لقد أمضيت سنوات طفولتي وأنا أسمع من الإعلانات أنّ «السعادة هي سيجار هاملت». شاعت هذه الإعلانات بدءًا من عام ١٩٦٦حتّى عام ١٩٩١، حينها تمّ حظر إعلانات التبغ عن تلفزيون المملكة المتّحدة. على الرغم من كلّ ما قرأته وكتبته في موضوع السعادة، كلّما سألني أحدهم: «ما السعادة؟»، أجد نفسي لا إراديا أفكّر بهذا الإعلان. أحيانًا أجيب سريعًا: «السعادة هي سيجار هاملت». ولكن في بعض الأحيان أتراجع وألجأ إلى الاقتباس من أغنية كين دود، سعادة.
دعونا نفكّر بجديّة، هل تعدّ «السعادة هي سيجار هاملت» إجابةً جيّدة عن سؤال: «ما السعادة؟» أم هي إجابة سيّئة؟ يلقى هذا السؤال الدائم مجموعة واسعة من الإجابات على مرّ القرون، ويبدو أنّه من غير المحتمل أن يتّفق الجميع على إجابة واحدة. ربّما تكون «السعادة هي سيجار هاملت» إجابة جيّدة مثل أي إجابة أخرى. بعبارة أوضح، يمكن أن تسلّط هذه الإجابة الضوء على الإشكالية الغامضة المرتبطة بماهيّة السعادة، تلك الإشكاليّة الغارقة في ضباب الارتباك، مثل سحابة الدخان المتصاعدة من السيجار.
في الواقع، لا نحتاج لأن نكون انهزاميّين للغاية كالرجال في إعلان شركة هاملت، حيث نراهم مستسلمين لبراثن التدخين، بينما حياتهم وأيامهم تعجّ بالخراب. لقد قطع الفلاسفة خطوات واسعة في تعريف السعادة ولا يمكن حصر إجاباتهم أو اختزالها بمجرّد شعارات بسيطة وجذّابة ترضي عامّة الناس.
السعادة النفعية
إذا أردنا أن نقدّم لمحة موجزة للغاية عن المواقف الفلسفيّة الرئيسة فيما يتعلق بطبيعة السعادة، هناك أسوأ من البدء بالسيجار. تدخين السيجار هو بلا شكّ متعة للذين يحبّون تلك العادة.
مع ذلك، لا يمكننا أن نعدّ التدخين متعة غير ملوّثة. ناهيك عن تسبّبها برائحة فم كريهة، وأسنان بنية، وأطراف أصابع صفراء، وملابس ذات رائحة كريهة ووجه شاحب، وهو إلى ذلك يعدّ مضرًّا للغاية بصحّتك. أشار العديد من الفلاسفة، إلى أن اللذّة سيف ذي حدينِ. فغالبًا ما ندفع ثمنًا مقابل الانغماس بالملذّات؛ خذ مثلًا الصداع بعد شرب الكحول، أو حروق الشمس، أو الأمراض المنقولة جنسيا، أو الإدمان، أو السمنة، أو الفقر، أو المرض العضال.
تعدّ الملذّات مؤقتة فعند إشباعها نشعر بالحزن؛ فكلّما حصلنا على المزيد من اللذّة، كلما أردنا أكثر. وهذه الرحلة الدؤوبة للبحث عن المتعة تقودنا نحو إدمان جارف وتعاسة عميقة. إدمان المتعة إذن -أو سلسلة الملذّات الطويلة- ليست مثل السعادة؛ لأنّها لا تستطيع أن تمنحنا الشعور الدائم بالرفاهية الذي هو من مظاهر السعادة الحقيقية. السعي وراء الملذّات يمكن أن يمنعنا من الوصول إلى تحقيق الشعور بالرفاهية المستدامة. وهذا ما تعنيه عبارة “البحث عن حياة اللذّة”.
بالنسبة إلى الفلاسفة النفعيّين، فقد كانوا راضين بالمساواة بين اللذّة والسعادة، وهذا ما أسهم في تطوّر نظرتهم لطبيعة اللذّة ومعناها. يرى مؤسس النفعيّة، جيريمي بينثام (١٧٤٨-١٨٣٢) أنّ البشر مطبوعون بالانقياد نفسيا نحو اللذّة، لكنه رأى أيضًا أنّ عظمة اللذّة، أو بالأحرى الألم، لا تكمن في مسألة شدّتها فقط. إذ لا يمكن أن نوضح أنّ اللذّة هي ظاهرة معقّدة ولا ترتقي إلى السعادة إلّا إذا نظرنا إلى التنوع والفروقات الدقيقة بين المفهومينِ. لاحتساب قيمة اللذّة أو صناعة السعادة في أيّ تجربة، قام بينثام بصياغة معادلة تقيس اللذّة أو المتعة. تعتمد معادلة بينثام ليس على شدّة المتعة أو الألم وحسب، بل أيضًا على مدّتهما، وعلى يقين أو احتمال حدوثهما، وعلى مدّة التجاور أي مدى قرب حدوث اللذّة أو الألم، فضلًا عن الخصوبة؛ أي احتمالية حدوث لذّات متتالية أو آلام متتالية. والأهمّ من ذلك، يعتمد حساب اللذّة أيضًا على معيار النقاوة ، أي احتمال أن تتبع اللذّةُ الألم أو العكس.
يتبيّن بوضوح أنّ بعض الملذّات تتبعها آلام، ونحن ندرك تمامًا المثل القائل: كلّ شيء له ثمنه، وهذا ثمن اللذّة. يعتمد حساب بينثام أيضًا على مدى التأثير؛ أي عدد الأشخاص الذين سيتأثرون بالمتعة أو الألم. يمكن مثلًا الاستمتاع بفنجان شاي وبقراءة كتاب جيد يوميًا، وهذا لا يعدّ من الملذات الأعلى، إذ يمكن ممارستها يوميًا ولعدّة مرّات من دون إلحاق الأذى بالنفس أو بالآخرين. في المقابل، إنّ حياة الفسق والتعاطي تؤثر عاجلًا أو آجلًا وبلا شكّ على الصحّة، والعلاقات الاجتماعيّة، والشؤون المالية.
على الرغم من أنّ حساب بينثام يزيد من معرفتنا لماهية اللذّة، إلّا أنه غالبًا ما يتعرّض للانتقاد بسبب تركيزه على قياس اللذّة من الناحية الكمية، مغفلًا الناحية النوعية. لقد سد هذه الثغرة تلميذه وابنه الروحي جون ستيوارت ميل (1806-1873)، الذي ميّز تمييزًا واضحًا بين الملذات الأعلى والأدنى. الملذّات الأدنى هي التي قد يستمتع بها أي حيوان كالطعام، والدفء، والجنس، والأمان وما إلى ذلك. أمّا الملذات الأعلى، فهي تلك التي تميّز الإنسان عن سائر الكائنات الحيّة. خذ مثلًا، المطالعة، والاستماع للموسيقى، وتقدير الفنون، والمشاركة في محادثات محفّزة.
ويضيف ميل إلى هذه المعايير، حلّ المشكلات، ومواجهة التحدّيات، وتحقيق الإنجازات الإيجابيّة من أي نوع كانت، ودرجات الحرّيّة والاستقلال الذاتيّ. يقول ميل: إنّ أولئك الذين يدركون الملذات العليا والأدنى يعطون «تفضيلًا ملحوظًا لطريقة الوجود التي توظّف قدراتهم العليا» (النفعية، 1863، ص ١٣٩). في هذا الصدد، قد نظنّ أن حياة الجنس والأكل تبدو رائعة، إلّا أنّ معظمنا لا يرغب في التخلّص من القدرة على إشباع الملذات العليا في مقابل التشبه بالحيوان أو الوحوش أو الحمقى. إذ إنّ إشباع الملذّات الدنيا يجعلنا نخسر ذواتنا الحقيقيّة، وعزيمتنا، وطموحنا وتقديرنا الفنّي وضميرنا. من هنا تأتي مقولة ميل الشهيرة: «الأفضل أن يكون الكائن إنسانًا مستاءً وغير راض لا خنزيرًا راضيًا. الأفضل أن يكون سقراط المستاء ولا يكون مغفّلًا راضيًا» (ص140).
