يقوم سُختنغ (W. A. Suchting 1931 – 1997) بدراسة معضلة المعرفة عند ماركس في كتابه «ماركس والفلسفة: ثلاث دراسات» (Marx and Philosophy: Three Studies). يخصّص الدراسة الأولى لهذه المعضلة حيث يقوم بشرحها ويجادل بأن ماركس يقدّم حلًّا لها، لا بل يلغي المعضلة من أساسها ويجعلها تتلاشى؛ إذْ يقول: «إنّ مسألة ما إذا كانت الحقيقة الموضوعية يمكن أن تُنسَب إلى التفكير البشري ليست مسألةً نظريّةً بل هي مسألةٌ عمليّةٌ» (Marx, Selected Writings 171). في هذه الجملة من «الأطروحات حول فويرباخ»، يطرح ماركس معضلة المعرفة، ويحاول سُختنغ في دراسته تفسير الحلّ العملي الماركسي. إنّ الأبستمولوجيا التقليدية، من رينيه ديكارت (1596- 1650)، إلى إيمانويل كانط (1724 – 1804)، تميّزت بتقديم بعض المعايير العامة والشاملة التي تضمن معرفة الذات (subject) للشيء (object)، وذلك لأنها تنطلق من استقلالية الذات عن الشيء وتسعى إلى ترميم العلاقة بين هذين الطرفين. الحلّ الماركسي، بحسب سُختنغ، هو أنه على الأبستمولوجيا ألّا تنطلق من استقلالية الذات عن الشيء، بل من العلاقة العملية التي تجمعهما. فالمفاهيم التي نستخدمها في العلوم والاقتصاد تنبع من تفاعلاتٍ عمليةٍ بين الذات المعرفية والشيء المعرفي. بعد عرض ما يطرحه سُختنغ، سوف أقدم نقدًا له معتبرًا أنّ تفسيره لماركس يقوم على الفصل بين العمل اليدوي والعمل النظري، بينما يفترض الموقف الماركسي وحدتهما.
معضلة المعرفة
المعرفة تفترض وتستلزم أن يكون هناك حقيقةٌ، والحقيقة تتشكَّل في التمثيل الصحيح الذي تقوم به الذات المعرفية للشيء المعرفي وخصائصه (Suchting 10). الذات تسعى لمعرفة الشيء بحيث أن يكون التمثيل الذهني للشيء متطابقًا مع واقع الشيء، وفي هذا التطابق يكمن مفهوم الحقيقة أو المعرفة الصحيحة. إنّ معضلة المعرفة تظهر في مسألة إيجاد معايير تضمن التطابق بين الشيء ومعرفة الذات للشيء. «يتوجّب على الأبستمولوجيا العامة أن تكون قبلية (a priori)، على الأقل بمعنى ألّا تفترض صحّة أيّ اعتقادٍ خاصٍّ أو نتيجة أيّ استفسارٍ» (Suchting 10). المقصود بالأبستمولوجيا العامة هو البحث عن معايير المعرفة التي تضمن صحة المعرفة ككل، أي بمعزلٍ عن معرفة أيّ شيءٍ خاصٍّ. على سبيل المثال، أبستمولوجيا إيمانويل كانط التي تضع قوانين الفهم، كقانون السببية مثلًا، لتضمن المعرفة الصحيحة للشيء كظاهرةٍ، أيًّا كان هذا الشيء. بالإضافة إلى أبستمولوجيا ديكارت التي تقترح أنّ المعيار الذي يضمن صحّة معرفة الذات للشيء، وهو أن تكون الفكرة عن الشيء واضحةً ومتميّزةً، بغض النظر عمّا هو هذا الشيء تحديدًا. هذا النوع من المعايير العامة للمعرفة التي تُطَبَّق على جميع الأشياء المعرفية، تتّصف به الأبستمولوجيا التقليدية، على حدّ تعبير سُختنغ.
«باختصار، يكون الخيار إمّا الدوغمائية (هناك عناصرٌ معرفيةٌ لا يمكن ضمانها أو تبريرها)، أو الشكوكية (لا يمكن ضمان أو تبرير أيّ تأكيدٍ)» (Suchting 10). في هذه الجملة، يعبّر سُختنغ عن فشل الأبستمولوجيا التقليدية في تقديم حلولٍ مقنعةٍ لمعضلة المعرفة، حيث إن الحلّ الكامن في المعيار العام للمعرفة يوصلنا في نهاية المطاف إلى الشكوكية أو الدوغمائية.
