قبل على الفن، فنحن نستطيع القول عن فنٍّ محدَّد إنه قائم بذاته لكن هل ما يعرضه حقيقي؟ إنَّه سؤالٌ يحرِّض على الجدل المستمِّر ويعكس إشكالية متروكة في النهاية لمن يشتغل في فلسفة الفن.
وعلى أيِّ حال، فإنَّ بين الفن والواقع معركة محتدمة دافعها التقسيم الجائر الذي يفصل الاثنين ويقدِّس أحدهما بينما يستميت في تدنيس الآخر، وهو تمييز يتأسَّس تأويله للعالم على الازدواجية وهي الثنائيات ذاتها التي يمتصها الفن. يكون الواقع من منظور البعض مملًّا وحقيقته تغرق في الفظاعة فيُزِيل عنه الفن سِماتَه المضجرة. يكتب «فريدريك نيتشه» «لا تكون الحياة ممكنة إلَّا بفضل أوهام الفن». (3) ومهما ادعَّى أنَّه أكثر متعة من الفن، فـ لأنَّه يحاول محاكاته على حدِّ تعبير الكاتب الإنجليزي «أوسكار وايلد» حين أعلن يومًا أنَّ «الحياة تقلِّد الفن أكثر مما يقلِّدها». (4)
إنَّه حذفٌ للجانبٍ الأيسر وإبعاده عن الأيمن، وإبقاء نصف الشيء وتعزيز حضوره فقط مع تجاهل النصف الآخر، فالواقع في هذه الوضعية الوجودية والجمالية منظَّم وراكد، يتصارع مع الفنون وما فيها من مخيَّلة تمثِّل “اللعب الحرّ” المفعم بالحيوية حسب ما كان يدعوها إيمانويل كانت. يشدِّد هذا الأخير على أنَّ الحريَّة هي من بين أهم ملامح الفن، ومن دونها ليس بالمستطاع العثور عليه بسبب اعتماده على المخيِّلة بصرف النَّظر عن حاجته إلى الفكر.
توجد إذن نظرة سلبية اتجاه الواقع الذي يتضارب مع الخيال تجعله بمثابة نسخةٍ تعسُّفية من الوجود، فهو ليس حرًا لأنَّه يُبنَى ضمن الإكراهات التي تجعله واقعًا. فإذا افترضنا صحة مثل هذه المزاعم: هل يترتَّب عن الأمر خلوّه من الخيال وتفوُّق الفن عليه؟
لأجل استيعاب هذا السؤال سنأخذ أمثلة عن عددٍ من الفنون التي رأيناها مفعمة بالواقع آملين أن تؤدَّي الغرض المطلوب. وسنفتتح المقال بالفن المسرحي يليه التصوير الفوتوغرافي ثم السيرة الذاتية، لنتوسَّع بعدها في تناول المسألة المعروضة حسب عدة رؤى.
المسرح
عندما يطالع أحدهم مسرحيةً من مسرحيات شكسبير فهو يبذل جهدًا بصريًا وفكريًا، إنَّه يُكمِل إنجاز المسرحية بقراءتها، لأنَّ كلّ عمل أدبي هو في الحقيقة غير مُنجَز مثلما اعتقدَ سارتر يومًا، فهو في حاجة إلى من يقرأه ويستوعبه ويؤوِّله حتى يكتمل. لا شكَّ بأنَّ العمل سيولِّد عواطفّا في ذهن القارئ وصورًا تأخذه إلى عوالم أخرى محتشدة في ذِهنه فقط، فـ هاملت ما هو إلَّا شخصية خياليّة من عقل شكسبير وفي عقول قراءه ونقاده. لكن لنتخيَّل انتقال القارئ إلى وضعٍ يكون فيه مُشاهِدًا وهكذا بِوِسعه الآن أن يكون حاضرًا في مسرح «قصر فيكتوريا – Victoria Palace» ليشاهد مسرحية هاملت. لقد أضيفت حاسة جديدة إليه هي حاسة السمع أما حاسة البصر فقد تطوَّرت ضمن واقعٍ جديد تبيح له رؤية ما حوله وليس الاكتفاء باستخدامها في عملية التخيُّل لتشكيل صوَّرٍ مركَّبة أو استحضار ذكريات محدَّدة.
لقد بلغ المُشاهِد لحظة رؤية المشهد الذي يقتل فيه هاملت عمه كلوديوس ويرغمه على تجرُّع السم، فتبعًا له سيصابُ بدهشة وانفعالات مفاجئة لأنَّ ما حصل هو حدث يبدو واقعيًا أكثر مما هو عليه بين صفحات الكتاب. فلمَ قد يكون المسرح مُمتِعًا وذا تأثيرٍ جارفٍ على المُشاهِد بحيث يمارس عليه نفوذه بسهولة على عكس الوسائط الأخرى؟
ترجع سبب الانفعالات التي تتقمَّص المتفرِّجين إلى وجود مسافة صغيرة بين العرض المسرحي وواقعهم الآني فهو يتحرّك ويمارس الحياة على مرأى كل واحد منهم ويقلِّص بذلك الهوة التي تُبعِد المتلقِّي عن الإنتاج الفني. يكتب «جلين ويلسون – Glenn D. Wilson» أستاذ علم النفس بجامعة نيفادو بالولايات المتحدة الأمريكية: «المسرح هو ساحة اجتماعية social arena. وهو الذي يجعل خبرة الأداء المسرحي أو الموسيقي الحية live ــ أو ما شابه ذلك من أشكال الأداء ــ مختلفة عن مشاهدة الأفلام في السينما أو مشاهدة التليفزيون، هو ذلك الشعور بأنّنا جزء من مناسبة اجتماعية ما، أو من واقعة ما، تحدث الآن أمامنا».(5)
يُعامَل المسرح على أنَّه بثّ حي تقوم حواسنا باستقباله وترجمته بأنّه حادثة حصلت بالفعل، فالعقل يُصاب بحالة من التوهُّم تسمح له بأن يعيش الأجواء المسرحية بواقعية، وبشكلٍ يتخطَّى انخداعه بفيلمٍ سينمائي يشاهده رغم التأثيث المثالي في السينما الذي يتفوَّق على ما نجده في المسرح من فضاءات فارغة وديكور عادي ومحدودية في الخدع البصرية، أو التمثيل المسرحي المبالغ فيه. وهذا التجاور بين الفن ومتلقِّيه الذي يتجسّد في تواصل مباشر في المسرح بات يتجلَّى أيضًا في الأسلوب الذي يُعرَف اليوم بكسر الجدار الرابع حين يخاطب الممثِّلُ الجمهورَ ويصيِّرهم إلى جزءٍ من المشهد مستغِّلا حضورهم الضروري في هذا النوع من الفن.
لقد كان شكسبير واعيًا بانفعالات المسرح ففي مسرحية «هاملت» يقوم هذا الأخير بعرض حادثة قتل والده بوصفها مجرَّد مشاهد لإحدى المسرحيات موجِّهًا الدعوة لعمه كلوديوس الذي قتل والده لحضورها، وقد نظًم هاملت هذه المسرحية حتى يرى ردة فعل كلوديوس ويتحقُّق من اقترافه الجريمة وهو ما جعل كلوديوس يشعر بالارتباك ويغادر المكان ليؤكِّد بذلك شكوك ابن أخيه. إنَّ المسرح إذن ليس مجرَّد اعادة تمثيل للواقع، بل هو كشفٌ له ومساهمة فيه وهو نموذج مناسب لما يمكن للفن أن يولِّده من انفعال وتماهي معه وهو ما جسَّده شكسبير في «هاملت» الذي نعتبره من أذكى أعماله.
