أريدُ الحديث عن واديَين: وادي الحياة حيث يعيش الإنسان بما خُلق عليه، وبما اكتسبه في حياته من مشاعر، وعواطف، وأفكار، وأفعال، ووادي السيليكون حيث تُختلق كائنات هلاميّة في عالم متخيّل بشرائح إلكترونية ذكيّة. وأبدأ حديثي عن الأول، وأنتهي بالثاني؛ فليس وادي الحياة عنوانًا مجازيًا خطر لي، إنما هو مكان حقيقي يقع قرب بيتي في إسطنبول، فهو منفرج طويل بعدة أميال يقع بين التلال يتوسّطه نهر صغير بضفاف حجرية تقي جوانبه من الانجراف في وقت الفيضان. ينحدر النهر من إحدى هضاب إسطنبول الغربية، ويصبّ في بحر مرمرة، وعلى كتفي الوادي تقع الروابي الخضر على مدّ البصر، وفيها مقاعد من حجر، ومن خشب للراحة، ثم جملة من المقاهي، والمطاعم، وحدائق الألعاب، وفي تلك الروابي تتناثر تماثيل من المرمر ترمز للأمومة والطفولة، وتربط أطراف الوادي دروب معبّدة للمشاة، وأخرى بلون أزرق للدراجات الهوائية، ولا يسمح للسيارات الدخول إليه، فالوادي للتنزّه، وللتأمّل، وفيه يلتئم شمل الناس طوال النهار، فيطرّزون سفوحه جماعات، فهو متنزه اجتماعي يمكن للمرء أن يمشي في دروبه، أو يجلس في حدائقه، أو يحتسي القهوة في مقاهيه، فلا عجب أن يجتذب إليه آلاف الزائرين، فيتنزّهون، ويتعارفون، ويمرحون، ويرتاحون من الأعباء اليومية المحيطة بهم.
لا يتخلّى وادي الحياة عن ردائه العشبي خلال فصول السنة، ما خلا أسابيع قليلة يستبدل كسوته الخضراء برداء أبيض، تلك هي الأيام التي ترمي فيها السماء بالثلج نُدَفا شفافّة كالقطن، فيكون الوادي جاذبًا لعشاق الثلوج حيث تغوص الأقدام المدرّعة بأحذية طويلة الأعناق في الهلام الرقيق، وهو يصدر هسيسًا كأنّ المرء يدوس على نِثار رقيق من نشارة الخشب. وحينما يحتفل الوادي بقدوم الثلج في قلب كلّ شتاء، تكون روابيه أشبه بصفحات كتاب مفتوح لم تُخطّ عليها كلمة، كأن الدنيا خُلقت لتوّها، وينبغي تدوين ميلادها، فلا ضجيج، ولا زحام، إنما صفاء كامل، وبياض تام، وآنذاك، يتعذّر زيارة الوادي من غير معاطف ثقيلة، وقفازات سميكة، ولفّات رقاب صوفية، وجزم جلدية ثقيلة. في أيام الثلج يكاد يقفر الوادي من الناس، فلا يقصده غير الشغوفين بالزائر الأبيض الذي يخيّم على الأرض والسماء بردائه الفضفاض، وتجوال المرء في جنباته يكسبه شعورًا فريدًا بالنقاء والصفاء. يصعب الاهتداء إلى تجربة نادرة في مكان آخر بإسطنبول بعيدًا عن وادي الحياة.
أتحدّثُ عمّا أعرف، ولا أفتري، فأنا أقصدُ وادي الحياة باستمرار، فأطوف في أرجائه متّخذًا ممراته سبيلًا إلى الروابي اليانعة في سير متمّهل يتخالط فيه التأمّل بالتفكير. نزهة أعاود خلالها النظر بأفكاري، وبتجاربي، وبمجمل شؤون حياتي، وأتجاسر خلالها على مراجعة أحكامي، وتعديل قراراتي، ولا أحسب أنّ مكانًا غيره يغريني بتقليب الأفكار، وبمتعة ابتكارها، وبالنظر في شؤون العالم، فوادي الحياة يوفر الفرصة للانفراد بالنفس في الهواء الطلق بعد حبسها بين أربعة جدران؛ فتموّج الأرض الخضراء، وتنوع الأشجار الوارفة، وتباين أحوال الناس من عشّاق متعانقين إلى عجائز متساندين، ومن فتيان صاخبين إلى صبايا يصطحبن الكلاب الأليفة، فضلًا عن شاردي اللبّ الراغبين في حيازة أشمل معرفة بأنفسهم وبأحوالهم، وبالعالم الذي يعيشون فيه، فالوادي مبعث تأملات ثمينة، ومطرح تخيلات غزيرة. وإلى ذلك، فهو يجمع الناس من كلّ حدب وصوب، فيتشاركون في المكان وفي الزمان، ويتبادلون الأحاديث، فهم بحاجة للتفاعل، والتخالط، والأنس، وراحة البال.
ذلك وجه من وجوه علاقتي بوادي الحياة في إسطنبول، ولكن ثمّة وجهًا آخر لا صلة له بالتجوال والنزهة، إنما بالعمل النقدي والفكري، فقد جعلت أحد مطاعمه مكاني المفضّل للتأليف أو التحرير أو المراجعة. أقصد مطعم «دافني» في أعلى الكتف الأيسر للوادي. مطعم هادئ ما عدا أيام نهاية الأسبوع، ففضلًا عن مقاعده الوثيرة، واطلالته المشرفة على الوادي الخلّاب، والخدمة المميزة التي يقدّمها لزبائنه، فهو المكان المناسب لأمثالي لما فيه من هدوء، ونظافة، ورعاية، وكما أقصد الوادي للتنزّه الذي يأخذني إلى قارّة الأفكار أقصد مطعمه للكتابة، وتناول الغداء، وبمرور الوقت عرفني النُدل، وعرفتهم، وتآلفنا، فما إن أصل إلا ويقودني رئيسهم إلى الركن الذي اعتدت الجلوس فيه، فأباشر الكتابة على الجهاز اللوحي لساعات طوال، وفيه حرّرت الأجزاء الأساسية من «كتاب الأسفار»، وكتاب «الأرشيف السردي»، وكتاب «أعراف الكتابة السردية»، ففي ذلك الركن لا أكاد أسمع غير الموسيقى الهادئة، والأصوات المتهامسة. في مطعم دافني تعدّ الأطعمة التركية بأنواعها، والأشربة الملائمة لها، وهو المكان الوحيد المميّز، فيما أعرف، الذي يقدّم نوعًا من الحلوى المغمّسة بكرات حليبية مثلجة تدعى «كتمر»، وغالبًا ما تُختم بها وجبة الغداء مع القهوة التركية.
أحسب أنه بتكرار ذكر وادي الحياة، فكأن مجازًا بلاغيًا يرتسم في خيالات الشغوفين بالأدب، وليس في واردي البحث في دلالة ذلك، فالمكان كناية عن فضاء أنيس يكفي المرء أن يزوره فيه، وهو يدرك أن الأماكن الأخرى قد تزاحمت بأهلها حتى ما عادوا قادرين على رؤية سواهم، فوسائل التواصل لم تفلح في ترتيب أحوالهم في مجتمع متعارف، ومتضامن، وآمن، بالأحرى، فقد أشاعت هوسًا بنرجسية جعلت الإنسان يعتكف على ذاته، فغالبية الناس يصطنعون لأنفسهم أشباها محسّنة الملامح، ومنقّحة الهويات، توافق رغبات طفولية في تضخيم ذواتهم، ودأبهم انتظار الثناء بتبادل الصور الزائفة فاقعة الألوان، والعبارات الجاهزة ركيكة الألفاظ، والأيقونات التي تنوب عنهم في التعبير عن مشاعرهم العابرة كأنهم قوم خُرس، وقد حبسوا أنفسهم في عالم افتراضي لا يوجد فيه أثر للإنسان الحقيقي، إنما قوامه أشباه تتبادل التهاني، وتتلقّى التعازي، وعيونها مشدودة إلى علامات الإعجاب، وقد دفع بهم عجزهم عن التواصل مع أشباههم من البشر إلى اصطناع أشباه يستجيبون لهم بلمسة أو حتى بهمسة، وهم منكبون على الانخداع بالهويّات الزائفة حتى أدمنوا عليها، وما عادوا قادرين على تخمين أخطار أوهامهم.
