«الحياة لا تَحيا» – حوار مع فرانسوا جوليان حول الفلسفة الصينية وفلسفة العيش
حاوره: بسام بركة

لتحميل الحوار [wp-svg-icons icon=”file-pdf” wrap=”i”]: حوار منصة معنى مع فرانسوا جوليان
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
بروفسور فرانسوا جوليان، أنت تقول في أحد كتبك إن الحياة حرب وصراع. هل بالإمكان أن تشرح لنا ما الذي علينا أن نحاربه لنعيش حياتنا؟ ومن؟ أم أنك ترى، بكل بساطة، أن مجرد العيش يعني الحرب والدخول في معركة؟ من دون تحديدٍ لها ولا غرض؟
الحياة تعني مقاومة الموت. أولاً بالمعنى البيولوجي. أنا أميز بين مستويين من الحياة. أسمّي المستوى الأول بالحيويّ، والمستوى الثاني بالحيّ. الأول يعني أنْ لا نموت، أو أنْ لا تنتهي حياتنا. أما الثاني فهو يعني بالإضافة إلى عدم الموت مقاومة اللاحياة، اللاحياة التي هي حياة مزيفة، والتي يعيش الإنسان فيها وهو يعتقد أنه يحيا، والواقع أنه ليس كذلك. فيما يتعلق بالحيوي، غيابه يعني الموت، وفيما يتعلق بالحي، غيابه هو الحيوي، أي الحياة المزيفة، وما يشبه الحياة وليس بحياة.
قد يعتقد المرء أنه يحيا، ولكنه بالفعل لا يحيا. أستعير هنا عبارة أدورنو الذي يقول: «الحياة لا تَحيا»، وهذا ما أقصده باللاحياة في الحياة. وأرى فيها أربعة مفاهيم. الحياة التي لا تحيا هي: 1) الحياة المستسلمة، والخانعة 2) الحياة الكاسدة، التي لا تتقدم وتبقى ثابتة في عاداتها وتقاليدها 3) الحياة المُستلَبة 4) الحياة المُشيَّئة، التي تصبح بمثابة الشيء. والحياة الفعلية تقضي بأن نقول لا لهذه اللاحياة في أشكالها الأربعة، أي من دون استسلام ولا كساد ولا استلاب ولا تشييء. أنا لا أرى أنها حياة ثانية أو حياة مثلى. فأنا لا أريد أن أقع في الميتافيزيقا. إذ إنني أحاول أن أفكر بعيدًا عن المغالاة التي في جمهورية أفلاطون والتي تذهب إلى الماورائيات. أنا أتجنب ذلك وأريد أن أبقى في الحد الأدنى من الميتافيزيقا المطلوبة من كل مفكر. لذلك، ألاحظ أن الحياة الفعلية من هذا المنظور الأدنى لا تفكر في حياة أخرى، ولا تتخيلها، ولا تستوهمها، بل تقاوم وتقول لا لهذه اللاحياة التي لا تنفك تطغى على معيشتنا.
إذن، أن يعيش المرء حياته الفعلية يعني بالنسبة إليك مقاومة ما تدعوه باللاحياة في أشكالها الأربعة على الأقل. لكن، أين تقع هذه الحياة الفعلية؟
الآن وهنا. ليس في حياة ثانية، أو في الـ«هناك» الآخر الذي يتحدث عنه أفلاطون، بل هنا بالذات، في كل ما يصيبنا مباشرة من لاحياة تَفرض نفسها علينا ونخضع لها. أنا أقول بضرورة اعتماد شكل من السلبية (الذي هو مقاومة الواقع)، ولكنها سلبية فاعلة ونشيطة، أي أنه من المفروض بها أن تقاوم كل ما يجعلنا مستسلمين وخانعين ومُستلَبين.
لكن السؤال المطروح هو ما إذا كانت اللاحياة التي تمنعنا من عيش الحياة الفعلية تأتي من أنفسنا نحن، من داخلنا، أم مما يحيط بنا، من الخارج. وهل هذه حالة الإنسان منذ القِدم أم أنها طارئة عليه بسبب تطورات المجتمعات المعاصرة؟
من أنفسنا ومما يحيط بنا. هذه حالة ترتبط بالإنسان عمومًا، ولكنها ازدادت وطأتها في العصر الحديث. في السابق كان هناك استلاب قوي واحد، وهو سلطة الرأسمالية التي كانت تسيطر على الناس بشكل ضاغط وبيّن. أما الآن فهذه القوى أصبحت خفية وناعمة، إذا صحّ القول. ولكنها أكثر فعالية في سطوتها وجبروتها. لننظر حولنا: تدفعنا التقنيات الحديثة إلى العيش في اللاحياة. هناك الهاتف المحمول، والإنترنت، إلخ. يأتي شخصان فتيان ليلتقيا في المقهى، هما موجودان معًا حول الطاولة، ولكن ماذا يفعلان؟ ينقران على الهاتف بدلاً من أن يلتقيا، وأن يتبادلا الحديث. كل واحد منهما في زاويته، في عالمه المنفصل عما حوله. تلك هي اللاحياة، إنها نوع من اللامتناهي الافتراضي الذي يُذهِب البريق من حياتنا ويحدّ من قدرتنا على العيش.
في العديد من لقاءاتك الثقافية، كما في بعض كتبك، تتحدث عن الاستلاب، الاستلاب الذي يحصل بسبب الاستغلال. هل بالإمكان أن تشرح لنا تحديد هذا المفهوم في نظرك؟ ما الاستلاب؟ هل هو من خصائص عصرنا هذا فقط؟ أم أنه يرتبط بوضع الكائن البشري عامة؟
أنا أعتقد أن الاستلاب موجود منذ بداية التاريخ، في شكلٍ من أشكال السلطة، أو حتى الاستبداد. لكن، هناك اليوم أشكال من الاستبداد أشد قوة وفي الوقت نفسه غير مرئية بوضوح بسبب التقنيات الحديثة. أنا لا أريد أن أهاجم هذه التقنيات بكلامي هذا، أو أن أتخذ موقف هايدغر ضدها. ما أراه بكل بساطة هو أنها تفرض نفسها علينا بطريقةٍ خفية. نحن لا نختارها، أنا لم أختر أن يكون عندي حاسوب، أو هاتف محمول، أو… كل ما شابه. هكذا، كل ما تفرضه التقنيات الحديثة علينا مما ينتجه السوق العالمي هو شكل من أشكال الاستلاب الخفي والفاعل في الوقت نفسه. كذلك، كل منظومة وسائل الإعلام تستلبنا بقوة بواسطة كل ما لديها من إمكانيات التكرار والاجترار الأيديولوجي، وكل ما تقدمه من أشباه النقاشات وأشباه الحياة.