فما يميِّز المسرح عن غيره هو غياب المادة الوسيطة بشكلها المألوف كما نراها في الفنون الأخرى، وليس الأمر وكأنَّ المسرحية تُنقَل لنا في الفراغ إلَّا أنَّها ليست محصورة داخل علبة مربعة كالتلفاز أو لوحة قماش أو قالبٍ من الرخام. إنَّ المادة الوسيطة هنا هي فضاء يجمع الممثَّل مع الجمهور في مكان واحد، فالفنان لا يخلق فنه ثم يستريح ليعرضه بشكله الكامل للمتلَّقي بعد الانتهاء منه وقد صار مفصولًا عنه وإنَّما يخلقه في الوقت ذاته الذي يقدِّمه، وهو ما يحوِّل العرض المسرحي إلى عمل فني متواصل يحظى بصفة التزامنية.
إنَّ الفن المسرحي إذن ظاهرة مكانيَّة وزمانيّة نَشِطة تقوم بدورٍ إيجابي لا سلبي، وبالرغم من عروضه المجهَّزة مسبقًا إلَّا أنَّه يتسِّم بالعفوية إذْ يركَّز على اللحظة التي يؤدَّى فيها العمل فلا يخضع لأيِّ تجميل، وزِد على ذلك أنَّه يتميَّز بوجود علاقة حصرية بينه وبين الجمهور الذي يشركهم في عروضه في عملية تكاد تجعلهم ممثِّلين أيضًا.
الآلة الفوتوغرافية
عندما ابتعد الفن التشكيليّ عن أن يكون خادمًا للميتافيزيقا ومُصاحبًا لقيم الحقّ والخير مع الجمال السامي التي فُرِضت عليه؛ أصبح يثير الخيال بأساليب غير سائدة، عندما اتجَّه إلى تصوير حياة العوام واندمج أكثر في الحياة اليومية وتخلَّى عن طبقيته. لقد بات الفن التشكيلي وتحديدًا “الرسم” هو الفن الذي يسجِّل حياة الأفراد والجماعات والمعتقدات، والمبشِّر بالجمال، إلَّا أنَّه روتين تاريخيّ قد تغيَّر بعد اختراع آلة التصوير. فلقد سرقت الكاميرا التي يسهل حيازتها واستخدامها شعلَته متخذَّة دور بروميثيوس واحتكرت اهتمام الجميع فصار الانسان الحديث يعيش ويرى العالم ونفسه والآخر عن طريق الصورة الفوتوغرافية، فهي أكثر وسيلة واقعية لفعل ذلك. وقد فضَّلها الشاعر الأمريكي والت ويتمان على اللوحات فهو يصرِّح: «أجد أنني في أغلب الأحيان أفضِّل الصور الفوتوغرافية على اللوحات الزيتية، فقد تكون آلية غير أنَّها صادقة». (6)
في كتابها “حول الفوتوغراف” تهاجم «سوزان سونتاج» الادعاء الذي يرى التصوير “أكثر الفنون واقعية” فلا يمكن ابتذاله لما له من أبعاد أخرى بعيدة عن الواقع المحض، وتكتب: «النظرة إلى الواقع كغنيمة حربية، يجب أن تطارَد وتمسَك من قبل صياد مجتهد ذي كاميرا، هي التي كوَّنت التصوير الفوتوغرافي». (7) ورغم أنَّ التصوير هو فوق واقعي على حدّ كلام سونتاج وتتخلَّل عوالمه الأوهام والمبالغة غير أنَّه يبدو أقرب إلى الواقع أو أنَّه يعتمد عليه أكثر من غيره. فما يلتقطه التصوير الفوتوغرافي هو الأحداث الواقعية، وهي أحداث لا نلبسها بالضرورة ثوب الحقيقة في كل سياقاتها وإنَّما ما هو كائنٌ في الحياة اليومية.
ولعلَّ أعلى شكل من أشكال التصوير الواقعي هو فن الشوارع بالرغم من الأبعاد الحميمية التي يختزنها، فالحياة العادية ليست حرفيًا عادية وهي كذلك ليست مقابلًا للرتابة. وعن طريق مصوِّرين أمثال «فيفيان ماير» التي وثقَّت الحياة الأمريكية في القرن العشرين استطعنا معرفة كم أنَّ الواقع وفي أبسط تجلياته؛ جميل ومضحك وغرائبي، أو قبيح ومأساوي واعتيادي وغيرها من الصيغ الجمالية والأخلاقية التي ليست حكرًا على الفن وحده، فكاميرا التصوير وما تنتجه من صور هي اللغة التي يخاطبنا بها الواقع، وهي طريقةٌ لتقديره أيضًا وترسيخه عبر محاولة إعادة إحيائه كل مرة.
صورة بواسطة فيفان ماير، نيويورك 1953
إنَّ فن التصوير الذي يُعتَبر ديموقراطيًا يلتقط واقعًا جديدًا هو أجزاء من العالم لسنا متعوِّدين على رؤيتها كلَّ يوم، وصورًا تبدو غريبة مع أشخاص يثيرون الغرابة فكل لحظة وكل شيء وكل وجه يستحق التصوير. إنَّه «واقعٌ غير رسميّ» مثلما تطلق عليه سونتاج يخزِّن حياتنا بدقة عالية، لأنَّه واقعُ الشخوص والأماكن، وذاكرة الإنسان وهو في مهمة صنع عالَمه.
فن السيرة الذاتية
لا بد أنَّ للسير الذاتية قيمتها بل صنفها الأدبي لواقعيتها ولو احتوت على المبالغة الفنيّة، فواقعُ الكاتب الذي يهديه لقارئه بعد زمنٍ من تشبّعه بروايات خيالية أو كتب أكاديمية أو قصائد شعرية، ولا تكمن أهميتها في كونها تستحضر قصصًا من الماضي وإنَّما في واقعيتها المفرطة التي تتجاوز بعض الأشكال الفنية الأخرى. وهي أشبه بسرٍّ كنسي يؤمن به الكاتب فيعترف بأفعاله وانطباعاته النفسية راويًا أحداثًا تخص شخصه، وهو اعتراف أدبي تفطَّن إليه أوسكار وايلد قبل الكثيرين منا حين كتب يومًا: «ستبقى الإنسانية على الدوام معجبة بروسو لاعترافه بخطاياه للعالم بدل كاهن» (8) فالفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو صاحب كتاب «الاعترافات»، لم يفكِّر في عنوانٍ ملائم يخدم مقاصده غيره وهو العنوان ذاته لكتاب القديس أوغسيطنوس الذي يعد من أوَّل الكتب التي يتناول فيها كاتبٌ أحداث حياته. فعَمل الأخير لا ينطوي فقط على الأيام المقدَّسة التي عرف فيها الإله الحقيقي ولكن حتى أيام شبابه والتي عرفت محطات عديدة لم يكن يفخر ببعضها، فهي خطايا بالنسبة إليه اعترف بها حينما قام بتأليفه، وهو الغرض من كلمة اعترافات.