جرى اختلاق ذلك في واد آخر يقع بعيدًا عن وادي الحياة هو وادي السيليكون في سان فرانسيسكو بكاليفورنيا، وهو ملاذ الشركات الكبرى المنهمكة في تطوير الشرائح الذكيّة التي أمست تتحكّم في مصائر الجنس البشري، مثل: فيس بوك، وغوغل، وياهو، وانستغرام، وسناب شات، وآبل. وادي الحياة خاص بالكائنات البشرية، أما وادي السيليكون فللأشباه الافتراضية، وفيه جرى اصطناع عالم متخيّل موازٍ للعالم الحقيقي، وإذ لا يمكن العثور على وادي السيليكون على الخريطة، فهو لا يُعرف، ولا يتعرّف، فيمكن العثور على وداي الحياة فيها، ويسهل قصده، والتنزّه فيه. ولستُ أقصد بتركيز الاهتمام على وادي الحياة ازدراء وادي السيليكون، فأنا استخدم بعض منتجاته بداية بالحواسيب المتطوّرة التي أستعين بها في عملي، مرورًا بالهواتف الذكية التي أتواصل بها مع الآخرين، ثم الأجهزة اللوحية التي أقرأ بها وأكتب، وانتهاء بالبطاقات البنكية التي جعلت محفظتي خالية إلا من الوثائق الشخصية، ناهيكم عن اعتمادي على محرّكات البحث للوصول إلى ما أحتاج إليه من معلومات تدرأ شبهة الخطأ، والاشتراك في فيسبوك وتويتر اللذين أنشر فيهما ما يخطر لي من آراء بين أسبوع وأسبوع. ومن هذه الناحية، يُمكن عدّي من كائنات وادي السيليكون، ولكنني، من ناحية أخرى، لست مِسخًا من مسوخه الافتراضية، ولا أشباه لي فيه، فمنتوجاته تيسر لي بعض شؤون الحياة، ولكنها لا ترغمني على ما تريده، وإن حاصرتني بالترغيب فيما تنتفع هي منه، غير أنني لا أكاد أستجيب لترّهاتها.
تغلغلت بعض منتوجات وادي السيليكون في أدق تفاصيل حياة الإنسان، وجعلته يستعذب العبودية التي توهمه بأنه حُرّ، وجعله الاستسلام لها تابعًا يتوهّم أهمية مفرطة، والحقيقة فلا أهمية له إلا بوصفه مستهلكًا سلبيًا، لا يعيد إنتاج شيء إلا في الانشغال بذاته، وتضخيم أوهامه، يتوهّم أنه في قلب عالم حيّ، ولكن قيمته تحتسب برقم أو بعلامة، وأتباعه أشباح لا هوية لهم، سوى أنهم يخدعونه بالأهمية في عالم لا يغنيه عن جوع حقيقي للمعرفة النافعة، ويدفع به يومًا بعد يوم إلى العزلة، والكآبة، والإدمان، حتى لا يعي الحال التي أمسى فيها، بل على خلاف ذلك جعل من حالته المرضية معيارًا لتحديد قيمة الآخرين، فالعالم الافتراضي مزدحم بالعدميين، والفوضويين، والمتعصّبين، والمدمنين، والنصّابين، وحتى القتلة والبغايا، علاوة على الباحثين عمّا يملأ أوقاتهم من الإعلانات المغرية، والصور المثيرة، والأفلام الرخيصة، ونسبة الذين ينتفعون منه، بحق وحقيق، قليلة، فقوامه عالم سائل يجرف الشوائب فلا تمييز بين جيد ورديء، ولا بين طيّب وسيء، فغاية وادي السيليكون تحويل الجموع البشرية إلى قطعان تستهلك بشراهة ما يُعرض عليها، وتتباهى بريادتها في معرفة توافه الأمور.
خلق وادي السيليكون مجتمع القطيع الذي لا هوية بائنة لأفراده، فلا تاريخ لهم، ولا وعي مخصوص بذواتهم الإنسانية، فهم «سيمولاكرات» تتبادل الدعابة والإعجاب، والإطراء والثناء، وقد تتقاذف التهم والتقريع، وتكثر من القدح والتحقير، فلا عيار يضبط انفعالاتها، ويقنّن نزواتها، فقد أسلمت قيادها لقوى شرهة استحوذت على إرادتها. ويكاد يتعذّر على القطيع الافتراضي مراجعة الذات، والتفكير بالهويات، فلا حقّ لأحد بالسؤال، إنما الإذعان. الكائن الذين فرغ وادي السيليكون من اختلاقه لا يعرف سياق الحقائق الدنيوية، ولا يدرك قيمة الأفكار المستنيرة، وهو يجهل معنى المساءلة الأخلاقية التي ترتقي بالإنسان من طورٍ إلى طورٍ أهم في حياته، لأنه مبرمج للاستجابة، وإعطاء الموافقة، ويقتصر دوره على ضغطة زرّ صغير أو على لمسة ناعمة على سطح شفّف للموافقة على ما يُطلب منه، أو يكتفي بوضع رقم شفري خاص به للولوج إلى عالم شبكي يستنزف جهده وماله، تلك هي أعراف مجتمع وادي السيليكون، وشرائعه، ومعتقداته، وأنظمته الذكية محميّة بقوة مسلّحة، جعلت وزارات الدفاع، ودوائر الاستخبارات في كبريات الدول، تستميت من أجلها، وتستخدم تلك الأنظمة وسيلة في صراعاتها العسكرية والسياسية والاقتصادية، فيكفي حرمان الدول من حقوقها القانونية والسيادية في أي نزاع بحجبها عن نظام التبادل المالي أو الإعلامي أو التجاري أو المعلوماتي، وتكون قادرة على تعطيل وسائل النقل من قطارات وطائرات وسفن، ووقف عمل البنوك والجامعات، وشبكات الهواتف، وأسواق المال، بضغطة زرّ، ولها أن تشوّه سمعة أية دولة أو مؤسسة أو شخص بقليل من الجهد، فالبرمجة الذكية المسبقة تقوم بما هو مطلوب منها بسرعة البرق. ولا وجود لأي شيء من ورد ذكره في وادي الحياة، فلا مزاحمة، ولا استغلال، ولا خوف، ولا خسارة، ولا تبعيّة. يمنح وادي الحياة الإنسان صفاء النفس، ويعفيه من الكدر، ويوفر له فرصة النظر في حاله، وفي أحوال غيره من بني جنسه، ويمكّنه من التواصل مع الآخرين بلا توجّس من سوء نواياهم، وبلا خشية من الاستحواذ عليه من طرف أحد.
