أصدرت فرقة موسيقى السبيس روك البريطانية «هوكويند» في عام 1977 أغنيةً بعنوان «روح العصر» (Spirit of the Age). وقد حاول كاتب الأغنية روبرت كالفيرت، ابن الستينات، التعبير عن خوف من أعمق مخاوف الثقافة المضادة [في الغرب]؛ حيث أشار إلى أنّ عصر الإنتاج الضخم ووسائل الإعلام سيؤديان إلى ترسيخ التماثل. يغنّي المقطع الثاني من الأغنية مُستنسخ يقول فيه: «إذا عرفتنا من قبل، فستفرح بتفردك، وتعدُّ كل نقطة ضعف فيك شيئًا يميّزك»، وكانت أمنيته الأخيرة – والتي يشاركه فيها أيضًا «إخوته أبناء أنابيب الاختبار»: «آه، لأجنحة أي طائر، ما عدا دجاج الأقفاص».
رؤية كالفيرت الديستوبية متجذرة في روح القرن العشرين في الغرب؛ إذْ يتردد صداها في «عالم جديد شجاع» لألدوس هكسلي التي كتبت في عام 1931، ورواية جورج أورويل «1984» الصادرة في عام 1948، ورواية أنتوني بورغيس «برتقالة آلية» المنشورة عام 1962. وكلّها حذّرت بأسلوبها المختلف من فكرة القضاء على الإرادة الفردية.
إنّ معرفة أعمق مخاوف شخص ما يعني معرفة أعزّ ما يهمّه. لقد نشأ الخوف من فكرة وجود عالم متماثل لأنّ الغرب الحديث كان نتاج التنوير الأوروبي، والذي أعطى الفرد أهمية غير مسبوقة في تاريخ البشرية. وقد عبّر ميشيل دي مونتين عن هذه الفكرة تعبيرًا دقيقًا وخالدًا وبشكل متكرر أكثر من أي مفكّر آخر. فقد قرأنا في مقالاته أقوالًا بمثابة الحكم مثل «أعظم شيء في العالم هو معرفة كيف ينتمي المرء إلى نفسه»، و«الحكيم لا يخسر شيئًا، إذا كان يحتفظ بذاته»،و«أنا لا آبه لما أمثّله في نظر الآخرين بقدر ما أنا أمثّلة بالنسبة إلى ذاتي».
وفقًا لهـذا المنظور الكلي للعالم، لم يعد يُنظر إلى الدولة، والكنيسة، والمجتمع بوصفهم مداميك الحضارة؛ بل تهديدًا محتملًا لاستقلالية الذات. فقد أصبح الأفراد، لا المجموعات، حاملي شعلة الحقوق. وقد أكّدت وثيقة الاستقلال الأمريكي هـذه الفكرة، مصرحةً أنّ للبشر «حقوقًا لا يمكن استبعادها، من بينها الحقّ في الحياة، والحرية، وحق السعي لتحقيق السعادة». كما أكّدت أن دور الحكومات يكمن في «تأمين هذه الحقوق» بـ«موافقة المحكوم».
لذلك كان التهديد الأكبر لرفاهية الإنسان هو محو هذه الفردية وترسيخ التجانس السلطوي مكانها. وبما أن التكنولوجيا منحت الطغاة الممكنين أقوى أدوات القمع على الإطلاق؛ فلا ينبغي الاستخفاف بهذه المخاوف. كتب توماس باين يقول: «الرجال المخلصون في الدفاع عن حريتهم، سيشعرون دائمًا بالقلق في كل الظروف التي يبدو أنّها تسير ضدّهم»، وقد أظهرت الأجيال القادمة صحّة كلامه.
من منظور العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، قد تبدو هذه المخاوف الآن لا مسوغ لها. وبدلًا من مسيرة جماهيرية منظّمة ومنسّقة، نشأت العديد من المسارات والاتجاهات الفردية. وعلى الرغم من حدوث بعض الانتكاسات في انتشار القيم الليبرالية، وبشكل أكثر وضوحًا في أجزاء من أوروبا الشرقية، إلا أنّ الاتجاه السائد كان يميل نحو القبول المتزايد باستمرار للاختيار الفردي في أنماط الحياة والأخلاق. وأصبحت البلدان التي تصرّ على ممارسة دين واحد أكثر ندرة، وهي موضع انتقاد سائر العالم. كما يُنظر إلى الأخلاق الشخصية على نطاق واسع بوصفها خارج إرادة الدولة، إلا إذا كانت تمسّ حقوق الآخرين.
