لم يكن في استطاعتنا دائمًا أن نملك ناصية القرار لنحلق، حيث قُذف بنا إلى الوجود -على حد تعبير هايدجر- وإن سَّلم الكثير منا بتلك الفرضية، إلا أنه سرعان ما نقع في قبضة مشكلة أخرى وهي إننا لم نملك ناصية الفعل ذاته في مرات كثيرة، فلم يكن الفعل ورد الفعل جراء إرادة حرة دائمًا، وذلك ليس على صعيد حرية الإرادة المباشرة وأزماتها النظرية، بل في ظل ما هو أشد حركة مع الفعل الإنساني في حدوده اليومية ولحظاته؛ أي الوعي بالفعل عند حدوثه وامتلاكه ذهنيًا!
يأخذنا الوعي بالفعل الذاتي إلى حوار أشد تعقيدًا من إبداء المسؤولية عن الفعل وحرية اختياره، فإن أقطاب المسؤولية دائما ما تكون واضحة ما بين أزواج بديهية من الصواب والخطأ، حد إبداء الراحة في نفس الفاعل وإن كان أمام مقصلة، ذلك في ضوء فهم دافعه للإنكار لأهدافها الموضوعية التي يمكن أن تلحق به الأذى، إلا إن ذلك لا يعني بالضرورة أنه لا يستند على الحقيقة التي أنكرها في نفسٍ مطمئنة دون حرج، فبالرغم من أن الحقيقة تقتلنا هنا، إلا أنها لا تفضي بالنفس إلى الإحراج والخجل من ذاته.
لكن الحرج حالةٌ مختلفة. فهو في نفس ذلك الشخص الذي يحادثنا عن حادثة تافهة في نظرنا، ولكنها حادثة جعلتْ قائلها في لحظة ارتباك على المستوى النفسي؛ رغم عدم وجود معطيات واقعية تبرر هذا الارتباك.
فلماذا نشعر بالإحراج وكيف يأخذنا الإحراج في صورته المجردة إلى التحسّن؟
لعنة الشخصية: مآلات الإنسان الأعلى عند نيتشه
في كتابه “العلم المرح” يكتب نيتشه: “من تصفه بالشرير؟ أولئك الذين يريدون دائمًا أن يخجلوا الآخرين. ما هو الأكثر إنسانية؟ تجنّب الشخص إحساس العار. ما هو ختم التحرر؟ ألا يخجل المرء من نفسه بعد الآن”.
يعد الإحراج الذاتي حالة معقدة على مستواها النفسي لتتعدد طبقاتها التفاعلية بين الإنسان وذاته، حيث نجد ما يخبرنا به نيتشه يقع في طبقة مشتقة من فلسفته التحررية من صيرورة التاريخ ومحاولة خلق الإنسان الأعلى وتحرره من قيود المجتمع، وإن كان قوله ذلك بعيدًا عن هدفنا هنا إلا أنه من الضروري الالتفات إليه. يطرح نيتشه في تحليله للشعور بالخجل أنه يولد من كل “ينبغي” قيلت لنا في طفولتنا، نعم إن ذلك قريب من المفهوم الفرويدي حول تكوين الأنا الأعلى وما تشكله من سطوة على حياة الإنسان، إلا أن ما يطرحه نيتشه يتجاوز تلك النظرة التحليلية بهدف تحررنا.
يأتي رفض نيتشه للخجل لأثره البالغ على النمو الشخصي فهو يمنع أن نكون في حالة الوعي الكاملة لأنفسنا، وإبداء طاقتنا الأصيلة الكامنة فينا باتجاه رغبتنا الشخصية، لصالح تلك القيم التي أعطاها لنا المجتمع، يقول العقل الخجل: ” أنا ليس ما وجب أن أكون عليه”، حيث ينغلق العقل الخجل على المثال الأعلى الذي تلقاه وعلى ما يعنيه أن يكون رجلاً أو امرأة، ولا ينفك عن مقارنة ذاته بتلك المثل طوال حياته ساعيًا للتماثل بها. كل “ينبغي” كامنة في الذهن نمت في ظل خواء المرء من القيم الثابتة التي يستطيع أن يعرف نفسه بها في طفولته؛ لذلك عندما تعيش كما يريد مجتمعنا أن تكون، نصبح دمى، حيث نستسلم لشعور العار من الآخرين حيث يعد العار حسب نيتشه هو رفض الناس لذاتهم؛ لذا يأتي شعور الخجل حسب نيتشه عند إدراك الشخص بأن ما هو عليه ليس ما يجب أن يكون عليه.
تجاوز نيتشه في حديثه آلية الخجل فاحصًا أسبابها الاجتماعية، فلم يلتفت إلى أنه يمكن أن يتولد العار من عدم تماثل “الإنسان الأعلى” نفسه مع قيمه النبيلة. إذن يُعرف الإحساس بالحرج بقصور الوعي عن إدراك الفعل في شكله العادي منطلقًا بذلك من مثله الأعلى، والذي يعد تفسير أكثر قربًا لواقعنا المعاصر، بعد أن تجاوز الأفراد القليل من القيم الاجتماعية في شكلها البلاغي المباشر، مما أدى إلى أن يصبح وعيه الحرج في نطاق حواره العقلي نفسه وليس مع المجتمع؛ مما يجعل الشعور بالحرج في نطاقه الذاتي له ضرورة أكثر تركيبا من محاولة التخلص منه!