المبدأ الذي يبني عليه سُختنغ هذه الحجّة هو أن المعيار لا يختلف عن أيّ تأكيدٍ أو اعتقادٍ. فكما أنّ صاحب الاعتقاد يقدم تبريرًا له، على الفيلسوف الذي يقدم معيارًا للمعرفة أن يدعمه بتبريرٍ. وإذا أردنا تبرير معيارٍ معيّنٍ، علينا تقديم معيارٍ آخرٍ يثبت صحة المعيار الأول. الخيار الآخر هو إنكار أنّ المعيار الأول بحاجةٍ لتبريرٍ، ورغم أنه لا يمكننا أن نضمن صحته ونبرّرها، علينا أن نتّخذه كمعيارٍ صحيحٍ للمعرفة، وهذا هو الموقف الدوغمائي. أمّا إذا أردنا تبرير كل معيارٍ بمعيارٍ آخرٍ، فسوف نقوم ببناء سلسلةٍ لانهائيةٍ من المعايير التي فيها كلّ معيارٍ يبرّر الذي يسبقه. إنّ هذا التسلسل اللانهائي يعني أنه لا يمكننا تبرير أيّ معيارٍ بما أننا لن نصل إلى معيارٍ ينهي السلسلة ويبرّر كل ما سبقه، وهذا ما قصده سُختنغ بالشكوكية. وفي حال وجدنا معيارًا يوقف السلسلة ويضع حدًّا للا-نهائيّتها، فسنقع مجددًا بالدوغمائية لأننا سنكون قد اعتبرنا أن المعيار الأخير لا يُبرَّر أو لا يحتاج إلى تبريرٍ. وهكذا، يبدو أنه لا يمكن الوصول إلى حلٍّ لمعضلة المعرفة. علمًا بأن من يقدم معيارًا لا يحتاج لتبريرٍ، لا يعتبر أنّ موقفه دوغمائيٌ، لكنه يعتبر أن المعيار يبرر ذاته. بالنسبة إلى سُختنغ، هذا هو موقف ديكارت، كما موقف التجريبيين والماديين الذين يتخذون الأحكام النابعة من التجربة الحسية على أنها صحيحةٌ ولا تحتاج لتبريرٍ.
حلول المعضلة
يعتبر سُختنغ الحلّ التقليدي الأول لمعضلة المعرفة يكمن في المعايير التي تنقسم ما بين العقلانية والتجريبية، حيث إن المعايير العقلانية تعتمد على الذات المعرفية والمعايير التجريبية تعتمد على الشيء المعرفي. بتعبيرٍ آخر، المعايير يمكن أن تنبع من الثقة بالقدرات الفكرية للإنسان، أو من الثقة بتجربته الحسية للشيء.
الحلّ الثاني، يكون بإلغاء الهوّة القائمة بين الذات والشيء، وذلك لأن الفصل بين الذات والشيء يجعلنا بحاجةٍ إلى المعايير المعرفية (Suchting 11). هذا الحلّ يأتي إما في دمج الذات مع الشيء كما عند الفيلسوف هنري برغسون (1941 – 1859)، أو في إنتاج الذات للشيء كما عند كانط. برغسون يرمّم الهوّة بين الذات والشيء عبر الحدس (intuition)، الذي من خلاله تستطيع الذات أن تندمج مع الشيء وعالم الأشياء المتغيّر. لذلك، يصبح لدينا وحدةٌ بين الذات والشيء في نوعٍ من التواصل المباشر بين الذات الإنسانية والعالم. فبما أن هذا العالم يتغير بشكلٍ دائمٍ، على الإنسان أن يندمج مع هذا التغيُّر. أما في فلسفة كانط، فالذات المعرفية تُنتج الشيء كما يظهر لها، أي أنها تقوم بنشاط إنتاج الظواهر. وهذا يعني أن الشيء المعرفي، أي الشيء كما تعرفه الذات، هو نتيجة نشاط الذات. وهذا الإنتاج يعني أن الأشياء كما تظهر للعقل الإنساني تأتي من نشاط هذا العقل، أيّ أن الأشياء كظواهرٍ ليست منفصلةً عن الذات المعرفية. لذلك، إن الذات يمكنها معرفة ما تنتجه، فالشيء أو العالم الخارجي للإنسان ليس غريبًا عنه. على الرغم من أن هناك مصدرًا آخرًا للشيء، وهو الشيء بحدّ ذاته بمعزلٍ عن الذات المعرفية، إلّا أن الذات كمصدرٍ للشيء كما يظاهر لها يجعلها في وحدةٍ معه، وليس في انفصالٍ عنه.
