مقالات

الإنسان الأعلى في فلسفة فريدريك نيتشه

محمد كزّو

وُصف فريدريك نيتشه (1844-1900م)، الفيلسوف الألمانيّ، بأوصاف عديدة كانت أغلبها قدحيّة، لارتباطها بحياته الشّخصيّة وما عاناه من انهيارات عصبيّة، فقيل عنه: فيلسوف الجنون، الشّاعر المخبول، النّبيّ الكذّاب، المهرّج، الأضحوكة، الأحمق وغيرها من النّعوت … إذ عانى أيضًا من سوء استعمال أطروحاته وتأويلاته حتّى سُمّيت بـ«الإجرام الجنونيّ»، كما عانى من سوء فهم أفكاره لدى الغربيّين كما لدى العالَم العربيّ الإسلاميّ، الذي تجسّد في الهجوم الحادّ على شخصه وعلى كتاباته. فكان وحيدًا، نكره أصدقاؤه لأطروحاته الجريئة وفيما بعد بسبب مرضه. فقبِل جميع النّعوت السّلبيّة ضدّه في سبيل جعْلِه الصّدق القيمة الأخلاقيّة الأولى للعقول الخيِّرة.

إلّا أنّ الدّارسين وصفوه بنقيض ما قيل، نتيجة فلسفته التّفكيكيّة والمستفزّة في الوقت نفسه، آمن بالحياة رغم قساوتها وأعطى حلولًا للانفلات من رقابة المجتمع وموروثه، فكانت مؤلَّفاته تسير في هذا الاتجاه، ويظلّ كتابه »هكذا تكلّم زرادشت، كتاب للجميع ولغير أحد« من بين أهمّها إلى الآن، فهو كتاب شعريّ أدبيّ سرديّ متميّز بطابع فلسفيّ، ومتفرّد بأسلوبين منسجمين هما لغة الدّين التي هي لغة الإنجيل، ولغة الأدب الرّاقية، وكأنّه يحاول الإتيان بإنجيل جديد يناقض الموجودة بلُغتها نفسِها، كما إنّ العنوان الفرعيّ مستفزّ وعميق ويحمل دلالات متعدّدة.

اختار نيتشه الشّخصية الزّرادشتيّة الشّرقيّة من ثقافة بلاد فارس قبل الميلاد، واندمج معها، فتارة يتكلّم هو وتارة أخرى بلسان النّبيّ، بحيث سنشهد طول فصول الكتاب هذا المزج بين الشّخصيتين الذي يكاد يوصف بالاتّحاد. وزرادشت هذا مسافر رحّالة، كحال المتصوّفة، فهو لا يستكين إلى المعروف الثّابت الجامد، بل يطلب في إلحاح وإصرار مزيد معرفة ويقين، يقول نيتشه: «إن زرادشت يمتلك من الشّجاعة ما يفوق شجاعة كلّ المفكّرين مجتمعين. التّكلّم بالحقائق وإتقان الرّماية، تلك هي الفضيلة الفارسيّة»(1).

بينما واجه نيتشه الفلاسفة والفلسفة بطرح أسئلة محرجة حول: الدّين، الأخلاق، المجتمع، ويُعتبر من بين المؤسِّسين لنسبيّة ثنائيّة الخير والشّرّ، وكونهما وجهان لعملة واحدة، بمعنى صراع المتناقضات، حيث يقول: »لقد رأى زرادشت في الصّراع القائم بين الخير والشّرّ الدّولاب المحرّك للأشياء، فترجمة الأخلاق ميتافيزيقيًّا على أنّها طاقة، وسبب، وهدف في حدّ ذاته، هي من صنيعه» (2).

ولملامسة الموضوع عن قرب، نطرح الأسئلة التّالية: ما هي أسس فلسفة نيتشه؟ هل هو مارق مهرطق أم سابق عصره يكتب لجيل لاحق لا جيله؟ لماذا لم تقْبله الأغلبيّة أم أنّه يخاطب العقول الخاصّة لا العامّة؟ ولماذا كان غريبًا في أطروحاته؟ ألَا نفترض أنّه يزيل القشور ويضرب الأوهام بالمطرقة مواجهًا الكذب بالحقيقة الفظيعة؟

