مقالات

84 عامًا على «الغثيان»: دروسٌ من الوجودية للقرن الحادي والعشرين

محمد تركي الفوزان

مقدمة:

في مقابلة نادرة وشيقة مع الفيلسوف الراحل عبدالرحمن بدوي أجراها معه الأستاذ محمد رضا نصرالله عام 1993م، أجاب بدوي حين سؤاله عن جان-بول سارتر، بأنه أديبٌ وليس فيلسوفًا، وبأنه «أساء للفلسفة الوجودية إلى أقصى درجة». يبدو بأن أحد أسباب إجابته تلك هي لأن سارتر أخرج الفلسفة الوجودية من محبسها في البرج الفكري ذي الطابع النخبوي إلى رحاب الثقافة السائدة من خلال أعماله التي اختار لها عناوين بغيضة على النفس وغير محببة لها، وأحد أبرز أمثلة ذلك هي روايته الشهيرة «الغثيان». قرأتُ «الغثيان» للمرة الثانية بعد 6 سنوات من القراءة الأولى لها بطبعة 1964م الشهيرة (ترجمة لويد أليكساندر Lloyd Alexander): بغلافها الغامق الكئيب والملفت للانتباه، مظهرٌ يعكس المخبر، وعنوانٌ إضافي صادقٌ للكتاب. ترسخت بعده القراءة الأولى السابقة، وفي ذات الوقت، قرأت الكتاب وكأنني أقرأه للمرة الأولى، وليس هذا بالأمر المفاجئ ولا الغريب بالنسبة لعمل روائي عميق كهذا (وليعذرني القارئ العزيز على ما قد يجده من عبارات التفخيم للكاتب والكتاب).

مع الاعتذار لعبدالرحمن بدوي، تعتبر رائعة جان-بول سارتر الفلسفية «الغثيان» أشهر الأعمال الأدبية الحديثة للفلسفة الوجودية Existentialism منذ تأليفها عام 1938م. فلسفةٌ لم تكن، كما قال هايدن كاروث Hayden Carruth في معرض حديثه عن دخول هذه الفلسفة في الوجدان الأمريكي في أربعينيات القرن الماضي، مجرد «مدرعة» من مخلفات الحرب (الحرب العالمية الثانية)، ولا حالة نفسية عابرة، بل فلسفة وجدت لتبقى. استلهم الناس آنذاك منها (إن كان الاستلهام هو الوصف الأنسب لوصف الحالة) عبر الأعمال الأدبية والمسرحية والمحاضرات والأعمال التي تخاطب جوانب الحياة اليومية ما يعينهم على التعامل مع التحديات الفردية والاجتماعية والفكرية والسياسية، ليس فقط في حقبة ما بين الحربين العالميتين (التي اشتهرت بكآبتها وخوفها جراء فوضى الحرب والكساد، وحيرتها ما بين أدوية الرأسمالية والفاشستية والاشتراكية والشيوعية والقومية لعلاج آلامها) بل وحتى في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإعادة تشكيل الهيكل الأسري والمجتمعي، وحركات الحقوق المدنية والتمرد على المألوف في مختلف الأصعدة (الهيبيون مثالاً لا حصرًا). جاءت الوجودية بإطلالة «سارتريةِ» المعالم، وتفاعلت مع الحياة العامة، لا لتقدم حلولاً مباشرة بالضرورة، بل لتعيد الإنسان لحجمه الطبيعي بالأحرى، ولتلقي على عاتقيه المسؤوليات الجسام من خلال اختياراته وقراراته، ليس باعتباره كائنًا مختارًا (بل كائنًا يختار)، ولا محورًا للكون -كما تحاول المنظومات القيمية والفكرية التقليدية والمهيمنة تصويره- بل كأحد أعضاءها فقط، لا كمختارٍ ولا محور ولا ملك ولا مستخلف. بل ككائن موجود، مثله مثل غيره من الكائنات الحية (وغير الحية) الموجودة: علاج فلسفي سلوكي قد يكون ناجعًا وفعالًا لتحجيم غرور الإنسان المتضخم ونرجسيته المتورمة.

وصف تحليلي عام:

برع سارتر، من خلال بطل الرواية أنطوان روكنتان Antoine Roquentin، في القدرة السردية لوصف كافة الملاحظات الشخصية التي أبداها في تفاصيل يومياته، وانطباعه النفسي عن ملاحظاته تلك والمدونة في يومياته (الرواية كتبت على شكل يوميات دوّنها روكنتان في فترة بقاءه في مدينة بوفيل Bouville التي شد الرحال إليها عام 1932م لغرض إتمام بحث تاريخي عن أحد شخصيات القرن التاسع عشر: الماركيز دي رولبون Marquis de Rollebon). وليس بمستغرب أن يندهش القارئ من ملامسة تلك الملاحظات لما قد يعتريه هو شخصيًا في دواخل نفسه عما يلاحظه هو في حياته اليومية بأدق تفاصيلها: كوقوفه أمام المرآة، أو تأمل سقف الغرفة حال التمدد على الفراش، وتأمل الأثاث، والأشجار في الحدائق العامة، أو الأشخاص في شتى المحافل المجتمعية المختلفة الخاصة منها والعامة. تصويرٌ فنيٌّ أدبيٌّ وإن كان بدهيًا إلا أنه سهل ممتنع، ويحمل في طياته ما أكده هايدن كاروث، في توطئته الشهيرة للكتاب، عن عمومية الفلسفة الوجودية لدى كل الناس وفي مختلف الجوانب، وبأنها ليست حكرًا في تواجدها وإمكانية تطبيقها على نخبة فكرية أو فئة ثقافية معينة. فهي من الجميع إلى الجميع، ما يشي باستمرار تواجدها ما تواجدنا.