وأخيرًا، الحلّ الثالث، هو لهيجل (1770 – 1831) بحسب سُختنغ، وهو أن الذات المعرفية تشمل وتتضمّن الشيء. يشير سُختنغ إلى الفكرة المطلقة[1] عند هيجل كالذات المطلقة (absolute subject)، ويعتبر أنها نقطة النهاية لمسارٍ من التمايز بين الذات والشيء، وهذه النقطة تعني وحدة الذات والشيء (Suchting 11).
الحلّ الماركسي لمعضلة المعرفة
يرى سُختنغ (Suchting 12) أنه إذا أردنا فهم ما يقصده ماركس في النشاط، العمل، أو الممارسة كحلٍّ لمعضلة المعرفة التي تطرّق لها في الأطروحة الثانية من الأطروحات حول فويرباخ، علينا أن نعود إلى أطروحته الأولى حيث نقرأ الآتي: «إنّ العيب الرئيسي في الفلسفات المادية الموجودة حتى الآن (بما في ذلك مادية فويرباخ)، هو أن الشيء، الواقع، الحسّيّة، يتم تصوّرها فقط في شكل موضوع تأمّلٍ، ولكن ليس كنشاطٍ إنسانيٍّ حسّيٍّ، كممارسةٍ، ليس بشكلٍ ذاتيٍّ» (Marx, Selected Writings 171).
يفترض ماركس أن العلاقة الأساسية التي تربط بين الإنسان وعالمه الخارجي هي العمل. إنّ العمل هو النشاط الإنساني المنتِج الذي يغيّر أشياء العالم ويصنع أشياءً جديدةً. فالأشجار التي نراها من حولنا هناك من زرعها، كما أن البيوت والسدود هناك من بناها، بالإضافة إلى إنتاج معدات وأدوات الزراعة والصناعة والأجهزة الإلكترونية كالحاسوب. لذلك، إنّ واقعية العالم تأتي نتيجة التعديلات التي قامت بها البشرية في العالم، وهذه التعديلات هي نتاج العمل والنشاط الحاصل عبر الأجيال. لكن هذا النشاط لا يغيّر العالم فحسب، بل أيضًا الإنسان، بحيث أنه يكتسب قدراتٍ جديدةً للتعامل مع الأشياء الجديدة والمتغيرة. بكلمات سُختنغ: «أشارت اعتبارات ماركس في مخطوطات العام 1844 في المقام الأول إلى الحالات التي أنتج فيها العمل أنواعًا جديدةً من الأشياء، وبالتالي استدعى قدراتٍ حسّيّةً جديدةً للتعامل معها، كما هو الحال، على سبيل المثال، عندما تستدعي طريقةٌ جديدةٌ لإعداد الطعام حاسةَ تذوّقٍ جديدةٍ، وحاسةَ شمٍّ، وما إلى ذلك من قدراتٍ، كما أنواعٌ جديدةٌ من الموسيقى تستدعي قدراتٍ جديدة للإدراك السمعي، وما إلى ذلك» (Suchting 13).
إنّ هذه العلاقة العملية التي تربط بين الذات والشيء تُظهر لنا أن ليس هناك هوةٌ بين الذات والشيء. فإذا كان كانط يعطي الأولوية في حلّ المعضلة للذات، وبرغسون للشيء، فماركس يعطي الأولوية للعلاقة العلمية التي تجمعهما. وهذا يعود إلى تأثير هيجل على ماركس، بما أنه بالنسبة لهيجل إنّ الذات والشيء طرفان متساويان في علاقةٍ جدليةٍ. لكن الفرق بين هيجل وماركس هو أن هذه العلاقة هي نشاط يقوم به الوعي الإنساني عند هيجل، أما العلاقة عند ماركس يقوم بها الإنسان بقواه الفكرية والجسدية معًا.
يجادل سُختنغ بأن المفاهيم العلمية كالصلابة، الذوبان، والوزن تنبع من العلاقات العملية التي تحدث بين الأشياء أولًا، وبين الأشياء والإنسان ثانيًا، (Suchting 13). مثلًا، نحن نعرف أن الأشياء صلبةٌ لأنها غير قادرةٍ على الاندماج مع أشياءٍ أخرى بمعنى الاختراق، واختبارنا لهذه العلاقة العملية يُنتج مفهوم الصلابة. وهكذا، لم تأتِ هذه المفاهيم من الجهد والإنتاج الفكري وحده، إنما أيضًا من العلاقة العملية بين الإنسان والأشياء. فالذات المعرفية تقوم بإنتاج المفاهيم المناسبة لتمييز الأشياء عن بعضها بحسب العلاقات العملية والتفاعلات المادية بين الأشياء واختبار الإنسان لها. كما أن المفاهيم الاقتصادية تقوم على علاقاتٍ عمليةٍ، فمفهوم المال مثلًا يفترض نشاط تبادل السلع.
إنّ المعضلة الأبستمولوجية تقوم على كيفية تطابق الأشياء مع التمثيلات الذهنية التي تصدرها الذات المعرفية عن الأشياء، لكن الأبستمولوجيا التقليدية تنطلق من استقلالية الأشياء عن الذات المعرفية. إن الموقف الماركسي يوضح بأن تمثيلات الأشياء ليست منفصلةً عن الأشياء، بل هي ناتجةٌ عن العلاقات العملية التي تربط بين الإنسان والعالم. يقارن سُختنغ بين ماركس والأبستمولوجيا التقليدية بقوله إن في حين هذه الأخيرة تعطي الأولوية للعلاقات النظرية، ماركس يعطي الأولوية للعلاقات العملية (Suchting 15). فبالنسبة لماركس، ليس الأمر أن يكون لدى الذات المعرفية مفاهيم وأفكار تُطبَّق على الواقع والأشياء بشكلٍ عمليٍّ، بل أن تُترجَم العلاقات العملية بطريقةٍ نظريةٍ. والأمر الأهم هو أن ليس هناك بالنسبة لماركس من «ذاتٍ»، أو «شيءٍ» كمفهومٍ عامٍ، بل هناك الذات كمنظومة تمثيلاتٍ عن الأشياء تأخذ معناها من طرائق تفاعلها مع الأشياء والتي تتغير مع هذه التفاعلات العملية، كما أن هناك الشيء الخاص الذي يتميّز عن الأشياء الأخرى عبر العلاقات العملية التي تربطه بها.
الممارسة النظرية
هناك معنىً ثانٍ للممارسة عند ماركس بحسب سُختنغ، وهو الممارسة النظرية (theoretical practice) أو ما يسميه أيضًا الإنتاج النظري (theoretical production). يستخرج سُختنغ المعنى الثاني للممارسة من مقدمة كتاب «أُسُس نقد الاقتصاد السياسي»[2] المعروف بجرندريسه (Grundrisse). يستعمل ماركس العبارتين «مادة واقعية»[3] (real concrete)، و- «مادة ذهنية» (mental concrete)، ويعطي سُختنغ تفسيرًا لها (Suchting 18-9). المادة الواقعية هي واقعٌ خاصٌ كسقوط الكرة على الأرض، جلوس القطة على الكرسي، إنتاج سلعةٍ معينةٍ، أو عملية تبادل سلعٍ معينةٍ. أما المادة الذهنية فهي نتاج الجمع بين المفاهيم والأفكار التي تشير إلى العلاقات والخصائص الموجودة في المادة الواقعية. بتعبيرٍ آخرٍ، المادة الذهنية هي التمثيل الذهني لما هو واقعيٌ، بما أنها تعكس العلاقات العملية والخصائص الواقعية للأشياء. لذلك، تفهم الذات المعرفية واقع الشيء عبر إنتاج المادة الذهنية، وعملية الإنتاج هذه هي عملية تجريدٍ للواقع وتحويله إلى تمثيلٍ نظريٍ وذهنيٍ.
يجادل سُختنغ بأن هذا الإنتاج النظري يحمل نمطًا معينًا، فكما أن هناك أنماطًا للإنتاج المادي الاقتصادي، هناك أيضًا أنماطٌ للإنتاج النظري (Suchting 19). المقصود بأنماط الإنتاج النظري هو الطرائق التي يمكن للذات المعرفية أن تفهم من خلالها العالم والأشياء. «لم يصرّح ماركس قط بفكرة “نمط الإنتاج النظري”. لكن الأمر يستحق بذل الجهد لمحاولة رسم هذا الجزء من الصورة» (Suchting 19). يتّخذ سُختنغ مفهوم نمط الإنتاج الاقتصادي عند ماركس ويقوم بمماثلةٍ (analogy) لكي يستنتج مفهوم نمط الإنتاج النظري. وفي هذا، يكون سُختنغ قد قدم نقدًا فلسفيًا لعمل الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير (1990 – 1918) عن الإنتاج المعرفي عند ماركس، معتبرًا بأنه فشل في تثبيت الممثلة ما بين الإنتاج الاقتصادي والإنتاج الفكري النظري.
وهكذا، يطبّق سُختنغ العناصر الخمسة لنمط الإنتاج الاقتصادي على نمط الإنتاج النظري. يشرح سُختنغ النمط الاقتصادي على النحو التالي (Suchting 20): يشكل العنصران الأولان وسائل الإنتاج، وهما المواد الخام التي تكون موجودةً مسبقًا، أي قبل عملية الإنتاج، والأدوات المستخدمة في تحويل هذه المواد خلال عملية الإنتاج. إلى جانب ذلك، العنصر الثالث هو قوى الإنتاج التي تُعرَّف بأنها وسائل الإنتاج المضافة إلى قوة العمل التي تحوّل المواد الخام باستخدام أدوات الإنتاج. بالإضافة إلى ذلك، العنصر الرابع هو الخطة التي يتم بموجبها سير الإنتاج، أما الخامس فهو المُنتَج أو السلعة.
بالمقابل، يفسر سُختنغ النمط النظري على النحو التالي (Suchting 22): إذا أخذنا على سبيل المثال أننا نريد معرفة وزن شيءٍ ما من خلال استعمال الميزان التقليدي، فلنرى ما هي عناصر هذه المعرفة. العنصر الأول للمعرفة هو المواد الخام، أيّ الشيء الواقعي الذي تريد الذات معرفته، وفي المثل الذي أخذناه هو الشيء الذي نريد معرفة وزنه. العنصر الثاني هو أدوات الإنتاج التي يتم تطبيقها على العنصر الأول، أيّ الميزان وعناصر المعرفة الموجودة مسبقًا مثل قوانين الفيزياء والأساليب الإحصائية والرياضياتية. العنصر الثالث هو قوة العمل التي تستخدم لتطبيق العنصر الثاني على الأول، أي وسائل الإنتاج على المواد الخام. بتعبيرٍ آخرٍ، قوة العمل الفنية أو التقنية اللازمة لإعداد العملية، وقوة العمل اللازمة لإجراء الحسابات والاستنتاجات. العنصر الرابع هو المخطط العام لعملية القياس، أما الخامس فهو المُنتَج، والذي يمثل هنا بيانًا عن وزن الجسم المعني، ويمكن وصفه بشكلٍ عام بأنه حلٌّ أو إجابةٌ لمشكلةٍ ما.
جديرٌ بالذكر أنه بالنسبة لسُختنغ تنقسم العلاقات بين العوامل الخمسة لنمط الإنتاج الاقتصادي إلى علاقاتٍ اجتماعيةٍ وعلاقاتٍ تقنيةٍ. يعرّف سُختنغ مثل هذه العلاقات الاجتماعية على أنها «علاقات السيطرة على عوامل الإنتاج (وبالتالي على المُنتَج) من قبل وكلاء الإنتاج» (Suchting 20). فإن علاقات الإنتاج الطبقية هي علاقات الإنتاج الاجتماعية، على سبيل المثال، مجموعة العلاقات الطبقية بين الرأسماليين والبروليتاريا في النظام الرأسمالي. إلى جانب ذلك، يعرّف العلاقات التقنية على أنها «العلاقات بين العوامل الناتجة عن العلاقات الاجتماعية ضمن قيود الضرورات الموضوعية الطبيعية لعملية الإنتاج نفسها» (Suchting 20). وهذا يعني أن العلاقات التقنية هي العلاقات بين المنتجات، على سبيل المثال، علاقات التبادل بين السلع.
نقد سُختنغ
يميّز سُختنغ بين النمط الاقتصادي والنمط النظري للإنتاج، وكأنهما نمطان منفصلان عن بعضهما ويحتاجان إلى مماثلةٍ بينهما. يُعتبر الإنتاج النظري نشاطًا عقليًا، بينما الإنتاج الاقتصادي يُعتبر نشاطًا يدويًا. لم يوضح سُختنغ ما إذا كانت هناك وحدةٌ بين النشاط الفكري والنشاط اليدوي، كما لو كانت هذه الوحدة غير ضروريةٍ لحلّ معضلة المعرفة، بينما أعتقد أنها كذلك. فإذا كان هناك فصلٌ بين هذه الأنشطة، فسيكون هناك فصلٌ بين ما هو نظريٌ وما هو ماديٌ. على سبيل المثال، إذا كان النشاط اليدوي ينتج أشياءً ملموسةً بينما ينتج النشاط الفكري بشكلٍ منفصلٍ النظريات المعرفية، فسيكون هناك فصلٌ بين الذات التي تنتج نظريًا والذات التي تنتج يدويًا، وبين الأشياء المنتَجة عقليًا والأشياء المنتَجة يدويًا. إذا كان هناك فصلٌ في النشاط البشري بين ما هو عقليٌ وما هو يدويٌ، فلا يمكن أن يكون النشاط أو الممارسة مصدرًا للوحدة بين الذات والشيء. فإذا كان لا بدّ للنشاط الإنساني المنتج أن يكون مصدرًا لوحدة الذات والشيء، فيجب أن تكون هناك وحدةٌ بين الأنشطة الذهنية واليدوية. وذلك لأن على مصدر الوحدة أن يكون واحدًا غير منقسمٍ على ذاته.
«العمل الوحيد الذي يعرفه هيجل ويعترف به هو العمل العقلي المجرد» (Marx, Manuscripts 131). في هذه الجملة، ينتقد ماركس هيجل بأنه يتصور العمل كنشاطٍ عقليٍ للوعي فقط. ومع ذلك، لا يعني ماركس أن النشاط يدويٌ فقط، ولكنه يقصد بأن هذا النشاط عقليٌ ويدويٌ في الوقت ذاته. من ناحيةٍ أخرى، يعتبر ماركس أنّ المعرفة هي نشاط الوعي الإنساني: «الطريقة التي يكون فيها الوعي، والتي يكون فيها الشيء بالنسبة له، هي المعرفة. المعرفة هي عملها الوحيد» (Marx, Manuscripts 137). وهكذا، بما أن الإنسان كائنٌ حسّيٌّ يتمتع بالوعي، يتضمن نشاطه كلًا من نشاط جسده ونشاط وعيه. ليس هناك فصلٌ بينهما: النشاط واحدٌ وله جانبان، الجانب العقلي والجانب اليدوي الجسدي. على سبيل المثال، يجلس الفيلسوف على الكرسي ويكتب ويتحدث، وهذه أنشطةٌ جسديةٌ ويدويةٌ، فلا يقتصر نشاطه الإنتاجي على عمله الفكري النظري. ويقوم المزارع بنشاطٍ عقليٍ عندما يفكر في نوع النباتات المناسب لنوعٍ معين من التربة بحسب الموسم، ولا يقتصر نشاطه الإنتاجي على عمله اليدوي. لا يمكن للإنتاج إلا أن يقوم على النشاط الفكري – اليدوي.
لذا، فإن مفهوم النشاط الماركسي يتضمن النشاط الفكري، وليس هناك ضرورةٌ للاعتقاد بأن ماركس كان فقط يقصد المعنى الحسّيّ للنشاط. هذا الاعتقاد دفع بسُختنغ إلى البحث عن المعنى الثاني للنشاط في كتابات ماركس والتعامل مع المعنيين على أنهما مختلفان عن بعضهما، في حين أن ماركس لا يقصد فصلهما. لا يمكن فصل النشاط الفكري عن النشاط اليدوي لأن الوعي لا يمكن فصله عن الإنسان الواقعي الحسّيّ. يمكن أن تكون منتجات هذا النشاط أشياءً محسوسةً مثل الطاولة، أو أشياءً غير محسوسةٍ مثل القيمة أو رأس المال، أو أشياءً من التجريد الفكري مثل مفهوم الجمال. إنّ إنتاج مفهوم الجمال يعتمد بشكلٍ أساسيٍ على الوعي، وهذا ما يجعله مختلفًا عن مفهوم المال الذي لا يعتمد بشكلٍ أساسيٍ على الوعي الإنساني، بل على عملية الإنتاج الاقتصادي والتبادل. لكن هذا لا يعني أن إنتاج مفهوم الجمال لا يتطلب نشاطًا جسديًا كمشاهدة مناظرٍ طبيعيةٍ جميلةٍ، كما لا يعني أن النشاط الذي ينتج المال لا يشمل نشاط الوعي. أقصد أنه من الممكن أن تختلف أنواع نتاج النشاط الإنساني، ولكن هذا لا يعني أنه يمكننا فصل نشاط كلّ نوعٍ عن الآخر كالفصل بين النشاط الذهني واليدوي.
صحيحٌ أنه يمكننا أن نرى في كتابات ماركس تقسيمًا للعمل ما بين يدويٍ وفكريٍ. بكلمات ماركس: «يصبح تقسيم العمل حقًا كذلك فقط من اللحظة التي يظهر فيها تقسيم للعمل اليدوي والعقلي. من هذه اللحظة فصاعدًا، يمكن للوعي أن يملّق نفسه حقًا بأنه شيءٌ آخرٌ غير وعي الممارسة القائمة، وأنه يمثل حقًا شيئًا دون تمثيل شيءٍ واقعيٍ؛ من الآن فصاعدًا، يكون الوعي في وضعٍ يسمح له بالتحرر من العالم والمضي قدمًا في تشكيل النظرية “النقية”، اللاهوت، الفلسفة، والأخلاق، إلخ» (Marx, Selected Writings 184).
إنّ هذا التقسيم الاجتماعي للعمل يعود إلى المجتمع اليوناني حيث كان العبيد يقومون بالعمل اليدوي، ويتلقى المفكر والفيلسوف الإجلال والاحترام لأنه يقوم بالعمل الفكري. وكما يوضح ماركس، إنّ الوعي يخدع ذاته ويظن أنه من الممكن أن يكون نشيطًا بشكلٍ مستقلٍ عما يسميه ماركس «وعي الممارسة». لذلك، فإن تقسيم العمل اليدوي عن العمل الفكري بهذا المعنى الاجتماعي لا يتضمن فعليًا فصل النشاط اليدوي عن الفكري. فالعمل الفكري، كعمل الفيلسوف مثلًا، هو تصنيفٌ اجتماعيٌ للعمل الذي يتضمن نشاطًا فكريًا أكثر مما يتضمن نشاطًا يدويًا. بالمقابل، العمل اليدوي، كعمل المزارع، هو تصنيفٌ اجتماعيٌ للعمل الذي يتضمن نشاطًا يدويًا أكثر مما يتضمن نشاطًا فكريًا.
الخاتمة
إنّ سُختنغ، كما لوي ألتوسير، لا يقدّر مدى تأثير هيجل على ماركس. ولهذا السبب، يفصل سُختنغ ما بين النشاط الفكري والنشاط اليدوي، أو على الأقل لا يرى أهمية وحدتهما. إنّ النقد الماركسي لهيجل[4] يقوم على أنه لا يجب فصل نشاط الوعي عن النشاط الإنساني ككل، ما يشمل النشاط اليدوي. فالمثالية الألمانية تختزل الإنسان في وعيه، وتختزل النشاط الإنساني في نشاط الوعي، وهذا ما يرفضه ماركس. إنّ نشاط الوعي عليه أن يكون بوحدةٍ مع النشاط اليدوي الجسدي لكي يصبح الحلّ الهيجلي لمعضلة المعرفة واقعيًا. بالنسبة لهيجل، لسنا بحاجةٍ إلى معيارٍ عام للمعرفة لأن المعرفة نشاطٌ يُنتج جوهر الشيء كمعيارٍ داخليٍ خاصٍ للشيء المعرفي المحدد. لكن الذات، الشيء، والنشاط عند هيجل ليست واقعيةً، بل هي مجردةٌ من واقعيتها، بحسب النقد الماركسي. لذلك، الحلّ الماركسي يبدأ من وحدة نشاط الوعي مع النشاط الانساني ككل، ووحدة الإنسان كذاتٍ معرفيةٍ مع الإنسان ككل، أي بجسده وعقله، وطبعًا وحدة الشيء كما يظهر للوعي مع الشيء الحسّيّ الواقعي.