في هذه المقالة سنتطرّق للفصل الأوّل من كتابه «هكذا تكلم زرادشت»، فصلٌ ناقش فيه موضوعًا واحدًا هو الإنسان «الأعلى» أو ما يسمّيه بـ «الإنسان المُتعالي»، أو كيف يكمن للإنسان العادي الارتقاء بفكره لمستوى أعلى هو مستوى الفضيلة؟ فتبدأ القصّة بمغادرة زرادشت في سنّ الثّلاثين(3)، مقامه نحو العزلة في أحد الجبال، استغرق فيه عشر سنوات تمتّع فيها بصفاء عقله وبوحدته، إلى أن تغيّر فكره فجأة ذات صباح قبالة الشّروق موجِّهًا كلامه للشّمس قائلًا: «أيّة سعادة ستكون لك أيّها الكوكب العظيم لو لم يكن لديك هؤلاء الذين تنيرهمיִ لعشر سنوات وأنت تتردّد على مغارتي هذه؛ ولولاي أنا ونسري وحيّتي لكان أصابك الملل من نورك، ومن هذه الطّريق»(4). يقصد هنا نيتشه بالنّسر العقل الأعلى الذي يمثّل الخير، وبالأفعى الكائن الأرضيّ الذي يمثّل الشّرّ، بمعنى متلازمة الخير والشّرّ باعتبارهما شيئًا نسبيًّا غير محدّد على الإطلاق، فيما تدلّ الشّمس أو الكوكب العظيم على التّكامل بين الإنسان والطّبيعة والغيب.

حيث أراد نيتشه على لسان زرادشت تعليم النّاس من فيض ما اكتسبه في عزلته كالنّحلة حسب تعبيره، كثر عليها العسل الذي أنتجت وتحتاج من يأخذ منه، أو يذهب بنفسه باحثًا عمّن له القدرة على الاستفادة من العسل الطّبيعيّ اللّذيذ، يقول نيتشه: «أريد أن أهب وأوزّع حتّى يجد العقلاء بين البشر متعة في جنونهم، والفقراء يستعيدون ابتهاجهم بثرائهم»(5)، إذ يحاول نيتشه أن يكون مثل الشّمس في خيرها الذي تهبه للجميع ولا تستثني أحدًا، تضيء هنا وتغرب هناك حتّى تعاود منح النّور من جديد وهكذا. وهو تشبيه يكاد يصل للكمال لأنّ الشّمس خُلقت هكذا ودورها لن تحيد عنه، إلّا أنّ نيتشه غامر بنفسه وبفكره ضدّ مجموعة من الأصنام تجثم على المعتقد الإنسانيّ محاولًا هدمها بالمطرقة على حد تعبيره: «إنّها أصنام خالدة، نضربها هنا بالمطرقة».(6)

«وزرادشت يريد أن يغدو إنسانًا من جديد»(7)، الإنسان الجديد عند نيتشه هو الإنسان «الأعلى»، كما سيأتي لاحقًا، الإنسان الذي اقترحه نيتشه لكي يتجاوز مقام الحيوانيّة إلى سموّ العقل، بمعنى الإنسان شبه الكامل الذي يتجاوز سفاسف الأمور إلى أعظمها، وإن بدا طرح نيتشه مثاليًّا وما يزال، إلّا أنّه هُوجم كثيرًا من قِبل اللّاهوتيّين واللّامادّيين وغيرهما اللّذان أصرّا على أنّ نيتشه كان همّه الأول والوحيد كسر وتجاوز الموروث الأوروبي للإنسانيّة وبداية عهد جديد دون معيقات كنسية ودون حواجز عقائديّة. وهو نداء طبيعيّ من نيتشه نظرًا لفترة حياته بعد ذروة الحداثة خاصّة القرن الثّامن عشر.

فكانت هذه الواقعة بداية خروج النّبيّ زرادشت من عزلته، بعدما اتّقد فكره وأُنير عقله، متّجهًا نحو سفح الجبل حيث ستبدأ حكايات أخرى وأحداث جديدة عندما يتّصل بالبشر ويتعامل معهم على ضوء ما عرف طيلة مقامه هناك.

أوّل حدث على الإطلاق سيواجهه نيتشه حوار مع شيخ عجوز مسنّ، وهنا أولتُ هذه الشّخصيّة كالموروث القديم المسنّ الذي يواجه أيّ شخص يحاول النّظر إلى ما حوله، ولا دهشة أن يبدأ نيتشه الأحداث بهذا المثال العجيب حقًّا، فيقول هذا العجوز الشّيخ –الذي يعبد الله وحيدًا في الغابة- مباشرة ودون مقدّمات: «ليس غريبًا عنّي هذا المسافر، فقد مرّ قبل سنوات من هنا. زرادشت كان يُدعى؛ لكنّه قد تغيّر الآن»(8)، نشهد هنا على الرّسالة النّارية والتي يأتي من ورائها عقاب شديد لأنّه سيواجه الموروث المحفوظ من قبل غالبيّة عظمى من البشر، فيقول الشّيخ متسائلًا: «ألا تخشى العقاب الذي ينال مُولّع الحرائق؟»(9)، بينما يجيبه زرادشت إنّه يحبّ الخير للبشر ويحمل لهم هديّة.

وبعد هذا الحوار الأول، يتعجّب زرادشت بقوله: «لكن حالما وجد زرادشت نفسه وحيدًا حدّث قلبه بهذا الكلام: أيعقل هذا؟ هذا القدّيس العجوز لم يسمع هنا في غابة بعد أنّ الله قد مات»(10)، هذه الجملة تُعتبر من المواضيع المركزيّة التي عالجها نيتشه في كتابه هذا، بل وحتّى في أطروحته كلّها، وأسالت المداد كثيرًا وبسببها اتّهم اتّهامات عديدة نفّرت النّاس من كتبه في العالَم الغربيّ وخصوصًا العالَم الإسلاميّ، إلّا أنّ اللّغة الأدبيّة والشّعريّة المتقنة والرّمزيّة القويّة التي يتمتّع بها الكتاب، أعطت بصيص أمل في كون مغزى ذاك الكلام «ماتت القيم وماتت المبادئ ونحن من قتلناها بأفعالنا وأعمالنا وما نتج عن أيدينا، وبالتّالي فقد غيّبنا الإله ولم نُقِم له وزنًا وكأنّنا أبعدناه من منظومتنا وجعلناه نسيًا منسيًّا وكأنّنا قتلناه، فلماذا نتصرّف بالخير نفاقًا؟».

يتابع زرادشت سيره نحو أوّل مدينة على طرف الغابة، فيجد شَعبًا متجمّعًا في ساحة سوق ينتظرون قدوم بهلواني إليهم، فيغتنم الفرصة مخاطبًا إيّاهم: «إنّني أعلِّمكم الإنسان الأعلى، الإنسان شيء لا بدّ من تجاوزه، فما الذي فعلتم كي تتجاوزوه؟»(11)؛ أيضًا حول هذه القولة دارت نقاشات حادّة عن ماهيّة الإنسان المنتظر حسب نيتشه، وكانت أغلب الدّراسات تشير إلى الإنسان نفسه لا إنسانًا خارقًا بمواصفات أخرى غير التي توجد عنده، فما يقصده نيتشه أن يرتقي البشر بفكرهم وثقافتهم لمرتبة أعلى، أن يتجاوز الشّخص نفسه من مرتبة الحيوان إلى إنسان يفعل الفضيلة من أجل الفضيلة ويقوم بالخير من أجل الخير لا من أجل سبب آخر، هذا هو الإنسان المطلوب حسب فلسفه نيتشه، إذ يؤكّد ذلك بقوله: «الحقّ أقول لكم إنّ الإنسان نهر قذر، ولا بدّ أن يكون المرء بحرًا لكي يتقبّل نهرًا قذرًا دون أن يغدو متّسخًا. انظروا، ها أنّني أعلِّمكم الإنسان الأعلى: إنّه ذلك البحر الذي سيغرق فيه احتقاركم الأكبر»(12).

يمضي نيتشه في تعليم الجَمع الملتفّ معان وقيمًا أخرى عن الإنسان الأعلى: كالسّعادة والعقل والفضيلة والعدالة والشّفقة، ويصفها بشكل غريب حتّى يصرخ في وجههم قائلًا: «هل تكلّمتم مرّة هكذا؟ هل صرختم مرّة هكذا؟ آه، لَكَم وددت لو أنّني سمعتكم تصرخون هكذا»(13)، ولكن لمّا فرغ زرادشت من كلامه الذي يعلِّم فيه الإنسان الأعلى، صاح فرد من الشّعب «كفانا كلامًا عن هذا البهلواني، ودعونا الآن نراه، وإذا الشّعب كلّه يضحك ساخرًا مِن زرادشت والبهلواني الذي ظنّ أنّ ذلك الكلام كان فعلًا يعنيه»(14)، فتعجّب زرادشت من ردّ الفعل هذا، وأردف يشرح أنّ الحبل معقود بين الحيوان والإنسان الأعلى الذي يبحث عنه، تمامًا كحبل البهلوان الرّفيع، حيث يصعب العبور والنّظر للوراء أو الارتعاش أو التّوقف، إذًا يجب، رغم الصّعاب كلّها، المضيّ قُدُمًا من أجل التّغيير والوصول لمرتبة الإنسان الأعلى، يقول زرادشت: «أحبّ كلّ الذين هم مثل القطرات الثّقيلة التي تنزل متفرّقة من  السّحابة الدّاكنة المعلّقة فوق رؤوس البشر؛ إنّهم ينبؤون بقدوم الصّاعقة ويمضون كمنبِّئين إلى حتفهم. انظروا، إنّني المنبّئُ بقدوم الصّاعقة، والقطرة الثّقيلة النّازلة من السّحابة: تلك الصّاعقة اسمها الإنسان الأعلى»(15)، يسود صمت من جديد، وضحك بين الفينة والأخرى، فيتعجّب زرادشت من هذا القوم الذي يسمع ولا يفهم أو أنّه يريد ألّا يفهم، إذ يقرّر والحالة هذه أن يبحث عن نخبة الإنسان علّه يجد آذانًا صاغية تفهم المعاني الرّاقية التي يحاول أن يناقشها ويشرحها.

داخل هذه الأحداث يسقط المهرّج المسكين، بسبب مهرّج ثان، فيموت، ويتفرّق الجمع ويحمل زرادشت الجثّة سائرًا ليدفنها حتّى يصل ليلًا للغابة من جديد، فيداهمه جوع قويّ، ليطرق باب كوخ صغير، ويخرج شيخ بيده مصباح يطلّ ويسأل مَن الطّارق، فيجيب زرادشت بسخريّة: «حيّ وميّت»، بيد أنّه يقول الحقيقة. وبعد الأكل انطلق بعيدًا حتّى وضع الجثّة داخل جذع مجوّف حماية لها من الذّئاب وسائر الوحوش. فنام زرادشت، تغمره السّكينة، نومًا عميقًا من التّعب والجهد طول النهار.

يستيقظ زرادشت أخيرًا وقت الظّهيرة، فرحًا بنصر جديد وبفتح جديد، بحيث يحتاج إلى رفاق أنداد مبدعين، لا إلى جثت وحيوانات، يريد أن يكون له أتباع من خارج القطيع يتمتّعون بحرّيّة بعيدًا عن الرّاعي وكلبه. فيقول زرادشت بتشبيه عظيم: «لا راعٍ ولا حفّار قبور ينبغي عليّ أن أكون، لن أريد حتّى التكلّم إلى الشّعب، وإنّ هذه لآخر مرة أتحدّث فيها إلى ميّت»(16).

يرفع زرادشت رأسه في السّماء ليرى نسرًا وحيّة تتدلّى منه لا كفريسة بل كرفيقة، بحيث كانت ملتفّة حول عنقه، فيصيح: «ها هما حيواناي» وفرح من كلّ قلبه، وكما قلنا فالنّسر رمز السّماء والحيّة رمز الأرض، وباتّحادهما هنا يعني اتّحاد القوّة والذّكاء بالتّجدّد الدّائم في رحلة استكشاف، فيقول: «فلترافق نخوتي طيران جنوني إذن»(17)، وهي استعارة راقيّة أيضًا.

في السّياق نفسه، يذكر زرادشت ثلاثة تحوّلات للعقل: «كيف يتحوّل العقل إلى جمل، والجمل إلى أسد، والأسد إلى طفل بالنّهاية»(18)، الجمل يحمل أثقالًا ويكابدها، والأسد يمتلك قوّة الحريّة من أجل إبداع جديد، ثمّ يحتاج العقل ببساطة إلى روح طفل صغير: البراءة والنّسيان، والبدء من جديد، لعب، حركة أولى، هكذا يغدو عقل الطّفل جامعًا للتّحوّلات كلّها منطلِقًا في أفق جديد مكسّرًا الأصنام القويّة محاربًا التّنين الأعظم [الموروث] على حدّ تشبيه نيتشه.

يصف زرادشت على لسان حكيم، يلتفّ حوله الفتيان على منبره، يمتاز بالاحترام والتّقدير، ما يجب أن يكون عليه الرّجل الأعلى في يومه حتّى يستطيع النّوم في ليله براحة وهدوء كبيرين، فعلى المرء إذن، أن يصحو باكرًا، متصالحًا مع نفسه متجاوزًا عنها، ضاحكًا متجدّد النّشاط، باحثًا عن رفقة جيّدة، حاملًا أغلب الفضائل معه حينما يحنّ اللّيل، مراجعًا وفاحصًا إيّاها، كي يستطيع النّوم جيّدًا. وعلى عكس أغلب المريدين الفرحين بهذا الكلام يقول زرادشت في نفسه لمّا سمع خطبة الحكيم: «أحمق في نظري هو هذا الحكيم بخواطره الأربعين، لكنّني أظنّه على دراية جيّدة بأمر النّوم (…) الآن، أصبحت أفهم بوضوح ما الذي كان يبحث عنه المرء أكثر من أي شيء فيما مضى (…) نومًا جيّدًا وفضائل (…) النّوم دون أحلام هي الحكمة بالنّسبة لحكماء المنابر المنوَّهِ بهم على الدّوام، فهؤلاء لم يعرفوا من معنًى أفضل للحياة»(19)؛ نلاحظ  أنّ نيتشه يسخر بطريقة أو بأخرى من هؤلاء البشر الذين يملؤون حياتهم بالأشياء البسيطة الرّوتينيّة التي تشبه إلى حدّ كبير حياة الحيوان، البشر الذين يستكينون لموروث جامد في قوالب محدّدة الشّكل، البشر الذين لا يحبّون أن تُزعزع أفكارهم للتّعلّم من جديد، كرغبة الطّفل الذي رأينا سابقًا، البشر الذين يشقون نهارًا ليحظَوْن بنوم هادئ ليلًا، يتهكّم نيتشه منهم قائلًا: «طوبى هؤلاء النّاعسين، فَهُم عمّا قريب سيغفون»(20).

وفي سعي نيتشه للتّعريف بالإنسان الأعلى كما سبق، تطرّق لمسألة عالَم الفضيلة أو المُثل، الذي أسّسه أفلاطون، ويصف دعاة هذا النّوع من الفضيلة بـ«دعاة الماوراء»، هم نوع من البشر هربوا من الواقع بخيره وشرّه المتنازعيْن، محاولين صرف النّظر عن ذواتهم وعجزهم إيجاد حلول لتلك المشاكل، فخلقوا هذا العالَم، يقول زرادشت: «ألَم وعجز، ذلك هو ما خلق كلّ العوالم الماورائيّة، وتلك السّعادة الحمقاء المقتضبة التي لا يشعر بها سوى أكثر النّاس سقمًا»(21)، بحسب نيتشه، لا يوجد عالَم مطلق وهو الشّيء الذي ظلّ الإنسان يبحث عن تحقيقه منذ الحقبة اليونانيّة حتّى العصر الحديث، حيث تكسّرت بعض الأوهام كما يؤكّد نيتشه نفسه، وأصبحت الأنا في مواجهة الذّات داخل معترك الواقع، هذا التّجاذب والتّقابل هو ما يُعلّم الفضائل، ويسير بالإنسان إلى الرّقيّ وقطف الثّمار، «نخوة جديدة علّمتني أنايَ، وأنا بدوري أُعلّم البشر هذه النّخوة: لا تدكّوا رؤوسكم في رمل الأشياء السّماويّة بعد الآن، بل ارفعوها بحرّيّة رؤوسًا أرضيّة تبتدع معنًى للأرض»(22)، والأصعب من هذا كلّه أنّ دعاة المثاليّة أنفسهم لا يؤمنون بتحقيقها، بل في نهاية المطاف يؤمنون بجسدهم وبواقعهم الذي يعيشون فيه.

بحيث يبقى الجسد في فلسفة نيتشه السّند والمتّكأ، ويهاجم الذين يستهينون به بالتّنحّي عن تعليم الآخرين، وأن يصيروا بُكْمًا. لأنّ الإنسان يتكوّن من روح وجسد، ولو لم يكن الجسد لَما سكنت الرّوح فيه، يقول زرادشت: «الجسد عقل عظيم، تعدّدٌ ومعنى موحّد، حرب وسلام، راع وقطيع»(23)، فالجسد يجمع المتناقضات من الحسّ والعقل، فهو كالسّيّد ذي السُّلطة والقوّة والحكمة أيضًا، أو لنقل إنّ الواحد منهما مرآة للآخر.

يطغى الاستدلال بالجنون والحمق طيلة الكتاب، ويحاول زرادشت أن يعطي الذّات نصيبها من الاهتمام، ربّما لمرضه وانهياراته العصبيّة المتكرّرة، حتّى إنّه يقول: «ذاتكم تخدمون حتّى في حمقكم وفي احتقاركم أيّها المستهينون بالجسد»(24)، وكأنّه يقول: تُأخذ الحكمة أحيانًا من أفواه المجانين، مُخالفًا بهذا أولئك المستهينون بالجسد، الذين لن يصلوا إلى مرتبة الإنسان الأعلى بتفكيرهم ذاك.

بالمقابل، فالفرح والألم عند نيتشه يبقى شيئًا خاصًّا جدًّا، فعندما يصيب الإنسان أيّ واحد منهما، تكون معاناته أو فرحه متعلقًّا به، بمعنى هذا ما وقع لي نتيجة أفعالي أنا، لا قانونًا ولا مرشدًا بشريًّا دلّني إلى مكان غير ما أنا عليه الآن. إذ إن فضائل الإنسان تسعى لنيل أقصى ما يمكن أن تناله، حتّى تستحوذ عليه وأفعاله، ويكون فريسة للاندثار، وبالتّالي يكون أشرّ الأفعال الهلاك والقتل، وهي التي يسِم بها زرادشت تصرّفات القضاة، ويرمزُ إلى الفئة التي لها السّيادة والقوّة في المجتمع، وينصحهم بإعمال الفضيلة وعدم القسوة مع النّاس، وعدم التّسرّع في إصدار الأحكام قبل معرفة القرائن الموجودة في الحياة عامّة وسبر أغوارها.

لا يبرح زرادشت ذاك التّشبيه لينتقل إلى الإنسان وارتباطه بما يكتبه، أي علاقة الحياة الشّخصيّة بما يكتبه الإنسان، لابدّ من وجود نوع من الفصل كي تكون الأمور واضحة، وألّا نحكُم على الشّخص من خلال أحدهما سواء الكتابة أو التّصرّفات الشّخصيّة الإنسانيّة، فيجب على أصحاب الفكر أن يهتمّوا بالفكر وحده لا الأشياء الأخرى المصاحبة التي يستسيغها أصحاب النّظر القصير، يقول زرادشت موضّحًا: «وإنّ أقصر طريق في الجبل لهي تلك التي تمضي من قمّة إلى قمّة: لكن لا بدّ من ساقين طويلتين لأجل ذلك. على الأحكام أن تكون قمّة، والذين يُتوجّه إليهم بالكلام عمالقة ينبغي أن يكونوا وذوي قامات سامقة»(25)، بل وأكثر من هذا، حيث يزيد نيتشه من قوّة سخريّته من العامّة التي لا تفهم كلام الخواصّ قائلًا: «ترنون بأعينكم إلى الفوق وأنتم تطلبون العُلى، وأنظر إلى الأسفل لأنّني في الأعالي»(26)، قاصدًا معنى الرّقص الذي يُعتبر من ركائز فلسفته، أو كما يسمّيها «خفّة الرّاقص»، فالحياة عنده لحظة يكون فيها الرّاقص خفيفًا نشيطًا يؤدّي بشكل جيّد فرحًا يجب استغلالها لأنّها لحظة لا تدوم.

في الإطار ذاته يواصل زرادشت البحث عن مواصفات الإنسان الأعلى، ويبدأ هذه المرة مثالًا بالشّجرة الكبيرة التي كلما اتّجهت نحو الأعالي، وإلى ضوء النّور كلّما زادت جذورها في التوغّل عمقًا في الأرض، في العتمة في الشّرّ، تحرّكها الرّياح جيئة وذهابًا، «ولو أرادت الكلام لَمَا وجدت أحدًا يفهمها، لطالما نمت وامتدّ علوّها»، تظهر رمزيّة الشّجرة هنا أيضًا فيما يحاول نيتشه أن يشرحه في موضوع الحرّيّة والموروث، النّفس تريد الحرّيّة وتتوق لها، في حين الشّيء عينه تريده الغرائز، بمعنى كيف يوافق الإنسان بين الواقعيّة والمثاليّة؟ في تماس مع الواقع وبشكل أكبر مع الموروث، يقول زرادشت: «شيئًا جديدًا يريد النّبيل أن يبدع وفضيلة جديدة، بينما الإنسان الصّالح يريد القديم، وأن يظلّ قديمًا مصانًا»(27). هذا النّوع من البشر لم يبلغ مرتبة الإنسان بعد، ويحاول الكثير منهم بخس الحياة بالموت، والعيش في مهانة وذلّ أملًا فيما هو أفضل، لكنّهم لا يعلمون هل يجدون الأفضل بالضّرورة أم ما هو أذلّ؟ يتّجه نيتشه إلى ترك هذا النّوع على إرادته، وعدم الخوض معه في الجدال العقيم، إذ يقول: «علينا أن نقبل بإرادتهم، ولنحترس من إيقاظ هؤلاء الموتى ومن تحطيم هذه النّعوش المتحرّكة»(28).

إنّها بحسبه حرب يجب خوضها ضدّ هؤلاء، والحرب هنا ليس بمعناها التّقليدي، بل بمعنى الإنسان الذي يجنّد قواه وطاقاته كلّها من أجل التّغيير والتّقدّم والتّجاوز، هي حرب كلاميّة نفسيّة غايتها التّبديل، المرور من مرتبة دنيا إلى أخرى عُليا، التّسامي عن صغائر الأمور لكي نجد الإنسان الأعلى، فالسّموّ في المطالب والمراتب يعني إنّ: «الإنسان شيء ينبغي تجاوزه»(29).

بيد أنّ تجاوز الإنسان العاديّ الموجود بصفات معيّنة، لا بدّ من تكسير أصنامه القائمة منذ زمان، فيقترح نيتشه «الوحدة» علاجًا يُعدّ من أحد ركائز فلسفته كذلك، وهي ليست عزلة النّاسك بل عزلة المفكّر الذي يُعتبر من النّاس يخالط أفكارهم ولا ينسحب منها أبدًا، وحدَتُه علاجًا لأمراض النّاس، حلًّا يأتي به حسب استطاعته للخروج بالإنسان من مرتبة البشر إلى مرتبة الإنسان الأعلى، يقول زرادشت: «فرّ إلى وحدتك إنّك كنت تقطن قريبًا جدًّا من الصّغار والحقيرين، فرّ من انتقامهم الخفيّ، إنّهم رغبة انتقام ولا شيء غير رغبة انتقام مستعرّ ضدّك»(30)، وتلك الوحدة لابدّ لها من صديق، لكي تنضج الأفكار ولن يكون سوى الأنا المؤنس الحقيقيّ والصّديق الحقيقيّ، يقول زرادشت: «أنا وأنايَ في جدال ساخن لا ينقطع»(31).

في هذا المعترك تدور سُلطة الخير والشّرّ، وهي سُلطة قويّة كما قلنا، هي سُلطة نسبيّة لا حدود لها، فالخير عند شخص ربّما يكون شرًّا عند آخر والعكس صحيح، فثقافة الإنسان هي التي ابتدعت له الخير والشّرّ، لم يجدهما ولم يوحى إليه بهما، فصارت القيم تتغيّر من زمن لآخر ومن شعب لآخر، وهكذا حتى تحوّل مفهوم كلّ شيء، وضاعت وجهة الإنسانيّة، و«مازالت تفتقر إلى هدف»(32)، فيصعب حتّى التّفريق بين الأنا والأنتَ، أو بمعنى آخر، استقلاليّتهما، فدائمًا ما يهرول الإنسان نحو الأنتَ وينسى نفسه، وهو ما يشرح لنا بجلاء سُلطة وقوّة الموروث، فــ «الأنتَ أقدم عهدًا من الأنا، والأنتَ قد كُرّست كقداسة، أما الأنا فلم يُكتب لها ذلك بعد»(33)؛ رمزيّة نيتشه قويّة هنا أيضًا، بحيث يحاول الوصول إلى فكرة مفادها: إنّ الإنسان لا يطيق نفسه، ولا يثق فيها بما فيه الكفاية، بل يحبّ العقل الجمعيّ ويهنأ له، فلا يجب عليه أن يخرج عن المسار المحدّد الذي يحكُم منذ زمان بعيد: إنّه نوع من النّفاق والكذب، فينصح زرادشت الإنسان قائلًا: «ليكن المستقبل وما هو أبعد علّة يومك الذي تحيا: لتحبّ في صديقك الإنسان الأعلى الذي هو علّة وجودك»(34).

كان الاعتزال الفكريّ وما يزال، خطيئة في نظر العامّة، ولن يكون من السّهل سلوك طريق آخر غير هذا المسطّر سابقًا، وكلّ محاولة للخروج من هذه الرّبقة سيصاحبها ألم ووجع منشؤه الضّمير نفسه: الأنتَ، هو المحاسِب الآمر النّاهي الذي لا يتسامح أبدًا.