وينبغي مراعاة تركيزنا على تلك السيرة الذاتية التي يدوِّنها أصحابها بأنفسهم عوض أن يكتبها غيرهم، ولاسيما الحديثة منها فالسير في الماضي وفقًا لما ذكره إحسان عباس في كتابه «فن السيرة» اقترنت بالمأثورات والروايات المتداولة عن شخصيةٍ معينَّة مبتعدة بهذا عن تصوير حياته الواقعية، وقد كانت تؤلَّف لأغراضٍ دينية ووعظية، فيشوبها العنصر القصصي الذي لا يمكن التيقُّن منه. ويضيف إحسان عباس بأنَّ القدماء لم يفصلوا بين الخيال والواقع في أعمالهم فالوعي بالواقعي والخيالي ينتمي للثقافة الحديثة. ما يجعل من فن السيرة مكتملًا بشكله الغربي، فقد تطوَّر وتجدَّد في الغرب حينما صار صاحبها يقتحم الدهاليز ذات المواضيع الشخصية التي يحظرها المجتمع، فنحن نجد أكثرها قيمةً تلك التي كتبها أصحابها بأنفسهم، وقد ربط العديد من الباحثين هذه الكتابة بالشعور بالذات والفردانية التي تميِّز المجتمعات الأوروبية.
ولقد فضَّل أوسكار وايلد السير الذاتية التي يؤلَّفها أصحابها بأنفسهم على الأخرى ففي مقاله «الناقد بوصفه فنانًا – The Critic as Artist» يصرِّح بأنَّ من يكتب سيرة غيره يعدُّ بمنزلة “يهوذا الاسخريوطي”، ويزعم أيضًا بأنَّه «عندما يحدِّثنا الناس عن حياة الآخرين فهم بالعادة يبعثون على الضجر في حين أنهم وفي أغلب الأحيان يصبحون مثيرين للاهتمام إذا ما حدثونا عن أنفسهم». (9) أما رولان بارت فيطرح في كتابه «لذة النص» تساءلًا مفاده كالآتي: «لماذا توجد بعض المؤلّفات التاريخية والروائية والبيوغرافية (بالنسبة للبعض وأنا ضمنهم) لذةَ مشاهدة عرض الحياة اليومية لعصر أو شخصية؟ لماذا هذا الفضول تجاه الجزئيات التافهة، المواقيت، العادات، الوجبات، المساكن، الملابس، إلخ…؟ هل هذا هو المذاق الاستيهامي للواقع؟ (التجسيد المادي لصيغة كان ذلك)..». (10)
إنَّ ما كتبه رولان بارت فيما يخص مطالعة هذا الصنف من الكتابات يبدو سببه الرغبة في التعرُّف على الآخر وترسيخ ذاتنا من خلال الحكم على غيرنا وبالتحديد أولئك الأشخاص المتميِّزين سواء اعتُبِروا أدباء أم علماء أو أُعجِبنا بما نقلوه لنا أم عارضناه. إنَّها النظرة المتفحِّصة التي تصوَّب نحو الآخر فتجعله يختبر الجحيم أو الفردوس كما قدَّمها سارتر، وهنا نراها متعلِّقة بالأثر الأدبي الذي أقامه صاحبه من خلال واقعه، فهي إذن نظرة تقيِّم وضعه وتستمتع به. لكن أليس الواقع بالمعنى البسيط أو السلبي هو الحياة العادية والغوص في الأشياء التافهة المقيَّدة بالزمن وعمليات إدراكنا لما يدور حولنا؟ فما يصنع من السيرة الذاتية سيرةً ذاتية هو واقعيتها لأنَّ الكاتب يصبح شخصية رئيسية في كتابه وينقل لنا واقعه لا واقع شخصياته الخيالية. وعلاوة على ذلك ففن اليوميات والمذكِّرات والسير نعدُّه كعمل تكميلي أو تدميري لأعمال الكاتب فهو غير منفصل عنها وقد يشتمل أحيانًا على أسرار أو خيوط توضِّح لنا طبيعة الأعمال السابقة ودواعِ وظروف كتابتها، فهذا الفن الذي بوسعه أن يكون سيكولوجيًا في مرات عديدة، قد يتحدَّى من جهة إعلان بارت الذي ينادي بموت المؤلِّف أو يعضِّده من جهة أخرى.
وما نقصده هو أنَّ الكاتب يستطيع عبر سيرته أو يومياته ومذكراته -الأكثر تفصيلًا من الأولى- إثبات وجوده الحي في أعماله الأدبية السابقة أو إنكار تجسدُّه المباشر فيها، كاِعلام قرائه بالظروف التي مرَّ بها عند بنائها، أو أن يسرَد بوعيٍ أو من دون وعي تفاصيل مشابهة أو صفات مشتركة عرفناها مسبقًا مع شخصيات وأحداث تخص أعماله.
إنً هذه الكتابة عن الذات إذن يمكن أن تعتبر مرجعًا في تحليل أعمال صاحبها الأدبية والفكرية، غير أنَّها لا تتوقَّف عنده فحسب وإنَّما تتجاوزه إلى الأشخاص الذين يحيطون به فهي فضيحة تخلقها ذاكرته عنهم. وهذا ما نستشفه من موقف الروائية «إيزابيل الليندي» التي طُلِب منها ذات مرة أن تكتب مذكِّراتها لتجيب بأنها لا تريد أن تَعرِض عائلتها على القراء. فالمذكِّرات إذن وعلى نحو حتمي ستطال علاقات الكاتب بأهله وأصدقائه، وهو ما يجعلها اعتداءً أدبيًا يمسهم أي يُحوِّلهم إلى موضوع فرجة من دون أخذ موافقتهم في الغالب.
وغني عن الذكر أنَّ عددًا من الروائيين قد تفطَّنوا إلى فن السيرة الذي يثير فضول القراء فألَّفوا روايات تستلهم سيرة شخصيات محدَّدة في عالم الفلسفة والفنون والآداب والتي وجدت في الواقع الفعلي لهؤلاء مرجعًا رئيسيًا لعملهم فيما يدعى بالرواية البيوغرافية – Autobiographical Novel». وهو توظيف قد يختلف معه أوسكار وايلد الذي رأى أنَّ أفضل الأشخاص هم الذين لم يوجدوا على الإطلاق -الشخصيات الخيالية- وأنَّه ينبغي على الفنان أو الكاتب أن يختلق شخصياته بدل نسخها من الواقع.
صحيح أنَّ أعظم الشخصيات في تاريخ الأدب أكثرها خيالية، وذلك لأسباب عديدة واحدٌ منها هو شح التأليف الذي يستثمر في الشخصيات الموجودة مسبقًا فما ساد وقتها هو الأعمال التي تُكتَب عن الخياليين. إلى جانب السبب الثاني وهي أنَّها شخصيات جديدة كليًا تثير الاهتمام وتتمتَّع بالأصالة والحرية فالمؤلِّف غير مقيَّد بأي نمط أو أحداث تلحق بها لأنَّه حرُّ في خلقها من العدم وتكوينها بطرق فريدة أو غير مألوفة؛ ما يجعلها متميَّزة عن الشخصيات الموجودة فعلًا التي لدينا فكرة مسبقة عنها.
وبصرف النظر عن الشخصيات الخيالية التي نالت التقدير غير أنَّه لو لم تكن شخصيات هؤلاء واقعية لما نالت تلك الشهرة، فشخصيات مثل «راسكولينكوف» في رواية «الجريمة والعقاب» لـ ديستويفسكي، و«جوليان سوريل» في رواية «الأحمر والأسود» لـ ستندال، و«آنا كارنينا» في رواية «آنا كارنينا» لـ تولوستوي و«إليزابيث بينيت» في رواية «كبرياء وهوى» لـ ايما أوستن و«بينوكيو» في رواية بينوكيو لـ كارلو كولودي و«الأب غوريو» في رواية «الأب غوريو» لـ بلزاك و«شايلوك» في مسرحية «تاجر البندقية» لـ شكسبير جميعها تنضح بالواقعية ويرتبط سياقها بالمجتمع والنفس البشرية.
الفن ضد الواقع
قد يعترض أحدهم ويدعي بأنَّ كل النماذج السابقة مجرد فنون نسجتها المخيِّلة لا واقع، وهو اعتراض صحيح غير أنَّها أمثلة لأكثر الفنون واقعية، الشيء الذي يتصادم مع الدعوى التي تؤكِّد بأنَّ الفن كلما اقترب من الواقع كلَّما فقد جماله ومتعته وتأثيره. إنَّ الواقع حسب اعتقاد البعض هو باستمرار مُدركٌ وجليٌ يسهل الحديث عنه على عكس الخيال وما ينتجه من فنون تبدو أحيانّا غامضة بل ويجب أن تكون هكذا كما نادى به الناقد والفنان الشكلاني روجر فراي، أما الشاعر مالارميه فقد قال يومًا «عندما تصف شيئًا ما فإنَّك حينئذ تكون قد أنقصت ثلاثة أرباع متعته… أما عندما توحي به فذلك هو الحلم». (11) ومثله الفيلسوف ثيودور أدورنو الذي زعم أَّنه إذا فهمنا العمل الفني فسيفقد قدرته على امتاعنا. إنَّه الابهام الخيالي الذي يتناقض جماليًا مع الواقع في نظر البعض، وهؤلاء في الحقيقة لم يلمِّحوا إلى الواقع إلَّا أنَّ تصريحاتهم تدلُّنا على معاداة كل رؤية تحاول تقليص المسافة معه.
لقد طرحنا في البداية سؤالًا حول إمكانية تقديم الفن للحقيقة، والرد الأمثل هو أنَّ الفن غير مطالب بإنتاج أي نوع من أنواع الحقيقة بالضرورة إلَّا إذا اتجَّهت إرادته لذلك، إنه تسامح لا نجده مع الواقع الذي يتسِّم الحكم التقييمي فيما يخصه بالسلبية في كل حالاته المتعارضة. فالواقع يخضع لعدة تصوِّرات أيضًا فقد يؤوَّل ضمن منطق رياضي يكبِّله بأغلال الحقيقة المستقرِّة والباعثة على المعاناة، والتي يدعنا الفن نهرب منها عن طريق كذبه الإبداعي وتحوُّلاته. وهناك من يرى وفق تصوُّر جمالي أنَّه يغرق في النقص والقبح على عكس الفن الذي يُكمل أو يجمِّل الواقع. في الوقت الذي هو بالنسبة للآخرين مزيَّف وحقيقته عبارة عن أوهام مسلم بأنَّها حقائق لكنها مع ذلك ميكانيكية تثير السأم، وهنا تتضِّح وظيفة الفن الذي يفضح أوهامه ويزوِّدنا بما نسميه «الحقيقة الحقيقية» التي تستمد قيمتها من الجمال. وهي قراءة لا تختلف كثيرًا عن الفلسفة في عصرها الميتافيزيقي التي بشَّرت بعالم ثانٍ مناقض لعالمنا، فهذا العالم المتعالي قد بات يُعرف اليوم بعالم الفن، وما يبدو جلِّيًا هو أنَّ الحياة المعاصرة لم تقم بتقويض الميتافيزيقيا وعوالمها لكنها حوَّلتها إلى اتجاه آخر يتفاعل مع ثقافتها ويلبِّي متطلِّباتها.
إنَّها محاولات غير عادلة إذن لأجل إنشاء نظام أبارتيد يعتمد على التمييز الجوهري بين الفن والواقع في جميع الفنون حتى تلك التي تنطلق منه. وهو اعتقاد شبيه بما نراه عند اوسكار وايلد الذي جعل الفن يعلو على الطبيعة أي ما يفرضه الواقع على الانسان فهو يكتب: «يخبرنا الناس أنَّ الفن يجعلنا نحب الطبيعة أكثر مما كنا عليه من قبل حيث إنه يكشف لنا عن أسرارها، فبعد دراسة متأنية لكوروت وكونستابل نحن نرى بذلك أشياء غابت عن ملاحظتنا. إلَّا أنَّه بالنظر إلى تجربتي فكلما درسنا الفن كلما قلَّ اهتمامنا بالطبيعة. فما يرينا الفن إياه هو عوز الطبيعة للتصميم، وجلافتها العجيبة، ورتابتها غير المعقولة، وحالتها غير المكتملة بكل ما تحمله الكلمة من معنى». (12)
وقد دوَّن هذه الكلمات في مقالته «تقهقر الكذب – The Decay of Lying» التي هي عبارة عن حوار بين شخصين هما «سيريل -Cyril» و«فيفيان «Vivian»، فالأوَّل يدعو الثانية إلى هجر المكتبة والخروج إلى الطبيعة للتمتع بهوائها النقي ومناظرها، ما يستدعي الابتعاد عن الفكر، لترد عليه فيفيان بالكلام الذي قرأناه سالفًا.
ويفرد وايلد في مكان آخر الثناء على الفن الذي يتحوَّل إلى منقذٍ للبشرية أو ملجأ يفر إليه المرء من الطبيعة غير المحتملة فيعلن على لسان فيفان: «لو كانت الطبيعة ملائمة للجنس البشري لما عرَف فن العمارة، فأنا أفضِّل المنازل على الفضاء المفتوح». (13)
صحيح أنَّ أوسكار وايلد استشهد بالطبيعة على نحوٍ سلبي مثلما فعل مع الحياة حين أجبرها على تقليد الفن غير أنه هجوم على الواقع الذي يوصم أحيانًا بنزعة طبيعانية جافة. ومثله جورج فريدريك هيغل التي تحتِّم عليه جدليته الافتراض نفسه، فالفكر في الفلسفة الهيغلية أرقى من المادة وبما أنَّ الفن يمثِّل الحقيقة المستمدة من الروح، والفكرة في تجلِّيها الحسي حسب تعريفه الشهير له فهو إذن أعظم من الطبيعة باعتقاده. ويذيع إلى قراء كتابه المعنْوَن بـ «المدخل إلى علم الجمال» بأنَّ الفن أكثر واقعيةً من الواقع نفسه وأنبل منه، فقد اعتقد هيغل أنَّ الواقعي بحق هو ما يمكث وراء ما هو حسِّي، ولهذا نجده يثني على الفن الذي يبثُّ الحقائق إلينا وليس الأوهام.
إنَّ تمجيد الفن على حساب الواقع قد يبدو في عصرنا رؤية مقبولة إلى حدٍّ ما، فكم سمعنا أوصافًا تتغزَّل بالطبيعة كتشبيهها بلوحة فنية. فالفن قد صار “مثال” الطبيعة والمبدأ الأوَّل لها وهو وفق تجربتنا الشعورية أو تلقِّينا الجمالي لم يعد يحاكيها وإنَّما هي التي تحاكيه، لقد استولى عليها كليًا فأصبحت هي من تنقاد له. بل هي اليوم محض منظر جمالي يمتِّعنا بعد أن كانت فضاء التجربة البشرية، حيث تُختزَل في مجرَّد غابات تبثُّ إلينا شعور الرهبة أو تستثير فضولنا، ومحميات طبيعية لإيواء الحيوان، وجزر سياحية للاستجمام وأراضٍ بِكر للاستكشاف يحظى أفرادها بلقب «سكان أصليين»، أو أرياف نقصدها في سبيل الابتعاد عن ضوضاء المدن. فجوهر المدينة الحداثية هي تجريد نفسها من الطبيعة إلى حدٍّ ما والتقليل منها، على الأقل هذا ما يحدث اليوم في المدن الكبرى فالمدينة بناء اجتماعي واقتصادي وسياسي وفني يسعى قدر الإمكان إلى تطويعها وتقنينها. فلا يجب أن نتعجَّب من تفضيل أوسكار وايلد قضاء وقته في المكتبة على قضائها في أحضان الطبيعة.
إنَّ أمثال وايلد وهيغل مع غيرهم يعترفون أنَّ الجميل الفني ليس كالجميل/الجليل الطبيعي ومع ذلك يعقدون مثل تلك المقارنات المجحفة، بينما في الحقيقة ليست لأحدٍ القدرة على إنشاء جدار مثل الذي يريده هؤلاء الذين يستندون إلى تطلُّعات رومانسية تتعصَّب للفن، فالواقع هو الكل الذي يضم جميع الأشياء، وكل عملٍ فني مهما بلغ من درجةٍ في التخييل ملزم بالواقع لاستحالة انفصاله عن البشر وانتاجاتهم فهو الأرضية التي يبنى عليها العمل، وما الكهوف التي تصنعها الطبيعة غير منازل وكاتدرائيات لا تختلف كثيرًا عن منزل أوسكار وايلد. أما فيما يخص آراء روجر فراي وغيره مثلما قرأنا مسبقًا، فنحن نود القول بأنَّه لا يمكن التسليم بأنَّ ثمَّة واقع مفهوم بدقَّة أساسًا كي نجعله يتضارب مع تعقيد الفن الذي يرونه حقيقته الخالصة. والفن وإنْ كان منتَجًا أساسيًا من منتجات الخيال فإنَّ هذا لا يجعله ملغَّز بالضرورة فبوسعه أحيانًا أن يتصف بالبساطة أكثر من أي ظاهرة تحصل في الواقع، أو يتموضع تعقيده المربك ورمزياته في مجرد أسلوب يفصح عن فكرة شديدة الوضوح مقتبسة من الواقع. أضف إلى ذلك أنَّ هناك من يتعامل مع الواقع على أنَّه أداة مثله مثل الطبيعة التي هي وسيلة يستغلِّها الفن، وهي تنمُّ عن وجهة نظر صحيحة لكنَّها ليست حقيقة كاملة، فالفن جزء جمالي متصل بالواقع أما الخيال فواقعٌ فني، وإذا كنا ندرك الواقع ونعيشه من خلال الخيال فعلينا ألا ننسى أنَّه بالمقابل يختزن الخيال.
الخيال والواقع
يميل عدد من الأشخاص إلى قراءة الواقع كتصوُّر شامل له علاقة بما يعتقد به المرء عوض المنظور الذي يراه موضوعًا مستقلًا عن ذواتنا، وبناءً على هذا فالواقع ليس واحدًا فحسب فهو متعدِّد ويخضع لعدَّة عوامل تقوم بصياغته سواء حرَّكها الفرد أو الجماعة. فثمة الواقع النفسي الذي يعيشه الانسان. والواقع البديل الذي يتصوَّره أيضًا. والواقع التاريخي الذي يتصِّل بِشعب، أو عصر، أو حضارة. وهناك أيضًا الواقع الفني المرتبط بالثقافة والإبداع وهو ما نركَّز عليه في مقالنا. فعلى سبيل المثال إنَّ واقع بودريار المفرط الذي يُرى كسطح افتراضي صنعته وسائل الإعلام أي واقع متفسِّخ من مبالغات تجعله يبدو لاواقع؛ هو واقع قائمٌ بالفعل يبنيه الفن أيضًا أو يصوِّره بوصفه الواقع الوحيد، فنحن هنا أمام لعبة ماتريوشكا تفاجئنا بنسخٍ متنوِّعة وسلسلة لانهائية من الواقع الذي نستطيع أن نشكِّله بشكلٍ أو آخر، وفضلًا عن ذلك فإننا نستطيع في مواقف معيَّنة تحويل ما نتخيله/ نريده إلى واقع.
لنأخذ مثالًا قد يبدو طريفًا، فكثير من الابتكارات في شكلها البدئي كانت مجرَّد أحلام وتخيُّلات أو أمنيات تمناها أسلافهم، ولو قدِّر لنا اليوم أن نحضر رجلًا من العصور الوسيطة ونجلسه أمام شاشة تلفاز حتى نحلِّل ردود فعله فلا ريب بأنَّه سيصاب بصدمة شديدة، ويظن أنَّه شيء من السحر، لأنَّ التلفاز في هذه الحالة يجسِّد موضوعًا غريبًا عن الإطار الواقعي الذي يعرفه. فالواقع يخضع للتكديس؛ ما يعني إمداده بأنساق جديدة هي أشياء ومفاهيم وصور حياتية تجسِّد تاريخًا حديثًا. وما يحرِّكه هو الخيال، الذي لا يقتصر على الفن، فجميع البشر يمتازون بمخيَّلة واسعة غير أنَّهم ليسوا جميعًا مستفيدين منها عمليًا، إنَّ الفنانين على سبيل المثال لا الحصر هم من ينجحون في تجسيد الخيال ويسعون إلى تطبيقه على نحوٍ جمالي، أما العلماء فهم من يطبِّقونه على نحو علمي أو تقني. ومن هنا نكتشف أنَّ الخيال أعمَّ من الفن أو العلم أو أي ميدانٍ آخر وبوسعنا استغلاله في أي شأن.
والواقع هكذا ليس ثابتًا وموضوعيًا، ولا يحكمه النسق الذي يتم تصورُّه باستمرار وفق قواعد صارمة فهو ليس نسقًا خارجيًا ومتعالٍ عليه وإنما يُصنَع ويتفاعل داخله، ناهيك عن وجود أكثر من واقعٍ. في الفيلم الكلاسيكي «فصل الصيف – Summertime» لسنة 1955 الذي أخرجه ديفيد لين تسافر “جين” الشخصية الرئيسية في العمل إلى البندقية فتسأل عند وصولها عن الباص، يشير عليها أحدهم بأن تستقل الباص القادم، لـ تلتفت وتكتشف بأنَّه في الحقيقة واحدًا من القوارب، وهذا ما يحوِّل الحدَث إلى مشهدٍ مضحك. إنَّ اللغة التي دلَّت جين على القارب هي اللغة نفسها لكنها بواقعٍ آخر، فطرقات البندقية نهرية، وباصاتهما وسياراتها هي قوارب لنقل العابرين، وهناك قانون مروري متحكم بالسير النهري يحترمه سكان المدينة. فإذا كانت اللغة تسهِم في صياغة الواقع ففي هذه الظروف نجد أنَّه هو من يعيد انتاجها لصالحه.
لقد تجلَّى واقع البندقية في نظر جين على أساسٍ رومانسي أشبه بالخيال، وهو ما نراه أيضًا في الفيلم المعاصر «جسر إلى تيرابيثا – Bridge to terapitha» الذي يتناول قصة الطفلين «ليزلي – Leslie» و«جيس – Jess» اللذان اعتادا في بلدتهما الصغيرة على الدخول إلى غابتها وتخيُّل عالم سحري مؤلَّف من كائنات خيالية تعيش معهم حكايتهم فيصادقون بعضها ويحاربون البقية.
تمثِّل الغابة عالم الخيال الذي يهرب إليه الطفلين من الواقع الذي تجسَّده بلدتهم المملِّة وسكانها من أطفال متنمرِّين ورجال ونساء كبار يتسِّمون بالفكر العملي وقلة الخيال. وهي لعبة ممتعة تحرِّرهم من ضغوط الدراسة والأهل، وواقعهم البديل الذي التجؤوا إليه. لكن الحقيقة أنَّ كل تلك الكائنات الأخلاقية من جنيات خيرة ووحوش شريرة هي صور الأشخاص الحقيقيين الذين عرفوهم في حياتهم الواقعية، كما أنَّها ماديًا مجرد أشجار ونباتات تخيَّلها الطفلين على هيئة مخلوقات حية. فالغابة إذن ليست منفصلة عن الواقع الذي سمح لهما بالتخيَّل لأنَّها جزء أساسي منه.
إنَّ هذا العمل يوحي بقدرتنا على تشكيل الواقع أو عيشه بطرقٍ مختلفة فهو ليس منصة متحجِّرة مثلما يبدو عليه.
عندما ننظر إلى الواقع نظرة سطحية ترجع الى الحياة اليومية أو ما ندركه عنه فسوف تجده مع ذلك يثير الدهشة، ما يجعل من الفن يستغِّله لصالحه. وقد أدرك الفنان الفرنسي «غوستاف كوربيه» هذه الحقيقة حين رسم لوحته الشهيرة «دفن في أورنان – A burial at Ornans» التي هي تصوير لجنازة أحد أعمامه فقدَّمها إلى أكاديمية الفنون بوصفها «لوحةً تاريخية – History Painting» أي تاريخًا مصوَّرًا. فكوربيه المتمرِّد على السلطة وتقاليد الفن في عصره والذي قال يومًا «أرني ملاكًا وسوف أقوم برسمه» لم يكن يعترف بشيء غير الواقع الذي نولد ونموت داخل رحمه. ورغم أنَّها محاولة للعودة إليه طِبْق منظورٍ جديد غير أنَّه منظور كوربيه الخاص به الذي حصر فيه الواقع في صور محدَّدة تحرمه من بعده الخيالي ووجوهه المتنوِّعة.
وتذكِّرنا لوحة كوربيه بلوحةٍ أخرى وهي لوحة «الثالث من مايو 1808 – The Third of Mayo» للفنان الرومانسي «فرانسيسكو دي غويا» الذي كان عبر إنجازها وفيًا للواقع أيضًا. فلطالما صوَّر الفنانون الغزو في عصره بطريقة معتدلة أو تجميلية تمجِّد أبطاله وتحتفي بمعاركه أو تم التغاضي ببساطة عن تصوير بعض الأحداث المريعة. غير أنَّ غويا وعبر لوحته التي رسم فيها جرائم جيش نابليون ضد الإسبانيين الذي انتفضوا ضده أراد أن ينقل الواقع كما شَهِدتْه عيناه من قتلٍ واضطهاد ارتُكِب في حقهم، وهو ما جعل النقاد يصنِّفون عمله كـ«أوَّل لوحة حديثة أو عمل ينتمي إلى الفن الحديث – First Modern Painting»، ورغم أنَّ اللوحة لها حمولتها السياسية باعتبار غويا وقتها رسامًا في بلاط الملك فردينارد السابع إلَّا أنَّ هذا لا ينفي واقعيتها المكثَّفة التي هي السبب الأساسي في تَميُّزها عن غيرها.
إنَّ الأفلام أو المسرحيات التي تصوِّر واقعًا ما، تاريخيًا أو معاصرًا هي كذلك واقع محكي أو معادٌ سرده بصيغةٍ أخرى، فالفن توثيقٌ للواقع. والتاريخ على سبيل المثال الذي يعدُّه البعض مثيرًا للاهتمام هو حياة يومية قديمة تتعلَّق بأحداث عظيمة أو حقيرة، وما يسمى بالعصور التي ترتبط به ما هي غير الواقع الذي اختزِل في فترة زمنية معيَّنة، فالتاريخ هو واقعٌ مضى. وما يبحث عنه علم التاريخ ليس الحقيقة لأنَّ الواقع لا يعني الحقيقة دائمًا وإنَّما الواقع المؤرَّخ الذي يمكن إدراكه كما عُرِفت أحداثه بالفعل.
لنأخذ مقالات على الثورة الفرنسية في التاريخ، إنها ثورة غرائبية تجعلنا نشك أحيانًا في تفاصيلها، فنتخيلها كقطعة فنية فيها جماليات الواقع، وربما هذا ما جعل ايميل سيوران يكتب عنها ما يلي: «إنَّ ما أفسد عليَّ الثورة الكبرى أنَّ كل شيء فيها كان يدور على خشبة مسرح، وأنَّ دعاتها كانوا ممثِّلين من المهد، وأنَّ المقصلة لم تكن سوى ديكور، تاريخ فرنسا كله (…) عرض، سلسلة من الحركات والأحداث نتفرّج عليها أكثر مما نخضع لها، فرجة طولها عشرة قرون» (14)
لقد انقلبت الثورة الفرنسية الكبرى إذن على الواقع القديم الذي قاومته وقدَّمت نسختها الخاصة بها التي تعدَّ اليوم حافزًا من الحوافز التي جعلت العالم بهذه الصورة اليوم؛ وهو واقع جديد متأسِّس على واقع الثورة الفرنسية. فالواقع يعدُّ بمثابة وجود يساهم الإنسان في صنعه يجعله على ما هو عليه لكن لا يجب أن يُفهَم من قولنا أنَّ الانسان نفسه لا يخضع له فنحن عادةً ما نتصرَّف تبعًا لواقعنا. وسنستحضر هنا أحد النماذج السينمائية التي نراها أفضل تعبيرٍ عن هذه الفكرة؛ وهي أفلام ومسلسلات «الأبوكاليبس Apocalypse» أو «ما بعد الأبوكاليبس Postapocalyptic» التي نفضِّلها شخصيًا حيث يمتاز عدد منها بنزعة أخلاقية تؤدي بها إلى التشاؤم أو القلق من الوضع البشري ومآله في وقتنا الراهن، فهذا النوع من الأعمال يصوِّر الواقع الإنساني خلال أو بعد نهاية العالم ما يعني تدمير الحضارة المعاصرة بفعل كارثةٍ ما قد تكون طبيعية أو أخلاقية -من افتعال الانسان- جاءت بسبب تعطشُّه للسلطة أو تقصيره في الحفاظ على كوكب الأرض. إلَّا أن ما تصوِّره هذه الأعمال في الحقيقة ليست نهاية للعالم بشكلٍ كلِّي وإنَّما انهيار شبه كامل للواقع المعروف وميلاد واحدٍ ثانٍ، ما يعني في الوقت نفسه موت الانسان وميلاد واحد آخر يتوافق مع متطلِّبات واقعه الجديد الذي أسسَّته تلك الكارثة ليجد نفسه في النهاية عالقًا فيه، وما عليه غير تغيير نظرته للحياة وسلوكياته حتى يتكيَّف مع محيطه الخارجي الجديد. وما نلاحظه دومًا في هذه الأعمال هو ظهور مشكلة جديدة أساسية ليس لها علاقة بالتغلُّب على الكارثة ذاتها كالهروب من مخلوقات زومبي أو الاحتماء من بيئة ما سامة بل تتمثَّل هذه المشكلة في الصراع بين الناجين أنفسهم وهم يبنون واقعهم الجديد بأي وسيلة فالكارثة الحقيقية هنا هي البشر.
في الأخير نود التنبيه إلى أنَّ الواقع هو الذي يُحدِث فرقًا بين الانسان وبين بقية الكائنات الحيَّة فالحيوان لا يعرف شيئًا يدعى الواقع كما نعرفه نحن لافتقاره إلى مخيَّلة تسمح بإثراء عالمه، فما يعيشه هو الطبيعة بعينها عوض الثقافة التي تخص الجنس البشري دون غيره.
تشيرنيشيفسكي مدافعًا عن الواقع
«علاقات الفن الجمالية بالواقع – Aesthetics relation of art to reality» هو عنوان لدراسة أكاديمية أنجزها المفكِّر الروسي «نيكولاي تشيرنيشيفسكي – Nikolay Chernyshvesky» وفيها يدافع عن الواقع، وقد رأينا أنَّه من المفيد أن نختتم به المقال مستشهدين فيه بمجموعة من أفكارها التي سنشرحها. فقد انتقد هذا المفكِّر النظريات التي نجدها عادةً في الاتجاهات المثالية والشكلانية والرومانسية التي تتجنَّب الواقع، أو تغالي في اظهاره بصورة تجريدية وعاطفية، فعدَّ الأعمال التي تتجِّه فحسب إلى الخيال أو الشكل على حساب المضمون؛ فنًا ينعدم فيه الصدق. ووصف فيها بثلاثة كلمات فهو أكثر صدقًا، (Truer) وكمالًا (fuller) وإبداعًا (more artistic) من جميع الأعمال الفنية، لأنَّه شامل ويحتضن جميع التفاصيل على عكس الفن الذي يعتبر منحازًا لوجهة نظر ضيقة سببها اهماله لبقية الجوانب الأخرى والتركيز على واحدة، وهذا ما جعله ربما يهاجم الشعراء الذي يسترسلون في تناول موضوعٍ واحد في الحياة كالحب والاغفال عن القضايا الحياتية الأخرى.
والواقع بالإضافة إلى خصاله الثلاثة يتصِّف بالجمال، فـ«يستحيل على الأعمال الفنية أن تبلغ درجة جمال وعظمة الواقع» (15). ويضرب تشيرنيشيفسكي مثالًا عن البحر، فالعديد من الأشخاص لم تسنح لهم الفرصة للتواجد قربه وتجربة الاستمتاع بمنظره، فيكتفون برؤيته في الأعمال الفنية من لوحات وصور. ويتابع القول بأنَّ التعرُّف على البحر بهذا الشكل يعتبر أدنى مرتبة من رؤيته على حقيقته. وما يود تبيينه هنا هو أنَّ البحر يمثِّل الواقع أما الصورة البحرية فهي ما يدعى بالفن الذي يعرِّفنا على الطبيعة المائية بطريقة محدودة غير أنَّها عامل مساعد أكثر من أي وسيلة أخرى، يكتب في هذه الحالة ما يلي: «عندما يغيب المثال الأصلي؛ يحضر البديل» (16).
لقد اعتبر أرسطو الفن محاولة لإتمام نهايات الطبيعة غير المكتملة فهو بلوغٌ لشكلها الكلي، فسار على هديه الكثيرون، وقد تكون هذه الفكرة هي ما حثَّت تشيرنيفيسكي على التأكيد في دراسته بأنَّ الفن لم يوجد لاستبعاد عيوب الواقع أو لتصحيحه، فالواقع ابتداءً من ما يفصح به لا يحتاج إلى تجميل لأنَّه في حد ذاته جميل. ويدرج مثالًا توضيحيا يفيد بأنَّ ابداعنا للوحة تتضمَّن وجه محبوبنا لا يعني أننا نريدها لأنَّها جسَّدته في صورة مثالية خالية من العيوب، فنحن هنا لا نكترث لعيوبه أو ننتبه لها أساسًا واذا فعلنا فنحن على العكس من المتوقَّع نحب عيوبه التي تجعله هو ذاته الشخص الذي نتعلَّق به. فما يقصده هو أنَّ المحبوب يعبِّر عن “الجميل” الذي نرغب به بكل حالاته، واحتفاظنا بصورته يعود باعثها ربما إلى السعي نحو استحضاره باستمرار.
إنَّ الجمال إذن لا يقتضي شكلًا مثاليًا يفتقد إلى العيوب أو فكرة تنضح بالسعادة، وينطبق الشأن نفسه على الواقع فهو على الرغم من كل ما فيه من ظواهر يمكن اعتبارها خيرًا أو شرًا يتسِّم بشحنة لانهائية من الجمال. ومع ذلك فإنَّ مجال الفن حسب رؤية تشيرنيشيفسكي لا ينحصر في الجمال فحسب بل نجده محتضنًا للواقع بكلِّ ما فيه من قيم سلبية أو ايجابية، فمضمون الفن إذن ليس الجمال وحده. والتعريف الذي يقيِّده به لا يفرِّق في رأيه بين الجمال بوصفه موضوعًا للعمل الفني من موضوعاتٍ مختلفة وبين جمال الشكل الفني، فالفنان يجتهد على الدوام في أن يؤدِّي عمله بأسلوبٍ مثالي تجعل قطعته الفنية جميلة بصرف النظر عن محتواها.
إذا استنتجنا مما سبق بأنَّ الفن ليس مصحِّحًا للواقع أو ملجأ يبعدنا عنه فما الغرض الذي يؤديه إذن؟ يجيب تشيرنيشيفسكي بأنَّ «الهدف الأوَّل للفن هو أن يعيد خلق الواقع والحياة، وهذا ينطبق على جميع الأعمال الفنية من دون استثناء» (17) ما يعني اعادة انتاجهما بطرق جمالية، ليعاكس بهذا التعريف تعريفًا آخر لا يتفق معه ساد منذ قرون يفيد بأنَّ الفن محاكاة للطبيعة. فلو سلَّمنا بهذه الفرضية التي تحوُّله إلى مجرِّد مقلِّد سوف نجده «يعرض علينا فحسب أوهامًا بدل الحقيقة وقناعًا يخلو من أيِّ شكل من أشكال الحياة بدل ما هو حيٌّ بالفعل،». (18) ويستشهد بمثال طرحه في الحقيقة كانط ومن بعده هيغل في كتاب «نقد ملكة الحكم» و«المدخل إلى عالم الجمال»، وهو عن الرجل الذي يقلِّد طائر العندليب، إنَّه بعد اصغائنا لصوته سوف نتبرَّم منه ويصيبنا الانزعاج عندما نعرف هوية صحابه، فهي محاكاة آلية، وخدعة أكثر من فن. وبعيدًا عن دراسة تشيرنيفسكي نحن نود الاستشهاد بهيغل في نقده لنظرية محاكاة الطبيعة في هذا المثال، فبالنسبة إليه إنَّ اعتبار الفن كمقلِّد للطبيعة يحرمه من أهم خصيصة له وهو الحرية التي تمده بالقيمة. أي أنه وبتعبيرنا سيكون مجرد صنعة آلية ليس بها روح.
إنَّ الفن وفقًا لتشيرنيفسكي خلقٌ جديد، وهو ما يشدُّ انتباهنا إلى مظهر من مظاهر الواقع. ناهيك أنَّه حسبه ليس تعبيرًا عن فكرة ناتجة عن مفاهيم مجرَّدة وإنَّما حقيقة حيَّة نختبرها في واقعنا، فالحياة والطبيعة ليس فيها مفاهيم مجرَّدة. وعلى غرار ذلك توجد وظيفة أخرى للفن هي تفسير الواقع، فمن خلاله نحن نتعرَّف عليه أفضل مما نفعل عندما نقصد محاضرة تعليمية بغية الوصول إلى المعرفة، فإذا افترضنا أنَّ الواقع أكثر ابداعًا إلًَا أنَّه غير ملزم بتفسير ظواهره لنا فالفن والعلم هما من يقومان بهذه المهمة حسب ما يبلِّغنا به تشيرنيشيفسكي. ويضيف أيضًا بأنَّ الفن متحد مع الطبيعة البشرية فالفنان هو انسان والإنسان يتمسَّك بأحكام ومعتقدات أخلاقية عن قضيةٍ محدَّدة، وهكذا فعندما يصوِّر الفنان موضوعًا يختاره فسرعان ما يضفي عليه حكمه القيمي الخاص به. وهو ما يسعفنا على استنتاج سبب رؤيته للفن على أنَّه منحاز ومضلِّل، فهو متأثِّر بالتصوُّرات القبلية والظروف التي تشكُّل الفنان وتحدِّد رؤيته للوجود الإنساني.
وزيادة على كون الفن خالقًا للواقع، ومفسِّر له فهو بديل عنه مثلما تم استيعابه في مثال البحر، يكتب ما يلي: «لا يتورَّع العلم في التصريح بأنَّ هدفه يتمثَّل في فهم وتفسير الواقع واستعمال ذلك لفائدة الانسان. فليكن الفن إذن غير متورِّع في أنْ يعترف بأنَّ هدفه هو التعويض عن الإنسان في حالة افتقاده إلى فرص تتيح له أن يحظى بكامل المتع الخلاقة التي يوفِّرها الواقع، وذلك من خلال اعادة خلق هذا الواقع الرفيع على قدر المستطاع». (19) ويشدِّد أيضًا على نقطة مهمة فيشير بأنَّ هناك من يُقحِم الفن في سباقٍ مع الواقع، والحقيقة أنَّه لا مجال للمقارنة بينهما، فالفن ليس بوسعه أن يمتلك “الحيوية” التي يتمتَّع بها الواقع. ويستأنف الحديث مطالبًا بأن يكتفي الفن «بمهمته النبيلة والجليلة التي يكون فيها بديلًا عن الواقع عند غيابه ودليل الانسان للحياة» (20) ثم ينهي مقاله في التصريح الآتي: «يسمو الواقع على الأحلام، والمسلَّمات الأساسية على الادعاءات الخيالية». (21)
ورغم تقدير تشيرنيفيسكي للفن غير أنه انحاز تجاه طرفٍ على آخر، فمن الظلم أن يتم تعريفه على أنَّه أقل حيوية من الواقع، والأنسب هو اِعدام أي مقارنة بينهما ليس لأنَّ الواقع أعظم منه ولكن لأنَّ المقارنة لا تصح أساسًا فالفن الذي يقوده الخيال مختلف كل الاختلاف عن الواقع حتى يتم تفضيل واحد على الثاني. أما اعتبار الفن بديل متواضع عن الواقع فهو لن يختلف في القيمة عن اعتباره مجرَّد مقلِّد له. وبصرف النظر عن موقفنا إلَّا أنَّ نظريته تتميز بالفرادة لاسيما حين نقابلها بعصره فقد تحدَّت مجموعة من الرؤى التي جعلت الواقع يبدو بمنظر مريع ساعية نحو مقاومتها.
خاتمة
إن السؤال الذي يستهدف احتمالية احتواء الواقع للخيال ومداه مقارنةً بالفن هو سؤال في غير محلِّه، يرجع إلى مفهوم خاطئ يساوي بين الفن والواقع ويحوِّلهما إلى ظاهرتين تنتميان إلى شيء واحد، ثم يحاول إجراء تمييز بينهما في محاولةٍ عبثية لتحويلهما إلى متنافسين. والحقيقة أنهما متباينان منذ البداية إلَّا أنَّهما يعيشان في وضعية متشابكة فالفن يسكن الواقع مثلما الواقع يسكنه والخيال يعدُّ بمثابة عقدة غورغيون التي تربطهما من دون امكانية فكِّها حسب هذا الوضع، فلا وجود لواقعٍ دون خيال أو خيال دون واقع.
ورغم الخطأ الذي يقع فيه السؤال الأساسي المطروح منذ البداية فنحن نود القول أنَّ الواقع خيالي جدًا والفن واقعي جدًا. وإنَّه أحيانا يستطيع الفن تجاوزه وأحيانًا أخرى يحتِّم الواقع على الفن شقَّ طرقه بسبلٍ معيَّنة ويغذِّيه بالمعنى.
ويتحِّد الواقع بكل ما نعرفه من الظواهر الطبيعية والانسانية أي كل ما يماثل الطبيعة والثقاقة، أوالتاريخ والزمن، أوالفكر والخيال. فهو يتخلَّل جميع الموجودات ليبدع حالته الخاصة التي هي من وجهٍ آخر تستجيب للصيرورة التي تجعل منه مرنًا، وإنَّ وظيفة الفن نتيجة ذلك ليس إبعادنا عنه وإنما المساعدة في بنائه.
مراجع وهوامش:
1 – عبد الكريم جندي، مفهوم الواقع في العلوم الإنسانية، نماء للبحوث والدراسات، الطبعة الأولى 2021، ص18
2 – المرجع والصفحة نفسهما
3 – جان غرانييه، نيتشه، كلمة، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ترجمة: د. علي بو ملحم، الطبعة الأولى 2008، ص101
4 – Oscar Wilde, Intentions: The Decay of Lying, Cornell University Library 1997, pp 32, 39
5 – جلين ويلسون، سيكولوجية فنون الأداء، ترجمة: شاكر عبد الحميد، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت، 2000، ص93
6 – Ed Folsom, “Photographs and Photographers” (Criticism), The Walt Whitman Archive
https://whitmanarchive.org/criticism/current/encyclopedia/entry_592.html
7 – سوزان سونتاغ، في الفوتوغراف، ترجمة: عباس المفرجي، المدى للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2013، ص68
8 – Oscar Wilde, Intentions: The critic as artist, op.cit. p 96
9 – Ibid, 98
10 – رولان بارت، لذة النص، ترجمة: فؤاد صفا، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2017، ص65 .
في الصفحة: 71 بالمرجع نفسه، نجد رولان بارت وهو يطالبنا بالكف عن الفصل بين الحياة العمليَّة (واقع) والحياة التأمليَّة (خيال).
-كلمتيْ واقع وخيال من إضافتنا-
11 – محسن محمد عطية، الفن وعالم الرمز، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية 1996، ص129
12 – Oscar wild, Op.cit, p 03
13- Ibid p 04
14 – ايميل سيوران، مثالب الولادة، ترجمة: آدم فتحي، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2015، ص156
15 – Nicholas G. Chernyshevsky, The aesthetics relations of art to reality, 1853, Transcribed By Harrison Fluss, 2008
https://www.marxists.org/reference/archive/chernyshevsky/1853/aesthetics-reality.htm
16 – Ibid
17 – Ibid
18 – Ibid
19 – Ibid
20 – Ibid
21 – Ibid