من جهةٍ أخرى، أدخل هيجل على النقاش الأبستمولوجي أهمية الطابع الاجتماعي والجماعي للنشاط الفكري، ما يعني أن المعرفة تُبنى جماعيًا واجتماعيًا. لذلك، بما أن معضلة المعرفة تظهر في الشكوكية، إنّ الطابع الاجتماعي للنشاط الإنساني الذي يتضمن نشاط الوعي، هو الحلّ للمعضلة. فإذا عزل الإنسان الفرد ذاته عن المجتمع، وإذا نظر إلى الطاولة وشكّ بوجودها وبتطابقها مع تمثيله الذهني لها، فهذا أمرٌ منطقيٌ بما أنه يعتمد فقط على إدراكه لمعرفة الطاولة. لكن الموقف الماركسي يفيد بأنه لا يجب عزل الإنسان والطاولة عن المجتمع. فالنجار الذي بنشاطه يبني الطاولة، يبني في الوقت ذاته معرفةً عن الطاولة. إنّ الإنتاج الاجتماعي للطاولات يبني مفهوم الطاولة، كما أن استخدام الطاولة في المجتمع يبني لها قيمةً استخداميةً تتداخل مع مفهومها.
لم يوضح سُختنغ بشكلٍ كافٍ كيف أن الممارسة أو النشاط المنتِج يقدم حلًّا لمعضلة المعرفة. إنّ النشاط الإنساني كمصدرٍ لوحدة الذات والشيء يعني عمليًّا أن الشكّ بوجود الطاولة، أو الشيء بشكلٍ عام، غير مبرَّرٍ إذا كان يعتمد فقط على الشكّ بالقدرات الفكرية أو الإدراكية للإنسان. هذا لأن معرفة الطاولة لا تعتمد حصرًا على الإدراك، ولا حتى على إنسانٍ ما أو مجموعةٍ معينةٍ من البشر، ولا على طاولةٍ محددةٍ. إنّ مفهوم الطاولة يُبنى جماعيًا واجتماعيًا ويعتمد على النشاط الإنساني غير المختزَل في نشاط الوعي الإدراكي، ومعرفتنا بالطاولة تبدأ من الممارسة الاجتماعية المنتجة التي تبني الطاولات والتي تعتمد على القيمة الاستخدامية الاجتماعية للطاولة. إذا فصلنا المعرفة كإدراكٍ عن المعرفة كنشاطٍ، وإذا فصلنا المعرفة كنشاطٍ فكريٍ عن النشاط اليدوي، نقع في الشكوكية ونرى أن معضلة المعرفة لا حلّ لها.
المراجع:
Marx, Karl. Economic and Philosophic Manuscripts of 1844. Progress Publishers, Moscow, 1974.
—. Karl Marx: Selected Writings. Edited by Davis McLellan, Second ed., Oxford University Press, Oxford, 2000.
Suchting, W. A. Marx and Philosophy: Three Studies. Macmillan, 1986.
[1] الفكرة المطلقة عند هيجل تأتي في نهاية عمله عن المنطق:
Hegel, Georg W. F., and William A. Wallace. The Logic of Hegel: Translated from the Encyclopaedia of the Philosophical Sciences. Clarendon Press, Oxford, 1892.
[2] (Marx, Selected Writings 379 – 423)
[3] المادة هنا تدل على شيءٍ ماديٍ (concrete) بمعنى أنه غير مجردٍ (abstract)، أي أنه موجودٌ في الزمان والمكان. لكن هذا لا يعني أن يكون شيئًا ملموسًا، فبالنسبة لماركس، القيمة (value)، على سبيل المثال، هي شيءٌ ماديٌ موجودٌ في الزمان والمكان كعنصرٍ من الواقع الاجتماعي على الرغم من أنها غير ملموسةٍ.
[4] (Marx, Manuscripts 124-47)