من خلال تركيزه على نوعية الملذّات، يمكن القول إنّ ميل يوسّع مفهوم اللذّة بحيث يجعله أقرب إلى ما يعدّه الناس «سعادة». لا يمكن أن نكون سعداء إلّا إذا أشبعنا مجموعة واسعة من الملذّات الأعلى والأدنى؛ لذا من الواضح أنّنا بحاجة لاختبار بعض الملذّات الأدنى، لكيلا نشعر أنّنا بلا مأوى أو جائعين. عدد قليل من الناس، هذا إن وجدوا، نراهم راضين عن حالة الفقر المادّيّة الشديدة التي يختبرونها. ومع ذلك، من أجل تحقيق إمكاناتنا القصوى ولكي نكون بشرًا حقيقيّين سعداء، مستفيدين من أقصى درجات التعقّل، نحتاج إلى إشباع الملذّات العليا والتي تسهم في تمرين قدراتنا العليا وترضي تاليًا مشاعرنا الأكثر حساسية.
هذه القراءة للوضعية النفعية تجعلها قريبة من نظرية أرسطو عن السعادة البشرية، التي تضمّ في جوهرها فكرة ازدهار الإنسان، أو اليودامونيا بحسب التعبير اليونانيّ (“الروح الطيّبة”).
السعادة الأرسطالية
يبدو أنّ معظم الفلاسفة الكبار هم في بحث دائم عن نظريّة أخلاقيّة، وأرسطو كذلك (٣٢٢-٣٨٤ ق.م). تناول أرسطو بشكل واسع موضوع الأخلاق، وأشهر أعماله في هذا المجال الأخلاق النيقوماخيّة التي كتبها لابنه نيقوماخوس. يكشف لنا أرسطو في هذا العمل كيف ينبغي للناس أن يتصرّفوا في جميع مجالات حياتهم من أجل الوصول إلى تحقيق الازدهار، وتاليًا السعادة الحقيقيّة، مستخدمين طاقاتهم القصوى. في الأخلاق النيقوماخية، هناك قول شهير لأرسطو: «طائر سنونو واحد لا يجعل من الفصل صيفًا. وبالمثل لا يمكن ليوم واحد، أو لبرهة قليلة أن تجعل الإنسان سعيدًا ومحظوظًا»(Bk. 1, 1098a18) .
يشير أرسطو هنا إلى نقطة مهمّة هي أنّ السعادة ليست مجرّد إحساس عابر. فلا يمكنني الادّعاء بأنّ الصيف قد حلّ بمجرّد أنّي رأيت طائر سنونو واحدًا يحلّق في السماء، ولا أستطيع أن أدّعي أنني سعيد لأنّني أختبر الآن لذّة آنية. يؤكّد أرسطو بحرص، مثل أستاذه أفلاطون، أنّ السعادة الحقيقية والاستيفاء يختلفان عن اللذّة. وهذا صحيح، إذ يمكن للإنسان أن يسعد بأشياء كثيرة، ولكن هذه السعادة ليست مرادفة للذّة. على عكس ذلك، إنّ السعي المستمرّ وراء اللذّة يقودنا إلى حالة من عدم الرضى؛ لأنّ الإنسان لا يحصل دائمًا على ما يريد. فاللذّة المفرطة تؤدّي إلى الألم. لذا، فإنّ السعادة، بالنسبة إلى أرسطو، ليست بما يشعر به الإنسان، أو ما يناله، لا بل تكمن في طريقة الوجود، أي طريقة عيش الحياة.
كان أفلاطون (٣٤٧-٤٢٧ق.م) زاهدًا في حياته؛ إذ رأى أنّ السعادة الحقيقية يمكن تحقيقها إذا عكف المرء على حياة التأمّل الفلسفيّ/الروحيّ متجنّبًا اللذّة-الألم المتدفقينِ من الانغماس في الماديات. يقدّر أرسطو قيمة التأمّل ويرى أنّه سمة أساسية في حياة الشخص المزدهر، ولكنه يدعو أيضًا إلى «عيش الحياة لأقصى الحدود» من خلال بناء وجود متوازن، وألّا يحرم نفسه مفاضلًا شيئًا ما على حساب شيء آخر. بالنسبة إلى أرسطو، الحياة الناجحة هي الحياة المتوازنة. في عالم أرسطو، يمكن بسهولة أن يكون ينكر المرء ذاته أمّا في عالم أفلاطون، فإنكار الذات لأمر لا يتحقّق بسهولة.
يعدّ أرسطو فيلسوفًا غائيًّا؛ إنّه يعتقد أنّ كل شيء في الطبيعة له غاية أو هدف أو مقصد. فعلى سبيل المثال، هدف ثمرة البلوط هو أن تصبح شجرة باسقة، لكي تنتج بالنهاية بلوطًا صحيًّا. نستنتج أنّه لكي يحققّ الشيء غايته يجب عليه أن يزدهر. يسعى أرسطو في «أخلاق الفضيلة» إلى تحديد السمات الشخصية التي تسهّل ازدهار الإنسان، وتمكّنه من تكوين حياة كاملة وجديرة بالاهتمام وناجحة ومرضية، هذه الفضائل تؤدّي إلى حالة مستدامة من الرضا العميق الذي أطلق عليه الإغريق القدامى لفظ يودايمونيا. هذه الفضائل التي تسهّل ازدهار المرء تتوافق مع ما يسمّيه أرسطو المتوسط الذهبيّ. للوصول إلى المتوسّط الذهبيّ على الإنسان تحقيق توازن بين كيفية التعامل مع حياته وتعامله مع الآخرين. إذا كان المرء قد أرخى الحبل جدًا، أو شدّه كثيرًا، فستكون حياته مضطربة تمامًا مثل نغمات قيثارة بلا دوزان.
تتشابه فكرة المتوسط الذهبيّ إلى حدّ كبير مع الاعتدال البوذيّ، وفي الواقع إنّ بوذا هو من يشبّه المرء بالآلة الموسيقية والحياة باللّحن الذي يعزف. اتّباع الطريق الوسطيّ هو السعي لتحقيق التناغم والانسجام، والوفاق، والتوازن، والوحدة في جميع جوانب حياة المرء وشخصيّته. يمكن للمرء أن يختار عمليًّا وأخلاقيًا طريقًا أسوأ بكثير في حياته من أن يمضي في الطريق البوذيّ ومحطّاته: الواقعية، والالتزام، واللّباقة، والاحترام، واللياقة، والحماس، واليقظة، والتركيز.
قد يرى أرسطو أن هذه الفضائل البوذية تتعارض مع المتوسط الذهبي. على سبيل المثال، إن شخصًا واقعيًا يمكن أن يكون معيار الاعتدال لديه تناغم بين التشاؤم المفرط للغاية والسخرية من الحياة وبين التفاؤل المفرط في المثالية. الشخص الواقعي يستفيد من ظروفه وفرصه أكثر من الاثنين الآخرين. لنأخذ مثالًا آخر، تكمن فضيلة الكرم بين نقص الدناءة والإفراط في الإسراف. إن الشخص البخيل يكرهه الآخرون، ويتلقى القليل من المساعدة، ما يؤدي إلى فشله في توفير موارد حياته اليومية بشكل مناسب. من جهة أخرى، فإنّ الشخص الكريم الذي يلقي بأمواله بطريقة عشوائية على من حوله سيتعرّض إلى الاستغلال وسيصل إلى مرحلة لن يعود قادرًا بعدها على إعالة نفسه ومن حوله. الشخص الذي يبحث عن المتوسط الذهبيّ للكرم سيكون محبوبًا ومحترمًا، وسيجد لذّة في إرضاء الناس، وسيبقى يكافح من أجل أن يمنع نفسه ومن يعولهم أن يصيروا عبئًا يثقل كاهل الآخرين، زد على ذلك أنّه سيكون قادرًا على طلب المساعدة متى احتاج إليها.
يدرك أرسطو أن الكرم، أو أيّ فضيلة أخرى تعتمد على ظروف الفرد الشخصيّة: ما يعدّ كرمًا بالنسبة إلى رجل غنيّ هو إسرافٌ من وجهة نظر رجل فقير، وهكذا دواليك. نقش اليونانيون في معبد أبوّلو في دلفي الأقوال الحكميّة المأثورة «اعرف نفسك» و «لا تفرّط بشيء»، وكان من المفهوم على نطاق واسع في ثقافة اليونانييّن أن على كلّ فرد أن يستخدم حكمته ومعرفته الذاتيّة في سبيل إدراك ما هو الوسط السعيد لديه. بعض الناس يستطيعون شرب الكحول أكثر من غيرهم، آخرون لديهم قدرات متفوّقة في التعامل مع المواقف الخطرة والصعبة، كما أنّ بعض الناس لديهم بنية جسديّة قوية في طبيعتها. لقد حصلنا على العديد من الفرص بالحياة سواء بالصدفة أو من خلال العناية الإلهيّة إلّا أنّ السؤال الذي يجدر بنا طرحه: هل تعاملنا بحكمة مع هذه الفرص أمر يضمن لنا السعادة؟
نظرية أرسطو الأخلاقيّة ليست كتاب أحكام وقواعد، يطالب بدوغمائيّة اتّخاذ سلوك ما ونبذ آخر، بل العكس فهو دليل فلسفيّ وعمليّ عامّ عن الحياة يدعو كل فرد إلى تقييم شخصيّته وظروفه بطريقة ذكيّة وفريدة حتّى يتمكّن من أن يتصرّف بطريقة معتدلة محقّقًا السعادة الّتي يرغب بها.