من الصعب القول إننا مستلبون اليوم أكثر من أجدادنا. لكن الاستلاب في القرن التاسع عشر، مثلاً، كان نتيجةً للرأسمالية، الرأسمالية ضد البروليتاريا. واليوم، ما يزال هناك رأسمالية، وبالطبع بروليتاريا، لكنني أعتقد أن أشكالهما قد تغيرت وتحولت. فالاستلاب الذي كان اجتماعيًا أضيفت إليه اليوم القوة الاقتصادية وأشكال أخرى أشد خفية وكتمانًا. هناك مثلاً الإنكليزية المهيمنة، هذا استلاب. لكن لا يوجد شخص واحد يقاومها. لقد كانت الاستلابات القديمة مجابهة ومباشرة، وكان بالإمكان مقاومتها لأن الهدف واضح وماثل أمام أعين الناس. لقد كانت هذه الاستلابات السابقة على حدود جبهة، إذا صح التعبير. وكان العدو، أو الخصم، في الجهة الأخرى من الجبهة. أما الآن فإنها خفية ومن الصعوبة بمكانٍ مقاومتُها لأنه ليس لها وجه. في القديم كان للاستلاب وجه: رب العمل في نظر العامل، الألماني في نظر الفرنسي. وكان من الممكن مجابهته. لكن استلابنا الآن من نوع آخر، إننا مستلبون بالافتراضي، والرقمي، ووسائل التواصل، والإعلام، إلخ.، وكلها ناعمة وخفية، والصعوبة في مجابهتها أكبر، لأنه ليس لها وجه.
تؤدي التقنيات الحديثة إلى التشييء، وهذا التشييء يعزز بدوره استعمال التقنيات الحديثة. فالرقمي يلغي البعد الإنساني. نحن نقول «التعليم عن بُعد»، و«التواصل عن بُعد»، و«المحاضرات عبر زووم»، إلى ما شاكل. «عن بُعد»، أي من دون اللقاء ومن دون حرارة التواجد معًا. ليس هناك من حضور فعلي، وجهًا لوجه، ولا إزعاج للنفس، ولا ارتباط بمكان، ولا أي شيء من الوجود الفعلي. تجعلنا التقنيات الرقمية نعيش في عوالم افتراضية لا نهاية لها. التواصل في أيامنا هذه كاذب ومزيف، من يوجد في الطرف الآخر في اللقاء عبر زووم لا يستمع جيدًا (يشرب القهوة، ولا يعيرك أذنه إلا لمامًا). من الواضح أن التقنيات تقدم تسهيلات كثيرة، هذا معروف، لكننا لا نهتم بخسران الحضور الوجودي لقاء بعض التسهيلات. وهذا يدعو للأسف، فغياب الحضور الفعلي يجعلنا نفقد الإنصات الجيد، والتركيز المباشر، والانتباه المُطلق.
يدعو وزير الثقافة [الفرنسي] إلى الاستماع إلى الموسيقى أو متابعة المسرحيات على الأقراص المدمجة. هذا أمر لطيف من قبله. لكن ذلك لا يعادل بتاتًا الذهاب إلى دار الأوبرا أو إلى المسرح، كما لا يعادل حضور محاضرة والدخول في النقاشات المباشرة. لقد أصبح كل شيء معلبًا، ومتلاشيًا، ومُموّهًا. من هنا أستطيع الجزم أن مبدأ الحياة أصبح غامضًا وملتبسًا. عند اليونان كانت اللغة تقدم ثلاث كلمات لتسمية الحياة: كلمة للحياة السياسية والأخلاقية والشعرية، وأخرى للحياة الحيوية (انعدام حالة الموت، البقاء حيًا)، وثالثة للحيّ، وللإله «زويه»، أي للجانب الإلهي الموجود في روح كل كائن بشري. يمكن القول، بكلمة أخرى، إنه العقل المحض.
أنا أعتقد أنه قد آن الأوان لنتحمل مسؤوليتنا. من الممكن الخنوع لروتين الحياة الزوجية. أليس كذلك؟ ومن الممكن أن نغرق في وحول عادتنا. ومن الممكن كذلك أن نتحوّل إلى أشياء باهتمامنا بالمال، والماديات، إلخ. إذن، هناك مسؤولية على الصعيد الفردي كما على الصعيد الاجتماعي. وحياتنا الفعلية تكمن في الاستمرار في الدفاع عن أنفسنا ضد فقدان الحياة هذا ومن أجل الاستجابة لضرورات الحيّ، أي لضرورات الحياة التي تكون فعليًا طاقة، وتطورًا، وانتشارًا.
