العبثيّة في مكان العمل شائعةٌ جدًّا. اسأل زملاءك هل يجدون عملهم مفيدًا؟ من المحتمل أن تكون إجاباتهم سلبيّة. ومع ذلك، يميل معظمنا إلى الاعتقاد بأنّ عملنا يحدث فرقًا في الناس وفي العالم من حولنا، حتّى لو كانت واجباتنا اليوميّة تقتصر على حفر حفرة عميقة، ثمّ طمرها وإعادة تكرار ذلك بلا توقّف.
أستيقظ على اتّصالٍ هاتفيّ من مديري، وطبعًا لا بدّ لي من أن أجيب قبل احتساء قهوتي أو تناول الإفطار، لا بل حتّى قبل أن أتنهّد تنهّد الصباح. أتحقّق من الأخبار، أتصفّح وسائل التواصل الاجتماعي وأحوال الطقس، ألقي نظرة على المهام في قائمتي لهذا اليوم. هناك الكثير منها، يا لهذه الكتلة الصخريّة الضخمة! أواصل العمل على مدار اليوم، وأضيف إلى قائمتي مهامًا جديدة لا يمكنني حتّى إنجاز نصفها؛ فإذا أنجزتها بسرعة، ربّما يمكنني المضي قدمًا والتنفّس لاحقًا. لكنّ لحظات التنفّس هذه تقاطعها رسائل البريد الإلكترونيّ، ورسائل زوجتي الصوتيّة، والضوضاء بالخارج التي لم تكن موجودة من قبل.
كلّ مساء يغمرني الشعور بالذنب، أزحف إلى الفراش في منتصف الليل تقريبًا – والآيباد في يدي – أخطّط لمهام اليوم التالي، وأقوم بترميزها بالألوان، وجدولتها للغد. الصخرة تكبر، التلّ يعلو، وأنا بالكاد أستطيع رؤية القمّة. باختصار، هذه هي حياتي منذ منتصف شهر شباط. القلق الذي أشعر به بسبب عدم تمكّني من إنجاز المهام بأكملها يدفعني إلى العمل أكثر، وفي أثناء قيامي بذلك، تتسرّب فكرة واحدة إلى ذهني: «ماذا بعد؟ هل أنا سيزيف ملعون بلعنة أن أرفع صخرة إلى أعلى جبل، فلا أكاد أصل إلى القمّة حتّى تسقط فأعود إلى رفعها من جديد هكذا إلى ما لا نهاية؟!».
إذا لم تكن قد سمعت شيئًا عن سيزيف، تقول الأسطورة الإغريقيّة، إنّه كان ملكًا قاسيًا عوقب على سلوكه المخادع والشائن. رجلٌ مسكين، تجرّأ على تحدّي الآلهة فحكم عليه زيوس بحمل صخرة كبيرة إلى أعلى جبل شديد الانحدار، فلا يلبث أن يصل إلى القمّة حتّى تهوي الصخرة إلى أسفل، فيعود أدراجه ليدفعها إلى الأعلى ثمّ تتدحرج مجدّدًا وتظلّ تهوي ويظلّ يرفعها هكذا إلى الأبد.
بالفعل لقد استُنزفت كلّ طاقات سيزيف. لم تعد أيّ من الاستراتيجيّات القديمة تنفع؛ لا التمرّد، ولا الاستسلام، ولا حتّى السير البطيء العدوانيّ والسلبيّ إلى أسفل الجبل. إنْ رفع إصبعه بوجه الآلهة، فهذه حركة فارغة باتت من الماضي. بطبيعة الحال، لم يكن برنامج الدعم النفسي في مكان عمله مفيدًا. كل ما اقترحوا عليه هو التسجيل في درس يوغا عبر الإنترنت. دفع اليأس سيزيف أخيرًا إلى حجز موعد مع طبيب نفسيّ، والذي نصحه بتناول قرص زولوفت (Zoloft)، المحسّن للمزاج والمزيل للاكتئاب.
لم يلتزم سيزيف بالوصفة الطبيّة. فطبيعته الفخورة والسادية لم تسمح له بتغيير نهجه أو التفكير خارج الصندوق. لقد فشل في إدراك أنّ الجاذبيّة ستجبر الصخرة دائمًا على الانحدار، وكان عالقًا في حلقة دائريّة لم يتمكّن من النفاذ منها. ويبدو أنّ مجرّد التفكير في كتلته الصخريّة يصيبه بألم في أسفل معدته، ألم يشبه الغثيان. في الواقع، لا يوجد سبب منطقي حتّى يرفض سيزيف العلاج بالدواء. أظهرت التجارب العلميّة أنّ مضادات الاكتئاب المكمّلة بمزيلات القلق أكثر فاعلية بنسبة ٢٠٪ على الأقلّ من العلاج عن طريق التقييمات الذاتية لجودة الحياة لدى الموظّفين المحكوم عليهم بتكرار عمل لا طائل منه.
ألن تكون السعادة أفضل من الاكتئاب؟ ألن يكون الصفاء أفضل من الرهبة؟ هذا ما يطلب منّا الفيلسوف ألبير كامو تخيّله: «أن يكون سيزيف سعيدًا».
أين تكمن سعادة سيزيف؟
إذا كنت محكومًا بنشاط عقيم طول حياتك، إذا كان العالم بلا معنى، ما الذي يجعلك إذن، ترغب بالعيش؟
يقول ألبير كامو الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام ١٩٥٧، في مقال موجز بعنوان «أسطورة سيزيف»، (Le Mythe de Sisyphe, 1940): «إذا كان النزول [أي عودة سيزيف إلى أسفل الجبل ليبدأ بدفع الصخرة إلى الأعلى مرّةً أخرى]، يتمّ أحيانًا بحزن، فيمكن أن يحدث أيضًا بفرح». هل كامو محقّ بأنّ مهمّة سيزيف فيها من أسباب الرضى ما يوحي بـ«السعادة»؟
يبدو أنّ كامو لا يهتمّ بالمرحلة الأولى من مهمّة سيزيف ألا وهي دفع الصخرة إلى الأعلى، بل بالمرحلة التي يتأمّل فيها سيزيف الصخرة تتدحرج إلى الأسفل بمجرّد أن ينجز مهّمته. يعرّف كامو هذه المرحلة بـ«الوقفة» Pause))؛ وهي عنده «لحظة الوعي والإدراك»، إدراك لاجدوى هذه المهمّة القاسية؛ يقول: «وفي أثناء تلك العودة، تلك الوقفة، يهمّني أمر سيزيف … تلك الساعة كالفضاء المتنفّس، بالتأكيد، كيقين عذابه، تلك هي ساعة إدراكه».
يشبه هذا التمييزُ التمييزَ الذي أقامه سارتر بين وضع المرء نفسه على «مستوى التفكير»، (plane of reflection)، وبين اتخاذه «وضعيّة الفعل» (plane of action).
في الواقع، عندما ننخرط في الأفعال اليوميّة، فإنّنا ندركها بوصفها «مقتضيات، وضرورات ملحّة، وأدوات»، على الرغم من وجود إمكانيّة للتشكيك في الفعل نفسه. ولكن من أجل القيام بذلك، ينبغي أن ننتقل إلى «مستوى التفكير». يشرح سارتر هذه العمليّة من خلال مثال: «المنبّه»؛ عندما يرنّ المنبّه، فإنّه يكشف عن احتمال أو خيار الذهاب إلى العمل. ولكن عندما نتصرّف بناءً على هذا الإنذار، فإنّنا ننهض وفي أثناء هذا الإجراء نتجنّب مسؤوليّة طرح السؤال عمّا إذا كان العمل هو الاحتمال الوحيد الممكن.
بحسب سارتر، فعل الاستيقاظ «لا يضعني في وضع يسمح لي بإدراك إمكانيّة التهدئة (Quietism)، ورفض التوجّه إلى العمل…إلخ». يكشف الفعل عن احتمالاته في اللحظة التي ندركه فيها؛ في هذه المرحلة ننتقل إلى «مستوى التفكير»، أو «الوقفة»، كما يصف كامو. إنّ فعل سيزيف المتمثّل بدفع الصخرة إلى أعلى الجبل لا يكشف عن الاحتمالات التي ينطوي عليها إلّا عندما تُنجز المهمّة في النهاية. وتاليًا، ليس من الخطأ القول إنّه بينما يقوم سيزيف بدفع صخرته إلى أعلى الجبل، كان بوسعه تجنّب السؤال عمّا إذا كان دفع هذه الصخرة هو الخيار الوحيد المتاح له، في المقابل عندما يكون في مستوى التأمّل لن يستطيع التهرّب من طرح هذا السؤال.
هذا التمييز بين الفعل والتفكير في معرض تعريف سارتر ماهيّة القلق والحريّة، يمهّد الطريق إلى «وعي سيزيف»، الذي يتحدّث عنه كامو. فبحسب سارتر، «تتجلّى الحريّة من خلال القلق الوجودي». وجديرٌ بالملاحظة أنّ كامو في كتابه «أسطورة سيزيف»، يولي اهتمامًا لهذا القلق في بعده التجريبي الذي لا ينفصل عن العبث؛ فعندما يضيع المرء في العالم، يشعر بالقلق، وهذا القلق هو الخوف، وبمجرّد أن «يصبح هذا الخوف واعيًا لذاته، فإنّه يصبح قلقًا وجوديًّا».
حتّى الآن، لم يتّضح بعد ما إذا كان سيزيف يشعر بهذا القلق أم لا. هل هو وعي الألم الذي يشعر به وهو ينزل الجبل ليرفع الصخرة مرارًا وتكرارًا؟ ألا يشعر بهذا الألم وهو يدفع الصخرة، أي وهو في وضعيّة الفعل؟ هل هذا الوعي بالحريّة يجعل كامو يعتقد أنّ سيزيف في لحظة «التأمّل»، هو «أقوى من صخرته»؟
جلّ ما يمكن أنّ نستنتجه هو أنّ الوعي أو الوقفة، والتي أصلها قلق وجوديّ، تمنح سيزيف القوة الكافية لتخفيف معاناته.
يتبيّن لنا أنّ الوعي واللاوعي يؤدّيان دورًا أساسيًّا في تقييم حالة المرء. يتألْم العامل دون أن يدرك تألّمه، ومن دون أن يوليه قيمة كما لو أنّ وجوده وتألّمه صنوان لا يفترقان أو شيء واحد. لن يتمكّن العامل من القول: «أنا لست سعيدًا»، ما لم يملك وعيًا يدرك من خلاله إمكاناته. بالنسبة إلى سارتر، إنّ عدم تمكنّنا – نحن السيزيفيّين – من إضفاء قيمة على معاناتنا ليس مردّه أنّنا اعتدنا الألم، بل «لأنّنا ندرك وفرة الوجود، ولا نتخيّل أنّ الأشياء يمكن تحدث بطرق مختلفة».
في ما يتعلّق بهذه المسألة، يقدّم سارتر أيضًا، مثالًا لرجل منخرط بشكل كامل في وضع تاريخي أو سياسي لدرجة أنّه يفشل في رؤية مشاكل منظّماته السياسيّة. يتبيّن أنّه لا يوجد لدى سيزيف، ولا لدى العامل مثل هذا الوعي في أثناء انخراطهما الكامل في المهمّة. أمّا حين يكونان في وضعيّة «الوقفة»، فهناك يتجلّى الألم، ومعه الحريّة. تشبه هذه الوقفة إلى حدٍّ ما «الصحوة»، التي أشرت إليها: «يستيقظ العامل ذات صباح، ويسأل لماذا؟».
كيف تكون هذه الصحوة ممكنة؟ كيف يمكن للمرء أن يتخيل بديلًا آخر؟ كيف يصل المرء إلى هذا القلق الوجودي المحرِّر؟ بالنسبة إلى كامو، يتحقّق ذلك عبر مواجهة «العبثية»، أي حين يدرك المرء الفرق بين طبيعة الحريّة التي يعتقد أنّه يمتلكها وطبيعة الحريّة التي تتجلّى من خلال الألم.
يصف سارتر حالة المرء قبل هذه الصحوة بمستوى الفعل؛ قبل مواجهة العبثيّة، يعيش الإنسان العادي تبعًا لأهداف، أو اهتمامات مستقبليّة أو تبريرات. يوازن فرصه، ويعوّل على عبارة «يومًا ما»، أو على معاشه التقاعديّ…إلخ. لا يزال يعتقد أنّ شيئًا ما في حياته يمكن توجيهه أو التحكّم به. إنّه في الحقيقة يتصرّف كما لو كان حرًّا، حتّى وإن كانت كلّ الحقائق تشير إلى عكس ذلك. إنّ الشعور «بالتعب»، الذي يمرّ به المرء بعد إنجاز مهام الحياة اليوميّة يدفعه نحو العلاج الحقيقي الذي يبدأ بالسؤال: «لماذا؟».
يتصوّر كامو سيزيف سعيدًا لأنّه واعٍ، وهذا الوعي يجعله يدرك «أنّه سيّد نفسه وأيّامه». وهكذا بالنسبة إلى كامو، إنّ عالم سيزيف الّذي لا تحكمه إرادة الآلهة «لا يبدو عقيمًا أو عديم الجدوى». وهنا يكمن معنى هذه العبارة المحيّرة: «علينا أن نتخيّل سيزيف سعيدًا». لا يمكن أن يكون سيزيف سعيدًا إلّا بالتخلّي عن نعمة الحياة بجعل نفسه «مستقلًّا عن القدر». عند هذه النقطة يمكننا القول إنّ سيزيف سعيد؛ لأنّه أدرك مصيره واحتضنه نابذًا وسائل الراحة التي كانت سبب عقوبته في المقام الأول.
لقد أراد كامو منّا محاكاة هذه المرونة التي تمتّع بها سيزيف على الرغم من معرفته باللّاجدوى التي تنطوي عليها عقوبته. يبدو أنّ من الضروري أن ندرك هذه العبثيّة؛ إذ بمجرّد أن نعترف بها، سيتبدّى لنا أنّ العالم يختلف عن عقولنا الحسابيّة، وعندها سنبدأ بالعيش بصدق أكثر.
أعتقد أنّ موقف كامو لن يجعل مهمّة سيزيف أقلّ عبثيّةً، لأنّه حتّى لو ظهر فجأةً ثقب أسود وابتلع كلّ شيء، فإنّ كدحنا لن يتغيّر، وإن لم يبق له أثر في ذاكرة إله كلّي العلم وكليّ القدرة، فلا بدّ له أن يتحلّل في ميتافيزيقيا ما، ميتافيزيقيا نرسم نحن معالمها! ولعلّ هذا هو السبب الذي يجعل من الأسطورة تحظى بمكانة مهمّة في الأدب والفلسفة.
مصير سيزيف، الفعل المتكرر الذي لا يحقق شيئًا، يرمز إلى حياتنا اليوميّة. تجعلنا استعارة سيزيف-العامل المفهوميّة نطرح السؤال عمّا إذا كان بإمكاننا أن نكون سعداء. وفي الحقيقة، السؤال عمّا إذا كان من الممكن أن نكون سعداء بالمطلق.
قد تستمرّ في تنفيذ المهام المتكرّرة كلّ يوم، ولكنك ستستيقظ ذات صباح وتسأل: «لماذا؟». قد تركض إلى أقرب شرفة وتقفز فالانتحار قد يكون خيارًا، لكن اختيار الشفاء هو طريق آخر. الخوف من وضع حدٍّ لحياتك بدلًا من السقوط فوق الجرف، الذي يُعرَّف بأنه القلق الوجودي، لا يزال يربطك بالعالم، كما أنّ إنهاء حياتك لا يزال مؤلمًا، ويسبب لك قلقًا، حتى لو كنت مدركًا أنّ الحياة لا معنى لها.
ربّما ما يجعلنا نستمرّ بالرغم من عبثيّة أيّامنا الثقيلة هو إمكانية أن نختار، إذا أدركنا أنّ العالم ليس له أيّ معنى آخر غير الذي نخصّصه له. هذه الوقفة أو الوعي أو الإدراك أو مستوى التفكير، مهما يكن اسمها؛ هي الشجاعة للعيش بدون هدف.