=ينبغي الاعتراف بأنه تقع في وادي السيليكون عملية تغيير خطيرة لمآل الجنس البشري، ففيه تُخلّق ذوات هلامية نرجسية غاية ما تتطلّع إليه عبادة أنفسها، وذلك هو الانهمام بالذات، والإفراط في الاحتفاء بأهوائها، والاستجابة لنزواتها، والغاية من ذلك أخذ الإنسان إلى عالم تسهل السيطرة عليه بجعله يستجيب لحاجات تُقترح عليه ساعة بعد ساعة، فيجهد نفسه في إشباعها، لكنها لا تُشبع، فهي تتكاثر بمتوالية لا نهاية لها. في واقع الحال، فقدت الذات الإنسانية، في العالم الافتراضي، كينونتها الخصبة والمتنوّعة التي أثرتها العلوم الانسانية، وصار يلزم إعادة ترتيب المجتمع بوصفه قطيعًا تقوده وسائل التواصل، وقد تغلغلت في تفاصيل حياة الناس، وسلبتهم ذواتهم، وغيّرت من أسبقيات اهتماماتهم، بما أغرقتهم به من إعلانات مغرية، وما وعدهم به من منافع خيالية. وفي عالم مزدحم بالأشباه لا مكان للنباهة العقلية، والاستنارة الروحية، والمشاركة الفاعلة، فالجنس البشري يتعرّض لخداع منقطع النظير في تحويل رغباته، وحاجاته، وقراراته، وأفكاره، ونزواته، وأطماعه، إلى سلاسل رقمية وهمية في برامج لا نهاية لها، فينتهي مخلوقًا شائهًا وحائرًا، منقطعًا عن العالم الواقعي من دونها، فلكي يتمكن من مواصلة حياته، فيلزم أن يكون جزءًا من قطيع يتوهّم حريّة، وقد انغمس في عبودية كاملة، فالإدمان شعور مريح بالمتعة لا يأتي بغتة، إنما بالمداومة التي تجعل من أغرب الأشياء أكثرها ألفة للنفس، والعقل، والخيال.
وفّر لي وادي الحياة فرصة التأمل في تلك الظاهرة التي اقتحمت حياة الإنسان في سائر أرجاء العالم، وتمكّنت من حرف اهتماماته، واستبدال خياراته، ولو لم أواظب على التنزّه في روابيه لانتهيت عبدًا من عبيد العوالم الافتراضية كما هو شأن كثير من الناس حيث أوهمتهم العزلة أنهم في قلب مجتمع كوني نابض بالحياة، والحال، فهو مجتمع التبعية، والعبودية، والعدمية. وليس في واردي الادعاء بقدرة تغيير شيئًا من ذلك، فالوعود النبوية في تغيير أحوال المجتمعات انقضى عهدها، غير أنني مشغول برصد أخطار تلك الظواهر، والتحذير من تبعاتها، وفي أقلّه حماية النفس من السقوط في براثنها، فالتنزه الحرّ، والتجوال المريح، وقد انفرد المرء بنفسه، وشرع يتأمل في شؤون المجتمع والتاريخ يمكنه من تعديل صلته بمحيطه، ويشجعه ذلك على إعادة النظر بالمسلّمات التي تحوم من حوله، ومن ذلك تسليم أمور الناس لقوى تتلاعب بأحوالهم بحسب أهوائها ومصالحها. وأعوّل على إشاعة الوعي العقلي بالهوية، والاعتبار بالأحداث التي تحيط بالمرء، فالفرد الواعي بذاته مسؤول عن صون نفسه من الانحطاط في درك عالم أسفَر عن رغبة صريحة في جعل الناس قطيعًا رقميًا مستعبدًا وتابعًا.