النظر عبر عدسةٍ ضبابيّة
كانت نصيحة جيريمي بنثام لفتاة صغيرة، «اصنعي ما استطعت من السعادة، وامحي كل البؤس. كلّ يوم سيدعوك، وسيتيح لكِ إضافة شيء من المتعة على حياة الآخرين، أو التقليل من آلامهم» (١٨٣٠، جيريمي بنثام، نقلها أثموس ستراديس، ٢٠٢١)
أخيرًا، دعونا نعود إلى ذلك السيجار الذي ربّما احترق الآن… قد لا يكون تدخين السيجار أو السجائر العادية أو الغليون أو السجائر الإلكترونية لذّة أدنى من اللذّات العليا، نظرًا لوجود إشباع نفسيّ وتأمّليّ في التدخين لا يمكن للحيوانات اكتشافه. الحيوانات لا تدخن ما لم تُجبر، ولا حتى مصانع التبغ المتوحشة يمكن أن تدّعي أن كلاب البيغلز قد استمتعت بعادة الثمانين يومًا كلّ يوم سيجارة، مع العلم أن القرود أجبرت على إدمان النيكوتين. قد يكون التدخين أحد الملذّات الجسدية الأدنى التي أسهمت الثقافة بترقيتها إلى الملذّات العليا، تمامًا كما جعلت بعض الأطباق أطباقًا فاخرة، أو كما جعلت الجنس ممارسة الحبّ. من المؤكّد أنّ التمييز بين الملذّات الأعلى والأدنى ليس دائمًا واضحًا.
تدخين السيجار -من حين لآخر مع العلم أنّه يؤدّي إلى اصفرار الأسنان أو سرطان- قد يكون جزءًا من مفهوم الحياة السعيدة الّتي يبحث عنها بعض الأشخاص. هل سيسعد وينستون تشرشل إذا حرم من التدخين بشكل قاطع؟ بالطبع، لن يكن تشرشل رجلًا سعيدًا حقا في هذا الصدد، إذ كان يعاني من الاكتئاب. لو كان سعيدًا حقا فلربّما كان بإمكانه العيش بلا تدخين. يجادل البعض بأنّ الشخص القنوع بحق يمكنه الاستغناء عن معظم الأشياء؛ لأنّ السعادة الحقيقية هي الرضا بالقليل. نكرّر مرّة ثانية، أن ترضى بما هو مبالغ في القلّة يعني أن تكون أقرب إلى وحش ميل أو إلى الأحمق من تشرشل وإنجازاته الضخمة.
تدخين السيجار يمكن أن يكون جانبًا بسيطًا يجعل بعض الناس سعداء، ولكنّه لن يُشعر المرء بالرضا، إنّ التدخين وحده لا يمكن أن يشبع رغبات الإنسان. إذا ادّعى شخص ما أنّه لا يكون سعيدًا إلّا في أثناء تدخين السيجار، فهو يستخدم تعريفًا غير كافٍ للسعادة، تعريف يرفضه ميل، وأرسطو، وبوذا. إذا كان تدخين السيجار هو الشيء الوحيد الذي يستمتع به الشخص في الحياة، فربما يكون شغفه بالنيكوتين قد طغى على قدرته على الاستمتاع بأيّ شيء آخر، وسيفشل حتمًا في أن يكون شخصًا مرنًا وواقعيًّا. بحسب أرسطو، لقد فشل هذا الشخص في تحقيق الازدهار، وهو تاليًا ليس سعيدًا. لذلك علينا أن نعود إلى الشعار الإعلانيّ الرائع أنّ السعادة ليست سيجار هاملت.
من عدد “السعادة” من مجلة (الفلسفة الآن) حسب اتفاقية خاصة ترجمة خاصة لمؤسسة معنى.