كان أومبيرتو إيكو مُنظّراً وروائياً وفناناً وصحافياً، ولكنه كان ضمن ذلك كله سميائياً. وربما كان آخر الكبار ممن كتبوا في هذه النظرية العابرة لكل التخصصات في ميدان الإنسانيات. فوحدها ظلت حاضرة في كل اهتماماته. ولم تكن السميائيات عنده مجرد تأمل في علامة معزولة تعين وتصف وتفصل بين الكائنات والأشياء، بل كانت فعلاً للتأويل في المقام الأول. إنها “رؤية للعالم” يتحدد من خلالها الوجود باعتباره سلاسل لا تنتهي من الرموز التي لا يمكن لأي شيء داخله أن يكشف عن نفسه إلا من خلال ما تأتي به وتُعيد صياغته ضمن مضافات ثقافية هي الدليل الوحيد على وجود الإنسان “في العالم” (هايدغر). فلا أحد منا رأى هذا العالم عارياً، لقد ورثناه في كل حالات التجريد من خلال اللغة ومن خلال ما يحيط بها من أنساقٍ رمزية. وأصل ذلك في الكلمات ذاتها ” فهي في منشئها واشتغالها أطول عمراً من الأشياء التي تقوم بتمثيلها” (غيرو).
لذلك كانت تصوراته لكل الأنشطة الفكرية، في الإبداع والسخرية والإنتاج المعرفي النظري، قائمة على فرضيةٍ واحدة هي أن الأشكال الرمزية وحدها يمكن أن تكون حاضنةً للنشاط الإنساني في كل تجلياته، وعلى رأس ذلك اللغة، فهذه الأداة لا تكتفي بتسمية الكون والإحاطة بموجوداته، إنها تحتضن؛ فيما هو أبعد من الإحالات المرجعية المباشرة، كل ممكنات الوجود الاستعارية بكائناته وظواهره وأبعاده. فحيث يرى الناس الأشياء والوقائع الحافية يرى السميائي العلامات وحدها، أي المعنى الذي يجعل الإنسان واقعة في التاريخ لا مجرد حدث عارض في الطبيعة. فالعوالم التي لا تغطيها اللغة عارية، إنها تشكو من خصاص في الدفء الإنساني. ذلك أن الذاكرة لا تحتفظ سوى بما يمكن أن يأتي عبر اللغة أو ما يمكن أن تعيد صياغته العين استناداً إلى المفاهيم وحدها.
وهذا معناه أن موضوع السميائيات كان عنده هو المعنى ولا شيء غيره، فلا دخل للأشياء فيما يقوله الناس من خلال أجسادهم وإيماءاتهم أو يتداولونه في لسانهم وتمثيلاتهم البصرية. فما يأتي إلى الذات من خارجها هو مثيرات حسية لا قيمة لها إلا عندما تنضوي داخل قوالب رمزية هي موضوع حديث الناس وهي مضمون وقائع الإبلاغ عندهم، فالوجود معنى. وذاك بعض مما جاءه من الإرث البورسي(1)، فالتمثيل عند مؤسس السميائيات الحديثة، ناقص دائمًا، والأشياء موجودة كأقسام محددة في أنواع مفهومية تدل عليها، وخارج ذلك ليس هناك سوى السديم، كتلة من عماء لا حول ولا قوة للأشياء داخلها إلا عندما تستوطن العلامات.
وضمن هذا التوالد الرمزي تُصنف تجربته السردية أيضاً. بل إن الكثير من “التقنيات” الروائية لا يمكن أن تسلم أسرارها وتتضح مردوديتها السردية إلا من خلال استحضار هذه الخلفية الفكرية بكل امتداداتها في التصنيف والبرهنة. وذاك ما حاول الكشف عنه في كتاباته التي خصصها لتأمل تجربة روائية رائدة بُنيت على هامش التأمل النظري وانطلاقا من محدداته في الوقت ذاته، فقد كان يعتبر نفسه” جامعياً وناقداً بالحرفة، ولكنه كان روائياً بالهواية وحدها”(2). وهناك الكثير من الكتابات التي تُمثلُ هذا المنحى “النقدي” الجديد، ومنها كتابه “حاشية على اسم الوردة ” و”كيف أكتب”، وقد يكون كتابه ” اعترافات روائي ناشئ”(3) الصادر سنة 2013، آخر ما كتبه في ميدان التأمل السردي (توفي أومبيرتو إيكو في 19 فبراير 2016). لقد حاول في هذه الكتب مجتمعة الكشف عن استراتيجيات الذات “النموذجية” التي تقف وراء هذا البناء التخييلي الذي يعج بالحقائق والأوهام، وتحديد موقع المتلقي داخلها أيضا، فهذه الاستراتيجيات لا تُبنى خارج الذات التي تستهلك النص وتسهم في تشكيل دلالاته.
