لقد بات كل شيء خاضعًا للمنطق الاستهلاكي، في عصر «إنترنت الأشياء»؛ فقيمتك تحدد بمدى استهلاكك، دونما حاجة لمغادرة مكانك! فالإنترنت يتكفّل بربطك بالعالم وإيصال الأشياء إلى حدّ بيتك، أو بتعبير الباحثة إلزا غودار: «لقد اختفى المواطن وحلّ محلّه مستهلك يقيس حجم الزمن في حياته بكميات الأشياء التي يستهلكها»[1].
ولم يسلم الفن من محددات ومتغيرات هذا العصر الجديد «عصر النعومة»، بتعبير بيونغ-شول هان؛ حيث إنها «واحدة [أيّ النعومة] من السِّمات المشتركة التي تجمع بين منحوتات جيف كونز Jeff Koons، والأيفون iPhone، وإزالة الشَّعر بالشمع البرازيلي»[2]. من ثمّ، لا تقتصر النعومة على عمليات التجميل للإثارة، بل تعدّ صفة «الأشياء في العالم المعاصر»، ولأن النعومة رديفة «الإعجاب»، فقد تمّ استبدال كل السلبيات أمام التواصل المتسارع في شبكات ومواقع التواصل الاجتماعي: إنك لا تضغط إلاّ على زرّ «أعجبني I like»؛ ويتجسد الأمر جليًا في منصة «إنستغرام» التي لا تحتوي إلاّ على هذه الخاصية؛ ذلك لأنّ ثقافة الاستهلاك تُخضع كل شيء بما في ذلك الجمال، بشكلٍ متزايد، لمخطط التحفيز والجذب والإثارة. فالمثير هو الأكثر رواجًا ومشاهدة، لذا أصبح الأمر نوعًا من الاشتهاء المتزايد والمفرط، الذي يتحوّل إلى «إباحة».
إنّ الإفراط في الإعجاب يلغي من الشيء البعد الإيروتيكي؛ إذْ يلغي المسافة بين الذات والمشتهى؛ فيزيل -من ثمّ- كل أشكال «السلبية» لصالح فيض في الإيجابية والنعومة، وهو ما يولد لدى المرء حالات الرضا الدائم وعدم الشبع؛ إنك لتبحر من صورة إلى صورة، ومن مقطع فيديو إلى آخر بلا انقطاع، متبعًا سلاسة ونعومة شاشة الهاتف التي تغريك باللمس وتقودك إلى طلب المزيد من «المشاهدة»، وبالمقابل الضغط أكثر على زرّ الإعجاب، أو كما يخبرنا شول هان، «حيث الرغبة في نيل الإعجاب like، تشقّ طريقها نحو المقدمة، فإن الخبرة الجمالية تغدو ممتنعة دون سلبية تجابهها، إنها بالأحرى تتعرض للضمور»[3].
هكذا يمكن العثور على النعومة في المنحوتات الضخمة لجيف كونز وغيره، وفي الأجساد الناعمة الخالية من الشَّعر (صورة عارضات الأزياء)، وفي تصميم الهواتف الذكية؛ إذْ في عصر البيانات الضخمةbig data والأنظمة التنظيمية التي تسهل السيرورات والإجراءات في عملية تسترشد بالخوارزميات، يصير المجتمع –والعالم- خاضعًا للمعايير العالمية الموحدة (نوع من ISO الشامل)، وتابعًا للعلاقات التي تُدار بطريقة سلسة وشفافة. إذْ «إنّ مجتمع الشفافية يتجلى، أولاً، وقبل كل شيء، بوصفه مجتمعًا إيجابيًا»[4].