ماذا تقصد بالانتشار؟
أقصد إعطاء التجربة كل إمكانياتها، وتحويلها إلى تجربة الحياة. وهذا يعني الخروج من الذات، والتواجد مع الخارج، أي الوجود في ما يتعدى ذاتنا وفي ما يتعدى كل ما يحاصرنا. فكلمة الوجود بالفرنسية ex-ister تأتي من القرون الوسطى وكانت تدل على أن الناس موجودون «خارج» (ex) وجود الله. ثم جاء الفكر المعاصر ليوسع – مع كانط – مصطلح الوجود بالتركيز على ما هو خارج المنظومة، وعلى ضرورة البقاء خارجًا، أي خارج الحَجْر والحصار وكل ما هو ارتداد وإنقاص. إذن نحن بوصفنا كائنات بشرية ماثلون في هذا العالم وملتصقون به، نحن محايثون له (immanents)، وهذا ما أربطه بكوننا موجودين. ولا أربطه بالتسامي أو المفارقة (transcendance) كما جرت العادة. وكلمة المحايثة بالفرنسية تأتي من immanere أي «البقاء في»؛ المثول حيث هو موجود. إذن نحن ماثلون في هذا العالم، في داخله، ومحكومون بأن نعيش دائمًا في حالة توتّر مع إمكانية الخروج منه، وعدم الخضوع لحدوده، والعمل بالتالي من أجل اللانهاية. أن نعيش فعليًا يعني الانتشار خارجًا وعدم الانكفاف والارتداد.
لقد استعنت بالفكر الصيني في الكثير من آرائك الفلسفية. ما تأثير هذا الفكر على مسارك، أنت الذي تُعدّ متخصصًا في الفلسفة اليونانية ومتجذرًا في الفلسفة الغربية؟ عنوان أحد كتبك «الفكر الصيني في مقابل الفلسفة». ماذا تعني بكلمة «في مقابل». بكلمة أخرى، كيف تحدد الفكر الصيني بالمقارنة مع الفلسفة الغربية؟
صحيح. لا أقول الفكر الصيني، بل اللغة-الفكر الصيني. لماذا اهتممت باللغة-الفكر الصيني؟ من المعروف أننا كلنا في أوروبا ورثة الفكر الإغريقي. لكن، ماذا يمكن أن نعرف عن هذا الإرث إذا بقينا في داخله ولم نخرج منه؟ علينا الوقوف خارجه لتحديد قدره وقياس عمقه. عندما كنت فتى أدرس الفلسفة الإغريقية عزمت على كتابة أطروحة عن أرسطو. بعد طول تفكير، قلت في نفسي هناك العديد من الأطروحات التي كُتبت في السابق عن أرسطو، وسيُكتب عنه العديد من الأطروحات من بعدي. سأحاول إذن شيئًا آخر، سأحاول البحث عن شيءٍ يقع خارج إطار الفلسفة الغربية، خارج الفلسفة الأوروبية وخارج الفلسفة الإغريقية، والانطلاق من هذا الشيء للنظر إلى كل ذلك وتفحّصه من الخارج. هكذا، اتجهت إلى الصين، لا بسبب الافتتان بها، بل لأنني كنت أبحث عن شيء بعيد يزعجني نوعًا ما، بحيث أستطيع الخروج من نفسي وكسر هذا الانطباق (لدي مصطلح جديد هو «الانفتاق» أو «اللاتطابق» dé-coïncidence) بيني وبين التقليد الفلسفي الغربي. لقد اخترت الصين لسببين بسيطين:
1) سبب تاريخي، لأن اللقاء بين الصين وأوروبا لم يحصل إلا مؤخرًا. كان هناك ماركو بولو، ولكنه لم يعرف تمامًا ما هي الصين، وما كانت عليه. وكانت هناك البعثات التبشيرية في القرن السادس عشر، والسابع عشر، والثامن عشر، ولكنها أتت نسبيًا متأخرة في تاريخ الصين أو تاريخ أوروبا. على خلاف ما حصل مع العالم العربي. على سبيل المثال، أرسطو عاد إلى أوروبا بواسطة الفلاسفة العرب. هناك مجاورة جغرافية من نتائجها أن تعرّف الأوروبيون على الفكر الإغريقي من خلال العرب، وخصوصًا عبر الأندلس.
2) السبب الآخر الذي جعلني أتجه نحو الصين سببٌ لغويّ: أنا استهدفت خارجانية اللغة، أردت الخروج من اللغات الهندو-أوروبية (الهند مثلاً لم تكن تصلح لمشروعي). صحيح أن اللغة العربية ليست هندو-أوروبية، لكن وبكل بساطة المجاورة الجغرافية والتاريخية بين العرب وأوروبا، وتبادلات الترجمات والتأويلات بينهما، خلقت نوعًا من القرابة بين الاثنين، وذلك منذ القرون الوسطى (فلسفة القديس توما الأكويني تمر عبر ابن رشد، على سبيل المثال).
إذن، بحثتُ عن الخارجانية. أردت أن أكون خارج الفكر الغربي، تاريخًا ولغةً. ولم يكن هناك سوى الصين، خصوصًا أن اللغة الصينية، بالإضافة إلى ما سبق، تعتمد الكتابة الرمزية. وأنا الآن أفكر بالعلاقة بين المكتوب والشفهي في اللغة الصينية، إنها علاقة مختلفة تمامًا عما نعرفه في بلادنا أو في بلاد أخرى. لقد اخترت إذن الصين. كان بالإمكان أن يكون لي خيار آخر، ربما في القارة الأميركية، أو في مكان آخر. المهم أنني كنت أريد أن أكون فيلسوفًا، في هذا التقليد الفكري الذي أعيش فيه والذي يعتمد على النصوص، والتأويلات، والتفكير المنظم والصريح، والذي هو الفكر الأوروبي. هكذا، أردت المرور عبر الصين من أجل جعل ذلك مناسبة لبلبلة الفكر الأوروبي وإزعاجه وبعثرة نظامه، بالمعنى الجيد لهذه الكلمات بالطبع.
وعندما علمت أنه لا يوجد في اللغة الصينية الكلاسيكية ما يعادل الفعل être أو to be أصابتني الدهشة وتوقعت أنّ أمورًا كثيرة ستتغير في طريقة تفكيري. على كل، فعل الكون هذا لا يوجد في العربية كذلك، على حد علمي. إن عدم وجود هذا الفعل في لغةٍ ما يغيّر كل شيء. هذا يعني أنه لا وجود للأنطولوجيا (علم الكائن)، ولا لاحتمال التفكير به. ماذا يعني إذن التفكير من دون وجود فعل الكون هذا؟ هذا سؤال ما انفك يشغل التفكير الأوروبي ويفتنه منذ أفلاطون الذي حاول أن يتكلم من دون هذا الفعل. انظر كذلك إلى دريدا وليفيناس اللذين حاولا الخروج منه، وهما يستندان إلى معرفتهما باللغة العبرية التي أتاحت لهما الانحراف عن اللغة اليونانية، وعلى كلٍّ، عن لغة الميتافيزيقا.
هكذا، يعني المرور بالصين تحريك الفكر عن مواضعه، وإخراجه من منظومته وترتيبه. فالمرء يقع في نوعٍ من الحيرة في التفكير، عندما يغادر لغته، وبنات أفكاره، ومفاهيمه، والمسائل التقليدية في الفلسفة التي يعرفها. في الوقت نفسه، لم أكن أريد أن «أتصيَّن»، أن أتحوَّل إلى صينيّ. كنت أريد فقط المرور بالصين من أجل العودة إلى الفلسفة الأوروبية وطرح تساؤلات عليها من الجوانب التي لم تُطرح فيها. أي من الجوانب التي يبدو أنها من المسلّمات، تلك الأمور التي هي آراء مُكوّنة سلفًا وتبدو واضحة من دون أي نقاش. هذا ما كان يُدعى في العصر الكلاسيكي باسم العقل، والنور الطبيعي. انظر إلى ديكارت. إنه يفكر باللاتينية الفرنسية، وهو يرى أنه إذا قال: أنا أشك، أنا أفكر، أنا موجود، فإن هذا أمرٌ كونيّ وعالميّ في اللغة. كلا… هذا ليس كونيًا. في الصينية هناك صعوبات جمة في ترجمة هذه الأقوال. لقد كان علينا انتظار مجيء نيتشه لرؤية الفلسفة وهي تبدأ في التطرق إلى الشك في عالمية اللغة. كان ذلك في الألمانية، وليس في الفرنسية التي كانت تدّعي أنها كونية، وأشد ما تكون منطقية، إلخ. لدرجة أنه قيل في العصر الكلاسيكي إن شيشرون كان يفكر بالفرنسية ولكنه كان يكتب باللاتينية. لقد تجرأوا على قول هذا… أترى ذلك؟ قالوا إن اللغة الفرنسية كاملة في منطقها، وأن اللاتينية كانت نوعًا من التجسيد المسبق والأوليّ للفرنسية.
إذن، كان لجوئي إلى الفكر الصيني بمثابة الشعور بالبُعد والغربة عن الفلسفة الأوروبية، وكان في الوقت نفسه مناسبة لطرح أسئلة جديدة على هذه الفلسفة في مجال «اللامُفكّر فيه»، أي في مجال ما لم يُفكَّر فيه من قبل. الواقع أن كل فلسفة تنطلق من «لامُفكر فيه». أنا أفكر دائمًا انطلاقًا من شيء لا أفكِّر فيه. إذْ ليس هناك من فكرة أولى أو جذرية (مُطلقة)؛ فهذا ضرب من الخيال. لكن، تجدر محاولة الحصول على نوع من الرؤية الجانبية وغير المباشرة لهذا اللامُفكَّر فيه في فكرنا وفي فلسفتنا، رؤية منحرفة لما يبدو فيهما بدهيًا ومسلمًا به.
هذه الأمور التي تشرحها هامة جدًا، ليس فقط بالنسبة إلى الفلسفة الفرنسية أو الأوروبية، بل كذلك بالنسبة إلى الفكر البشري بشكل عام. لكن، لمزيد من التوضيح هل بالإمكان تقديم بعض الأمثلة الدقيقة عما تتحدث عنه.
لنأخذ مثال مصطلح الزمن في اللغة الفرنسية. هناك الزمن في الفرنسية، وفي اليونانية مثلاً، ولا يمكن أن نجردهما منه. حتى وإن كان كل الناس، منذ أغسطينوس وقبله أرسطو وربما قبلهما، لا يعرفون ما هو الزمن، ولكن كلمة الزمن مستعملة لديهم. وإذا نظرنا إلى اللغة الصينية نرى أنها لا تملك كلمة الزمن. إنها تستعمل فقط الفصل، والبرهة، والمناسبة، وحتى المُدّة. لكن، ليس هناك ما يُعبر عن الزمن. كانت هناك مشكلة في القرن التاسع عشر عندما فكروا بترجمة الزمن إلى الصينية. أترى كيف أنّ كلمة تبدو لنا بدهية، ونستغرب كيف أمكن لثقافةٍ ما أن تستغني عن هذه الكلمة، كما استغنت عن كلمة الكون (être, to be). يدفعنا هذا الأمر إلى إمعان النظر في تفكيرنا.
خلاصة القول أنني لا أبغي المقارنة بين الصين وأوروبا، بين الفكر الصيني والفكر الأوروبي. أنا أحاول أن أنظم مقابلات متعاكسة، بالمعنى الحقيقي والمعنى المجازي لهذه الكلمة، بين لغة-فكر ولغة-فكر أخرى، لمحاولة الوصول إلى توضيح اللامُفكَّر فيه في كل جانب.
نعم. أتحدث عن «المقابلة» بين الفكرين، لا عن التشابه أو الاختلاف، فهذان أمران لا أهتم بهما. ما يهمني هو الانزياح والموارد. لقد مدّني الفكر الصيني بموارد فكرية جديدة، بالإضافة إلى الموارد التي كانت في جعبتي من قراءة اليونانية أو الألمانية. ثم هناك مفهوم «المسار» أو «المساريّة». هذا لا يعني «الصيرورة» التي تصاحب الكائن في الميتافيزيقا. المسار في الفكر الصيني هو «السبيل» («الدرب»، «تاو» tao) الذي يمر فيه كل شيء، مثل مسار التنفس فينا، وهو لا يعادل «المنهج» الذي يؤدي إلى هدف أو إلى الحقيقة، بل هو درب الحياة والسلوكية.
وواقع أنه لا يوجد في اللغة الصينية تصريف، ولا اشتقاق، ولا نحو تقريبًا، ولا حروف جر إلا القليل منها، ولا صلة الموصول، ولا عطف، إلخ. يدل كل ذلك على أن هذه اللغة تفكر بواسطة التقابل، بالنقائض والمواجهات، بالين واليانغ. هذا ما يقدمه اللغة-الفكر الصيني من أشكال التماسك، التماسك بالمعنى الحرفي للكلمة أي الالتصاق المادي وليس التماسك الفكري الغربي. لنأخذ هذا المثال: إذا أردنا أن نقول في الصينية المعاصرة «شيء» نقول «شرق-غرب»، ولنقول «منظر طبيعي» نقول «سماء-أرض». إذا عدنا إلى تحديد هذه الكلمة في الفرنسية وجدنا أنها تُعرف بأنها «جزء من الأرض تقدمه الطبيعة لناظري المشاهد». هناك الطبيعة التي تظهر لشخص ما، وعين هذا الشخص وموضعه في المشاهدة هما اللذان يُحدّدان المنظر وأفقه. كان هذا أمرًا بدهيًا بالنسبة إلي إلى أن تعرفت على الصينية التي لا يوجد للشخص مكان في تعريف المنظر. هناك إذن ثقافتان تتطلعان إلى المنظر الطبيعي بطريقتين مختلفتين جدًا. إنه «جبل وماء» في الأدب الصيني. وهذا ما يُجبرك على أن تفكر بمفهوم الطبيعة لا عبر إدراك شخص ما لها، عبر المكان وحدوده والعلاقة بين الكل والجزء، بل عبر الارتباط المتبادل بين طاقتين (فاعليّتين) متكاملتين، بين الجبل الثابت والذي له شكل محدد والذي يُرى، من جهة، والماء الذي لا شكل له والذي يوجد من دون وجود شخص وبلا إدراكه له، من جهة أخرى.
هنا أصِل إلى ملاحظة أن الصينية قدمت لي موردًا هامًا يعينني في إعادة التفكير بالمنظر الطبيعي من خلال ما أعرفه عنه في تجربتي الأوروبية.
أين تقع الذاتية في كل هذا؟
تمامًا، الذاتية قضية أوروبية بامتياز. فمفهوم الفرد، أو الذات الفردية، قد جاء من بروز العلاقة بين الإنسان والله، كما نرى عند نيتشه وكذلك عند دولوز. ومنذ «اعترافات» أغسطينوس هناك الله وأنا، أنا في مواجهة الله. ثم جاء ديكارت الذي يفكر ليس انطلاقًا من العالم بل انطلاقًا من الأنا، من الذات («أنا أفكر، إذن أنا موجود»). وبعد ذلك، تطور هذا المفهوم عند الرومنسيين بأبعاده اللامتناهية، وكذلك في التحليل النفسي حتى بداية القرن العشرين. وفي نهاية هذا القرن، كانت هناك محاولات لتدمير الفرد، لشطبه وتفتيته، عند لاكان ودولوز مثلاً. لكن كل هذه القضية ترتبط باللغة: الصينية لا تعرف التصريف والاشتقاق، لديها أفعال في صيغة غير مصرفة، في صيغة المصدر فقط. في لغتنا نقول «كنت أمشي في الجبل»، في الصينية نقول «جبل مشى»، وقد يكون من يمشي أنا أو أنت أو نحن،… في لغتنا، نتساءل على الطريقة الأوروبية: هل حصل ذلك البارحة أم اليوم؟ ومن الذي مشى (أنا، أنت، نحن)؟ أما في الصينية، لدينا فقط «الجبل» و«مشى».
القضية إذن لغوية وفكرية. لكن السؤال الذي يُطرح هو ما الذي يسبق، اللغة تسبق الفكر أم العكس؟
ترتبط هذه المسألة بالمعنى على الطريقة الأوروبية، وبما نعلن عنه في الخطاب اللغوي على الطريقة الصينية. نقول في الصينية: جبل، معبد، يدقّ، جرس. هذا الخطاب يقدم التجربة كما تحدث: «هناك جبل، يظهر فيه معبد، نسمع صوت جرس يدق، هناك إذن جرس». بالفعل، نحن نسمع صوت الجرس فنعرف أن هناك جرسًا. بالفرنسية نقول: «الجرس يدقّ»، هذا شيء مجرد وليس واقعيًا. لقد جاءت الترجمة الفرنسية كما يلي: «يُؤذِن جرس الدير في الجبل بحلول المساء». هذه جملة لا تمت إلى الجملة الصينية بتاتًا. الفرنسية تريد فاعلاً، وهذا ما لا يوجد في الصينية.
لذلك أنا أقول اللغة-الفكر الصيني. الفكر يستثمر – إذا صح التعبير – موارد اللغة. نحن نفكر في اللغة. ديكارت لم يكن يعرف ذلك، ولا كانط. هيغل بدأ التفكير به، نيتشه رآه تمامًا، ثم هايدغر. وأنا مررت بالصينية من أجل معرفة كيف يحصل التفكير في اللغة، كيف أن النص الصيني يجعل القارئ يفكر اللغة، أو بالأحرى يفكر في اللغة. هناك أمران: أولاً، التفكير باللغة، مثل سائر اللغات، وثانيًا، تفكير اللغة بحد ذاتها. هنا، لا بد من تجربة اللغة، أي معرفتها في قدراتها، ومواردها، وإمكانياتها الخطابية. والمثقفون والأدباء في الصين هم أناس يقرأون كثيرًا ويحفظون غيبًا عددًا كبيرًا من النصوص، بحيث تصبح ذاكرتهم مليئة بترابط الصيغ وتماسكها. لذلك، لا تعني قراءة نص صيني فهم دلالاته، بل الشعور والإحساس به. في البداية، يحفظ الناس في الصين غيبًا النصوص من دون أن يفقهوا مغزاها، ثم تدريجيًا تُناقش، ثم يُحفَّز معناها من الداخل، أو بالأحرى ما يتماسك وما يترابط فيها. هكذا، نرى أن متلقي النص هو الذي يبني معناه. ولذلك من الممكن جدًا أن يفهم شخصان مختلفان النص الواحد بطريقتين مختلفتين. فالبُعد التلميحي أو الإلماعي كبير جدًا في النصوص باللغة الصينية. على العكس من الفرنسية التي هي لغة الوضوح والدقة.
لقد أصبحت تُعرف في المجال الفلسفي الأوروبي بأنك متخصصٌ في الفكر الصيني، ومع ذلك أنت تقول إنك متخصصُ في الفلسفة الإغريقية، وإن معارفك الصينية إنما هي موارد وسُبل جديدة. هل بالإمكان توسيع هذه الفكرة؟
لقد أدخلت الاستعانة بالفكر الصيني أشياء جديدة في الفكر الأوروبي. فالفلسفة الأوروبية تقوم على مصدرين اثنين: المصدر الإغريقي والمصدر العبراني. وأردت أن أمر عبر الصين للاستماع إلى مصادر أخرى، إلى كلمات أصيلة أخرى، كما يقول هايدغر. المصادر الصينية تفيدنا مثلاً في النظر إلى العلاقة بين الكتابة والرسم، هذه قفزة نوعية تأتينا من ثقافة عريقة متجذرة في القدم. وما يهمني فيها هو أنها تقدم لي بُعدًا عمليًا، بعد الأدوات الصالحة للتفكير: أدوات لمساءلة الفكر الأوروبي واكتشافه أو إعادة اكتشافه من جديد فيما تحديداته، واختياراته، وعوامل غناه. وهذا يعني أن الفكر الصيني جعلني أكثر حساسية وأكثر تقبلاً لمصادر الفكر الأوروبي الخاصة بها والعميقة.
أنا إذن فيلسوف، واختصاصي بالفلسفة الإغريقية. وأنا لا أدعي الحكمة، ولكنني أشتغل بالعقل، باللوغوس، وأنطق بالفكر. أنا أثق بإمكانيات الخطاب. يقول كونفوشيوس في إحدى حكمه: «أتمنى ألا أتكلم». فقيل له: «كيف ذلك؟ ما الذي ترويه لنا؟» فقال: «هل السماء تتكلم؟ ومع ذلك الفصول تتوالى. كل الكائنات تأتي وتروح، فما حاجة السماء لتتكلم». لذلك، هذه ثقافة لا تثق بالكلام. وهذا موجود في البوذية المستوحاة من الهند، والتي تأقلمت في الصين، في شكل الزن. الكلام خطاب، والخطاب تجرّد، إنه بناء يفقد ما نسميه مقاربةَ نوعٍ من التجربة الحية.
في أحد كتبك الأخيرة، «حياة ثانية»، تتكلم عن الطاوية التي تتيح لك إقامة الحوار بينها وبين الأدباء والمفكرين الأوروبيين. أنت تحاول بذلك أن تقدّم للقارئ مفهومًا جديدًا تدعوه «التحولات الصامتة». ماذا تعني بهذه العبارة؟ عن أي تحولات تتكلم ولماذا هي صامتة؟ ثم إن كان هناك تحوّل، فمن أي حال إلى أي حال؟
سؤال جيد. «التحولات الصامتة» مفهوم لا يدخل فقط في إطار الطاوية بل يتعداه. هذا مفهوم عام. أقول تحولات صامتة لأنها من جهة، تحصل من دون ضجة، ومن جهة أخرى، نحن لا نسمعها (يمكن أن تُحدث ضجة، ولكننا لا نسمعها). لماذا؟ لأنها شاملة وفي الوقت نفسه مستمرة. ولأنها شاملة ومستمرة لا تُلاحَظ، وبالتالي لا نتحدث عنها. هذا هو مفهوم المسار أو المسارية الذي تحدثنا عنه. ولذلك أنا أزاوج هذا المصطلح بمصطلح آخر هو «الحَدث المدوّي»، أي الحدث الذي يبرز فجأة ويُحدث ضجة فيُفاجئني. لنأخذ مثالاً: لا ندرك أننا نشيخ، ولا نعي أن أولادنا يكبرون، لأن ذلك شامل ومستمر. ففي كياننا كل شيء يشيخ. ليس هناك الشعر الأبيض فقط، أو الجلد المجعد، أو النظر، أو الصوت، إلى ما هنالك. كل شيء يتغير تغيرًا شاملاً، ولا ندرك ذلك، لأنّ لا شيء بالتحديد يحصل لوحده. ثم فجأة ننظر إلى صورة تعود إلى عشرين سنة مضت، فنصرخ: يا الله كم كبرت؟! هذه الصرخة هي الحدث المدوي، وهو ما يكشف التحولات الصامتة. إن تجربتنا في هذه الحياة تقوم على تجربة العالم المليء بالتحولات الصامتة. النهر يسيل في مجراه، والمجرى تكوّن في تعرجاته وعمقه بالتحولات الصامتة. والانحباس الحراري كذلك، لأنه شامل ومستمر كما قلنا. صحيح أننا نلاحظ أن الجليد يذوب وأن الحرارة تزيد، إلخ. ولكن ذلك يحصل باستمرار وشمولية بحيث لا نراه بما فيه الكفاية.
مثال آخر ذو طابع نفسي: الانفصال أو الطلاق بين شخصين. هذا حدث مدوٍّ. لكن الزوجين لم يشعرا بالأمور الخفية والصامتة والمتحوّرة التي كانت تجري قبل ذلك. كان هناك صمت وكتمان وغياب، ثم فجأة يحصل الانفجار. تجربتنا في هذه الحياة منسوجة من العديد من التحولات الصامتة. لماذا أقول صامتة ولا أقول غير مرئيّة؟ هنا، نستعين بالضبط بالفكر الصيني. ما فضلناه نحن في أوروبا منذ زمن الإغريق هو النظر، النظر أولاً ثم الفكر[1]، ومصطلح «النظرية» يأتي من كلمة النظر. وعندما العين لا ترى، هناك عين الروح التي ترى الله. هذا ما أدّى إلى تقديم النظر على غيره من الحواس في أوروبا.