أنطوان روكنتان، رمزٌ (أو ترميز) لمن أدرك الوجود، حقيقة الوجود، بعد دروس وتجارب، ورحلات في الشرق والغرب، ومغامرات عاطفية وغير عاطفية، مضنية كانت أم غير مضنية، وإمعان في التاريخ وتأمل في الحاضر وتصور للمستقبل، إلى أن انتقلت له عدوى الإدراك، التي بدورها تسببت بإصابته بالغثيان؛ غثيان الإدراك (أو الخوف من الإدراك) من حيث لا يحتسب. لم يصبه الغثيان أول الأمر من مرض، ولا من فيروس، ولا من إنسان أو حيوان، بل من صخرة التقطها من الساحل، نصفها رطبٌ بالطين، والآخر جاف، أراد إلقاءها في البحر، لكنها سقطت من يده بعد أن أصابته به (أو بعبارة أخرى: نقلت له إدراك الوجود بعد أن تحسسها كأنما يتحسس صخرةً لأول مرة: ملمسها، صلابتها، رطوبتها في يده من جهة، وجفافها من الجهة الأخرى، ثم داهمته حالة الإدراك المخيفة تلك، من الصخرة إلى الساحل إلى الذات). استمرت حالات الغثيان تراوده بين الفينة والأخرى، إلى أن استقرت فيه بشكل كامل ومستمر، غيرت سلوكه وطريقة تفكيره واتخاذه للقرارات في سلسلة من الأحداث والتعاملات الموثقة في يومياته. حالةُ الغثيان الوجودي هذه (أو نوبات الهلع الوجودي بعبارة أخرى)، وإن كان الجميع معرض للإصابة بها باحتمالية كبيرة، إلا أن القليل يلحظها بتأمل، وإن لاحظوها فنادر أن يستمروا في تأملها: غثيان إدراك الوجود وقلق الحرية المسؤولة أو المسؤولية الحرة: مسؤولية الحياة والأخلاق في عالم يملؤه العدم Nothingness.

أطرٌ قيمية للوجودية من خلال «الغثيان»:

الحياة لدى الوجودية تسبق الغاية والمعنى Existence Precedes Essence، والأخلاق فيها غايةٌ في حد ذاتها، ليست نابعة من خوفٍ مستقبلي أو من سلطة فوقية، ولا بغرض تحقيق رغبة وصولية، بل هي غاية متأصلة لدى الإنسان الذي يعي وجوده ويدرك سلوكه ويعلم دوافعه. الإنسان، في هذه الفلسفة، ليس في حاجة إلى هدف ليقوم به أخلاقه، ولا إلى قانون، فأخلاقه نابعة منه باعتبارها أصلاً لا فرعًا، وهو محور قيمها، مرةً أخرى: ليس لأنه مركز الكون، ولا لأن قوةً ما ترقبه، ولا لأنه أفضل المخلوقات، كلا! بل لأنها مسؤوليته الملقاة على عاتقه: التزام كامل بالمسؤولية بلا مقابل، بلا غرور، وبلا هدف مرسوم. هكذا بكل بساطة: أخلاقٌ لأجل الأخلاق، ومسؤوليةٌ بقصد المسؤولية، لا لشيءٍ آخر. في هذه النقطة تحديدًا يكمن الاختلاف الجوهري مع الليبرالية الإنسانية، ليس في المباديء والقيم، بل حول مركزية الإنسان في الوجود، وتتضح تجليات ذلك في الحوارات التي دارت بين روكنتان والرجل العصامي The Self-Taught Man، والتي من خلال ثناياها تحيّز سارتر لمعتقد الفلسفة الوجودية حيال لامركزية الإنسان في الكون، وأظهرها على أنها أكثر نضجاً وأقرب للواقع من المعتقد الإنساني الليبرالي والمنبثق بالأساس من مركزية الإنسان في الأديان الإبراهيمية. هذا المنطلق السلوكي (أو الوجودي ليتناسب طردًا مع هذا السياق) هو ما قد تكون البشرية بأمس الحاجة إليه الآن بعد عقود من الاستقرار والازدهار العالمي والتقدم العلمي والتكنولوجي تسبب بحسن نية في عودة الغرور البشري وتضخمه وقطبيته بشكل أكبر حتى مما كان عليه في فترة الحربين العالميتين (تجدر الإشارة إلى أن القيمة الأخلاقية للفلسفة الوجودية واضحة بشكل أكبر في أعمال وجودية أخرى كرائعتي ألبير كامو: «الطاعون» و«السقوط» كمثال).