يحاول الفيلسوف الألماني من الأصول الكورية بيونغ-شول هان أن يرسم معالم الفن والجمال في ظلّ هيمنة صفة «النعومة» والسلاسة وسطوة الإعجاب المفرط على كل الشبكات التواصل الاجتماعي وكل المجالات الإنسانية المعاصرة، وفي ظلّ ميلاد مجتمعات جديدة موسومة بـ«الشفافية». إذْ «غدت الشفافية [كما يؤكد] نظامًا قهريًا يجتاح جميع العمليات الاجتماعية، ويُخضعها لتغيير عميق»[5]. لم تسلم الصورة، هي أيضًا من هذه الهيمنة القصرية للنعومة عليها؛ فإن كان سحر الصورة والافتتان المتولد عنها، حسب موريس بلانشو، يتولد عن تلك المسافة التي يفرضها فعل «النظر»، أي قرار الانفصال، والابتعاد عن أي التباس وارتباك؛ إذْ إنّ النظر يعني أن هذا الانفصال يغدو تعارفًا والتقاءً[6]. بينما في عصر النعومة ومجتمعات الشفافية، فالصورة الشفافة متحرِّرة من أيّ عمق تأويلي، كما يخبرنا هان، ومن ثمّ من أيّ معنى، لتغدو أكثر التصاقًا بالبورنوغرافيا، التي هي عبارة عن اتصال سطحي بين الصورة والعين.
ويجسّد فن جيف كونز، كما يؤكد هان، تكريسًا لنعومة الأسطح وتأثيرها الفوري؛ إذْ لا يستدعي أيّ محاولة لتفسيره أو فك شفرته أو التفكير فيه. إنه الفن الملائم لعصر الإعجاب. يقول كونز إن مشاهد أعماله يجب أن يصيح بعلامة الإعجاب «واو wow»[7]. معنى هذا أن نظام الحكم الحالي تحول من عملية التأويل والتمحيص، إلى الضغط على زرّ اللايك أو الاقتصار على اللفظ المقابل: أعجبني، واو! فـلا وجود في المجتمع الإيجابي [الشفاف] مكان لكل من الجدل والتأويل[8]. ومن ثمّ، لا محلّ للسلب، والمواقف المختلفة؛ حيث يغدو الكل متشابهين، على صورةٍ واحدة، لهم موقف موحد مرسوم مسبقًا في الوقت الذي يستحيل فيه وضع خاصية «اللاّإعجاب» dislike -مثالاً- في وسائل تواصل معينة. وإن كان الفيسبوك قد رفض إدراج هذه الخاصية، إلا أنها كانت متاحة على اليوتيوب، غير أن الفخ يقع هنا بالتحديد؛ لأنها تعمل عمل اللايك نفسه وهو الرفع من عدد المشاهدات عبر الرفع من عدد الاقتراحات؛ فما أن تضغط على زرّ «عدم الإعجاب» حتى يقترح عليك اليوتيوب فيديو مشابهًا لما حاولت الهرب منه.
تعمل الإيروتيكية بين ثنائية الحضور والغياب، إنها حجاب ما إن نكشف عنه حتى يعاود الستر من جديد إلا أنه داخل عالم المواقع الاجتماعية فنحن نعدّ في «حضور تام»، حضور مطلق لا غياب فيه ولا حجاب، لذا تنمحي المسافة بين المشاهدة والمشاهد (بين العين والصورة)، بين الاشتهاء والإشباع؛ فنقع في الارتباك والالتباس لأنّ هذه المواقع خاضعة للإيجابية والتواصل اللاّمنقطع، بينما «السلبية تجعل التواصل في مأزق[9]». تتحكم في كل ذلك حاسة اللمس، إنك لتلمس شاشة الهاتف الناعمة باستمرارٍ وبلا انقطاع، ليتم إلغاء المسافة التي تسعى عملية النظر المحافظة عليها، فتزال الدهشة، لصالح الاستهلاك المفرط اللاّعاقل؛ فالإيجابية هي روح العقل، كما يذهب هيغل.
وعلى المستوى الفني، يعد الخفاء ضروريًا للجمال، فالشيء يكون جميلًا فيما يملكه من ثنايا، في احتجابه، واختبائه. ويظلّ الشيء الجميل أصيلًا في ذاته ما دام مختبئًا. المحتجب في الأساس «ملتبس»[10]. الجمال إذن مرتبط بالغموض، الذي يهبه إمكانية التأويل، بينما تتكئ الفيديوهات والصور في منصات الإنترنت التواصلية على قيمة العرض، وهي قيمة رأسمالية بحتة، وليس على قيمة «القداسة» حسب تعبير والتر بنيامين؛ إذْ إنّ «الإفراط في العرض يحوّل كل شيء إلى سلعة»، ما يجعل الجسد يتحول إلى سلعة معروضة «للمشاهدة»: إنهن خاضعات لقوة الرأسمال المعاصر، الذي «يُخضع كل شيء إلى قانون العرض القهري»، بينما يكتسب العمل الفني قيمته بالغياب، فهو حاضر حينما يغيب عن النظر، أيّ حينما نستحضره ذهنيًا لنؤوله في صمتٍ ذاتي، وبما يفرضه من تأويل ومحاولة الكشف بالمعنى الهايدغري. ويقابل ذلك اليوم الإفراط الموحش في التقاط صور السيلفي، وهو ما يمحو عن الصورة قيمتها الجمالية والتذكارية. إذْ «يشير التقاط صور السيلفي إلى الفراغ الداخلي للأنا. الأنا المعاصرة فقيرة للغاية تقبع في أشكال مستقرة من التعبيرات التي قد تؤطرها، والتي من شأنها أن تمنحها هوية قوية»[11]. فالذات الخاضعة لسطوة صور السيلفي هي ذات قلقة وغير آمنة ومشتتة.
يجعل هذا الزخم الهائل في التقاط السيلفيهات، قيمة البورتريه (الصورة) الذاتي تفقد جماليتها، حيث تجعلها مبتذلة وفارغة، لقد استبدلت بالسيلفي، كما استبدل الواقع بالافتراضي، ولذا باتت خاضعة لنوع من الاستنساخ اللاّجمالي، الذي لا يعكس أيّ غاية تأويلية أو استفزازية أو إستتيقية. فقد تعمل على تقوية الأنانية الموحشة، ومنه خلق مجتمعات منفصلة ومتباعدة الأجزاء (أناسها). وهذا التناسخ المفرط للوجه، الذي بلا غاية، يلغي عن الصورة قيمة النظر، أيّ المسافة، حيث يصبح مجرد بيانات رقمية موضوعة في حسابات خوارزمية، وشبكات من المعلومات، التي ما هي إلا «شكل بورنوغرافي للمعرفة. إنها تفتقر إلى جوهر الشيء الذي يميز المعرفة»[12]، حيث إن المعلومات شكل من العري الفاضح. وهو ما يجعل «الجسد في أزمة»، و«يبعد كل إمكانيات الخيال والتخييل». إذ إن «الجسد الشفاف لم يعد بمثابة المشهد السردي للخيال. بدلاً من ذلك، يغدو مجرد بيانات مضافة أو أشياء جزئية»[13].
مع صورة السيلفي تغير الكوجيطو الديكارتي من الوجود الواقعي إلى الافتراضي، أو بتعبير إلزا غودار: «أنا أوسلفي، إذن أنا موجود»، إذ لم تعد الذات وعي لنفسها، بل صارت وعيًا لغيرها، لم تعد ذاتًا تقيم في الجوهر وتستمد قيمتها من نفسها، بل من كمية «استهلاكها» بوصفها صورة (صور كيم كارداشيان نموذجًا) إذْ «إن السيلفي يُظهر؛ لأنه ثابت في الافتراضي، إنه يحدّ من وجود الذات في الواقع»[14]. فنختزل في سطحية شاشة العرض (الهاتف الذكي)، تحول يلغي عن المرئي أيّ قيمة تأويلية وتخيلية لأنه مكشوف بالكامل.
وتلعب المشاهد اليوتيوبية (على منصة اليوتيوب) للمسمى «روتين اليومي»، التي تستمد قيمتها من العرض المستمر نموذجًا تجسيدًا حيًّا لهذا المعطى، حيث يستحيل استحضارها ذهنيًا، فهي لا تنبع عن العلاقة بين المشاهدة والتأويل والخيال، بل من إفراط مهول في النظر، و«الإفراط في النظر فحش»، كما يخبرنا هان دائمًا. حيث إنه يفتقر إلى سلبية ما هو مخفي، وما لا يمكن الوصول إليه، وما هو السريّ القابل للتأويل، مما يجعله يتحول إلى عريّ من أجل العريّ، حيث يُعرض الجسد للإغواء الأعمى وللمزيد من المشاهدات، بلا رمزية أو غموض أو لعب (الذي يعدّ أساس كل عمل فني). ويعمل تراكم المشاهدات وتسارع وضع الفيديوهات إلى «مضاعفة رأسمال الانتباه»؛ أيّ جعل المتلقي عاجزًا عن «إغماض عينيه»، في حين يتعلق العمل الفني بالقطع والفصل، ترتبط البورنوغرافيا بالوصل والاتصال، وهي الركيزة التي تتكئ عليها «الروتينيات اليومية». فبالكاد يُوضَع فيديو على قناة ما حتى يليه آخر على ذات القناة أو غيرها، دافعًا بالمتلقي إلى المزيد من الانتباه وفتح العين، أيّ بالمعنى السيكولوجي: عدم العودة إلى «منطقة الظلمة»، إلى الذات العميقة والتأمل.
يُلغي العرض عملية التأمل لأنه يقدم «المعنى» في صيغة متعة مفرطة، تحدّ من الإيروس والإثارة الجنسية، لصالح الابتذال. ما تقوم به عارضات «الروتين اليومي» (كيم كارداشيان وأخريات) هو العرض الدائم اللاّمنقطع لأجزاء من أجسادهن المثيرة وتفاصيل حياتهن رفقة أفراد عائلاتهن بمن فيهم أزواجهن؛ بل إنّ «الروتيني اليومي»، قد نصف به حتى فيديوهات الشباب الذي لا يكفون عن نشر مقاطعهم المصورة لتفاصيل حياتهم، في عريّ تام، والعريّ هنا رديف الشفافية، أو كما يؤكد بيونغ شول هان: «تصبح الصور شفافة عندما تتحرّر من كل نزعة تربطها بالمشهد المسرحي أو الرقص أو التصوير، عندما تتحرّر من أيّ عمق تأويلي، ومن أيّ معنى على الإطلاق، عندما تغدو أكثر التصاقًا بالبورنوغرافيا، التي هي عبارة عن اتصالٍ سطحي بين الصورة والعين».
لقد انتقلنا منذ غزو الإنترنت لكل البيوت، إلى مجتمع شفاف، مجتمع تنحي فيه الحدود بين المجال العام والمجال الخاص الحميمي، أصبح معه من الصعب حجب الأشياء وسترها، فالسِّر ليس من «أخفى» فحسب، بل من «أسرّ»؛ أيّ كشف وأخبر أيضًا، وفي عصرنا الحالي، يحتمل مصطلح السِّر المعنى الثاني فقط. فنغدو جميعًا داخل «المجال العام» الذي «يصبح مساحة للعرض»؛ حيث يعمل مجتمع الشفافية، بوصفه مجتمعًا للكشف والتعرية، ضد أشكال القناع، ضد المظهر الرمزي[15]. إنه يجعل المجتمع عاريًا ويعرض الأعمال الفنية مكشوفة لا غموض فيها؛ إذْ لا بد أن يكون قابلًا للاستهلاك؛ فالشكل الجميل «استدعاء للذكريات» (أفلاطون)، وإنعاش «للطاقة الكلية للوجود الداخلي» (بنيامين)؛ لهذا فإنّ «خبرة الجمال بوصفها نوعًا من الاستدعاء الماضوي، كما يخبرنا شول هان، تتفادى القابلية للاستهلاك، والتي يهيمن عليها نوع مختلف تمامًا من الزمن. ما يستهلك هو الشيء الجديد دائمًا، وليس الذي ينتمي إلى الماضي»[16].
لهذا يستعين صُنّاع الفيديوهات بالكلمات المثيرة -التي يتم تداولها في اليوتيوب على سبيل المثال- هي من قبيل: «مثير، الفضيحة، الجنس، شاهد قبل الحذف…»؛ فالإغراء هو المتحكم في سوق الاستهلاك، وهو عينه الذي يتحكم في عالم اليوتيوب. أنت لا تدخل لليوتيوب من أجل التثقيف وأخذ المعلومة، بل من أجل المتعة وإشباع الرغبات.
فما بعد الحداثة أو الحداثة السائلة (صفة أخرى لهذا العصر)، تعادي الخلود وتنتصر للآني والفوري، لهذا لا يُنتج روّاد اليوتيوب إلا فيديوهات سريعة التداول والزوال، يهربون من الماضي ليظلوا حبيسيّ اللحظة والراهن والآني، أو بتعبير الفنان أندي وارهول: «للكل الحق في أن يصير مشهورًا، ولو لربع ساعة فقط». قد يبلغ عدد مشاهدات فيديو معين ملايين المشاهدات لكن لمدة لا تتجاوز أسابيع قليلة، ثم يختفي تناقله بين المشاهدين؛ فالأمر شبيه بالإشاعة وآثارها. والبحث هنا مُنصبٌّ على تحقيق أكبر قدر من المشاهدات في أسرع وقتٍ ممكن، وإن كلّف الأمر فضح شخص آخر أو نشر إشاعات شخصية.
وبالمقابل، فإن الأعمال الفنية ما أن تلج سوق العرض وآلياته حتى تفقد قيمتها القدسية، كما يذهب هان، لتغدو سلعة مثلها مثل باقي السلع المعروضة في الأسواق الكبرى. والأمر عينه بالنسبة للجسد الذي ما إن نفرض في عرضه حتى يغدو «فاحشًا»، بورنوغرافيًا، لا إيروسيًا يتطلب الاشتهاء، لكونه يفقد كل الكثافة السيميائية، ويصير متاحًا ومكشوفًا، إذ إنّ «البورنوغرافيا تحوّل كل شيء إلى الخارج وتعرضه. لا تحتوي على أيّ قدر من الخصوصية أو الخفاء أو الغموض»[17]. خاضعًا بدوره للإعجاب، إذ يلهث الكل خلف العدد الأكبر من كبسات زرّ: «أعجبني».
يضاعف بيونغ شول هان الأمثلة في كلا كتابيه «خلاص الجمال»، و«مجتمع الشفافية»، ليوضح أفكاره ويرسم معالم الوضوح الفاحش وحالة النعومة المفرطة التي تلغي كل حالات السلب متبعًا نهجًا مشابهًا جدًا لنهج رولان بارت الذي عالج أساطير معاصريه، بما في ذلك أسطورة سيارة Citroën DS وبيئة العمل السلسة والناعمة الخاصة بها[18]، ويتقاطع أيضًا مع ألكسيس دو توكفيل الذي يصف قروننا الديمقراطية على أنها تلك التي تتسم بالامتثال؛ حيث يحلّ التفاهم والانسجام والتشابه محلّ المشاعر العظيمة والفردانية والحميمية.
ولكن ما الذي أضافه بيونغ شول هان إلى كل ما قرأناه عن عصرنا الناعم والمتشابه والمتماثل، بفعل عمل الرقمنة والوسائط الرقمية التي تجرّ إلى أعماقها؟ لقد أكد ما سبق وأضاء المكشوف-المظلم: عالم الاستهلاك الذي نغوص فيه دون أن ندرك ما يفعله بنا. إنّ الرقمي هو الشَّر العظيم الذي لا بد منه في قرننا الحالي، ولعلَّه كذلك في القرون القادمة؛ فنحن اليوم نحيا في ثنايا مجتمع المعلوماتية بامتياز، وكل حركاتنا وسكناتنا يدركها Google، على سبيل المثال، قبل أجهزة الدولة.
إن مجتمع المعلوماتية مجتمع غاص بالمعلومات، لدرجة فقدت فيها هذه الأخيرة أيّ قيمة؛ فكل كل شيء متاح على محركات البحث. «إن فرط المعلومات والتواصل لا يجلبان الضوء داخل الظلمة الحالكة»[19].
وفي عصر المعلومات المفرطة تمّ استبدال الكتابة بالصورة؛ إذْ تستدعي الأولى مسافة زمنية بينما الثانية تكاد تكون مباشرة، وامتلاكها اليوم يعد امتلاكًا للسلطة الواقعية والرمزية، وإن كان «بالنسبة إلى هايدغر، تعدّ الصورة الوسيط الذي من خلاله يستطيع المرء الاستحواذ على الوجود والإمساك به على نحو سريع. فـهذه النظرية للصورة لا تفسّر صور الإعلام اليوم؛ لأنها عبارة عن سيمولاكر (…) بلا مرجع، لأنها تمتلك وجودها المستقل، كما تتكاثر خارج السلطة والسيطرة»[20].
لذا يغدو مجتمع الشفافية خاليًا من الشِّعرية والرومانسية والإروتيكية، إنه عارٍ وفاحش! فيُزال عن الجمال صفة الإيروسية الملازمة له، وينعدم الإيروس (الرغبة والجنس والحبّ) بغياب الجمال بالمقابل؛ إذ «عبر الجمال يصل إيروس إلى ما هو خالد»[21]، و«بدون إيروس يتدهور العمل، وتنخفض قيمته ليغدو “عملًا محضًا”، عملاً على النقيض من إيروس، يدنس ويحط من التفكير»[22]. وهذا الغياب لكل عملية تفكير هو ما تسعى إليه النعومة والشفافية، إذ يتم تغييب أيّ علاقة بين الفني والسياسي، من حيث إن كل عمل فني هو عملية سياسية بالسلب، كما يقول ألبير كامو.
يدعونا إذن بيونغ شول هان إلى الاحتماء بالجمال والخلاص من مجتمع الشفافية العاري. وذلك عبر عملية روحية لإعادة تعلم فهم ماهية الفن، والانفلات من الأشياء ذات الاستهلاك الخالص، والقابلة للتكرار، والناعمة والفارغة، والتي لا تتطلب أيّ حوار جمالي، وأيّ عملية تأويل وكشف بالمعنى الهايدغري. خلاص الجمال يعني إذن، عدم الخلط بين المجالات الحميمية والعامة والقضايا الإنسانية، وعدم تحريف أساسيات الفن في علاقته بالجميل، كما يؤكد عليها هذا الفيلسوف، لإرضاء السوق ومتطلباته لا ما يرتقي بالفرد ومجتمعه؛ فالجميل، كما يذهب أفلاطون، ويتبناه صاحب الكتابيْن، هو ما يجعلنا ننخرط في تجربةٍ ما، تخلُق ديمومتنا.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] إلزا غودار، أنا أوسلفي إذن أنا موجود، تحولات الأنا في العصر الافتراضي، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي للكتاب للنشر والتوزيع، 2019، ص.21.
[2] بيونغ-شول هان، خلاص الجمال، ترجمة بدر الدين مصطفى، منشورات دار معنى للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2020.
[3] المرجع السابق، ص. 17.
[4] بيون شول هان، مجتمع الشفافية، ترجمة بدر الدين مصطفى، منشورات مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2019، ص. 13.
[5] المرجع السابق، ص. 15.
[6] Maurice Blanchot, L’espace littéraire, éd. Gallimard, folio essais, Paris, 2018, p. 28.
[7] خلاص الجمال، م. م.، ص. 15.
[8] مجتمع الشفافية، م. م.، ص. 21.
[9] الرجع نفسه، ص. 26.
[10] خلاص الحمال، ص. 39.
[11] المرجع نفسه، ص. 22.
[12] المرجع نفسه، ص. 20.
[13] نفسه، ص. 23
[14] إلزا غودار، م. م.، ص. 83.
[15] مجتمع الشفافية، م.م.، ص. 73.
[16] خلاص الجمال، م. م.، ص 81.
[17] نفسه، ص. 46.
[18] راجع:
Roland Barthes, Mythologies, éd. Seuil, Paris, 1957.
[19] مجتمع الشفافية، ص. 84.
[20] نفسه، ص. 82.
[21] خلاص الجمال، ص. 87.
[22] نفسه 88.