أما الصينيون، فإنهم يفضلون تقديم السمع. في الصينية المُعاصرة، لنقول إن أحدهم ذكي، نقول «كونغ مينغ» أي يسمع ويرى، يرى بأذنيه. أو يُدرك بهما. وإذا قارنا بين الحاستين لرأينا أن النظر مكانيّ ومتقطع: إذا كنتُ أنظر هنا، فأنا لا أنظر هناك، ولا أرى ما ورائي. وأنا أفتح عينيّ وأغلقهما. فالنظر إذن هو على عكس الشامل والمستمر. أما السمع فهو شامل ومستمر. أنا أسمع كل شيء حتى لو كان ورائي. من جهة أخرى، النظر يحتاج إلى ذاتية الشخص الذي يضع شيئًا أمامه، ويجعل منه حاجزًا لحاسته هذه ومُعيقاً لها. أنا أختار ما أنظر إليه وأستوقفه وأجعل منه موضوع نظري. هذا ما قاله أرسطو، ثم أغسطينوس: الذات في مقابل الموضوع. من الصعب جدًا ترجمة هذه الثنائية إلى الصينية. تفكر هذه اللغة فيما هو طاغٍ ومحيطٍ وعابر. انظر إلى فن الرسم هناك: في تصوير الأشخاص هناك عينان صغيرتان جداً، مجرد نقطتين، وأذنان كبيرتان جدًا مثل البوق الواسع المُعدّ للاستقبال. نعم، لا يذهب الشخص للبحث عن العالم، إنه يسمع كل ما يأتي إليه، ويتلقاه بأذنيه.
نحن في أوروبا نهتم بالتواريخ: سنة كذا حصل هذا الأمر، وسنة كذا حصل أمر آخر، إلى ما هنالك. نحن نهتم بتاريخ الأحداث، وهذا يلغي التاريخ المتحرك والمستمر. صعود الرأسمالية في الغرب، مثلاً، لم يحصل في تاريخٍ محدّد أو في مكان معين، إنه تحوّلٌ صامت وشامل استمر طويلاً على كل الصُّعد الاقتصادية والمالية والصناعية والاجتماعية والسياسية.
إذن، التحول الصامت هو ما علينا الانتباه إليه في حياتنا الفردية والاجتماعية. أليس كذلك؟ السؤال الذي يُطرح هنا، هذه التحولات الصامتة التي تصاحب حياة كل فرد، هل هي من شأن الحيوي أم الحي، إذا عدنا إلى التمييز الأساسي بينهما الذي بدأنا به هذا الحديث؟
إنها تنتمي إلى الحي على ما أعتقد. فالحيوي ليس سوى عاملٍ أساسي في الحي. ومن شروط الحي أن نكون منتبهين لهذه التحولات التي تحصل له، أليس كذلك؟ وأنا أعتقد أن الصين تجعلنا منتبهين للأثر الصوتي ولكل ما يجري بصمتٍ بين الذات والأحداث المحيطة. الصين تُعلّمنا الانتباه لما يجري في الوعي الأوروبي، وخصوصًا فيما يتعلق بضرورة الانتباه إلى الوقت الطويل الذي تستغرقه التحولات الصامتة. لقد تبنّى الصينيون زمن الرأسمالية القصير. إنما لديهم مورد آخر، وهو الزمن الطويل. فهم يتركون الأمور تنضج، ببطء ومن دون تسرع. وزمننا الديموقراطي هو الزمن القصير. أنا لست ضد الديموقراطية، على العكس من ذلك. أنا مع الانتخابات ومع نظامنا ومع ضرورة النقاش والمنافسة. وهذا موجود لدينا منذ زمن الإغريق. ولا مانع من إعادة التفكير فيه. أنا مع شرعية التقاسم، وفي الوقت نفسه مع ضرورة اعتماد الكفاءة. ولا بد من الانتباه للخطر الذي يُحدق بالديموقراطيات الغربية من الموضة، والرأي السائد، ووسائل الإعلام القوية التي تكوّن الرأي العام وتفرضه تقريبًا.
أحيانًا، تتطرق إلى مسألة الله ومفهوم الإيمان. ما موقفك من الواقع الديني؟ وفي نظرك، الإيمان بالله، هل يمرّ عبر الدماغ، أم يحصل في القلب، أم أنه في مكان آخر؟
لقد نشرت مؤخرًا كتابًا بعنوان «موسى أو الصين». لقد شغلني جدًا هذا السؤال، لأن الله موجود فعليًا وبقوة في الفكر الغربي، بما في ذلك العالم العربي بالطبع. وذهبت للجانب الصيني، فوجدت أنه قديمًا جدًا كان الصينيون يعتقدون بوجود تصوّر عن الله. أي الله الذي نخشاه والذي يسيطر على عالم الكائنات البشرية. لكن هذا التصور هُمِّش تدريجيًا منذ ثلاثة آلاف سنة لصالح مفهومٍ آخر، وهو «السماء». السماء التي تنظم كل شيء في حياتنا، السماء التي هي السبيل والدرب. لننظر إلى مفهوم الله في الغرب، لقد كان حاضرًا دائمًا في مركز التفكير منذ الإغريق: لقد أعدم سقراط بتهمة أنه ملحد لا يؤمن بالقوى العظمى الموجودة فوق المدينة، ولكنه يقول إنه يعتقد أن الآلهة موجودة، ومسألة الله هذه كانت في الوقت نفسه شخصية (ذاتية) وحميمة واجتماعية وسياسية. وأفلاطون يقول إنه علينا أن نؤمن، وإلا أصبحنا من دون أخلاق. الإيمان بالآلهة سند الأخلاق. الإيمان والله إذن في قلب التاريخ الغربي. وبالمقابل، لم تكن فكرة الله مهمة في هذا البلد الضخم الذي هو الصين، فمسألة وجود الله لم تخطر على بالهم. والصينيون لم يكونوا لا مع الله ولا ضده، هم لم يكونوا مؤمنين ولا ملحدين.
