انتابني قلق حول هذا الموضوع (هل ولّي زمان الفلسفة؟) مؤخرًّا عندما وصلتني شائعات مفادها أنَّ الفلسفة لا تُدرس -في بعض الجامعات- إلا ما نُشر في الفلسفة في العشرين سنة الأخيرة، وكان مِن أصْعَبِ الأشْياءِ التحقق من هذه الشائعات، وواضح أنَّ ذلك إجراء مُتفاوت للغاية. ويبدو أنَّ ثمة سيارات شوهدت في بعض الولايات تحمل مُلصقات تقول: «قُل: لا لتاريخ الفلسفة». ثم إنَّ جيلبرت هارمان الأستاذ بجامعة برنستون جاءته مُلاحظة بذلك على باب مكتبه. ويظهر أيضًا أنَّ مُصطلح: «تاريخ الفلسفة» قد تبدّل مَعناه، حيث لم يعد يُشير إلى الدراسة من زاوية تاريخيّة فحسب، وإنما دراسة جميع الكتّاب القدماء، وفهم هارمان من ذلك أنه ينبغي ألا نلتفت إلى هذه أبدًا، وألا نأخذها بجد. وفي جامعة كيمبردج مؤخرًّا، أخبر أحد الطلاب صديقًا لي أنه قد قضى مرحلة ما قبل التّخرُّج كلّها دون أن يقرأ كلمة واحدة لأرسطو، أو ديكارت، أو كانط. وفي هذا يقول صديقي: «قد انفطر قلبيّ».
حسنًا، لقد انفطر قلبي مثله، لكننا في حاجة إلى أن نسأل: لِمَ تنفطر قلوبنا لذلك؟ وأن نسأل أيضًا: ما الذي يَروم إليه أصحاب تلك التغييرات؟ يُذكرني ذلك التساؤل ببعض الأمور التي وقعت في عهد تاتشر، عندما بدأ تخفيض الميزانيات يُهدد الجامعات. عندئذٍ رأت الإدارات -بعدما أُخبروا بضرورة توفير النفقات- أنّ أسرع السُّبُل لتطبيق ذلك كان بإيجاز إِغلاق الأقسام الصّغيرة؛ إذ مكنّهم ذلك أيضًا من التناغم مع فتنة «مَراكز الخِبرة» التي كانت آنذاك بدعة جديدة. كان المُفترض أن تكون هذه المراكز مدارس كبيرة، حيث تُغطَّى دراسة موضوع معيَّن بعناية، فلا يكون بعدُ ثمة حاجة إلى أقسام أخرى في مكان آخر أبدًا. ومن ثَمَّ تُدرَّسُ الفيزياء كلها دراسة مثالية في جامعة مانشستر، وعلم الاقتصاد كله في كليّة لندن للاقتصاد، والفلسفة كلها (إذا احتجنا إليها) في جامعة أكسفورد.
ولمّا كانت أقسام الفلسفة صغيرة عادةً، فقد بدأت الجامعات تغلقها، وأغلق ثمانية منها في بريطانيا. ولمَّا تلاشت أقسام الفلسفة قسمًا قسمًا، صُعِقْتُ؛ لأنَّ أحدًا لم ينبرِ لرفض ذلك. ولم يقل أحد: إنَّ الموضوع مُهم في ذاته، وأنَّ الجامعات تحتاج إلى تدريسه، وأنها إذا توقفت عن ذلك فإنها -بمعنى ما- تكاد ألا تكون جامعات أبدًا. دفعتني هذه الفكرة إلى الكتابة إلى عدد من الفلاسفة البارزين في وقتنا الحاضر أُناشدهم قائلًا: «افعلوا شيئًا. اكتبوا إلى جريدة التايمز؛ (ذلك ما كان يفعله المرء في تلك الأيام). أخبروا الناس بأهميّة ذلك».
لم يؤتِ ذلك ثمارًا كثيرة، لكنَّ أحد الردود التي تلقيتها ما زال يبدو لي هامًّا. ولم أحتفظ به؛ لأنه ضايقني جدًا، لكني ما زلت أذكر فحواه جيّدًا. جاءني ذلك الرد من فيلسوف أكسفورد المرموق مايكل داميت الذي أخبرني بصورة قاطعة أنَّ مُحاولة الحفاظ على هذه الأقسام الأكاديميّة المحليّة كانت خطأ أصلًا؛ ذلك أنَّ الفلسفة -على حدّ تعبيره- موضوعٌ دراسيٌّ جادٌ وتقنيٌّ للغاية، وجدير بأن يُدرس في مُستواه الملائم. وأي طريقة أقل احترافيّة كانت عديمة النفع، بل قد تضر. وما عناه داميت بالمستوى الملائم يتضح من فقرة معروفة في كتاباته، حيث يقول: إنَّ «الموضوع المُلائم للفلسفة» لم يتأسس أخيرًا إلا بفضل ظهور «أسلوب التفلسف الحديث المَنطقيّ التَّحليليّ». كان ذلك الموضوع، فيما يقول… «تَحليل بنية الفِكر، ومَنهجه الوحيد المُلائم هو تَحليل اللُّغة». ولا عَجَب أنه ظنَّ أنَّ الانشغال بالتَّحليل اللُّغويّ قد صار مَسعىً تقنيًّا للغاية -يقترب من مجال الفيزياء النوويّة- لا يمكن أن يُمارسه أحد غير المُتخصص.
إنَّ السؤال الذي أثاره داميت يتعلّق بغاية الفلسفة ومغزاها وموضوعها الملائم. فما الذي نُحاول حقًا فعله؟ وقد لاح لي عندئذ أنَّ سقراط عندما تحدث عن المَخاطر العظيمة التي تُهدِّد حياة الإنسان لم يذكر حقًا خطر الفِكر أو اللُّغة غير المساءلة، وإنما حذرّنا من خطر الحياة غير المساءلة. وقد كان السعي إلى مساءلة الحياة كاملة، وفهم مغزاها، وتعيين نقاط عدم الوضوح الأساسيّة، وحل صراعاتها الكبرى، الشاغلَ الأساسَ للفلسفة التقليديّة قطعًا. ولم ينشأ ذلك الأسلوب من التفلسف المُختلف تمامًا إلا مؤخرًّا، فهو أسلوب يسترشد بنموذج العلوم الطبيعيّة، ويُسمَّى ببالغ التوقير بَحْثًا عِلميًّا. إنَّ التقدم العلميّ في هذه العلوم يمكن النظر إليه بوصفه يتألف من تراكم سلسلة من الوقائع، والانتقال من إحدى الوقائع التجريبيّة إلى اكتشاف واقعة أخرى. يُمثَّل ذلك غالبًا بعملية استخراج المعادن: عملية من الحفر المُنتظم عبر الطبقات التي تفصلنا عن الحقيقة؛ ذلك المعدن النفيس الذي يثوي في الأعماق. ولا تهمنا حتمًا العوائق التي نجتازها في هذه العمليّة إلا بصورة عابرة. فبمجرد قهرها لم تعد جزءًا من البحث. لهذا، فإنَّ الاكتشافات الفيزيائيّة الماضيّة في نظر الفيزيائيّ ليس لها غالبًا سوى قيمة تاريخيّة يسيرة؛ فما يهمه هو الاكتشاف التالي. يفسِّر ذلك تركيزه على آخر ما كُتب في الدوريات العلميّة حَصرًا، وكذا القول الاستعاريّ الدّال المُتمثل في عبارة «باكورة» الأبحاث العلميّة.
يحدث الآن ذلك النوع من التقدم بالتأكيد، ويمكن أن يكون نافعًا لفترة طويلة من الزمن. لكنَّ ذلك ليس كل ما في الأمر، حتى في العلم الطبيعيّ. فهو -ما دام ثمة نمط خطيّ- رحلة حُدِّدت وجهتها تنتقل بدقة من النقطة أ إلى ب، وهكذا إلى نهاية الحروف الأبجديّة في جهة مُتوقَعة. ولا يوجد ذلك النمط دائمًا، حتى في العلوم. فغالبًا ما ينبجس الاكتشاف الهام التالي فجأة في مكانٍ مُختلف تمامًا مُنحرفًا عن الطريق المُتوقَع. فيشير بعض الشخصيات الغريبة -مثل: كوبرنيكوس، وأينشتاين، وفارادي، وداروين- إلى فكرةٍ جديدةٍ تتطلب اتجاهًا جديدًا تمامًا، وطريقة جديدة في تصوّر الموضوع. وقد بيّن بيتر هيجز أيضًا أنَّ عمله الذي أوصله إلى اكتشاف جسيم بوزون المعروف الذي كان خارج نطاق بحثه العلميّ الأساسي، ولو أنَّ أحدًا لاحظ ما يفعله لوقع في ورطة. والسبب وراء الفتوحات المُفاجئة لأولئك الناس إنما يرجع إلى نظرتهم المُغايرة للأشياء؛ إذ إنهم قد عثروا على مواضع جديدة للنظر يمكن من خلالها أن يروا أشياء غير مُتوقعة أبدًا.
كيف يمكن ذلك؟ يتناول المؤرخون هذه المُنجزات أحيانًا إمّا باعتبارها حتميّة أو باعتبارها نوعًا من المُعجزة التي ترجع إلى عبقريّة الفَرد (لهذا يُطالب بعض المُضلَّلين بإجراء تشريحٍ ثانٍ لدماغ أينشتاين، وكأنَّ ذلك سيكشف سرّ اكتشافاته). لكنّ ما يحدث في الواقع شيء واضح وطريف في الآن نفسه؛ فإنَّ أولئك المُفكرين الأصلاء اتخذوا مسافة من المشكلة التي واجهتهم. وضعوها في سياقها الأرحب، وفكروا في كيفيّة ارتباطها بما حولها؛ فقد استعملوا المِقراب بدلًا من المِجهر؛ ليتمكنوا من النظر إلى الأشياء الكبرى. والخلاصة أنهم كانوا يتفلسفون.
إنَّ ذلك السعي نحو النظر إلى الحياة كلها -إيجاد سياقات أرحب لفَهم مَغزى مُشكلاتنا المُباشرة- إنما هو النشاط المُميّز للفلسفة. وهو ما يجعلها انشغالًا هامًّا جدًّا يهمنا جميعًا في الواقع. إنَّ الفلسفة ليست إحدى التخصصات، بل إنها نوع من الجغرافيا المفاهيميّة التي تنظر إلى العلاقة بين موضوعات طرائق التفكير المُتنوعة، وتحاول رسم خريطة لها. وسبب اشتهار بعض الفلاسفة ليس أنهم اكتشفوا وقائع جديدة، بل لأنهم غيّروا منظور الفكر بأسره. دأب الفلاسفة على إظهار سخافات عصرهم بعرض العادات الجارية على أرضيّة فكر جديدة، وإبراز الافتراضات الغريبة التي تشوهها، وهو ما أتاح أساليب جديدة في التفكير.
على سبيل المثال، عندما افتتح روسو عقده الاجتماعي بقوله: «يولد الإنسان حرًّا، ويوجد الإنسان مُقيَّدًا في كل مكان» إنما كان يُسلِّط الضوءَ على تضاربات تامّة بين النظريّة والتطبيق لا بُدّ من فحصها إذا أردنا مواجهة المُشكلات القائمة بصورة مُلائمة. وبالمثل، عندما أشار روسو نفسه إلى الطريقة الغريبة غير الطبيعيّة التي ينشأ بها الأطفال الذين أُبعدوا عن أمهاتهم، وقُمِّطوا [1]، وقُدِّموا إلى حَاضِنة قد لا تهتم بهم كثيرًا، بدأ الناس عندها مُلاحظة انحرافات في فهمهم لماهية الطبيعة وكيف ترتبط بنوعنا. لم ينتبهوا من قبل إلى هذه الانحرافات قطّ. الأهم من ذلك أنهم قد بدأوا أيضًا لأوّل مرّة الاعتناء بالأطفال الرضَّع، وهو ما استمروا عليه مُذْ ذاك الحين.
