قام هيدغر، بتاريخ 28 سبتمبر 1964، بحوارٍ مُصوَّرٍ مع راهبٍ بوذيٍ، اسمه بهيكو ماها ماني (Bhikko Maha Mani)، قام بزيارته في ألمانيا. وقد أتى هذا الراهب إلى أوروبا من أجل أن يعرفها عن كثب، خاصة في ظلّ التحوّلات التي كانت تعرفها التقنية آنذاك، فكان لا بُد له من أن يلتقي بالرّجل الذي كان، حسبه، أعمق فيلسوف تحدّث عن التقنية.
وقد كان اللقاء بين هيدغر وهذا الراهب على شطرين، الأوّل كان في بيت هيدغر في Zähringrn وهو ما حرص هيدغر على عدم تصويره أو تسجيله، ودام لأزيد من ساعتين؛ والثاني كان على التلفزة الألمانية ولم يتجاوز ست عشرة دقيقة. ذلك لأن هيدغر كان يمتنعُ كلّيا عن أن يتوّجه بحديثه إلى عموم الناس عبر وسائل التواصل الحديثة، أما ما حال هذه المرة بينه وبين امتناعه عن ذلك فهو إعجابُه الكبير بهذا الراهب البوذي ومُتعة الحديث معه، وتعاطفه مع ذلك العالم الروحي للشرق الذي عبّر عنه هذا الراهب قلباً وقالباً.
بدأت المُحادثة بين هيدغر وماها ماني بشكلٍ كان ليختلف كليا عن محادثة ما بين هيدغر وزائـرٍ أوروبي أو أمريكي؛ فمثل هذا الزائر كان ليسأل هيدغر بداية سؤالا من قبيل “ما هو رأيك في العلاقة بين الدين والنزعة الإنسانية؟!” (بل إن هذا السؤال كان مبرمجا في بداية حوارٍ على إذاعة في الغرب الجنوبي، لكن هيدغر رفضه)، أما هذا الراهب فلم ينطق بكلمةٍ أبداً عند دخوله بيت هيدغر وجلوسه معه. لقد ظلّ صامتاً، وحتى الكتابة التي كانت باللغة اليابانية على أحد جدران الغرفة لم تنجح أبدا في أن تُحفّزه على أن يبدأ الحديث وبالتالي يخرج عن صمته – وهو ما لن يحدث أبداً مع زائر غربي مثلا -، ويرجع سبب صمت هذا الراهب لكون الكلمة الأولى، حسبه، لا يُمكن أن ينطق بها إلا “مُعلّم الحكمة” (the first word belongs to the teacher of wisdom).
وبما أن هيدغر لم يكن يعرف اللغة اليابانية ولم يكن الراهب يعرف اللغة الألمانية، فقد دار بينهما الحديث من خلال وسيطٍ هو مؤرّخ ألماني وأحد تلامذة هيدغر المُقرّبين له، وهو هَيْنرِش فيغاند بِتْسِت (Heinrich Wiegand Petzet)، الذي كان يُجيد الإنجليزية فيُترجم كلام هيدغر من الألمانية إلى الإنجليزية التي يفهمها الراهب ويتكلّم بها، ثم يفعل العملية نفسها معكوسة. وقد كتب هينرش بِتست فصلا شائقاً عن هذا اللقاء ضمن كتابه لقاءات وحوارات مع مارتن هيدغر (1929-1976)[1]، وسلّط فيه الضوء على الحوار الذي دار في البيت وارتسامات كلّ من ماها ماني وهيدغر عن بعضهما البعض، دون أن يكف عن الإشارة إلى تلك العلاقة الوثقية والدالة بين هيدغر والعالم الشرقي، هناك حيثُ “يُفهمُ هيدغر” بتعبير ماها ماني، كما أعد تقريراً عن الحوار الذي تمّ تصويره، وهو ما نقترحُ ترجمةً له هنا، بعد أن اقترحنا له العنوان أعلاه.
الحـــوار:
ماها ماني: بروفسور! لقد فكّرتَ بعمقٍ في ماهية الإنسان لعقودٍ من الزمن؛ ما هي التبصّرات التي وصلتَ إليها؟
هيدغر: إن التجربة الحاسمة في فكري، والحاسمة بالنسبة للفلسفة الغربية أيضاً، هي أن التفكير في تاريخ الفكر الغربي قد أوقفني على أنه في ما مضى من هذا الفكر، كان هناك سؤالٌ لم لم يُطرَح أبداً، وهو سؤال “الوجـود”، السؤال عن الوجود (die Frage nach dem Sein). ولهذا السؤال أهميته الكبيرة، إذ إنه في الفكر الغربي يتمّ تحديد طبيعة الإنسان وتعيينُها انطلاقا من علاقةٍ معينة مع الوجود، انطلاقاً من أن الإنسان يُوجد في مقابل الوجود. يعني هذا، من خلال هذا التقابل، أن الإنسان هو الكائن الذي يمتلكُ اللغة، هو الكائن الذي يتكلّم. وفي اختلافٍ مع التعاليم البوذية، يُقيم الفكر الغربي تمايُزاً ماهوياً بين الإنسان وباقي الموجودات الحية الأخرى (الحيوان والنبات)؛ فالإنسان يتميّزُ عنها بأنه يمتلك اللغة، أي أنه يوجد في علاقةِ معرفةٍ بالوجود (wissenden-bezug). وهذا السؤال عن الوجود لم يسبق أن تمّ طرحه في ما سلف من تاريخ الفكر الغربي. ولكي نتحدث بوضوحٍ أكبر، يُمكن أن نقول إنّ الوجود نفسه، بهذا المعنى، قد بقي مُحتجباً عن الإنسان لزمنٍ طويل. ومن أجل هذا يبدو لي أن سؤال الوجود يجب أن يُطرح. وفي الوقت نفسه، يجب التماس جوابٍ للسؤال: ما ومن هو الإنسان؟ (Was und wer der Mensch ist?).
ماها ماني: هل الأمثلُ هو أن نقوم بصياغة موقفٍ/ أسلوب جديد وأساسيّ في التفكير في الحياة أم يجب على المرء أن يتعمّق في تعاليم الدين؟
هيدغر: أعتقدُ أنه من خلال ما قدّمتُه للتو من تفسير وتوضيح للإجابة عن سؤالك الأول، فإني قد أبنتُ بوضوحٍ إلى أيّ حدٍّ يلزمنا ضرورةً الانخراطُ في مسلكٍ جديدٍ في التفكير. ويظلّ هذا ضروريا ولازماً بشكلٍ خاص، لأن السؤال عن الوجود لا يُمكن أن يُطرح من داخل الدين. كما يجب كذلك طرحُ هذا السؤال لأن علاقة الغرب اليوم مع باقي العالم لم تعد واضحة بالمرة، بل إنها ملتبسـة ويلفُّها حجابُ الحيرة؛ سواءٌ عبر مختلف اتجاهات ومذاهب الإيمان بالكنيسة أو عبر الفلسفة أو عبر العلم أو عبر الفعل/ العمل غير المتوقّع الذي يستمر في أن يوجد. إن العلمَ حاليا في ظل العالم الحديث قد أصبح هو نفسه نوعاً من الدين، وسأقوم فيما بعد بتوضيح هذا الطرح أكثر.
ماها ماني: لماذا لا تُحاول توضيح أفكارك للناس عبر وسائل التواصل الحديثة كالمذياع أو التلفاز؟
هيدغر: إن المَهمَّة التي يحملُها الفكرُ على عاتقه اليوم، كما أفهمها، هي جديدة نوعاً ما ولم يُسبَق لها، وتتطلّب طريقة/ مسلكاً جديدا كليا في التفكير، كما لا يُمكن السير في هذا الطريق إلا عبر حوارٍ مباشر ينطلق من إنسانٍ إلى إنسان آخر، وعبر ممارسة/ تجربة مديدةٍ وتمرينٍ على “الرؤية” في التفكير، أن نتعلم كي نرى ونحنُ نفكّر. وهو ما يعني أن هذا المسلك الجديد في التفكير هو، أولا وقبل كل شيء، متاحٌ لقلةٍ من الناس فقط، بيد أنه يُمكن أن يتم توصيله، بطريقة غير مباشرة، إلى الآخرين عبر مختلف مجالات التعليم. كمثالٍ على هذا، يُمكنني أن أقول إنه حاليا يُمكن لأي واحدٍ أن يُشغّل مذياعاً أو تلفازاً دون أن يعرف القوانين الفيزيائية التي تحكُم هذا التشغيل أو المناهج الضرورية للبحث عن هذه القوانين، لكنّ المضمون الحقيقي لهذه المناهج يُمكن أن يفهمه فقط خمسة أو ستة فيزيائيين حالياً. وهذا، مبدئياً، هو ما يُميّز التفكير الذي ننحرطُ فيه. إن هذا التفكير، بداية، لهو على قدرٍ كبير من العوص، إلى درجة أن عددا قليلاً من الناس فقط هم من يُمكنهم أن يتمرّنوا عليه. ورغم ذلك، فإنه يُمكن لهذا الطّرح أن يقود بسهولةٍ إلى سوءٍ فهم كما لو أنّ هؤلاء الأفراد هم أناسٌ متفوّقون. لذلك، ففي واقع الأمر يُمكن لأيّ أحدٍ أن يسير في هذا المسلك وينخرط في هذا التفكير ما دام أنه موجودٌ مُفكِّر (thinking being). بيد أننا إذا ما استحضرنا نظام تعليمنا وعدنا إلى تاريخنا، سنجد أن عدداً قليلاً من الناس هم وحدهم القادرون على الانخراط في هذا التفكير اعتمادا على أنفسهم، هم وحدهم من يتحقّق فيهم شرطُ هذا التفكير.
ماها ماني: هل هناك أية علاقةٍ بين الفلسفة والتقنية؟
هيدغر: جواباً عن سؤالك، سوف أقول “نعم”؛ وفي الحقيقة فإن هناك علاقة جدّ دالة بينهما، فقد نشأت التقنية الحديثة انطلاقا من الفلسفة، فمن داخل الفسلفة الحديثة ظهر، ولأول مرة، ذلك المبدأ القائل إن ما يُمكن معرفته بوضوح وتميّز – أي رياضياً – هو وحده الواقعي، وهناك دعوى شهيرة لفيزيائي ألماني، وهو ماكس بلانك، يقول فيها إن الواقع هو ما يُمكن حسابه، ما هو قابلٌ للحساب. هذا الفكر الذي يؤكّد أن البشر يُمكنهم أن يُشكلوا معرفة عن الواقع طالما كان قابلا للحساب بالمعنى الفيزيائي الرياضي، هو من شكَّل التقنية الحديثة بأكملها، وباعتبار أن هذا الفكر قد ظهر بداية مع ديكارت، أب الفلسفة الحديثة، فإن العلاقة بين التقنية الحديثة والفلسفة تبدو على غاية من الوضوح.
ماها ماني: عادةً ما يُنعت الأشخاص غير المتديّنين في الغرب بأنهم شيوعيون، بينما يُنعت الآخرون الذين يعتنقون ديناً ما بأنهم خُبْــل؛ ماذا تعتقد بصدد هذا؟
هيدغر: إنّ من يقول إن الذين يحيون دون أن يعتنقوا أيّ دينٍ هم شيوعيون، وأنّ الذين يعتنقون ديناً ما هم خُبْـل، فهو لا يُصدر سوى اتهامات، وأعتقدُ أنه يُمكن تجاوزها إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما الذي يعنيه “الدين”؛ فكلمة “دين” تعني إعادة الربط بقُوى أو نواميس تفوق المقدرة البشرية، حتى إنه ليُمكن الحديث عن دينٍ غير مؤلِّه، مثل البوذية التي لا تعرف أي إله، ومع ذلك فهي تجد في ذاتها ما ترتبطُ به. لهذا أقول إن الناس مثل الشيوعيين يعتنقون دينا أيضاً وهو العلم، إنهم يعتقون في العلم، يعتقدون اعتقاداً مطلقا في العلم الحديث. وهذا الاعتقادُ غير المشروط، أي الثقة في صحّة النتائج العلمية وحجّتها، هو إيمانٌ، كما أنه شيء يتجاوز الشخص باعتباره فرداً، وبالتالي فهو دين. أقول أيضاً إنه لا وجود لشخصٍ لا يعتنق ديناً ما، بل إن كلّ شخص، بطريقة ما، فيما وراء ذاته، “أخبَل”!
ماها ماني: هل يجب أن نلغي الدين والفلسفة، بما أنهما بعد مضيّ 4000 سنة لم يستطيعا أن يُؤثّرا في الحياة كما وَعدُوا، كما أنهما حاليا في اختلاف وصراع بينهما؟
هيدغر: لا يُمكن للإنسان، ولا يجب عليه، أن يُلغي هذا التفكير وهذا الاعتقاد أو يتخلى عنهما فقط لأنهما لم يُحقّقا ما عزما/ تعهّدا على تحقيقه على مر التاريخ، ذلك لأن طبيعة الإنسان متناهية؛ فالإنسان في ماهيته مُجبرٌ دائما على ألا يقتأ يحاول من جديد، خاصة في الزمن الحالي. وبالعودة إلى السؤال الأول الذي انطلقنا منه، فإني أقول إن التفكير في سؤال “ما ومن هو الإنسان؟” هو تفكير ضروري ولا يُمكنه تجاوُزه اليوم، حيث أن مَكمَن الخطر يتمثّل في أن البشرية قد أصبحت تحت الرحمة الكلية للتقنية، بل ويُمكن للبشر، في يومٍ ما، أن يتحوّلوا إلى آلات يُتحكَّم فيها.
تفضّلتَ أيضا بملاحظةٍ أخرى، حيث أحلتَ على بلدك وقلت إنه وشعبكم ينتمون إلى البلدان غير المتقدمة، لكن عندما نتحدث عن البلدان غير المتقدمة، فإنه يجب أن نسأل دائماً: ما الهدف المُتوخّى من هذا التقدّم؟ حسب التصور الحديث، أي المعنى الأوروبي والأمريكي الذي يُفهم من خلاله التقدم، فإن هذا الأخير يُحيل، أولا وقبل كل شيء، على عالمٍ تقنيٍّ حديث. انطلاقا من هذه النقطة، يُمكنني أن أقول إن بلدكَ بما هو مؤسَّسٌ على تقاليده العتيقىة التي مازالت مُستمرّةً في الحضور، هو على درجةٍ عاليةٍ من التقدّم، أمّا العالم الأمريكي، بتقنيته وقنابله الذرية، فهو عالمٌ غير متقدّم.
ماها ماني: هل هناك طريقةٌ ما لإعادة ربط البشر فيما بينهم وجعلهم منسجمين؟ وهل يُمكن لهذا الأمر أن يجد ترجمته الملموسة في العالم، مثلا في شرق وغرب برلين؟
هيدغر: عامٌّ هو هذا السؤال بلا شك، ولذلك وجب في البداية أن نُميّز بين الشروط السياسية من أجل توحيدٍ وتحالف ممكن، والشروط السيكولوجية من أجل الجمع والتقريب بين الناس. وبالنسبة لكلا الشرطين، يُمكنني أن أقول إنه بالاستناد إلى وضعنا التاريخي الحالي، وبالاستناد إلى التشظي الذي يُميز وضع الناس حاليا ويجعلهم يكوّنون أديانا وفلسفات وعلاقات بالعلم مختلفة، فإنه لا توجد أرضٌ مشتركة اليوم من أجل تحقيق فهمٍ/ تفاهم مباشر وبسيط. أعتقد أنه يجب علينا أن نلاحظ ذلك التمايز الكبير بين بلدٍ أوروبي، مع هذا التاريخ والماضي، وبلدٍ حيث يقع موطنك. أودّ أن أقول في هذا الصدد أيضاً، إنه حتى لو أمكن في المستقبل المنظـور أن يتشكّل فهمٌ/ تفاهمٌ ما، فإنه لا يُمكن أن يتشكّل إلّا بمعزلٍ عن الشروط والظروف السياسية، وذلك من خلال القيام بتفكيرٍ ذاتي ورسم للسبيل انطلاقاً من الذات في جميع المجالات، بيد أن هذا التفكير بهذه الطريقة، كما سبق وتطرقنا إليه في سؤال آخر، على درجةٍ كبيرة من الصعوبة، ذلك لأننا اليوم، ليس فقط في ألمانيا وإنما في أوروبا عامة، ليس لدنيا أية علاقة واضحة ومشتركةٍ وبسيطة بالواقع وبأنفسنا. وهذا مشكلٌ كبيرٌ يُواجه العالم الغربي، وهو من بين ما يقف خلف التباس الآراء وتشوّشها في مختلف المجالات.
[1]– Petzet, Heinrich Wiegand, Encounters and Dialogues with Martin Heidegger, Translated by Parvis Emad & Kenneth Maly, Introduction by Parvis Emad, The University of Chicago Press, Chicago & London, 1993, pp. 166-183.