من بين التعبيرات الأكثر حداثة عن هذه الفكرة، القبول الملحوظ للخيارات الشخصية في مسائل الجنس والجندر. في بداية القرن الحادي والعشرين، لم تعترف أي دولة في العالم بحق زواج المثليين. بعد هولندا في عام 2001، وبحلول عام 2022 مُنحت الشرعية لزواج المثليين في أكثر من 30 دولة. هذا القبول المتزايد في التنوع يسير بخطوات سريعة حيث تكافح مفردات لغتنا لاستيعابه ومواكبته. وجديرٌ بالذكر أنّ المعركة من أجل حقوق المثليين توسّعت لتشمل حقوق مجتمع الميم (LGBTQAI+)، على الرغم من أن معظم الناس لا يعرفون ما يمثله كل حرف من هذا الاختصار (المثليات، والمثليون، ومزدوجو الميل الجنسي، ومغايرو ومغايرات الهوية الجنسانية، والمتحيّرون والمتحيّرات، اللاجنسيون واللاجنسيات، ثنائيو وثنائيات الجنس).
جانب من الاحتفاء المتزايد بالاختلاف هو تنامي الاعتراف بالظواهر أو القضايا التي كان يُنظر إليها بوصفها عيوبًا أو نقصًا. فقول كالفيرت في الأغنية «وتعدُّ كل نقطة ضعف فيك شيئًا يميّزك» يصلح أن يكون شعار عصرنا؛ إذ كلما اقتربنا أكثر من استخدام الهندسة الوراثية لخلق جيل من الأطفال «المثاليين»؛ أصبحت فكرة «النقص» نفسها موضع تساؤل. على سبيل المثال، كنّا في السابق نستخدم تلقائيًا مصطلح «الإعاقات»، أمّا الآن فبات يُطلب منا استعمال مصطلح «قدرات مختلفة». في السياق عينه، يدافع العديد من الصم عن ثقافة الصم المميزة ويعتبرون أنّ علاج الصمم ليس علاجًا إنسانيًّا؛ بل نوعًا من الإبادة الجماعية. في هذا الصدد، تقول إحدى الأوراق الأكاديمية «بموجب القانون الدولي، أي نشاط له تأثير متوقع في التقليص أو القضاء على أقلية ما، حتى لو أجري لأسباب محدّدة ولم يكن فعالًا، يُعدّ بمنزلة ارتكاب إبادة جماعية». وجديرٌ بالذكر أنّه بات يُنظر إلى الكثير من حالات «الإعاقة العقلية» مؤخرًا بوصفها تنوعًا عصبيًّا؛ فبدلَا من اعتبار اضطراب نقص الانتباه لدى البالغين أو متلازمة أسبرجر حالات مرضية، ثمة من يحاجج أنّها قد تكون «قوى خارقة» تمكّن الناس من رؤية العالم من وجوه لا يراه بها غيرهم.
إحدى طرق تفسير هذا الانتصار الواضح للفردانية المميزة القول إنّ أنبياء الاستنساخ [في أغنية «روح العصر»] لم يخطئوا حين صرخوا مستنجدين، وكل ما في الأمر أن تحذيراتهم أدت مفعولها؛ فبفضل الفنانين والكتاب والموسيقيين، لم يتحقق هذا التماثل بين الناس، وبفضل تفرّدهم وأثر الثقافة المضادة، لم نحافظ على فرديتنا فحسب؛ بل ووسعناها.
وقد يقول بعض الناس إنّ تحذيراتهم نجحت بإفراط. إذْ أصبح عنوان كتاب روبرت بوتنام «وحيدًا ألعب البولينغ» (Bowling Alone) اختصارًا لتدهور للجماعة والتشظّي المدمر للمجتمع. لقد أصبحنا «متذرّين»، تلك الاستعارة التي استخدمها ميشيل هويلبيك في روايته «Atomised» التي تصور حالة العالم البائسة. في مثل هذا العالم، «تكون الأفعال البشرية حرّة ومجرّدة من المعنى مثل الحركات غير المقيدة للذرات الأساسية […] كل ما هو موجود تعبير عن الأنا: بارد، ومنعزل، ومشع». إن مشكلتنا ليست الافتقار إلى الاستقلالية، بل الإفراط فيها. فبدلًا من تعبير كالفيرت في أغنيته «أنا مستنسخ، لست وحدي»، يصح أن نقول الآن «أنا لستُ مستنسخًا، أنا وحيد جدًا».
ومع ذلك، أرى أن مشكلتنا لا تكمن في فردانيتنا المفرطة، بل في احتفاظنا بالنوع الخطأ من الفردانية، أعني النسخة المصطنعة التي تجعلنا أقرب إلى ديستوبيا التماثل التي لا نجرؤ على الاعتراف بها. أُطلقُ على هذه الحالة مصطلح «الأصالة المزيفة» (fauxthenticity)؛ فما نراه بوصفه فرادةً ما هو في كثير من الأحيان إلا محاكاة سطحية للفردانية الحقّة، وليس التعبير الحقيقي عنها.
تتجلى الأصالة المزيفة في تلك الدعوة التي ظاهرها سليم: «كنْ ذاتك». هذا الأمر هو تحريف نرجسي لكل الدعوات التاريخية إلى تثقيف الذات؛ فقد أكدت كل التقاليد الأخلاقية الكبرى على الحاجة إلى تهذيب الذات، بغرض تشكيلها وصياغتها لترتقي إلى أفضل حالاتها. يقول بوذا في الدامابادا: «يقود المهندسون المياه أينما يريدون، ويجعل صانعو الأقواس سهامهم مستقيمة، وينحت النجارون الخشب، ويصنع الحكماء أنفسهم». كما أنّ المعبد في دلفي دعا إلى مقولة «اِعرفْ نفسك»؛ لأن هذه الوصية كانت شرطًا أساسيًّا لتحقيق التحسين المنشود.
يتطلّب تثقيف الذات التحلي بالفضائل؛ مثل الشجاعة، والاعتدال، والكرم. وكان يتوقع من خيرة الناس أن يجدّوا في طلب العلم والتعلّم كي يصبحوا خطباء بارعين، ورماة سهام، وعلماء، وموسيقيين. قال الفيلسوف الصيني منسيوس: «لا يجوز للملك إهمال تنمية شخصيته». وقال معلّمه كونفوشيوس: «الشخصية يجب أن تُصقل من خلال السير في سبل الواجب». لقد كانت الفضيلة صعبة المنال، وهذا ما يفسر جزئيًا التقدير الشديد لها.
لكن في العالم المعاصر، لا تتطلب الأصالة – وهي أولى الفضائل – أي جهد على الإطلاق. فبدلًا من السعي الدؤوب لتحسين نفسك، يمكنك بسهولة أن تكون نفسك، وأن تبقى كما أنت. ومفاد هذه الرسالة أننا خيّرون أصلًا، ومهمتنا الوحيدة هي إدراك ذلك، وألا نقسو على أنفسنا. في هذا السياق، تبدو التعاليم الدينية والأخلاقية التي تتحدث عن انحطاط الطبيعة البشرية وسقوطها بمنزلة انتقاص من قيمة الذات، وليست دعوة ملحة إلى التطوير والتحسين.
أحد الأسباب التي تجعل عبارة «كنْ ذاتك» في غاية الأهمية هو أنها قيمة بالغة الديمقراطية. فإذا كان الجميع خيرون كما هم؛ فلا توجد إمكانية أن يصبح بعض الناس أفضل من غيرهم، وعليه لن تظهر تلك التسلسلات الهرمية التي تحاربها الثقافات الداعية إلى المساواة. كانت وضعية هذا المجتمع المطمئن من سمات الديمقراطية التي انتقدها نيتشه بشدة؛ إذْ حذر بلغته الصارمة المعتادة من مخاطر المجتمع الذي تعني فيه المساواة القبول بما هو عادي؛ لذا كانت «الليبرالية» في منظوره «تحنيط القطيع».
يشير نيتشه في نقده إلى مفارقة الاحتفاء بالفردانية بوصفها شيئًا فطريًّا لا يحتاج إلى تحسين؛ فرغم الادعاء بأنّ المجتمع المعاصر يتألف من أفراد متميزين، ثمة في الواقع انتشار لعقلية القطيع حيث ينحاز الناس إلى أن يكونوا متشابهين. لن تصبح رسامًا رائعًا -على سبيل المثال- ولن تخلق أسلوبًا فنيًا يميزك إلا بعد سنوات من التدريب المهني. بدون هذا الجهد، عمل الفنان مستوحى من أعمال أخرى ليس إلا؛ فوحده الجهد الذاتي يميّزنا عن الآخرين. إنّ التثقيفَ الذاتي الوسيلةُ التي تُميّز كل فرد منّا؛ أما تقبل الذات كما هي فيحدّ من تميّزنا.
ثمة مظهر آخر يتجلّى فيه التماثل في عبارة أن «نكون ذواتنا». من الناحية العملية، نادرًا ما يعني «أن تكون ذاتك» المعنى المباشر للعبارة؛ إذ غالبًا ما تكون هذه العبارة دعوةً لتقديم أنفسنا بطرق تتوافق مع توقعات ما تعنيه الأصالة بالنسبة إلى الجميع. لذا، لكي تبدو أصيلًا، عليك اتباع قواعد وتقاليد الأصالة المعاصرة.
لقد تبلورت لي هذه الفكرة بشكل أوضح في مجال ما يُسمى غالبًا بالعلامة التجارية الشخصية (personal branding). ككاتب مستقل، أنا أنتمي إلى عدد كبير من الأشخاص المستقلين في عملهم؛ حيث نتعرض جميعًا لضغوط متزايدة ليس فحسب من ناحية تحسين عملنا، بل ومن ناحية إدارة عروضنا الترويجية والتسويق لأعمالنا. كان الكتّاب، على سبيل المثال، سابقًا يكتبون الكتب، ويدعون أمر بيعها والترويج لها للناشرين. أما الآن يُشجّعون، وفي بعض الأحيان هم ملزمون تعاقديًّا، للقيام بأعمال ترويجية، مثل إدارة حسابات وسائل التواصل الاجتماعي، أو المدونات، وحضور مهرجانات الكتب. وكان غيرنا من الموظفين المستقلين، مثل المعالجين أو التجار، يضعون أسماءهم في أدلة الهاتف، وفي إعلانات الصحف المحلية من حين إلى آخر. أما الآن، فهم على مواقع القوائم حيث يتعيّن عليهم الكد لضمان أنّهم متميّزون عن أقرانهم، ولديهم مواقع ويب تبدو «احترافية».
وحاصلُ ذلك أنَّ فئات واسعة من الناس يُطلّب منها التفكير بجدية، وتحسين صورتهم العامة من نواحٍ لم يضطروا إليها أبدًا في السابق. يقول الأشخاص الخبيرون في هذا السياق إنّه جديرٌ بنا التفكير في صورتنا كما لو أنّها «علامة تجارية» شخصية، مثلها مثل المشروبات الغازية أو شركات الملابس الكبرى، ولكن في الوقت نفسه، فإنّ النصيحة الذائعة حول كيفية إنشاء هذه العلامة التجارية هي «كن ذاتك». أنت علامتك التجارية، فلا بد أن تكون علامتك التجارية هي أنت.
ولكن بالطبع إذا كان كل ما عليك فعله هو «أن تكون ذاتك»؛ فلن تضطر حتى إلى التفكير في علامتك التجارية، وفي كثير من الأحيان لن تكون شخصًا ناجحًا. أن أكون ذاتي يعني أن أنشر قليلًا على وسائل التواصل الاجتماعي، وألا أروج لعملي الخاص بكثافة، وألا أكون اجتماعيًّا بالضرورة. وكما يقول لي أحد المعالجين الذين أعرفهم، أن أكون ذاتي يعني إخبار العملاء المحتملين بأنّه لا يثق في العلاج النفسي الذي يقدّمه، ولا في مهاراته الخاصة، ولا ينبغي العميل أن يتوقع نتائج إيجابية. ببساطة، بالنسبة إلى العديد منا – ربّما معظمنا – «ذواتنا الحقيقية» هي علامة تجارية ضعيفة للغاية؛ فالأصالة الصادقة لن تفلح في هذا السياق.
لذا فإنّ أصحاب مشروع «ذاتك الحقيقية» في سعيهم إلى تطوير علامتهم التجارية الشخصية غالبًا ما تكون هذه النسخة من ذواتهم محددة سلفًا تحديدًا دقيقًا، ولا تحمل إلا جانبًا بسيطًا من الواقع. إنّنا نُظهر أنفسنا كما نريد أن يرانا الآخرون، وليس كما نحن عليه، وهو ما يعني عادةً أن تكون واثقًا من نفسك، وودودًا، ومتعاطفًا، وإيجابيًا. كما أن هذه العملية خفية؛ بل وغالبًا ما تكون غير واعية. خذ وسائل التواصل الاجتماعي كمثال: يتعلم الناس من سلسلة من التعليقات السلبية والإيجابية (كالإعجابات أو المشاركات أو التجاهل)، ما يستجيب له الآخرون، وما لا يستجيبون له. وعليه، فإنّهم مع مرور الوقت يشكّلون تدريجًا شخصيتهم على الإنترنت: «أناي على وسائل التواصل الاجتماعي»، وهذه الذات لا تتألف بالضرورة من أكاذيب؛ فمصدر الخداع غير المقصود هو فيما لم يقال ويُفعل؛ حيث يُسلّط الضوء على السمات الجاذبة أو يُبالغ في إظهارها، في حين تُهمل السمات غير الجاذبة.
عبقرية هذه الأصالة المزيفة هي أنها تشتمل على «النقص» و«الشخص كله». لكي «تكون ذاتك» بشكل مقنع في الإنترنت أو في نظر الجمهور، عليك التأكّد من إظهار بعض العيوب، ولكن هذه العيوب يجب أن تختارها بعناية؛ أي يجب أن تكون من النوع الصحيح المقبول.
على سبيل المثال، من أشيع أساليب إظهار الجانب الإنساني هو الاعتراف بضعفنا (vulnerability). تُشدد محاضرة من أكثر 25 محاضرة مشاهدةً في تيد على هذه الرسالة، وقد حملت عنوان «قوة الضعف»؛ حيث حصدت 57 مليون مشاهدة. كان كلام برين براون -صاحب المحاضرة- صادقًا ورسالته صحيحة في جوهرها: يجب أن نعترف بضعفنا، إلّا أنّ الإشكال هو أنه حالما يتشرّب العالم مفاد هذه الرسالة، تتغير طبيعة هذه الـ«يجب» تغيّرًا دقيقًا؛ فبدلًا من «يجب علينا أن ندرك مواطن الضعف»، أصبحت الرسالة «حسنٌ أن تُبيّن ضعفك»، بصرف النظر عن مدى ضعفنا في واقع الأمر. وهذا بدوره يجعل إخفاء الضعف أمرًا غير مستحب؛ حيث يُفترض أنّ مواطن الضعف فينا كلنا؛ وعليه، فإنّ عدم إظهار ذلك يشير إلى زيف.
وهكذا يصبح إظهار الضعف وسيلة لإبراز الأصالة، بصرف النظر عن مدى ضعفك في واقع الأمر، أو مدى صلة إظهار الضعف بعملك أو تفاعلاتك الاجتماعية. كما أن بعض الناس يحاول -نفاقًا، وهو واعٍ بذلك- أن يجعلوا أنفسهم يبدون معرّضين للضعف حتى يظهروا بصورة أكثر واقعية؛ إلا أن أكثر الناس يتّبعون قواعد التعرض للضعف دون نفاق. لقد أصبح إظهار الضعف أمرًا حسنًا لأنّه يجذب تعليقات الأصدقاء -سواء كانوا أصدقاء فعليين أو في الإنترنت- حيث يثنون على شجاعة انفتاحك، ويُشجّعونك على مواصلة فعل ذلك، إلخ.
لا يقتصر الأمر على أن نتائج إظهار الضعف باتت محددة اجتماعيًا؛ إذ توجد كذلك قواعد ضمنية حول أنواع الضعف التي من المقبول مشاركتها. فمثلًا، يُرحَّب بحرارة بمن يشارك حزن فقدان شخص عزيز، أو الندم على أمر ما، أو المعاناة من المرض؛ وأما ما لا نسمع عنه هو اعتراف الناس بعدم الاستقرار المالي رغم أنهم أحسن حالًا من الكثير، كما أنّنا لا نسمع عن أشخاص يعترفون بقلقهم من وجود آخرين أنجح منهم، ولا يمرّ أمامنا من يعترفون بأنهم متزعزعون عاطفيًا (emotionally insecure)، وقد يتجلى ذلك عبر التشبث بشخص ما أو الحماية المفرطة له. إنّ أكثر العيوب التي يعترف بها الناس دائمًا ما تكون عادية، وشائعة، ومفهومة تمامًا؛ فلا أحد يقرّ بأنّه متحكم بشخص آخر، أو متعجرف، أو متبلد الإحساس، أو خائن، أو وقح.
إحدى تأثيرات ما تقدّم ذكره هو أنّ البعد الأخلاقي لأن يكون لك عيوب يُهمش تدريجيًا؛ إذْ لا تُقبل العيوب إلا إذا كانت قابلة لأن يرتبط بها الناس ارتباطًا تعاطفيًا (relatable)؛ أي حين يفهمها الناس ويتعاطفون معها. وهذا له تأثير ضار مفاده أنّ الأشخاص المعيوبين من الناحية «الصحيحة» باتوا أكثر جاذبية من أولئك الذين لا يظهرون عيوبًا كثيرة. خذ على سبيل المثال رئيس الوزراء البريطاني الأسبق بوريس جونسون. بالنسبة لمنتقديه، من ضمنهم العديد من أعضاء حزبه، هو الزعيم الأكثر عجزًا، وأنانيةً، وفسادًا في الذاكرة الحية للبلاد. لكن طوال مسيرته المهنية، كانت عيوبه بالتحديد هي التي بنت علامته التجارية، بدءًا من شعره غير المصفف عمدًا (ومن المفارقات أنه شُهِدْ وهو ينفش شعره إنْ بدا مصففًا). تُعدّ عيوب جونسون علامات على أنّه «أصيل»، وعليه فهو مفضّل على الأشخاص الذين يظهرون بصورة احترافية، ومُرتبة. وهنا تكمن المفارقة: إنّ هذه «الأصالة» مُعدّة بعناية.
وبالمثل، يُقدَّر دونالد ترامب «لسخافاته»، وأخطائه؛ فكلما قال شيئًا سخيفًا أو كاذبًا، أصبح ذلك دليلًا في نظر الناس على أن الرجل يتصرف «عفو الخاطر»، وليس كبعض السياسيين الذين يختارون كلماتهم بعناية لكسب الأصوات. ليس من قبيل المصادفة أن ترامب تحدث بكثرة عن «الأخبار الكاذبة» التي تتعارض مع رؤيته للعالم؛ إذْ كان ذلك جزءًا من رواية أوسع دافع فيها عن الأصالة والحقيقة في مواجهة عالم مهووس بالصورة والمظاهر. الإشكال، بالطبع، هو أنه حرص حرصًا شديدًا على إنشاء هذه الصورة لنفسه.
لكي تكون ذا صلة بالناس عليك أن تظهر عيوبك، ولكن ينحصر ذلك في العيوب التي تتشارك بها مع هؤلاء الناس، ولهذا تجد أن العديد من الشخصيات المشهورة على التلفزيون بعيدون جدًا عن المثل العليا التي يمثلها الأبطال التقليديون. خذ مثلًا البطلة مجهولة الاسم في مسرحية فيبي والر بريدج والمسلسل التلفزيوني المعروفة باسم «فليباغ» (Fleabag): غير واثقة من نفسها، وعلاقاتها الحميمة سيئة، وتكافح من أجل فعل الشيء الصحيح. يحبّها المشاهدون ليس لأنهم يرونها قدوة؛ بل لأنّهم يرون عبرها: إنهم يرون أنفسهم فيها، أو ربما يشعرون بالاطمئنان لأنّهم أحسن حالًا منها.
يصعب تصوّر أنّ شخصية بهذه العيوب المغايرة والتي لا تثير تعاطفًا تتحول إلى شخصية معبودة جماهيريًّا. فلو أن امرأة شابة شديدة العفة والأخلاق مكانها لكانت غير مُحببة، وكذلك الشاب العدواني جدًّا والمستبد سيكون شريرًا بلا شك. إذن، الواضح للغاية هو أنه لكي تكون شخصية يرتبط بها الناس يجب أن تتقيّد بالمعيار الذي يحدد ما المقبول من العيوب المشتركة بشكل عام، وألا تظهر تلك التي تُعدّ خطيرة للغاية.
إن الارتباط التعاطفي (relatability) في جوهره يتعلّق بالتشابه؛ فببساطة، يزيد ارتباطنا بالناس عندما نتخيل أن لديهم نفس مشاعرنا، ومشاكلنا، وأفراحنا. وعليه، فإنّ المشاهير محطّ الارتباط التعاطفي هم أولئك الذين يبدون طبيعيين على الرغم من شهرتهم. فمثلًا الرياضيون الذي يرتبط الناس بهم تعاطفيًا هم أولئك الذين ما زالوا يحتسون الشاي مع أمّهاتهم، أو يخرجون مع أصدقائهم القدامى.
فكرة أننا يجب أن نكون «قابلين للارتباط التعاطفي» هي تطور حديث جاء مع نمو الأصالة المزيفة. يقترح عارض خوارزمات جوجل (N-Gram) أن هذه الكلمة (relatable) أصبحت أكثر شيوعًا بستّ مرّات منذ بداية القرن. لقد أصبح الارتباط التعاطفي مؤشرًا للأصالة: إذا كان بإمكان الناس الارتباط التعاطفي معك؛ فهذا يشير إلى أنّهم يروْنك حقيقيًّا مثلهم. ولكن كما هو حال عبارة «كنْ ذاتك»، حالما أصبحت دعوى «كنْ قابلًا للارتباط التعاطفي» فرضًا ملزمًا؛ لم يعد لها أي صلة بأن تكون على سجيتك، وأصبحت أمرًا يجب عليك العمل عليه.
إذن، لكي تبدو عاديًا، عليك أن تبذل جهدًا غير عادي، وهذا هو السبب في كثرة الكتب التي تخبرك كيف تكون قابلًا للارتباط التعاطفي، مثل كتاب: «الارتباط التعاطفي: كيف تتواصل مع من تريد في أي مكان» لمؤلّفته رايتشل دوالتو، والتي تضيف إليه العنوان الفرعي «حتى لو كان ذلك يخيفك»، في إيماءة تدلّ على ضرورة الاعتراف بالضعف.
يوجد موقع إلكتروني عشوائي يقدم نصائح حول ما يجدر عليك فعله وما عليك تجنبه لتكون محطّ الارتباط التعاطفي، يُعبّر هذا الموقع عن التباينات بين أن تكون ذاتك، وأن تقدّم صورة عن نفسك بعناية تفتقر للإدراك الذاتي على نحو صاعق. كل ما هو موجود في قائمة ما يجب عليك تجنبه هو أن ذاتك الأصيلة: لا تقم بأي عمل تمثيلي، وكن صادقًا، ولا تبالغ، واحترم جمهورك. لكن النصيحة المتعلّقة بـما يجب أن تفعله تنص صراحةً على أنّه سيتعيّن عليك تقديم نفسك تقديمًا مختلفًا تمامًا اعتمادًا على من تحاول التأثير فيه: «سيوجّهك جمهورك في اتجاه الطريقة التي تختارها لتكون مؤثرًّا قابلًا للارتباط التعاطفي». إنّ العبارة الساذجة «الطريقة التي تختارها لتكون مؤثرًّا قابلًا للارتباط التعاطفي» تقرّ -ربما إقرارًا غير مقصود- بأنّ قابلية الارتباط التعاطفي تتطلب تمثيلًا: إنْ كنتَ مع رفقة معينة؛ فـ«ينبغي عليك أن تقدم نفسك على هذا النحو»، وإنْ كنتَ مع رفقة أخرى؛ فـ«عليك أن تقدّم نفسك تقديمًا مختلفًا تمامًا». وعليه فإنّ الفكرة التي مفادها أنّنا سنكون أنفسنا في كلتا الحالتين هي فكرة سخيفة.
يجب أن يكون واضحًا بأي فهم معقول لهاتين الكلمتين أنّ ثمة فرق ما بين أن يكون المرء «محطّ ارتباط تعاطفي» (relatable) وبين أن يكون «أصيلًا» (authentic): أكثرنا ليسوا قابلين لأن يكونوا محط ارتباط تعاطفي بسبب طبيعيتهم، والعديد غيرهم سيبدون محط ارتباط تعاطفي لأنهم ليسوا على سجيتهم. والدليل – إذا لزم – هو أنّه يمكنك أن تتعلم كيف تصبح أكثر قابلية للارتباط التعاطفي، ولكن لا يمكنك أن تتعلم كيف تكون ذاتك أكثر مما أنت عليه.
ربما يظهر الدليل الأكثر إقناعًا على أن الانحياز إلى الأصالة لم يؤدِ إلى التفرد والصدق؛ بل إلى التجانس والتقديم الانتقائي لأنفسنا، في المعايير الجسدية؛ إذْ لم يسبق أن عجز الكثيرون عن إبراز شكلهم الحقيقي للآخرين كما هو الحال الآن. نعلم جميعًا كيف يستخدم الأشخاص الفلاتر لجعل صورهم على إنستغرام تبدو أفضل، وما عليك سوى مشاهدة شخص عادي يأخذ صورة واحدة لترى مدى اهتمامه بالظهور «بشكل مقبول».
ولكن الأمور أسوأ من ذلك. سينصدم الدعاة الرائدون إلى تحرير المرأة عندما يكتشفون أن النساء في عشرينيات القرن الحالي يشعرون بضغط شديد إزاء إزالة شعر أجسامهن أكثر من أي وقت مضى. قبل بضعة عقود، كانت «إزالة شعر البكيني بالشمع» بالنسبة إلى معظم النساء لم يتعدَ الاستعمال الروتيني المعتاد. أما الآن، فإن أغلبهنّ تفضل الإزالة بالشمع البرازيلي أو على الطريقة الهوليوودية، أي الإزالة الكاملة. وقد وجد باحثون من جامعة إنديانا عام 2011 أن ما يقارب 60 % من الأمريكيات بين سنيّ 18 و 24 عامًا، ونصف من سنّهن بين 25 و 29 عامًا، كنّ أحيانًا أو دائمًا دون شعر عانة.
الاسم المعطى لإزالة الشعر الكاملة بالشمع مثيرة للسخرية؛ إذْ لا يوجد أي فيلم في هوليوود يظهر مثل هذا الشيء. إنّ المحرّك لهذا التوجه هو الأفلام الإباحية؛ فكون الشباب والشابات اعتادوا على رؤية النساء في الأفلام الإباحية بدون شعر عانة هو من الدوافع الرئيسة التي طبّعتْ الفكرة. أظهر استطلاع حديث أجراه موقع كندي أن 41٪ من الرجال يعتقدون أنّ النساء لا يجب أن يكون لديهن شعر عانة.
الرجال أيضًا تبنوا فكرة إزالة شعر أجسامهم؛ فقد أصبح الصدر الخالي من الشعر الآن أمرًا شائعًا للغاية، وهذا أفضل لإظهار العضلات المنحوتة من خلال التدريبات التي تهدف إلى الوصول إلى الكمال الجمالي أكثر من الاهتمام بالصحّة. كما أن تغيير لون البشرة أصبح شائعًا أكثر من أي وقت سابق؛ إذْ يسعى الأشخاص ذوو البشرة البيضاء إلى الحصول على سمار أو بشرة برونزية، أما في العديد من البلدان حيث تكون البشرة الداكنة هي الشائعة، يستخدم الناس كريمات وعلاجات لتفتيح البشرة للتوافق مع معايير الجمال.
زيادة الهوس بالمظهر الجسدي قد يُنظر إليه من الناحية الاقتصادية. ففي المملكة المتحدة عام 2019، يوجد 8677 صالون تجميل – بما في ذلك صالونات العناية بالأظافر، أي ازداد عددها بنسبة 73٪ مقارنةً بعام 2014. خلال هذه الفترة، ازداد عدد صالونات تصفيف الشعر بنسبة 21٪، بينما ارتفع عدد صالونات الحلاقة ارتفاعًا أحدّ منها بنسبة 64٪. لا يرجع ذلك إلى الحاجة المتزايدة لقص الشعر، بل بسبب شعور الناس المتزايد بأنهم بحاجة إلى مزيد من التشذيب لشعورهم ليكونوا مقبولين اجتماعيًّا.
***
ياللمفارقة، يبدو أن الرغبة في الأصالة والتفرد أدت إلى مزيد من التجانس والتماثل. دعوى أن تكون «ذاتك الحقيقية» ليست كافية ما لم تكن قابلًا للارتباط التعاطفي، وما لم تظهر عيوبك بالطرق المقبولة اجتماعيًا، وما لم تتوافق مع التوقعات المتعلّقة بالمظهر الجسدي. ويصح قول نفس الأمر عن آرائنا السياسية، والأثاث، والسيارات، والهواتف؛ ففي كل حالة من هذه الحالات، ستعاقب عقابًا وخيمًا إنْ حاولت تمييز نفسك عن الجمهور في أي مجال اجتماعي.
إذن، يبدو أن الخوف من المستنسخ [في الأغنية] لم يكن مبالغًا فيه في نهاية المطاف. لقد خشي معظم الناس في القرن العشرين أنّ التماثل ستفرضه الدكتاتوريات الشريرة؛ إلا أنّ التماثل اختاره طوعًا مواطنون سمحوا لأنفسهم أن يكونوا مستهلكين مطيعين، يشترون -حرفيًا- المعايير السائدة المقبولة، أو يصدّقونها.
عزز الإنترنت وقوع الطيور على أشكالها، وزاد من ضغط التكيّف والانسجام. ومع ذلك، يبدو أن الناس ما زالوا يؤمنون بصدق بأنهم يتصرّفون «على سجيتهم»، ولا يلاحظون مدى تشابههم مع أقرانهم.
إنّ الفردانية أشبه بالسعادة: لعل من الأفضل السعي لها بشكل غير مباشر؛ إذْ كلّما حاولنا بوعي ذاتي أن نتميّز؛ عَمينا عما نحن عليه، وعما سنصبح إليه. وقد عبّر توماس ميرتون عن هذه الفكرة في مقال كتبه عام 1967 بعنوان «يوم من أيام غريب»، يقول فيه:
«في عصر كَثُرَ فيه الحديث عن “أن تكون ذاتك”، أحتفظ لذاتي بالحقّ في نسيان أن أكون ذاتي؛ لأنّه على أي حال ثمة فرصة ضئيلة جدًا أن أكون غيري. وما يبدو لي أنّه عندما يجدُّ المرء في “أن يكون ذاته”؛ فإنّه يخاطر بانتحال صفة الظل».
تشدد الذات المؤصلة بزيف على فرديتها، وتصبح مهووسة بها، ولا تدرك أن قبول الذات وتأكيد الذات السهل للغاية يمنعنا من بذل الجهد لنصبح أفضل نسخة لذواتنا، وأصدقها. إنّ الحق في أن نكون ذواتنا لا قيمة له ما لم نفعل ما نحن بحاجة إلى فعله لنيل هذا الحق؛ فالفردانية الحقة تُكتسب، ولا تُمنح على طبق من ذهب.