من المثير للاهتمام أنَّ أجدادنا لم يستطيعوا -فيما يبدو- رؤية تلك الطرق المُضطربة الماضية حتى جاء شخص مثل روسو، وبيَّنها. أي: إنَّ الافتراضات التي تمخضت هذه العادات السابقة عنها ظلّت قائمة بسهولة إلى أن وقعت الصدمة –أي: حتى وُضعت في صورة أكبر، حيث يمكن إدراكها وتطبيقها. يبيِّن ذلك كيف تقوم أفكارنا بصورة عميقة على مجموعة من الافتراضات غير المُقرَّرة بطريقة تُشبه كثيرًا قيام حياتنا الفيزيائيّة على طبقات أرضيّة متحوّلة متوارية أسفلنا. ولا نلحظ مثل هذه الافتراضات إلا حينما تُخفِق الأشياء، حتى تنبعث الرائحة من أسفل البناية -إذا جاز القول- رائحة كريهة بحيث نضطر معها إلى النزول وإصلاح الأمر. ولهذا كثيرًا ما اقترحت أنَّ الفلسفة حريٌّ أن تُفهَم بوصفها نوعًا من حرفة السباكة؛ إنها الطريقة التي نُصلح بها البِنية التحتيّة لحياتنا؛ أي: الأنماط الحياتيّة التي نُسلِّم بها؛ لأنها لم تُلحَظ قطّ. وذلك تصور أكثر عُمقًا وانفتاحًا من مُجرد مساءلة بنية الفكر الحالية واللغة، وهو ما يدعو إليه داميت فيما يبدو.
جرى تصليح آخر للسباكة في أواخر القرن السابع عشر عندما أصلح جون لوك مفهومَ التسامح. لقد افترض الناس طوال ذلك القرن تقريبًا في جميع أنحاء أوروبا أنه لا بدّ من عدم التسامح مع الاختلاف في الرأيّ. فإذا لم يتوصلوا إلى الاتّفاق على حقيقة واحدة بشأن الدين كان عليهم التقاتل حتى يتفقوا، وإلى أن يحدث ذلك لا بد أن يُحرَم المُهرطقين أو يُعاقبوا. وقد نُظر إلى الفكرة التي تقول: “إنَّ الآراء المُختلفة يمكن أن تحيا جنبًا إلى جنب بوصفها ضَعفًا أثيمًا يؤدي إلى الفوضى”. وما أثار لوك في النهاية، وحاول التعبير عنه في كتاباته، هو أنَّ نظام المُعتقدات المُتضاربة ذاك يستحيل أن يعمل؛ لأنَّ الحقيقة مُعقدة للغاية بإيجاز. فلا يحوزها كلّها كائن ما كان، وأنَّ أولئك الذين يفهمون أجزاء مختلفة من الحقيقة يمكنهم في الواقع العيش سويًّا في سلام. ربّما كانت هذه أفضل طريقة في الواقع لجمع الحقائق الجزئيّة معًا في النهاية.
لا شك أنه لم يكن ذلك «الاكتشاف» -كحال الاكتشافات العلميّة في بعض الأحيان- مُتعلقًا بمجرد العثور على واقعة مُعطاة جديدة كليًا، مثل: اكتشاف دوران الأرض حول الشمس. بل كان أقرب إلى ابتكار آلة موسيقيّة جديدة والتمرُّن على العزف بها. كان ينبغي على لوك ومن معه تعلم كيف يتسامحون مع ما بدا أنه لا يمكن تحمله قبل ذلك، وكيف يتعاملون مع أناس اعتقدوا من قبل أنهم لا يُطاقون. كان عليهم أيضًا تعلم رؤية حدود هذا التسامح الخارجيّة، وتعيين ما يجب أن يظلّ خارج نطاق التسامح.
إن التسامح في الواقع -مثل جميع الأفكار الفلسفية الكبرى- آلة موسيقية معقدة، يصعب عزفها، كآلة التشيللو أو الباصون، ولهذا ما زالت تواجهنا مصاعب كثيرة في تعلم كيفية استعمالها على نحو ملائم، وما زلنا في حاجة إلى مُتابعة التفكير فيما تنطوي عليه من أفكار. وكذا المُثُل الأخرى ذات الصّلة التي نحاول تشكيل حياتنا وفقها -أي: مُثُل من قبيل المُساواة، والحريّة، والتّعاطف، والمؤاخاة، والعدل، كلّها معقدة، ولكنها جذابة من ناحية فلسفية، إلا أنه يجب مراعاتها وأن تستعملها الأوركسترا كلّها.
كانت تلك المُثُل محوريّة حقًّا في رسالة التنوير، وهي الرسالة التي نفترض الآن أنها الإطار الواضح لكل حياة إنسانيّة كريمة. بيد أنَّ قصة التنوير ذاتها لم تكن واضحة دائمًا. ولم تُنتج جاهزة من آلة تُسمى التاريخ، بل كان لا بد من اختراعها وابتكارها بقدر عظيم من العمل المضني على يد فلاسفة أمثال لوك وروسو، وكان لا بد من أن تتبع بعملٍ زائد حتى يومنا هذا. إنَّ عملًا من هذا النوع يقتضيه كل عصر؛ لأن حقيقة العالم مُعقدة بغير حد.
هل تبينا الآن غاية البحث الفلسفيّ الحقيقيّة؟ لا ريب أنَّ من الأمور البيّنة أنَّ هذه الغاية لا يمكن أن تشبه غاية العلوم الطبيعيّة، فهذه العلوم تُفتش داخل أجزاء معيّنة من الحقيقة التي أحيانًا ما تكون وقائع مُعطاة، بينما الفلسفة مَداها لا نهائيّ في البحث عن روابط جديدة، –أي: طرائق جديدة في التفكير والعيش. لهذا فإنَّ من المعقول تمامًا أن يعرف علماء الفيزياء النووية كثيرًا عن نطاق ضيّق من المعرفة، لكنَّ الفلاسفة عليهم أن يفعلوا العكس تقريبًا، أن يجدوا روابط تُعيد بناء منظور خبراتنا كاملًا، أي: منظور يتيح لنا العيش بصورة مختلفة. إنَّ عملهم هو توسيع نطاق منظورنا. يمكنهم أن يقعوا على منظور لم يعرفه أحد من قبل.
إنَّ التعارض بين هذين النمطين من التفكير ليس تعارضًا كاملًا بطبيعة الحال؛ لأنه ينبغي على علماء الطبيعة -مثلما رأينا- في بعض الأحيان توسيع نطاق آرائهم من أجل إحداث نقلة، والفلاسفة أيضًا ينبغي عليهم أحيانًا التعامل مع الأسئلة التقنية التفصيليّة. لكنَّ هذين النهجين -بصورة عامة- متعارضان تمامًا، ليس لأنهما مُتنازعان، ولكن لأنهما يفيان بمطالب مُختلفة للغاية؛ فعلماء الفيزياء النووية غالبًا ما يخاطبون جمهورًا محدودًا من المُختصين الذين يشاركونهم كثيرًا من معرفتهم ويريدون زيادة التعرف إلى جانب معيّن منها. لكنَّ عمل الفلاسفة يهم الجميع. فالفلسفة تسعى إلى ربط جوانب الحياة التي لم تلتئم حتى الآن بطريقة مُلائمة. كأنها تصنع نظرة إلى العالَم أكثر اتساقًا وقابلية للتطبيق. وتلك النظرة المُتسقة إلى العالَم أيضًا ليست ضربًا من الرفاه، بل شيئًا ضروريًّا لحياة الإنسان.
إن رؤى العالَم -تلك المَنظورات، والتصوّرات الخلّاقة عن العالَم كله- هي أساس ضروري لحياتنا كلها. إنها غالبًا ما تكون أكثر أهميّة من معرفتنا الواقعيّة، كما في حال المُرتابين من التغيُّر المناخي الذين تبقى وجهات نظرهم التقليديّة ثابتة سواء أَوُجِدَتْ أدلة جديدة تدحض موقفهم أم لا. ويحوز الجميع رؤىً غير ظاهرة عادة ما تُستمد من البشر المُحيطين، ولا نتساءل غالبًا عن مصدرها. ولكن ما إن نتساءل حتى نجد أنها تشكَّلت بفضل الفلاسفة السابقين الذين أثّروا في تراثنا الفكريّ. أمَّا نحن في زماننا الحاضر فيعني هذا أنبياء عصر التنوير، أناس مثل: لوك، وروسو، وديكارت، وهوبز، وهيوم، ومِل، وماركس، ونيتشه. إنَّ تلك الفلسفات السابقة لم ينته زمانها، بل أبعد من ذلك، إنها ما زالت نابضة بالحياة، فقد شكَّلت طريقة تفكيرنا. إنها فلسفات تضرب بجذورها بعيدًا في تربة حياتنا، وتنمو هناك وفق طريقتها الخاصّة إلى أن يأتي أحدهم ويُعيد النظر فيها. لهذا فإنَّ من يرفضون التفلسف غالبًا ما ينتهي بهم المطاف عالقين في أفكار الفلسفات السّابقة التي أخذوها عن أسلافهم بغير وعيّ.
ما يُحررك من قيود الإذعان إلى فِكر الماضيّ بهذه الطريقة هو الاطلاع المُباشر على ما كتبه أولئك الفلاسفة الماضون، وأن ترى كيف يتعلق ذلك بحياتنا الحاضرة. إذا فعلنا ذلك فسوف نتبيّن غالبًا أنَّ رسالة أولئك الفلاسفة كانت أكثر فطنة من صورها الفظّة الباقية في تقليدنا. الواقع أنَّ رسالتهم لا تزال تبعث أفكارًا قد تُساعدنا اليوم. فلم يلفت هؤلاء الفلاسفة انتباه معاصريهم -كما سبق أن أشرت- ليس لأنهم استطاعوا حل مُشكلات معينة فحسب، بل لأنهم أيضًا أطلوا على الحياة من زوايا غير مُتوقعة. لم يقدموا أفكارًا جديدةً فحسب، بل تصورات جديدة، ومناهج متميّزة، وأساليب في التفكير جديدة كليًّا.
لا شك أنَّ هذه المناهج الجديدة لا تحل كل المُشكلات، لكنَّ كلَّ واحد منها يزودنا برؤية وأدوات جديدة تُعيننا على فَهم عالَمنا المُحيِّر، يمكن أن نتبيّن مدى تأثير أطروحاتهم اليوم، وليس لأنَّ الناس في زماننا غالبًا ما يستشهدون بقول ماركس مثلًا، أو نيتشه، أو أفلاطون، أو بوذا من أجل توضيح ما يقولونه فحسب؛ بل لأنَّ تفكيرنا الحاليّ مُستمد بصورة واضحة من هؤلاء الفلاسفة، ومطبوع بأفكارهم بصورة لم يعد يدركها المُفكرون الآن.
لذا، كيف يُعقل أنَّ نفكر في أن زمانهم قد ولَّى؟ أيمكننا تجاوزهم اليوم؟ كيف نتغاضى عن الاهتمام بهذه الموروثات التي ما زالت مؤثرة في حياتنا؟ ليست القضية أن نعود إليهم من أجل التدقيق في تفاصيل مقالاتهم -كما اقترحت- لحماية أنفسنا من التحريفات التي طالت رسالتهم التي ما زالت حتى اليوم في تُراثنا؛ وإنما نحتاج إلى الاهتمام بهذه الأعمدة الفكريّة من أجل ذاتها. ونحن إذ نريد فهمهم؛ فلأنهم قد شكَّلوا كل أسلوب حياتنا الذي ما زلنا نحيا حسبه. هم لا يزالون وجوهًا نشطة في حاضرنا وأجزاءً راسخة من البناية التي ما زلنا نطوف بها. الواقع أنَّ سبب دراسة تاريخ الفلسفة هو سبب دراسة التاريخ عامة، أعني: لا أمل في فهم الحاضر ما لم نفهم بالماضي.
يتجلَّى ذلك في المشهد السياسيّ، فلو لم نعرف كيف تهافتت الأمم الغربيّة في الماضي على ابتلاع [استعمار] الدول الأخرى أثناء القرن التاسع عشر، لن يمكننا فهم لماذا ما زال كثير من شعوب هذه الدول التي كانت مُستعمَرة يبغضوننا نحن [الغربيين]. لا تتعاقب عصور التاريخ عشوائيًّا مثل دورات عجلة الروليت المُتتالية، بل إنها مراحل متصلة لمدى وحيد، ترتبط فيه ببعضها عضويًّا، حيث لن تفهم بالفعل موقعك الآن ما لم تعرف كيف وصلت إليه.
إذا كان لا بُدّ من هذه الخلفيّة التاريخيّة في المَجال السياسيّ فإنها تبقى أكثر ضرورة في حياتنا الأخلاقيّة والفكريّة؛ فلن نستطيع فَهم النزاعات الحاليّة بدونها. وعلى وجه التخصيص، إنَّ أيَّ طالب سيبدأ في دراسة فلسفة آخر عشرين سنة دون أن يدري تاريخ إثمارها الطويل سينتهي به الحال حتمًا إلى الإخفاق، وعنده ما يكفي من الأسباب للامتعاض من ذلك؛ لأنه يؤثر -كما رأينا- في نظرته الكليّة إلى العالم، وفَهمه الخلّاق للحياة، وليس على معرفته فقط. إننا بحاجة إلى إِدراك قصة تطورنا الفكريّ في الماضي لفَهم موقعنا الحاضر بقدر ما نحتاج إلى معرفة تاريخ تطورنا البيولوجيّ. ليست الفلسفة في الواقع مجالًا اختصاصيًّا كغيره من المجالات؛ فليست موضوعًا لا تريد ولوجه إلا إذا كنت تنوي إلقاء مُحاضرة عنه. بل إنها فعل نزاوله باستمرار، ونشاط أساسيّ قد يسوء وضعه إذا أهملناه، وهي في هذا إنما تُشبه قيادة سيّارة أو إنفاق المال أكثر من الفيزياء النووية. وربّما كانت تُشبه المُوسيقى أكثر مما تُشبه كل هذه الحِرَف، والفلسفة الجيّدة -على أي حال- كالموسيقى الجيّدة، لَنْ يطويَها النّسيان.
[1] القَمْطُ: شَدٌّ كَشَدِّ الصَّبِيِّ فِي المَهْدِ وفِي غَيْرِ المَهْدِ إذا ضُمَّ أعضاؤه إلى جَسَدِهِ ثُمَّ لُفَّ عَلَيْهِ القِماطُ، وهو خِرْقَةٌ عَرِيضَةٌ يُشَدُّ بِها الصَّغِيرُ وجَمْعُهُ قُمُطٌ. انظر: لسان العرب والمصباح المنير (قمط) (المترجم).