تمهيد:
لا شك أن الحياة المعاصرة قدمت الكثير من النماذج التي تضع الفلسفة في زاوية لا مفر منها وهي “لم تعد للفلسفة قيمة”.
إنّ أكثر نموذج يُحرج الفلسفة هو العلم التجريبي، لقد بدأ هذا الخطاب منذ القرن السادس عشر مع غاليليو، وكبلر، ومن ثم بلغ أوجه مع نيوتن، إلا أن هذه الفترة لم تتخلَ تمامًا عن الفلسفة، وهذا ما يظهر من عنوان كتاب نيوتن الشهير (المبادئ الرياضية لفلسفة الطبيعة) حيث كانت تُفهم الفلسفة بوصفها خطابًا كليًا، ما كان يبحث عنه نيوتن هو القوانين الكلية التي تحكم الطبيعة وقد وضعها في كتابه هذا، منذ تلك اللحظة بدأت الفلسفة تنسحب عن المشهد تدريجيًا، وكان اكتمال نقدها مع بداية القرن العشرين؛ أي مع الوضعية المنطقية التي وجدت بأن على الفلسفة أن تكون خادمة للعلم من خلال تحليل اللغة منطقيًا. بمعنى آخر تم إعلان موت الفلسفة من بين ميتات أخرى لا تعد ولا تحصى، العلم الحديث هو خطاب حول الحقيقة يعتمد منهجًا استقرائيًا وتجريبيًا، والفلسفة بحسب صياغتها اليونانية -وتحديدًا منذ أرسطو- تحددت بوصفها استنباطية في المقام الأول، ومن ثم هي بحث عن الكليات. بمعنى آخر تعريف العلم قديمًا هو: معرفة الكليات أو العلم بالكليات، والتجريب العلمي الحديث لا يمكن أن يتحدد بهذا المعنى القديم للمعرفة كونه يعتمد منهجًا مختلفًا وغايات مختلفة. في هذا السياق من الضروري موت الفلسفة أو جعلها مساعدة للعلم، إلا أن الفلسفة لا ترتضي هذه الإهانة أو إنزالها لهذا المستوى من الخطاب أو حتى نفيها تمامًا عن المشهد، والطريف أنه رغم كل الانتقادات لم تنسحب أبدًا، بل طورت الكثير من الطرق لمنافسة العلم، فصرنا نسمع حقول متعددة تظهر على الساحة العلمية مثل فلسفة العلم، وفلسفة الفن، وفلسفة الاقتصاد؛ إلخ.
إلا أننا هنا بقينا ندور حول الخطاب النخبوي وما يحدث في الجامعات، لكن ماذا عن الإنسان البسيط: هل يرى الفلسفة غير مجدية لقواعد الحياة المعاصرة؟ ليس من السهل الجواب عن هذا السؤال فهو يحتاج إلى بحث ميداني مع ذلك نستطيع أن نخمن بشيء من الدقة، إن الإنسان المعاصر تشكل بحيث يصبح كائنًا عمليًا؛ فهذه قوانين الاقتصاد الرأسمالي والسوق الليبرالي الحر حيث على الفرد أن يخوض تنافسية عالية من أجل لقمة العيش؛ لذلك وجدنا البراغماتية تتطور في تربة شديدة الصرامة من حيث سيادة الرأسمالية وتطبيقها، كل هذا يعني أن الإنسان المعاصر حتمًا لن يجد في فلسفة أفلاطون وأرسطو أو حتى هايدغر والوضعية المنطقية شيئًا ذا قيمة، إنهم يتحدثون عن الكليات، وعالم المُثل، والكون، والفساد، وأشياء أخرى إما أنها فقدت قيمتها أو تولى العلم الحديثَ عنها، وهذا من حقوق الإنسان المعاصر فليس لنا كما يفعل البعض فرض الفلسفة وإعادة بعثها من جديد كما هي، بل على الفيلسوف المعاصر أن يحترم قوانين عصره، وأن يُقدم ما هو مناسب لزمنٍ سادت فيه التقنية وصار كل شيء رقميًا، لذلك نضع سؤال هذه المقالة: كيف من الممكن بعث الفلسفة من جديد مع الأخذ بالاعتبار ظروف عصرنا هذا؟
الفلسفة كفن للعيش:
الفلسفة قديمًا لدى الشرق والغرب كانت فنًا للعيش، طريقة حياة، وأسلوب يتخذه الفرد من أجل حياة سعيدة. يُعد الشرق الآسيوي الوحيد الذي حافظ على هذه الرؤية للفلسفة رغم أثر الإمبريالية الغربية على هذه المناطق، بمعنى أنه لم تعد هناك سيادة مطلقة للهندوسية والبوذية وغيرهما بحكم الانفتاح الرهيب في حياتنا المعاصرة، أما لدى اليونان والرومان فالفلسفة كانت أيضًا طريقة عيش، وقد ساهم أرسطو في تغيير هذه الرؤية حين نقل الفلسفة إلى اشتغال مطول في المنطق والأداة المعرفية، رغم ظهور مدارس بعد ذلك اهتمت كثيرًا بهذا المعنى للفلسفة مثل الرواقية والأبيقورية.
حدث التغيير الجذري مع ظهور المسيحية في السياق الغربي، وهذا الظهور ساهم في ولادة عصر التفسير والتأويل؛ حيث نجد لاهوتي المسيحية يحاولون التوفيق بين عقيدتهم والأفلاطونية وغيرها. هنا دخلت الفلسفة في سبات عميق فلم تعد مهنةً للعيش بل هي نصوص تُفسر بحيث تتوافق مع العقيدة الرسمية، وهذا ما حدث أيضًا في السياق العربي والإسلامي فبعد انتشار الإسلام وتقعيده ظهرت فيما بعد حركة الترجمة التي ساهمت في انقسام الآراء بحيث ذهب البعض لاستخدام الفلسفة في الدفاع عن الدين كما نجد لدى المتكلمين، والبعض وجد أن الفلسفة لا تتعارض مع الدين مثل الفارابي وابن سينا وابن رشد، لكن هؤلاء لم يفهموا الفلسفة بوصفها فنًا للعيش رغم أنهم اهتموا بالبعد الأخلاقي للفلسفة بقولتهم المتكررة “الفلسفة محاكاة للإله بقدر الطاقة البشرية“، وكان منطلقهم التقسيمُ الأرسطي للنفس بوصفها نفسًا شهوانية، ونفسًا عاقلة؛ إلخ، إلا أن التعارض كان قويًا بين الأديان الإبراهيمية والفلسفة حين نفهما فنًا للعيش؛ فهي تقدم رؤى متكاملة عن الحياة وما بعد الحياة فما أهمية الفلسفة والحال كذلك؟ المهم أن الفلسفة في الشرق واليونان وروما القديمة كانت طريقة حياة وفنًا للعيش السعيد، ومع ظهور تلك الخطابات التي تعلن موتها أجد أن الفلسفة لا تستطيع بعث ذاتها من جديد من خلال دراسات في المنطق والوعي مثلًا كما فعل هوسرل، ولا هي تحليلًا لغويًا كما لدى الوضعية المنطقية.
تعد الوجودية المعاصرة أكثر الفلسفات قربًا من المعنى القديم للفلسفة لذلك تجدها قريبة من الإنسان المعاصر أكثر من غيرها، المهم أن الفلسفة عليها أن تسترد ذاتها من خلال فهم أنها وسيلة نبيلة لتحقيق السعادة الدنيوية، بهذا المعنى تفتح الفلسفة بابًا رائعًا وخصبًا، حيث يحاول الفيلسوف ويجتهد في تجميع ما يصدره العلم الحديث عن ماهية الإنسان وسُبل تحقيق عيشه السعيد، على عاتق الفيلسوف المعاصر مهمة أكثر صعوبة من الفلاسفة القدماء.
هذه نقطة تستوجب علي أن استطرد بعض الشيء. كثيرًا ما يحكى أن الفلاسفة القدماء عباقرة على نحو أسطوري؛ فهم أطباء، وعلماء فلك، ورياضيون، وفلاسفة، وغير ذلك من الصفات، والقارئ أو الباحث الذي لا يعي ظروف عصره جيدًا يقفز فرحًا وتبجيلًا لهؤلاء على هذه الموسوعية المهيبة؛ إلا أن هذا ليس دقيقًا، فالفيلسوف قديمًا يعتمد على الاستنباط أي يعتمد على التأمل الباطني حتى يخرج بنتائج ما مع بعض التجريب غير الدقيق أو تجريب لا يحقق قواعد التجريب الصارمة؛ لذلك من الطبيعي أن نرى هؤلاء عباقرة وأنصاف آلهة، دليل ذلك أنك عندما تقرأ لجالينوس أو ابن سينا في القانون أو ابن رشد في كتابه (الكليات في الطب) -وهو عنوان يثبت ما أريد قوله- تجدهم في الغالب يعتمدون على الاستنباط من خلال مقولات جاهزة، وأعني هنا نظرية الأخلاط والأمزجة لأبقراط، فمن خلالها يستنبطون كل شيء، فالمهمة لديهم أسهل من مهمة الفيلسوف المعاصر. بينما على الصعيد الآخر نجد فلاسفة اليوم على عاتقهم مهمة أكثر صعوبة بل من يكون موسوعيًا اليوم يُعد ظاهرة لابد من دراستها؛ فالحضارة الحديثة تعتمد على العلم التجريبي، وهذا يعني أن خطاب الحقيقة لم يعد استنباطًا، بل هو تتبع مستمر لجزئيات متغيرة باستمرار، وأكثر من ذلك، لدينا تخصصات لكل جزئية معينة، فالعلم صار بعديًا وليس قبليًا، إذْ على الفيلسوف المعاصر أن يتابع باستمرار بحوث الفيزياء، والطب، والبيولوجيا، والسيكولوجيا، وعلم الأعصاب وغير ذلك، فلا يستطيع الفيلسوف اليوم أن يجلس في بيته ويستنبط من خلال مقولات جاهزة، بل المقولات الجاهزة -وهي كليات- تتغير باستمرار.
العلم الحديث قتل الكليات تمامًا، لذلك ليس دقيقًا البتة مقارنة فيلسوف الحياة المعاصرة بالفلاسفة القدماء وإنزال قدر الطرف الأول عن الآخر، بل أقلب المعادلة بلا حرج، وأقول: الفيلسوف في عصرنا هذا يُعد معجزة إذا حقق شرط الموسوعية وليس الفلاسفة القدماء أكثر عبقرية منا.
لنعود مجددًا لمهمة الفلسفة الأخيرة في القرن الواحد والعشرين. ليس للفلسفة من مهمة اليوم إلا أن تعود بوصفها طريقة عيش أو فنًا للعيش، ويمثل هذا التيار حديثًا عدة فلاسفة: كيركغورد، شوبنهاور، نيتشه، بير هادو، فوكو، وغيرهم، المهم أن الفلسفة بهذا المعنى عليها أن تتعلم -قبل تصدير خطابها الأخلاقي أو الغائي- كيف تستفيد من العلم ولا تنحيه. الفلسفة التي لا تعتمد على العلم هي لا تستحق أن تسمى فلسفة أصلًا. نعم لا يحق للفيلسوف أن يستنبط كما يريد، فعصر الاستنباط والتخمين لم يعد موجودًا ولا يمكن بعثه من جديد، والطريف أن في الغرب اليوم نزعة للدخول في فلسفات شرقية كالهندوسية المعاصرة والبوذية -ويظهر ذلك من خلال انتشار مفاهيم عدة مثل التأمل بالمعنى الشرقي، واليوغا، والكارما والتناسخ، وغير ذلك- هذه النزعة والميل تُثبت حقيقة مهمة، وهي أن الفلسفة الغربية تنازلت منذ القرن الثامن عشر تقريبًا عن كونها فنًا للعيش -باستثناء سبينوزا- هذا التنازل سحب المدونات الرائعة التي تحث على حياة سعيدة كالرواقية والأبيقورية وحتى قبل ذلك الأفلاطونية؛ لذلك اتجه الغرب نحو الشرق الذي لم يتنازل عن كون الفلسفة دارما، أي طريقة عيش، بهذا المعنى للفلسفة نوجّه ضربةً قوية لمن يكتب التاريخ الرسمي للحياة المعاصرة -وأعني الغرب الذي لهم سيادة لا تُنكر- هذه الضربة تكمن في أن فهم الفلسفة بهذا المعنى يُثبت بما لا يدع مجالًا للشك بأن المعجزة اليونانية هراء لا قيمة له؛ لأن الفلسفة كطريقة للعيش وُجدت منذ ولادة الهندوسية، ومن ثم البوذية، وبقيت على حالها حتى اليوم؛ إلا أن بعض المؤرخين كسارتون ومحمد مرحبا ينطلقون من مقولات جاهزة مليئة بالأيديولوجيا لمحاكمة الحضارات الأخرى، مثل تفرقتهم الشهيرة بين النظري والعملي، ومثل مفهوم الكليات، وأن العلم هو العلم بالكلي؛ فطبيعي من ينطلق من هذا المفهوم للفلسفة أن يبخس حق الحضارات الأخرى؛ إلا أن القول بأن الفلسفة فنٌ للعيش يُعيد فتح أبواب مغلقة على عوالم خصبة جدًا.
الخلاصة أن المعنى الأخير للفلسفة هو أنها طريقة وفنٌ للعيش غايتها تحقيق السلام والسعادة، وبهذا المعنى ننقذ الفلسفة من موتها وننقذها من تلك الرؤى المملة التي تحصرها في التحليل اللغوي والمنطقي. على الفيلسوف المعاصر أن يجمع كل ما يمكن، وأن يحترم تغير العلم المستمر، وبذلك عليه أن يُشيد سرديات جديدة تتناسب والعصر الذي نعيش فيه.
أخيرًا أجد أن واحدة من أكثر واجبات الفيلسوف المعاصر هي بناء سرديات تليق بالإنسان المعاصر وتلبي رغباته، على أن يكون الغاية من كل شيء تحقيق السعادة بقدر طاقتنا كبشر، وأن نحترم الأرض والكون الذي نعيش فيه، لذلك تنتهي مهمتي هنا رغم أن كل ما ذُكر يقودني لتفصيل أكثر مثل: ما هي الفلسفة المناسبة لهذا العصر؟ وكيف نفهم الفلسفة كطريقة للعيش السعيد؟ وهناك الطب والطب النفسي؟ وأي فلسفة تقترحها للإنسان المعاصر؟ وغير ذلك الكثير إلا أنني سوف اكتفي هنا بتعبيد الطريق على أمل أن أُكمل ما بدأت.