الإحراج الذاتي: الموت في ظل مفارقة غير منطقية
الإحراج أعقد مما ذهب إليه نيتشه، فإذا نظرنا أثناء حديثنا مع أنفسنا إلى تلك الفجوة الواقعة بين ما نتمنى أن نكون عليه وما عزمنا على فعله؛ سنجد أنه أشد سوءًا من المعيار الاجتماعي حيث من شأنه أن يهدد صورتنا الذاتية التي رسمناها لأنفسنا. فإن تجاوزنا بشيء من الحكمة وخزات الضمير التي تؤلمنا، ونظرنا إلى الفعل ذاته لوجدناه يخبرنا بضرورة حيوية كامنة فيه، بل لعلها أثارت رغبة ما فينا وأشبعها، فأقدمنا عليه. تأخذ مفارقة الإحراج شكل أكثر سلطوية مستغلة تلك الهشاشة التي وقعنا فيها، وتبعدنا عن فهم مكمن الإشكال.
يعد الإحراج حالة مفارقة غير منطقية، حيث يفارق الوعي الحاضر بالفعل الوعي الغائب به بدرجات متفاوتة، كما تتفاوت أشكال السلطة بينهم، حيث تكمن سلطة الوعي الحاضر على التفارق نفسه والذي يبدو أعلى في المعيار الاجتماعي أو تبعًا لأي معيار آخر، أما سلطة الوعي الغائب تكمن في التصاقها بالفعل الذي حدث؛ هنا يقع الإنسان بين هاتين الدرجتين محملًا بأعباء الفعل الواقعي حيث هو ما يتحمل مسؤوليته أمام الواقع.
كيف نتحرر من الإحراج الذاتي؟
جزء من طبيعة السير على أقدامنا هي أننا لا نفكر كثيرًا في كيفية السير، ولكننا ننظر إلى الاتجاهات السليمة دائمًا للسير دون حرج، كذلك الفعل الإنساني في ذاته فهو كثيرًا ما يحتاج أن يترك على سجيته وأن تفهم تحذيراته في سياقها الطبيعي، فإن حالات الإحراج تكونت عند أسلافنا الذين عاشوا في مجموعات صغيرة مترابطة، وكانوا يواجهون تحديات متكررة تهدد حياتهم، معتمدين على أعضاء المجتمع لمساعدتهم في الأوقات الصعبة. من هنا، كان من الأساسي تقدير المنفعة المباشرة لأي فعل يقومون به مقابل التكاليف الاجتماعية المحتملة، بما في ذلك احتمال تقليص قيمتهم في مجتمعهم بسبب تصرفاتهم.
لذا يفترض الباحثون أن شدة العار المتوقع أن يشعر بها الأشخاص تمثل تنبؤاً داخلياً بمدى تقليل الآخرين لقيمتهم في حال ارتكابهم لإجراء معين. وإذا كانت هذه السمة جزءاً من الطبيعة البشرية، فمن المفترض أن تكون في ذلك النطاق الحواري الخفيف مع النفس، فإن النفس خالصة من كل الأفعال حتى تحدث، وإن وقعت فهي إما تصيب او تؤشر بمعرفة جديدة، لسنا في غنى عنها؛ لطالما كانت المعارف الإنسانية مفارقة إحراج في ذاتها. فهي إحدى السوابق المعرفية الضرورية لامتلاك معرفة واضحة عن الذات!
حسب ما وصفه مايكل لويس في مجلة American Scientist في يناير وفبراير 1995، يبدو أن الإحراج لا يظهر إلا بعد أن يتمكن الطفل من التعرف على نفسه في المرآة، وهو ما يحدث عادةً بين عمر 15 و24 شهراً، بعد ظهور المشاعر الأخرى مثل الغضب والخوف والغيرة. يبدو أن أولى حالات الإحراج الملحوظة لدى الأطفال تتفاعل بشكل أكبر مع نمط التفاعلات المحرجة، مثلاً، يمكن أن يتسبب الثناء الشديد في إحراج الأطفال الصغار. ومع ذلك، بحلول سن الثالثة، يمكن للأطفال أن يشعروا بالإحراج عندما لا يلبون توقعات الآخرين.
لذا لا يعتبر الإحراج الحالة الأساسية في التعلم لدى الطفل، فهو يعتبر مؤشر ثانوي قائم على إدراك العالم الخارجي، مما يبعدنا قليلًا عن اعتباره أمرًا هامًا في سيرنا نحو المعرفة، حيث ترتبط السمات الشخصية المختلفة بأنواع مختلفة من الإحراج. على سبيل المثال، يبدو أن تقليل احترام الذات يترافق بشكل كبير مع الإحراج الناتج عن القيام بخطأ. لا يبدو أن الأشخاص ذوو “الشخصية الاجتماعية” يظهرون هذا النوع من الإحراج بشكل أكبر أو أقل من الآخرين، ولكنهم أقل عرضة للإحراج في المواقف الصعبة.
لذا يقع عاتق التخلص من شعور الإحراج على الخلفية المعرفية الكاملة للإنسان، فليس من الضروري أن يكون منسجم مع بيئته أو مع ذاته المتعالية لتخطي حالة الإحراج، بل أن تكون مشبعة بامتداد سلطوي/معرفي لها لتأخذ مجراها المجرد مع المعارف الأخرى، لتشير إلى معرفة جديدة، أو تضيف أخرى، دون الوقوع في شباك الإحراج.