إذا كان الفكر الغربي يركز على «خشية الله»، فإن الصينيين قد حولوا هذه الخشية إلى الاهتمام بإدارة العالم، إدارة العالم على يد مسؤولٍ نبيهٍ ومنتبه، وهو الملك. واليوم، يقوم رئيس الصين «شي جين بينغ» بالدور نفسه: إدارة دقيقة ومنتبهة ومسؤولة، تهتم بالعالم بحيث يتلاشى الشعور بالخوف، أو الخشية، أو الهلع.
لكن نعود ونتساءل كيف أن بلدًا عظيمًا مثل الصين، لديه فكر قديم وعظيم كذلك، قد مرّ إلى جانب المسألة الدينية ولم يُعرها أيَّ انتباه؟ لماذا في رأيك لا توجد فكرة الله، إن لم نقل الإيمان بالله، في حضارةٍ بمثل هذه الضخامة وفي ثقافة لها مثل هذا التاريخ الطويل؟
أودّ العودة هنا إلى فعل الكون (être, to be) الموجود في اللغات الهندو-أوروبية، ولا يوجد في العربية أو الصينية. هناك معنيان لهذا الفعل: معنى الوجود ومعنى الإسناد. لكن، ألا يوجد علاقة بين المعنيين؟ هناك ارتباط بينهما، أو نوع من اللغط ربما. لقد تطور الفكر الأوروبي بكامله في التفكير حول هذه العلاقة بين الوجود والإسناد. في الصينية، يمكن قول «أنا (أكون) صينيًا»، ولكن لا يمكن قول «أنا (أكون)». هنا يكمن الاختلاف. في الصينية هناك وظيفة نحوية، أي أقل ما يمكن لغويًا، للدلالة على الإسناد، ولا يوجد فعل بكامله كما في لغاتنا. الإسناد باستعمال فعل الكون هو ما أدّى إلى تكوين تجربتنا في هذا العالم وإلى ولادة هذه الفلسفة الغربية الهائلة. الموضوعية، وضع الأمور خارج الأنا، التمييز بين معنى الوجود (أنا أكون) ومعنى الإسناد (أنا أكون سعيدًا)، كل ذلك هو الذي غذّى الفكر الأوروبي بأكمله، من الفلسفة إلى العلوم.
أود أن أطرح عليك سؤالاً يخص الفكر العربي: هل تعرف فلاسفة عرب، حديثين أو قدامى؟ وما رأيك عموماً بالحضارة وبالفكر العربيين الإسلاميين؟
أنا لا أعرف إلا النزر اليسير من اللغة العربية. في السياق الحالي، يشغل العرب مكانًا هامًا. لقد تأثرت أوروبا بالفكر العربي خلال القرون الوسطى، ويمكننا القول إن تاريخ الفكر الغربي مر بفترة كان فيها الأثر العربي الإسلامي فيه كبيرًا جدًا. أذكر الشروحات التي وُضعت بالعربية لمناقشة فكر الفلاسفة اليونان، وخصوصًا أرسطو. هناك أسماء كبيرة، مثل ابن سينا وابن رشد، وغيرهم كثير. وهذا يهمني جدًا، لأنه الدليل على أن الإسلام قادر أن يكون إطارًا خصبًا لتطور الفكر الفلسفي. وهذا هام جدًا من المنظور الثقافي البشري. وهناك الترجمة. سابقًا، لم يُترجم إلا القليل من الفكر الصيني، أما الفكر العربي فقد نُقل منه الكثير إلى اللغات الأوروبية وكان له فعل واضح فيها. بدأت الترجمة من اليونانية والسريانية إلى العربية، ثم من العربية إلى اليونانية واللغات الأوروبية. واليوم، أنا أقول بضرورة الترجمة: إنها «لغة» أوروبا وليست الإنكليزية أو الغلوبيش كما يُقال.
سؤال أخير، طالما أنك تتحدث عن الترجمة وموقعها الحالي في أوروبا، كيف تعرّف الترجمة، وما موقعها في النظام الفكري الذي تعمل عليه، خصوصًا فيما يتعلق بمفهوم انعدام التطابق الذي ترى فيه حلاً لتحرير الفكر الفلسفي من وطأة المنطق القائم على فعل الكينونة؟
هناك من يقول إن المثال الأعلى في الترجمة هو التطابق. وأنا أقول إن التطابق في الترجمة مستحيل. فهناك دائمًا ما لا يمكن نقله إلى لغة أخرى، هناك دائمًا خسارة شيء ما في الترجمة. فالمترجم يقع فريسة سيدين: المؤلف (في اللغة الأولى) والقارئ (في اللغة الثانية)، وأنا أرى في هذا الموقف فرصة له ولمنظومة الفكر في اللغة الثانية، لأنه بمحاولته إطاعة هذين السيدين يجعل اللغة الثانية تسمع ما لم تعتد سماعه، وهذا ما يُزعج، ولكنه يفتح باب الاشتراك والتقاسم. ذلك أن الترجمة ليست تشابهًا، بل اشتراكًا وتقاسمًا. هذا ما يؤدي إلى أن الترجمة ليست نهائية. نص المؤلف نهائيّ وختاميّ ولا يمكننا تغييره، أما الترجمة فعمل حيويّ يكشف إمكانات النص الأصلي في اللغة الأخرى. بذلك نستطيع القول إن المترجم يفتح آفاق الممكن أو الممكنات في اللغة التي يترجم إليها.
لذلك، أنا أهتم بأن تترجَم أعمالي إلى اللغة العربية، لأنني أحب أن أخلق جوًا من الحوار مع الفكر العربي، وأن أقيم شُعاعًا من التلاقي والتبادل مع المفكرين العرب. كنت أود أن أتعلم اللغة العربية، فهي غنية ولديها الكثير من الإمكانات لتحفيز الفكر والكثير من الأدوات للمقابلة مع الفكر الأوروبي. لكن ذلك يتطلب الكثير من الوقت … والحياة قصيرة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] في العربية، الذكي هو الذي عنده «نظر ثاقب» (المُحاوِر).