يتعلق الأمر في جميع هذه الكتابات ببوحٍ واعتراف، أي برغبة في الكشف عن أشياء كان من الممكن أن تظل سراً إلى الأبد، ما كان يسميه هو نفسه في سياق اعترافاته وفي سياقات أخرى ( آليات الكتابة السردية )، حكايات السيرورة التي تقود إلى بناءِ عالمٍ روائي مكتفٍ بذاته: “سيرورة التكون ” و”سيرورة التفكير بالأصابع”، و”سيرورة التشخيص”، بل يتحدث أحيانا عن السيرورة التي تنتقل من خلالها أجزاء من حياة المؤلف إلى عوالم التخييل برغبة ذاتية صريحة أو في غفلة منه ( ما يقوله عن أمبارو، الفتاة التي أحبها كاسوبون، بطل رواية ” بندول فوكو”، التي لم تكن سوى صورة لفتاة أحبها إيكو في الخمسينيات عندما كان طالباً في باريس، ولا يعرف كيف تسللت إلى عالم التخييل).
وهذا التداخل بين الروائي والسميائي هو ما نعثر عليه في روايته اسم الوردة (القسم الأول-اليوم الأول). فقد قدم غيوم دو بارسكفيل (أحد الرهبان الفرانسيسكيين وبطل الرواية) على امتداد صفحتين سلسلة من المعارف الخاصة بالفرس الهارب وشكله ورشاقته وقدرته الفائقة على السير المستقيم دون أن يكون قد رأى الفرس أو شاهده من بعيد، لقد فعل ذلك وهو يراقب الآثار التي تركها الفرس، أي العلامات الدالة على وجوده. كان يتحدث عن ذلك كما يفعل أستاذ يلقي درسًا في السميائيات حيث العلامات وحدها هي شرط وجود الأشياء والكائنات. ليختم ذلك بقوله وهو يتوجه إلى مريده أدزو دو ميلك قائلاً: “منذ بداية رحلتنا لم أتوقف عن تلقينك كيف تقرأ العلامات التي يكلمنا العالم من خلالها، وكأنه كتاب كبير. وقد كان ألان دو ليل يقول: كائنات الدنيا جميعها هي لنا كتاب ورسم، إنهما يتجليان في مرآة” (4). لم يكن يسرد تفاصيل خاصة بواقعة، بل كان يشخص معرفة كما يمكن أن تتجلى في العلامات.
وهذا معناه أنه جاء إلى الرواية من بوابة التأمل السميائي، لذلك لم تكن تجربته في هذا المجال سوى محاولة لبلورة حقائق استعصت على التمثيل النظري المجرد لكي تبحث لها في الحياة ذاتها عما يمنحها وجهاً مشخصاً يستعيد الفعل الإنساني من مظان التجسّد، لا من خلال غلافه المفهومي. يتعلق الأمر بالكشف، من خلال السرد، عن حقائق تخص الوجود كما يمكن أن يلتقطها القارئ من الفرجة الحياتية، لا كما يصوغها التأمل النظر وذاك أمر بالغ الأهمية، “فنصوص العلم قابلة للتلخيص أو قابلة للصياغة بطرق مختلفة دون أن تفقد معناها، في حين أن نصوص المبدعين لا يمكن إعادة صياغتها كلياً، كما لا يمكن شرحها (5). إن الإبداع يبني عوالم تتطور داخل الممكن والمحتمل والمستهام، لا ضمن إكراهات الزمن النفعي.
يتعلق الأمر بحقائق تخص الحياة ذاتها، ولكنها لا تكشف عن نفسها بالطريقة ذاتها، فحقائق الأدب هي خلاف حقائق العلم. كما أن “شخصيات التاريخ” ليست هي “الشخصيات” التي تعيش في السرد التخييلي وحده. إن الحقائق الأولى أقوى وأطول عمرًا من كل الحقائق التي ينتجها العلماء في المختبرات، فقد يتخلى الباحثون عن نظريات ويتبنون أخرى، أو قد يتم الكشف عن قوانين علمية جديدة تلغي سابقاتها، في حين تظل الحقائق التي تُبنى في النصوص الفنية ثابتة لا يمكن النيل من سمكها وقدرتها على التأثير في نفوس الناس. فالفن لا يقول الحقيقة، ولكنه لا يكذب أيضاً، إنه يبني عالماً لا تحكمه قوانين الحياة النفعية. لذلك يمكن “للروائي أن يقول أشياء يعجز الفيلسوف عن وصفها“(6).
وتلك صيغة أخرى للقول إن العلماء يسعون إلى تقديم معلومات حقيقية عن الكائنات والأشياء، ولكنها حقائق لا تخاطب سوى العقل وحده، أما المبدعون فيخلقون أشياء وكائنات تنتج حقائق تخاطب العقل والوجدان في الوقت ذاته. “يعود ذلك إلى كوننا نَودُّ عادةً البرهنة في نص نظري على أطروحةٍ خاصة، أو الإتيان بجواب عن مشكلة مخصوصة. أما في الرواية أو في القصيدة، فإننا نطمح إلى تمثيل الحياة في كامل هشاشتها “(7). وذاك ما كان يميز تجربة البحث النظري عنده عن التجربة الروائية. وقد عبر عن ذلك قائلاً: “عندما أنشر نصاً في السميائيات، أُكرّس وقتي بعدها إما للاعتراف بأنني قد أكون أخطأت، وإما للبرهنة على أن الذين لم يفهموا نصي على حقيقته لم يقرؤوه بشكل جيد. أما عندما أنشر رواية، فإن الأمر سيكون عكس ذلك، أشعر بأنني لا أملك الحق في التصدي للتأويلات التي تكون موضوعًا لها”(8).
وهذا أمر يصدق على الشخصيات أيضاً. فما يقوله التاريخ عن كائناتٍ وُجدت ضمن وقائع دوّنها المؤرخون لا يشبه في شيء ما يمكن أن تقوله الوقائع التخييلية عنها. فما يقدمه المهتمون بالتاريخ هو في واقع الأمر “أشباح”، بتعبير أليكساندر دوماس. أما ما يتسرب إلى الرواية فهي “كائنات من لحم ودم”، ذلك “أن الروائي يخلق شخصياتٍ تقتل شخصيات التاريخ” بتعبير دوماس دائمًا. إنه يستعيد ما أغفله المؤرخون أو لم يثرِ اهتمامهم، وذاك ما يشكل “اللحم والدم” اللذين يتحدث عنهما دوماس، أي التفاصيل الحياتية التي وحدها تأتي بشيء من الحميمية الإنسانية، أما الأشباح فهم جزء من خطة بحثية تنقب عن “فكرة” كما يمكن أن تتجسد في شخصية تاريخية (واقعية) سقطت تفاصيلها بحكم بالتقادم، ذلك أن “الزمن مبسط كبير”.
بل قد يتراجع المؤرخون عن تأويل أحداث إذا ظهر ما يثبت أن هناك وقائع جديدة تقدم تأويلاً جديدًا. بل يمكن أن نشكك في وجود شخصيةٍ أو في مصيرها إذا ظهرت وثائق تثبت عكس ما تداوله الناس عنها. و” هناك من المؤرخين من شكك في موت هتلر في مخبأ أرضي؛ فمن الممكن أن يكون قد نجا لحظة سقوط برلين أمام قوات الحلفاء، وفرّ إلى الأرجنتين أو إلى مكانٍ آخر، ولم يُحرق أي جسم، أو أن هناك من أحرق جسم شخص آخر مكانه، وأن السوڤييت اختلقوا انتحار هتلر لأسباب دعائية عندما وصلوا إلى المخبأ الأرضي، بل قد لا يكون هناك مخبأ أرضي على الإطلاق، ذلك أن موقعه الحقيقي كان دائما مثار مزايدات. وعلى العكس من ذلك، فإن الإثبات ” انتحرت آنّا كارنينا بأن ألقت بنفسها تحت عجلات القطار” لا يمكن التشكيك فيه أبدا”(9).
والحاصل أن ما يقدمه الروائي لا يمكن أبداً تغييره أو حذفه، إنها حقائق تُبنى خارج الزمنية المألوفة، زمنية الكوسموس تلك التي تحتضن حقائق الوجود النفعي. فإذا سُئلَ طالب عن حياة كمال أحمد عبد الجواد وقرر أنه تزوج في نهاية الرواية، فإنه سيسقط في امتحانه، ذلك أن كمال في ثلاثية نجيب محفوظ لم يتزوج أبدًا. وهذه الحقيقة الجديدة تشير أيضًا إلى أن العالم “المخصوص” الذي تبنيه الرواية يتم في انفصال كلي عن العوالم الواقعية، فلا يمكن للعالم التخييلي أن يستقل بذاته إلا إذا شيّد عوالمه استناداً إلى قوانينه هو، لا إلى قوانين الواقع، أي يبني حقائق لا تصدق إلا داخله، أي ضمن ما يطلق عليه “العوالم الممكنة”.
وهذا تأكيدٌ آخر أن استيهامات التخييل أقوى من حقائق الواقع. فنحن قد نبكي بحرقة على مصير آنّا كارنينا، وننتظر بلهفة ما ستفعله الأيام بغوادالوبي وألفريدو في المسلسلات المكسييكة، ولكننا لا نكترث كثيرا لمصير الآلاف الذين يبتلعهم البحر كل سنة، ولا نذرف دمعة واحدة على آخرين تقتلهم الحرب يومياً في الكثير من بقاع العالم. إن لشخصيات التخييل وضعاً خاصاً، فهي ليست “أشباحاً، كما هي شخصيات التاريخ”، لذلك لا تتمتع بـ”سجلات مدنية” مضبوطة في أرشيف البلديات، فهي موجودة في وجدان الناس.
1-يتعلق الأمر بشارل سندرس بورس الفيلسوف الأمريكي الذي يعتبر من مؤسس السميائيات الحديثة.
2-أومبيرتو إيكو : اعترافات روائي ناشئ، ترجمة وتقديم سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، بيروت ، 2014، ص 16
3- أومبيرتو إيكو : اعترافات روائي ناشئ، ترجمة وتقديم سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، بيروت ، 2014،
4- Umberto Eco: Le nom de la rose . le livre de poche ,p.30
5-اعترافات روائي ناشئ ص 17
6-نفسه ص 20
7-نفسه ص 20
8-نفسه ص 19-20
9-نفسه ص103