ولِتجاوز المعضلة يقترح نيتشه نصائح أخلاقيّة، من قبيل عدم الإساءة إلى الظّالم حتّى يكتوي بنار فعلته، ومحاولة الابتعاد عن ردّ الفعل السّريع، ومع إنّها نصائح غاية في المثاليّة إلّا أنّ نيتشه يسعى لكي يساعد الإنسان على الوصول إلى المرتبة العُليا التي أراد أن تعمّ العالَم. وأيضًا ينصح بعدم الخوف من الموت ونبذ الحياة، بل يجب مواجهة المصير المحتوم لكلّ كائن حيّ من البشر، يقول زرادشت: «هكذا أريد لنفسي أن أموت كي تُحبّوا الأرض من أجلي، أي أصدقائي، وترابًا أريد أن أستحيل في الأرض كي أعرف الرّاحة داخل الحضن الذي أنجبني»(35).

لِيختم الجزء الأوّل من كتابه على النّسق نفسه متحدّثًا عن «الفضيلة الواهبة»، باعتبارها شيئًا ثمينًا ونادرًا، الفضيلة من أجل الفضيلة دون انتظار مكافأة من أيّ نوع، ويصفها نيتشه بأنّها «أرقى الفضائل»، هي أنانيّة في حدّ ذاتها لكنّها أنانيّة إيجابيّة تُناقض الأنانيّة السّلبيّة، وترتقي بالإنسان إلى المراتب العُليا إلى الإنسان الأعلى، يقول زرادشت: «استعارات هي كلّ أسماء الخير والشّرّ، لا تُعَبَّر بكلام، بل تومئ فقط»(36)، ناصحًا النًاس بالوفاء للحياة وتغليب المحبّة والمعرفة لخدمتها، فيصرّح بموت الأصنام العنيدة وتكسيرها، لكي يحيى الإنسان الجديد ذاك الإنسان الأعلى، بقوله: «لقد ماتت كلّ الآلهة، والآن تريد أن يحيا الإنسان الأعلى»(37) .

كان فصلًا مليئًا بالرّمزيّة والاستعمال الباهر للّغة، يظهر وكأنّه نصّ غير متناصّ لكنّه حائط مبنيّ على أساس متين، بدأه نيتشه بالإنسان الأعلى المحبّ للفضيلة، فشرح معناه وكيفيّة الوصول لمرتبته، ونبقى مع أُسسه الأخرى القيِّمة في الفصول الثّلاثة المكوِّنة للكتاب في مقالات قادمة.

[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]

الإحالات والهوامش:

(1) هكذا تكلم زرادشت، كتاب للجميع ولغير أحد، فريدريك نيتشه، ترجمة عن الألمانية: علي مصباح، منشورات الجمل، كولونيا، بغداد، ط1/2007م، ص:5.

(2) المصدر نفسه والصفحة نفسها.

(3) سنّ الوحي في العقيدة المسيحيّة، هو ثلاثون سنة.

(4) هكذا تكلم زرادشت، كتاب للجميع ولغير أحد، فريدريك نيتشه، مرجع سابق، ص:35.

(5) المرجع نفسه، ص:36.

(6) أفول الأصنام، فريدريك نيتشه، ترجمة حسان بورقية ومحمد الناجي، أفريقيا الشرق، ط1/1996م، ص:6-7.

(7) هكذا تكلم زرادشت، كتاب للجميع ولغير أحد، فريدريك نيتشه، مرجع سابق، ص:37.

(8) المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

(9) المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

(10) المرجع نفسه، ص:39.

(11) المرجع نفسه، ص:40.

(12) المرجع نفسه، ص:44.

(13) المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

(14) المرجع نفسه، ص:45.

(15) المرجع نفسه، ص:47.

(16) المرجع نفسه، ص:58.

(17) المرجع نفسه، ص:60.

(18) المرجع نفسه، ص:61.

(19) المرجع نفسه، ص:68.

(20) المرجع نفسه، ص:69.

(21) المرجع نفسه، ص:70.

(22) المرجع نفسه، ص:71.

(23) المرجع نفسه، ص:75.

(24) المرجع نفسه، ص:77.

(25) المرجع نفسه، ص:86.

(26) المرجع نفسه، ص:87.

(27) المرجع نفسه، ص:92.

(28) المرجع نفسه، ص:94.

(29) المرجع نفسه، ص:101.

(30) المرجع نفسه، ص:109.

(31) المرجع نفسه، ص:115.

(32) المرجع نفسه، ص:122.

(33) المرجع نفسه، ص:123.

(34) المرجع نفسه، ص:125.

(35) المرجع نفسه، ص:146.

(36) المرجع نفسه، ص:150.

(37) المرجع نفسه، ص:157.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى