في الكتابات العربية، أدبية نصوصية أو نقدية فلسفية، غالبًا ما تقلّ مناقشة «القبيلة» وتأثيراتها على الفرد، إيجابًا وسلبًا، ويتجه أكثر الكُتّاب العرب نحو تبجيل «القبيلة» أكثر من مناقشتها على نحو علمي حديث، انطلاقًا من أهمية الفرد وحريته، وتأكيدًا على قيمة الاختيار الفرداني، الذي يحيل الإنسان كفرد وحدة أساسية، تتحمل نتائج اختياراتها ومواقفها، وتحدد بذاتها مصيرها الإنساني في حركة التاريخ.
في ضوء ذلك، تكتسب رواية «القبيلةُ التي تضحك ليلًا» للروائي السعودي سالم الصقور، الصادرة عن منشورات ميسكلياني 2024، جانبًا من أهميتها، إضافة إلى إعلانها عن روائي يعرف كيف ينسج خطابه الروائي، مولدًا الحكايات الفرعية، وعلى نحو مشهدي، يقدم تصورات ما بعد حداثية عن الفرد والقبيلة، الأنا والهُم، مشتبكًا مع واقع روائي، وليس بالضرورة حقيقيًا فعليًا، وليمهد لوجهات النظر المتباينة، قبل أن ينسفها كافةً ولا يبقى منها سوى التصور الما بعد حداثي، الذي يُفكك تداخلات القبيلة في حياة الأفراد وتحديد مصائرهم.
تأتي رواية الصقور على خلاف ما هو رائج في الكتابات العربية عمومًا، التي تتنصر للقبيلة كـ«مفهوم» تأخذ معناها وتتأسس كمصطلح «ذي قيم ثقافية وذهنية محددة حينما يصير أساسًا لفهم الظواهر وتفسيرها ويكون قاعدة لتأويل النصوص من جهة، ولتحديد العلاقات الاجتماعية بين الذات والآخر، بناءً على ثنائية (نحن/هم) كوصف طبيعي وتصنيفي وفرز بين للفئات»، بتعبير الناقد الكبير الدكتور عبدالله الغذامي، في كتابه «القبيلة والقبائلية».
تصورات تفكيكية
ضمن استراتيجيات ما بعد الحداثة، قدّم فيلسوف التفكيك جاك دريدا إعادة تفسير جذرية للمفاهيم التقليدية، بما في ذلك الأسرة، إذ عارضت تفكيكيته، فكرة المعاني الثابتة وكشفت عن التناقضات والتوترات الكامنة داخل الخطابات والسياقات على السواء، ويمد الاستراتيجية وصولًا إلى «الأسرة»، لينبش في فكرة الوحدة الأساسية المستقرة، ويزعم أن الأسرة، التي يُنظر إليها غالبًا على أنها كيان طبيعي بيولوجي، هي في الواقع مفهوم مبني ثقافيًا، وأن الحدود الواضحة على ما يبدو بين أفرادها، استنادًا إلى علاقات الدم أو الروابط القانونية، غير واضحة من خلال رؤية التفكيك، الأمر الذي يكشف عن الطبيعة التعسفية لهذه التمييزات ويسلط الضوء على دور علاقات القوة واللغة في تشكيل فهمنا للأسرة.
علاوة على ذلك، يتحدى دريدا الهياكل الهرمية داخل العائلة، مما يسمح بتفكيك النموذج الأبوي التقليدي، حيث الأب هو الشخصية ذات السلطة، للكشف عن ديناميكيات القوة الأساسية. إذن «الأسرة سرد عظيم» بتعبير دريدا، جرى بناؤه وتعزيزه بمرور الوقت، إنه مفهوم يبدو طبيعيًا وجوهريًا لكنه في الواقع منتج ثقافي وتاريخي، وغالبًا ما يتم تصويرها بشكل مثالي كوحدة متناغمة قائمة على روابط الدم والقيم المشتركة والحب غير المشروط. ومع ذلك، فإن هذه الصورة المثالية تخفي التعقيدات والتناقضات داخل هياكل العائلة.
هنا، تلتقط رواية «القبيلة التي تضحك ليلًا» طرف الخيط، لتبدأ من طرح التساؤلات حول عملية الزواج، كونها الخطوة الرسمية لزرع أسرة صغيرة داخل المنظومة الاجتماعية، وهي عملية أشبه بالصعود إلى سفينة نوح «فكل زواج هو صعود إلى هذه السفينة التعيسة، ونجاة من طوفان الانفراد والوحدة» ص 65، و«الزواج مثل الموت، لا أحد يستطيع أن يخبرك بما ينتظرك هناك، سواء كان زواجًا تقليديًا وقبليًّا بمدينة صغيرة على تخوم الربع الخالي، أو كان زواجًا مدنيًا في معرض لفنون ما بعد الحداثة بباريس. الزواج لغز كونيّ معقد التركيب تنهار أمامه كلّ النظريات. ربما الغاية النهائية من تزاوج البشر هي اعتراف بالوحدانية لآخر متعالٍ بهويته ليس له شريك يساكنه ويأنس له». ص 15
«ربما أوافق»
في كتاب «ربما أوافق- الزواج الحديث والسعي إلى السعادة» 2012، يرى الباحث كيفن أندروز أن أحد التأثيرات الثقافية الأكثر تدميرًا للزواج والأسرة كانت الفلسفة الاجتماعية لما بعد الحداثة المرتبطة بالناقدين الفرنسيين ميشيل فوكو ودريدا. وبدا تدمير الزواج ليس مجرد نتيجة لفلسفتهما الاجتماعية الراديكالية؛ بل إنه في صميمها.
وبالاستعانة بفوكو، نجد أنه لا توجد حقيقة موضوعية يمكن أن نستند إليها في بناء الهياكل الاجتماعية، مثل الزواج والأسرة. إذ زعم فوكو أن المعرفة عبارة عن مجموعة من المعتقدات المصممة لتبرير علاقات القوة، فالهياكل الاجتماعية شيء نخلقه بأنفسنا، إنها من صنعنا، وأكثر من مجرد اكتشاف جانب سري غير قابل للتغيير من الرغبة. ويتعين علينا أن نفهم ما الذي يحدث مع رغباتنا، وتنشأ من خلالها أشكال جديدة من الحب، والإبداع، فالزواج ليس قدرًا محتومًا؛ إنه إمكانية بلا شكل للحياة الإبداعية.
لا نقدم هنا دعوة لمقاطعة الزواج، فبطل الرواية علي بن مانع تزوج كما فعلتها شخصيًا، ولو بدت بالنسبة لي متأخرة طبقًا للسياق الاجتماعي، إنما يسعى هذا الاشتباك إلى اللعب مع الخطاب الروائي استنادًا إلى ما يطرحه الخطاب ذاته، وتعالقًا مع رؤى واستراتيجيات فلسفية ومعرفية سعت لفهم جوهر حياة الإنسان، لنقول معًا أنا وعلي «ربما نوافق»، أو وافقنا بالفعل.
يتزوج ابن مانع، لكنّ الإنجاب يتأخر نتيجة عوامل قدرية واختيارية أحيانًا، ليدخل في أزمة معايرة مجتمعية، ويُطعن في رجولته ضمن سياق يقيس فحولة الرجل بقدرته على الإنجاب، ففي أحد المجالس المكتظ بالقبيلة، يتعرض لمزاح «نجس» بتعبير الرواية، من أحد الأقارب الأرذال، حين يوزع حليب النوق، فيطلب ذلك «الرذل» من ابنه أن يعطي عليًّا «”المحلب كله، هو في حاجة دون غيره”، كان يقصد أن الباقين لديهم كفايتهم من الفحولة التي يعززها حليب الإبل» ص19.
مع سعي علي نحو تكوين أسرة، تظل عائلته منقوصة، بغياب الأطفال، والتي تروي الأسطورة أنهم سبب ضحك القبيلة ليلًا، حد رواية والد بطل قصتنا، كذلك هم سبب الفخر، الذي يستحيل مع الزمن إلى تفاخر بالمرجعية العائلية أو السلالية، فيما يبدو لنا أن النقاء السلالي محال، كما أن التفاخر بالسلالة هو من قبيل الشيفونية والعنصرية، لكن السياق المحيط يعزف على وتر الأصل والحسب والنسب، وهو وتر يكتسب مساحات من الفكر السائد عربيًا.
«جميعهم اتخذوا قرارات بدلًا مني في قضية عدم الإنجاب، يشعرونني دائمًا بأني ثغرة في حياتهم ونقطة ضعفهم» ص17، فمع غياب الأطفال، تخبرنا استراتيجيات ما بعد الحداثة، غير المعترف بها قبليًا بالطبع، عن احتياجات التعلق والحميمية الإنسانية الأساسية التي يجب إشباعها. لكنها تصر أيضًا على أننا نختار بشكل خاص «أنماط الحب» المحددة التي نسعى من خلالها إلى إشباع تلك الاحتياجات، فالعالم الجديد صغير جدًا. إنه كبير بما يكفي فقط لـ«الثنائي»، الزوجين، ويجري استبعاد الأطفال بشكل أساسي، لتحل العلاقات الرومانسية محل الزواج كساحات رئيسية في الحياة لاكتشاف المعنى الشخصي.
تحت الكشط
مع الوقت، تحبل الزوجة لكنّ المخاض يفاجئها مبكرًا في الشهر الثامن بجنين غير مكتمل، وعند دخول المستشفى وأثناء عملية الولادة تحتاج إلى «نقل دم»، ليتوافد أبناء القبيلة أفرادًا وجماعات، أفواجًا يتسابقون للتبرع بالدم، الرابط الاجتماعي الذي يجمع بين عناصر العائلة، ليتحول الحدث عن كونه شأنًا شخصيًا إلى شأن قبليّ، ولا يملك صاحب الشأن أي قرار فردي.
إنّها المصادرة التي تمارسها القبيلة على حياة أبنائها، وهي التي سيندم ابن مانع على عدم مقاومتها فيما بعد، «أمارس الندم، وأعتذر لحياتي عن كل المصادرات التي سمحت لها أن تحدث دون مقاومة، وعن التسرب الذي رأيته أمامي ولم أوقفه، أعتذر لحياتي عن بقع الخوف التي لطختها بها، وعن القلق الدائم الذي تركته يفترسها». ص57
ومع نُبل الموقف شكليًا من أقارب الدم، يراه ابنُ مانع تدخلًا في سياق حياته، محللًا سياقات القبيلة بفقرة مهمة ضمن فقرات كثيرة داخل الخطاب الروائي، «القبيلة بنك اجتماعي تمول أفرادها بما يفيض عن حاجتهم، لتأخذ في المقابل كلّ ما يحتاجون إليه من حرية واستقلالية، يقفون في ذلك الموقف الذي لا يتسع إلا لصاحبه، كل واحد منهم يملك قوة الدخول إلى حيواتنا الخاصة بصفته شريكًا دمويًا. الفرد في القبيلة حارس مشرحة للموتى، أولئك الموتى القدامى الذين ينتمون إلى عالم ما قبل الأنا والأنت، ببساطة أن تعيش وسط قبيلة، كأنك تعيش في إحدى ضواحي جهنم». ص17
ليست العائلة هنا هي التي ترزح تحت مشرط الكشط أو المحو، إنّما هي الأنا ذاتها، التي لا اعتراف بها من قبل المنظومة الأخلاقية، ومفاهيمها اللاهوتية، التي تقاوم بدورها أي منظومة قانونية حديثة ومفاهيمها المدنية، فأنت كفرد في خدمة المجموع، وذاتك مسحوقة في إطار المؤسسة الهرمية، وأيّ محاولة غير الانصياع لها وتبرير عنفها الرمزي، يقابله محو حتمي، لأولئك «الخلعاء» المنادين بتأزيم السلطة الاجتماعية.
بالنسبة لدريدا، فإن «الأنا» تتألف بالضرورة من شيء لا يمكن إدراكه بالأدوات التجريبية، بالتالي يبدو ظهور «الأنا» لعبة، يمكن فيها تفكيك الضمير ذاته، يظهر ويختفي في الوقت نفسه، يتحقق وجوده بيولوجيًا ووجوديًا، لكنه تحت أداة الكشط معرفيًا، هذا يعني أن الدلالة التي تستخدمها الأنا لتقديم نفسها دائمًا مختلفة عن الفكرة التي ستتبناها في تمثيل نفسها.
الأنا والأنت، مقولتان تقابلهما النحن والهُم، أي إننا إزاء طرفين في الحالتين؛ فردان في الأولى وجماعتان في الأخرى، علاقتهما ببعضهما البعض ليست علاقة طرفين منفصلين مستقلين تمامًا؛ فالذات لا يمكنها إدراك كنهتها ذاتًا إلا في ضوء علاقتها بالآخر.
من الضروري الاحتراز هنا، أن ما سبق لا يعني استحالة الآخر إلى مركز؛ بل يدرك الآخر آخريته عبر آخر/ طرف ثالث. ما يعني ساعتها، انمحاء الآخر أيضًا، هكذا دواليك، في سلسلة لا متناهية من عمليات «الآثار» Traces. و«الإحالة الدائمة إلى لاحقة، إحالة الآخر وإرجاء لتحقيق الهوية في انغلاقها الذاتي» بتعبير دريدا. بمعنى أن أي أصل لا يكون أصلًا، أو يكتسب أصليته، إلا من خلال الإحالة المستمرة، والاتكاء أو الاستناد إلى «النسخ» أو «النسخة اللاحقة»، فالإحالات المتبادلة تمنح العناصر اللغوية مقامها وعملها، ويتأسس كل عنصر انطلاقًا من الأثر الذي تتركه فيه العناصر الأخرى في السلسلة أو النسق.
كان اسمها حنّا
الجنين غير المكتمل، أنثى، اختيار قدري جديد يفتح بابًا من أبواب الثقافة القبلية والتي تخص النساء، أو لنسميها «بوابة المرأة»، التي سميّ باسمها علي بن مانع على اسم والدته «علي بن سعدى»، تلك المرأة التي يمكن أن تكون «مصدر فخر في أوقات نادرة، وفي كل الأوقات الأخرى يكون ذكرها عارًا وقد يعد انتهاكًا للشرف» ص63. إشارة جديدة إلى الإقصاء الذي مارسته وتمارسه الثقافة حيال النساء، واللائي «طوّرن أساليبهن الدفاعية ضد وحش الإلغاء وقفزن إلى الألاعيب النفسية والعقلية؛ حتى يتمكّنّ من تقاسم قرارات هذه الحياة». ص65
تأتي الأنثى العالم غير مكتملة، فيستحيل استمرارها أكثر من يوم واحد في هذه الدنيا، كأنها إشارة احتجاج غير مباشرة، رفض عملي وجذري على سياق تعيش فيه والدتها أروى صالح وأبوها عليّ، ذلك السياق الذي يرفض الاختلاف، جندريًا وثقافيًا، مسلطًا سيف التهميش على كل ضعيف يقع تحت نطاقه، ولطالما كانت العائلة موقعًا للقمع والهيمنة كما كانت مصدرًا للحب والدعم.
تأتي الطفلة المولودة إلى الدنيا لتتنفس مرة واحدة وتبكي بكاءً متصلًا، ص130، وتدخل بعدها في راحة أبدية، وحين يسأل موظف تسجيل الوفيات بالمستشفى عن اسمها، يجيب الأب «كان اسمها حنّا» ص135، سبب ضحك القبيلة ليلًا، وضحك أبيها في كل وقت، لكنها كانت وانتهت. رحيل لعله تحقيق لرؤية علي ذات غفوة، إنها بُرّ أمه الذي تناثرته الريح، «حلمتُ بأني أراني طفلًا بقرب أمي وهي ترفع البُرّ بقبتضي يديها ثم تسكبه، فتأخذ الريح كله، ولا يتبقى منه شيئًا، كان خبزنا يتبدد في السماء». ص123
دراما العائلة
الرواية التي تمتد صفحاتها إلى 135 صفحة، تدور في ساعات قليلة، بين المستشفى والطريق، ليلة الميلاد والموت معًا، وخلال هذه الساعات تدور الحكاية، اللبنة الأساسية التي بُني عليها الخطاب، متخذة أشكالًا متعددة ومتداخلة، مما خلق شبكة معقدة من العلاقات بين السارد والشخصيات والأحداث، بجانب توالد الحكايات داخل النص الروائي، ليتشعب زمن الحكاية إلى أجيال وأجيال، وليست ليلة واحدة، إذ يروي عليّ خلال سرد الليلة المفصلية قصصًا أخرى، مما يخلق طبقات عدّة من السرد، فضلًا عن تضمين الذكريات والأحلام والرسائل.
عمومًا، تضعنا رواية سالم الصقور أمام «حدث عائلي» بتعبير دريدا، غير أن هذه الدراما العائلية تتعالق في الخطاب الروائي التعالق القوي الشديد مع الدم. وبتعالقهما هذا، نغدو أمام صراع بين التصور الحديث والتصور البدائي القديم، وإزاء تصورات متصارعة من الأنساق المختلفة، أحدهما يتجلى بوصفه التقليدي السائد والآخر يدور في إطار كسر النمطية والخروج عن المألوف، منحازًا الراوي إلى الإطار الأخير، وهو ما يجعل من الرواية مشرطًا موجهًا نحو القبيلة في المعنى القريب، ونحو الثقافة التقليدية وأنساقها في سياق أبعد.