بقلم: أريانا أوفريل Ariana Orvell
طوِّعْ بِنْية اللغة من خلال الحوار الموضوعيّ مع الذات؛ لتعود خطوة إلى الوراء وترى الصورة الأوسع.
شَرَع الإمبراطور ماركوس أوريليوس في تسجيل تأمّلاته حول حياته، في أواخر أيامه، القرن الثاني الميلادي، طرَحَ أسئلة على نفسه مشابهة لتساؤلاتنا اليوم؛ كيف يعيش المرء حياة لها معنى؟ وكيف يصمُد الفرد في وجه المعاناة؟ وما معنى أن يسعَد المرء؟
لم يكن مقصودًا أن يرى كتاب التأمُّلات النور؛ لذا اطّلاعنا على الحوار الذي خاضه أوريليوس مع ذاته هو ميزة، بالرغم من تَكرار بعض الموضوعات، إلا أن النص يُقرأ كسلسلة من المداخل المستقلة وتتراوح بين جملة ونص بأكمله، يوثّق أوريليوس في هذه الفقرات ألباب الحكمة؛ إذ إن جزءًا كبيرًا قد أيّدتْه نتائج الدراسات السيكولوجية الحديثة، لكن بالإضافة إلى توثيق أوريليوس تأملاته المثرية. يكشِفُ التأملات (Meditations) – (كما تُرجِم إلى الإنجليزية عن الإغريقية) عن سمة فريدة في الرجل نفسه؛ وهي قدرته على تغيير منظوره لدى معالجته للأفكار الكبيرة.
تعكس أفكار أوريليوس في بعض الأحيان منظور الشخص الأول من خلال استخدامه ضمير المتكلم “أنا”، ويستخدم في أحيانٍ أخرى ضمير “نحن” إذ يعبّر عن أفكار تنطبق على سائر البشر (على سبيل المثال: إن حياتنا حرب، ومجرد رحلة حج). يستبدل الصياغة في شَذَرات أخرى؛ فيستخدم الضمير الغائب المفرد (تُرجمت إلى ضمير “أنت” أو إلى الضمير القديم ” thou”)، ويستخدم أوريليوس الضمير الغائب؛ ليعكس مَيْله إلى تأمل حياته وكأنه يخوض حوارًا مع ذاته – عن طريق الإشارة إلى ذاته مباشرة عوضًا عن القارئ (تذكر أنه لم يضع في اعتباره أي قارئ).
أدرك أوريليوس بأن شعوره بالأسى كان مؤقتًا من خلال تبنِّي منظور موضوعي إلى ذاته.
لقد تناولتُ في بحثي كيف للتحوُّلات اللُّغويّة البسيطة أن تغيّر ما نفكر فيه تغييرًا جدّيًّا، ومن ثَمَّ تتبدل مشاعرنا، ولأجل هذا أدهشتْني مقولة أوريليوس؛ إذ وجّه نصيحة إلى نفسه -بضمير المخاطب- عن السبيل إلى إخماد ثَوَران العقل، الذي إن تُرِك دون إحكام قد يقود المرء إلى الشعور بالغرق.
لا تُشغِل نفسك بتأمل المشهد الكامل لحياتك، لا تُرخِ لفكرك العنان، فيستحضر منغصات الماضي وكل ما يمكن أن ينغّص صَفوَكَ في الغد، بل سائل نفسك في الحاضر: “ما الذي أُقاسيه ولا أقوى على احتماله؟”، وستخجل من هذا الاعتراف، ومن ثم استحضر هذه الفكرة؛ لا الماضي ولا المستقبل سَبَبا شقائك، وإنما الحاضر وحده، وتهوينه يكون عن طريق تحديده وحصره، ولُمْ عقلك على عجزه عن الصمود أمام حدث عابر.
يكتب هنا أوريليوس عن السلطة التي يملكها الناس على أفكارهم، ويقدّم هذه النصيحة الحاذقة؛ اسأل نفسك بصراحة، “ما الذي يزعجك في هذه اللحظة؟” تعدّ الصياغة مهمة – فهو لم يكتب: ” ما الذي يزعجني؟”وإنما آثَرَ أن يطرح على نفسه هذا السؤال من منظور خارجي، باستخدام ضمير المخاطب المفرد، أدرك أوريليوس أنَّ مشاعره المؤلمة مؤقتة من خلال تبني هذا المنظور الموضوعي للذات.
الحوار الموضوعي الذاتي هو تأمُّلُ الذات باستخدام أقسام الكلام التي تُستخدم عادةً للإشارة إلى الآخر (على سبيل المثال، ضمير المخاطب، أو اسم الشخص)، تشير دراسات الأطباء النفسيّين المتزايدة إلى أن الشروع في الحوار الموضوعي الذاتي قد يعيننا على ضبط مشاعرنا السلبية في مختلف المواقف، كالتعامل مع تجرِبة مؤلمة في الماضي أو حتى أداء مهمة مُقلقة.
كشَفتْ هذه النتائج عن الحوار الموضوعي مع الذات والقائمة على عقود من البحث، أنّ تبني منظور سيكولوجي موضوعي متجاوز لهنا والآن، هو مكوّن أساسي لتحقيق انسجام الأفكار، والمشاعر، والتصرفات مع أهدافنا، يمكننا أن نرتقيَ ونتجاوز نواقصنا وآراءنا الذاتية عند استخدام ضمير المخاطب “أنت” والنظر إلى أفكارنا ومشاعرنا من زاوية موضوعية بُغيةَ تأمل أنفسنا، يتيح هذا المنظور الموضوعي إلى الذات طرقًا جديدة للتفكير، مما قد يشكل فارقًا في مشاعرنا وتصرفاتنا في مختلف الحالات العاطفية.
وجدتُ أنا وزملائي في إحدى الدراسات، أننا عندما طلبنا من المشاركين أن يخاطبوا أنفسهم بصورةٍ موضوعيّة لفَهْم مشاعرهم (على سبيل المثال، ما خَطْب ديلان؟) مقابلَ الحوار الذاتي (على سبيل المثال، ما خطبي؟) تتحسّن تجاربهم السلبية والشخصية التي تُولّد مشاعرَ مثل الغدر، والسخط، والرفض، والخيبة، والقلق والتهديدات الوجودية.
علاوة على ذلك، ثَبَتتْ فعاليتها حتى مع أولئك المعرضين للقلق واجترار الأفكار، وكانت أكثر فعالية مع الأطفال الذين طُلِب منهم تبني منظور إحدى الشخصيات المعروفة بالاجتهاد (على سبيل المثال باتمان أو دورا المستكشفة)، وقد وجدتُ أنا وزملائي، في دراسة أخرى أجريناها وقت تفشّي فيروس إيبولا في الولايات المتحدة،
أن توجيه المشاركين إلى الكتابة عن أخطار الفيروس عن طريق الحوار الموضوعي مع ذاتهم (بمقابل الحوار الذاتي) دفع القَلِقينَ إلى التفكير بعقلانية (بالاعتماد على ذِكر الأسباب المنطقية التي تدحض دواعي القلق، والتي خففّت من توترهم) حفّز إيثان كروس وفريقه في دراسة أجراها بجامعة ميشيجان متطوعين لتوظيف الحوار الذاتي الموضوعي في الاستعداد نفسيًّا قبل إلقاء خطاب، مما قادهم، بالمقارنة مع مجموعة التحكم، إلى الاعتقاد بأنهم قادرون على تجاوز هذا التحدي عوضًا عن اعتباره خطرًا ساحقًا.
أجرى باحثون في جامعة بافلو دراسة مشابهة، وقد وجدوا أن هذا التغير في الحُكم المعرفي، من خطر إلى تحدٍّ، تجلّى كذلك في ردود فعل فيسيولوجية أهدأ، ولا تقتصر منافع الحوار الذاتي الموضوعي على ضبط العواطف السلبية، وإنّما كشفت الممارسة عن أن هذه الوسيلة تشجع على التفكير المنطقي الحكيم، وزيادة استعداد المشاركين في التفاوض، وقيادتهم إلى إدراك حدودهم المعرفية.
وبطريقة مماثلة في سياق التعامل مع المعضلات الأخلاقية ساعد الحوار الذاتي الموضوعي المشاركين على تنحِيَة تفضيلاتهم الشخصية، والتي كان من الممكن أن تشوّش أحكامهم، على سبيل المثال، لنفترض أنك شهدتَ صديقًا لك يتحرش بشخص، قد يُعينُكَ الحوار الذاتي الموضوعي على اتخاذ القرار في التبليغ عنه، بغض النظر عن قُرب علاقتكما.
لا تنحصر هذه الأداة اللغوية على الكبار؛ ففي إحدى الدراسات، اجتهد الأطفال في أداء أعمال مملّة على الحاسوب (بدءًا من أربع سنوات) لوقت أطول نتيجة لمتابعة أنفسهم من خلال استخدام اسمهم (على سبيل المثال، “هل تجتهد جابريلا في عملها”) عوضًا عن استخدام صيغة المتكلم (على سبيل المثال ” هل أجتهدُ في عملي؟”).
ظهرتْ فعالية المسافة السيكولوجية بصورةٍ أقوى عندما طُلِب من الأطفال تبني منظور شخصية خياليّة معروفة بالاجتهاد (على سبيل المثال باتمان أو دورا المستكشفة)، ومما يفسر منفعة الحوار الذاتي الموضوعي في مختلف المواضع هو سهولة تطبيقه، لعلَّكَ نُصِحتَ يومًا بأن “تتخذ خطوة إلى الوراء” أو ” التفّكر في الصورة الأشمل”، ووجدتَ النصيحة مخيّبة.
ولعلّه قادك إلى القول “القول أسهل من الفعل!”، يقدّم الحوار الذاتي الموضوعي حلًّا سهلًا نسبيًّا (كما أثبتتْه دراسة لفحص الدماغ، والتي كشفت بأن هذه الممارسة لا تتطلب طاقة إدراكية كبيرة لتطبيقها) عندما كتب أوريليوس عن قدرتنا لتغيير طبيعة أفكارنا كوسيلة إلى تغيير مشاعرنا، قد كشف بذلك عن شيء جوهري في السيكولوجية البشرية.
أكّدتْ الدراسات، بعد انقضاء قرون، بأن تغيير الطريقة التي تفكر بها إزاء شيء ما هو وسيلة قوية للتكيف مع ردود أفعالك العاطفية وضبطها، يمكنك الاقتداء بأوريليوس لتيسير هذه العملية، والتعامل مع أفكارك ومشاعرك السلبية عن طريق الإشارة إلى ذاتك باستخدام ضمير “أنت” أو اسمك، فعندَ استخدام الحوار الموضوعي الذاتي يمكنك تطويع البِنية اللُّغويّة؛ لتعود خطوة إلى الوراء وترى الصورة الأكبر.
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومنصة سايكي).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.

الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.