لا حرية دون مسؤولية، والعكس صحيح بنفس الدرجة. فالإنسان، وفقًا للفلسفة الوجودية، يملأ صفحة العدم بوجوده، عبر اختياراته وقراراته وسلوكه، أفعاله وأقواله، وهو المسؤول الأول والأخير عن كل ما يبدر منه، ويعي جيداً ذلك ويتحمله بشكل كامل بلا هدف أو غايات خارجية (مسؤوليةٌ نابعة من الذات، لا من خارجها). فالسيد روكنتان مثلاً، حين جرح كفه بالسكين، ورأى تدفق الدم منها، كان يعي ما قام به جيدًا، ويدرك فعلته بمسؤولية كاملة، فلم يلق باللوم على السكين، ولا سوء الحظ، ولا على البحث التاريخي الذي كان يقوم به وقتها (كما أنه لم يقلب الطاولة ساخطًا وناقمًا). و ميرسولت  Meursault(في رواية «الغريب» لألبير كامو) هو بدوره كان يعي جريمته، وتحمل مسؤوليتها أمام السلطات، باعترافه بها، وإعدامه عليها، ولم يكن بحاجة إلى رجل الدين ليخفف عنه الضغوط النفسية التي سبقت حكم الإعدام، ما أثار غرابة رجل الدين الذي اعتاد أن يرتمي المحكومون بالإعدام باكين بين قدميه متضرعين للتخفيف عن آلامهم الذهنية والنفسية. كذلك فعل تارو Tarrou في «الطاعون» حينما تطوع مع الكوادر الطبية ذات الإمكانيات المحدودة لعلاج المصابين بالوباء في وهران، والذي أصيب به في نهاية المطاف كآخر ضحاياه حين كانت المدينة بأكملها على وشك التعافي منه، ومات بسببه مواجهًا إياه بشجاعة ومسؤولية كاملتين، لم يطلب مقابلاً، ولم يمنّ أو يتباهى بما كان يقوم به على المدينة وأهلها، كما أنه لم يكن يطمع بتخليد ذكراه بنصب تذكاري أو نحوه، لأن عمله المتوائم مع إدراكه لحريته ووعيه بمسؤوليته أغناه عما يعتري غيره من نواقص تضطرهم إلى إشباعها بمكملات خارجية لا تسمن الذات ولا تغني جوعها. وهكذا فعل سارتر الذي رفض جائزة نوبل حينما قدمت له، أو حينما وقف مناضلاً مع الجزائريين ضد استعمار بلاده فرنسا كما وقف قبل ذلك مناضلاً ضد الاحتلال النازي لفرنسا (كذلك فعل ألبير كامو). فالحرية والمسؤولية لدى الإنسان ممتزجان كقيمة واحدة في هذه المنظومة الفلسفية، من أصغر التفاصيل إلى أعظم الأمور.

خاتمة:

في الوقت الراهن، قد تكون الفلسفة الوجودية، بعد مرور ما يقارب القرن على «الغثيان» والذي خفّف قليلاً من الغرور البشري الذي عاصره بسبب التقدم العلمي والصناعي آنذاك من جانب، والتدين المقيت من جانب آخر، وصفةً فلسفيةً فعّالة وآمنة (أكثر أمانًا من الحروب على الأقل) تعالج ما لوحظ من نرجسية ملتهبة وأنانية مَرَضِيّة وتلكؤ عن حمل المسؤولية (بل والتنصل منها وتقاذفها في بعض الأحيان)  لدى إنسان القرن الحادي والعشرين، والمستشعرة بشكل صارخ على سبيل المثال لا الحصر في بعض قيمه المتبناة، كالاستهلاكية المفرطة أو التهافت على تكديس الثروات دون مراعاة للآخرين، أو في أفراده كما يلاحظ في بعض المؤسسات المجتمعية الأسرية أو الوظيفية (كمن يظن أن المؤسسة التي ينتمي لها لن تستطيع القيام بشيء من دونه، وارتفاع حس الاستحقاق لديه، مرةً أخرى، على حساب الآخرين). أو المبالغة في حب الظهور والحديث عن الذات بشكل ميلودرامي، مصطنعًا كان أم غير مصطنع، عبر منصات التواصل الاجتماعي (أو التواصل اللااجتماعي كما يحلو لبعض المختصين تسميتها Unsocial Media أو: Antisocial Media). وقديمًا في الأثر قالوا: داوها بالتي كانت هي الداء: لذا، قد يكون الغثيان داخل إطار الفلسفة الوجودية، في العصر الحالي، بقيمها ومبادئها، داءً ودواء، والقليل من الداءِ في هذه الحالة (الغثيان) دواءٌ، أليس كذلك؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى