مقالات

فيلسوف يُعادي المكتبة!

محمد صلاح بوشتلة

«كانت مكتبتي تكفيني

مثل دوقية» – شكسبير

المكتبة ليست مجموعة رفوف وأكوام من الكتب، وإنما الوجه الآخر من سيكولوجيا صاحب المكتبة، وتعبير واضح عن مواقفه الخرقاء أو المعتدلة بشأن كُتّاب بعينهم، وبيان رسمي عن مدى جحود أو مدى اهتماماته بمذاهب معينة، يجمع فيها مُقتنياته التي ظَفر بها من مناطق عدّة متخيلًا إياها غنائمَ وسبايا لغزواته ورحلاته، يُراكم في كل زاوية منها أسراره التي لطالما تستّر عنها أو تبرأ منها. لا يتوقف تكوين أي فيلسوف ولا إكمال مشروعه الفكري بأكمله على المكتبة، فهذا هيجل وهو في بيرن السّويسرية، في ردوده على رسائل صَديقَيْه: شيلنج وشيللر يعترف أنه غير قادر على الكتابة، لأنه بعيد عن مكتبته، ومع ذلك ظَلَّ شيلنج يصفه بالثّورة الفلسفية التي قد تَهُبُّ في أي لحظة، وهذا ما حدث حينما عاد إلى مكتبته، في حين نجد فيلسوفًا آخر هو نيتشه بقدر ما يحب الكتب بقدر ما يكره أن تُقرأ في المكتبة، وإنما يجب أن تكون رفيقة سفرنا وساعات تجوالنا؛ فأول سؤال يُطرح على كتاب: هل كُتب في مكتبة؟ وثاني سؤال: هل يستطيع أن يكون رفيقًا في السّفر؟

تقديم

يُسمّي نيتشه القرن التّاسع عشر قرنَ الكُتب، حيث أن تَلَقِّي المعرفة، لا يكون عن أساتذة أو في مدرسة، وإنما من الكتب مباشرة، فـ «ـالأصدقاء المولَعون بالمعرفة، والذين يريدون جميعًا تمثل معرفة ما، يجدون في هذا القرن الذي هو قرن الكتب طريقًا أقصر وأشد طبيعية من «المدرسة» و«الأستاذ»»[1]. ونيتشه هو ابنٌ، لا يطاوله الشّك، لهذا القرن، وهو بهذا ابن الكتب وفلذة كبدها، غير أنه سيثور في وجه الكتب والمكتبة، ويتنصل من فضلهما، ويحاول أن يُصدِّر لقرّائه فكرة أنه ليس بذاك القارئ الكبير، فيقول: «قاعة المطالعة تصيبني بالسّقم، كما أن غريزتي تدفعني للارتياب في الكتب الجديدة، بل لمعاداتها، أكثر مما تدفعني لـ “التّسامح” معها، أو لـ “التّساهل” معها، أو ما سوى ذلك من ضروب الرّأفة»[2]، غير أن البحث في أرشيف مكتبته بيّن أن الرّجل كان يعتمد بشكل دائم على جذاذات يلملمها من مقروءاته المختلفة، ويعتمدها فيما يكتب، حتى إن من جمعوا كتابه «إرادة القوة» اختلط عليهم الأمر بين شذراته وبين ما كان يظفر به من كتب مكتبته من استشهادات يخطها بيده.

بين كره المكتبة وحب الكتب

رغم ضعف بصره فقد كان يحاول الاستمرار في القراءة إلى أوقات متأخرة وطويلة، والويل والشّنار للكتاب الذي يضعه بين يديه طويلًا، ليرجع طاويًا دون شيء، فـقد كان عدوًّا لدودًا لكل المؤلفين الذين يرخون العنان للكتابة دون أن يدركوا ذلك الغيظ الدّفين الذي يصيب القارئ حينما يتنبّه «إلى أن المؤلّف قد احتاج خمسين صفحة ليمنحه خمسة أفكار، إنه غيظُ من جازف بما تبقى له من النّظر دون الحصول على تَعويض تقريبًا»[3]. لم يكن ضعف بصر نيتشه الحاد ليكُفّه عن مراودة الكتب والمكتبات، كما لم يمنع أرسطو ضعف بصره من أن يكون من القراء الكبار لما يأتيه من الكتب من البلاد التي يفتحها تلميذه ألكسندر. ليداوم نيتشه على المطالعة، بل وحتى على نقل فقرات طويلة لما يُطالعه، حيث نجده يقرأ ويسجل مقاطع مختلفة القدّ منها، من كتابات فيكتور هيهن، ومن أعمال تولستوي، ومقاطع مهمة من «فاوست»، ومقاطع أخرى من أعمال دويستويفسكي وباسكال وآخرين.

إذا كانت كُتب نيتشه التي ألّفها تتحدث عن انتصاراته[4]، وتضم بكل مباهاة هويته فقط[5]، فإن مكتبته ضمّت جوقة أعدائه البغيضين الذين لطالما أعلن عن عدائه لهم كالبقرة الحلوب جورج صاند، والعجوز الألماني كانط، والصّديق العدو أفلاطون والأخباري الرّهيب هوميروس. ومنسوب الصدق في كتب كل هؤلاء هو ما يجعل القارئ صادقًا، عند اجتذاب كراهيته ونفوره[6]. بل قد تتضخم قوة الكتاب لتسجّل انتصارًا آخر على الكاتب نفسه، بحيث قد «يفاجأ الكاتب مفاجأة لا تنتهي حين يرى كتابه الذي انفصل عنه يحيا حياته الخالصة، ليتشكل لديه الانطباع الذي قد يتشكل لدى حشرة انفصل عنها جزء منها وصار يحيا مستقلًّا. قد ينساه تمامًا، قد يسمو فوق الأفكار التي ضمنها إياه، قد لن يفهمه بعد، وقد يكون فقد تلك الأجنحة التي كان يحلق بها حين كان يتأمل الكتاب: وها هو ذا الكتاب يبحث عن قرّائه، يبعث الحياة، يلهم الفرح، يلهم الرّعب، تتولد عنه أعمال أخرى، يصير روح بعض التّصميمات وبعض الأعمال. باختصار، يحيا ككائن له روح وعقل ولكنه مع ذلك ليس إنسانًا. لعل الكاتب قد جلب أسعد الحظوظ لأواخر أيامه يكون كل ما كان لديه من أفكار وأحاسيس حاملة للحياة، من قوى، من سمو، من إشعاع، ما زالت تحيا في كتاباته، إنه لم يعد يمثل سوى الرّماد بينما ناره قد توزعت في كل الأفاق ولم تنطفئ» [7].

في أسفاره الكثيرة كان نيتشه يختار رفاقه من الكتب بشكل جيّد، ليحمي نفسه من وحدته التي اختارها، وليذود عن طمأنينته في وجه المناظر الكئيبة التي قد تصادفه، وكل ذلك بعيدًا عن فكرة أن يقرأها داخل مكتبته، فكان يتجشم عناء حمل الحقائب الكبيرة من مدينة لأخرى، ومن سفر إلى آخر، فالكتب كانت تمنحه القوة ليستمر في العيش، وليتشبّت بالحياة، وهو العليل دومًا، فـ«ـكل الأشياء الجميلة تحثُّ بقوة على الحياة، وكذلك يفعل كتاب جيّد»[8]، حتى لو كان كتابًا «كُتب ضدّ الحياة»[9]، فالكتب، مهما كان الحال، تُسدي لنا خدمات جليلة بأن تُخرج إلى النّور أمراض قلوبنا التي كانت خفية[10] أو ربما تداويها وتُبرئها من البُغض والمقت.

كان نيتشه يُثابر ليحصل على أجود الكتب؛ إذ الحصول على كتاب جيّد أمر لا يستحق الفرح العادي، وإنما الاحتفال، فـ«حيثما وجدت مزية الاقتضاب في الأسلوب ومزية الهدوء والنّضج لدى مؤلف ما، توقف وأقم عيدًا وسط البيداء، فإن هذا الحبور لن يعود إليك إلا بعد أمد طويل»[11]، خاصّة ونيتشه كان دائم التّشكي من وجوده وسط جمهوريات متطاحنة من الكُتّاب الرّديئين، واللّاذعين والمتشدقين، فكان يمجّد كل كاتب يستحق أن يُقرأ له، وكان يطلب من قُرائه، على قلتهم، في زمنه، أن يقرأوا لهذا الكاتب بالضّبط، ويحذروا البقية، ولا يتورع في أن ينصح بكُتب تصلح لأن تكون رفيقة السّفر؛ لأنها تُضفي على وحدة المسافر أُنسةً وأُلفةً، ويخوّف من كتب أخرى لأنها قد تكون سببًا في موت صاحبها من مثل كتاب الإنجيل رغم نواياه الطّيبة.

ويبالغ نيتشه في ضرورة اختيار ما نحصل عليه من كتب إلى أن يصل بنصائحه بألا نقرأ أبدًا أي كتاب تم تعميده بالمداد[12]، وإنما الاقبال فقط على الكتب التي تم تعميدها بالدّم والآهات والمعاناة، ما دامت الحقائق لا تُكتب على أجسادنا بطعنات السّكين، وإنما يمكن نقلها على صفحات الكتب، ومن هنا يستحب ألا نقرأ أبدًا لمؤلف يظهر أنه أراد تأليف كتاب، ولكن فقط للمؤلفين الذين تصير أفكارهم كتابًا فجأة دونما نية في تأليفها[13] لدواعي أكاديمية.

وبما أن الكُتب تظل في الأخير سجلات انتصارات ما، فلا يمكن أن يحصل الإنسان على شيء أفضل وأحسن، بحسب ما يؤكد نيتشه، من أن يكون قريبًا من أحد هؤلاء الكُتّاب المنتصرين الذين تغزو أكتافهم وصدورهم النّياشين، لا صحبة الكُتّاب الذين لا يفلحون إلا في نشر الكآبة والعجز ووصف القهر الذي ابتز حياتهم. وتبقى لكتب هؤلاء المنتصرين قُدسيتها، وهيبتها التي لا يمكن لمن هبّ ودبّ تجاوزها، تفرض احترامها على الشّاب الغرّ وعلى الشّيخ الهرم الذي أدّبته الحياة والكتب، إذ يجب دومًا وضع مسافة من الرّهبة والتّوقير بين القارئ والمقروء، لذا يصف نيتشه بالتّطفل دخول المرء، وهو ما يزال شابًّا، في علاقة حميمة مع أشهر الأعمال الأدبية على الإطلاق ليقلدها مع رفع الكلفة، إذ يُعد هذا دليلًا على غياب تام للحياء[14].

«إليّ أيتها الكتب الممتعة، يا كتب الفكر والعلم!»[15]، هكذا كان نيتشه يخاطب ساكنةَ رفوف مكتبته الموقرين. مكتبة نيتشه أو بالأحرى حديقته الخلفية التي كانت تكشف عن روحه السّنجابية التي لا تكف عن القفز من غصن معرفي إلى آخر؛ بشغبٍ وشَغف، ليختار استشهاداته التي كان يصفها بالأحجار الكريمة التي ينبغي الحذر في التّعامل معها[16]. إلى جانب أن الكتب حلّ لكثير من مشاكلك، فهي بحسب نيتشه تعفيك من ملاقاة أصحابها، وحتى من وجودهم في بيتك بما قد يكلّفك شَغل مساحة أكبر بكثير من مساحة كتبهم، وقد يثقل كاهلك بواجبات إكرامهم، فتصير المكتبة قاعة ضيافة أكثر اقتصادًا.

ويمكنك أن تتخذ من أي كتاب شيخًا تتعلم على يديه، لذا فحينما عثر نيتشه على شيخه المربي: شُوبنهَاور، إنما عثر عليه وهو في صيغة كتاب، ليُحسّ أن هذا الكتاب ينوب عن الجلوس في حضرة المربي والشّيخ شُوبنهَاور الذي رأى نيتشه أن ما أكسبه فلسفته إنما هي الحياة والكتب. لذا كان يبذل جُهدًا مضاعفًا ليستحضر روح شُوبنهَاور الحية، ويجالس شخصه المتحرك. ليربط علاقة خاصّة بأهم كتبه: «العالم إرادة وتمثلًا»، علاقة تُفجرها قولته: «لقد كنت أقرأوه وكأنه كُتِب لي … لقد كنت أصرخ عند كل سطر (…) هنا رأيته مرآة لمحت فيها كل العالم، والحياة، وروحي في تمجيد رهيب (…)، هنا رأيت السّقم والعلاج، المنفى والملاذ، الجحيم والجنة»[17].

المكتبات والهواء الطلق

في رحلاته إلى نيس كما إلى جنوة أو سيلس ماريا أو تورينو أو سورينتو، سنجد نيتشه مضطرًّا لأن يضع كتبه في صناديق ثقيلة، ليسهل عليه التّجوال بها بين المدن المطلة على المتوسط، رغم أنها تجاوزت في لحظات معينة المئة كليوغرام كما هي حالته في أحد زياراته إلى روما، حيث نَسي أمتعته في المحطة، وقد كانت أغلبها كتبًا ومخطوطات تزن في مجموعها مائة وأربعة كيلوغرامات من الورق. فنشاط القراءة يتخذ صيغته الصحية عند السّفر عند أخذ مسافة من المكتبة. سفر يسمح له باقتناص واقتناء كتب جديدة، كما هو من أجل تأليف كتب جديدة أيضًا، فيما يسميه نيتشه بهجرة الذّكاء حيث يَعبُر النّاس الحدود، إما ليقرأوا كتبًا جَيّدة أو ليؤلفوها[18].

يُطَالب نيتشه قُرّاءه، غير ما مرة، بقراءة كتبه لا على أرائك مكتباتنا الوثيرة، وإنما كفواصل لسفرٍ طويل، فيقول: «لم أكتب هذا الكتاب لتتم قراءته من البداية إلى النّهاية مباشرة، ولا ليقرأ بصوت مسموع، بل ليتصفحه القارئ خاصّة أثناء مَشيه أو سفره. يجب أن يتمكن باستمرار من الغوص فيه وإخراج رأسه منه، ثم ينظر حوله فلا يرى شيئًا مألوفًا»[19]، فالأسئلة الأولى المتعلقة بقيمة كتاب، هي: «هل يستطيع أن يمشي؟ وفضلًا عن ذلك، هل يستطيع أن يرقص؟»»[20]، ولهذا كنّا نجده مرّة يحمل نسخة من كتاب «فاوست»، وهو يتجول في جبال الآلب الإيطالية كما تذكُر أخته ورفيقته في الرّحلة إليزابيث، ومرة أخرى نجده يأخذ في رحلة تَسلُّقية لجبل Pilatus مقالًا لفاغنر «عن الدّولة والدّين»، فالكتب وجب أن تُقرأ حيث كُتبت أول مرة كما في حالة «فاوست» التي رسم غوته خطّته وهو في إيطاليا.

رغم أنه يظهر أو يحاول أن يظهر في صورة الذي لا يدخل مكتبته إلا لمامًا، أو بأن يسوّق نفسه بأنه لا يُطالع بالمرة، لا ليوم أو يومين، بل لسنوات، كما يقول عن نفسه: «لقد تم “إنقاذي” من الكتب، إذ كنت أقضي سنوات عديدة دون أن أقرأ شيئًا: وذلك أكبر معروف أُسدي إليّ»، غير أن نيتشه كان منغمسًا في مكتبته، وبقاؤه بين كتبه كان فترة حضانته اليومية لما سيكتبه عشيةً، بعد جولة في طرقات قرية إيز (Èze) الفرنسية أو عند سواحل بحيرة سيلس ماريا (Sils-Maria) السّويسرية، وإن أراد أن ينعزل بنفسه عن العالم، فإنه سيفك عزلته أمام أول كتاب يفتحه، لذا يتساءل ويجيب في نفس الوقت: «هل سأُطيق أن تتخطى أفكار أجنبية السّور الواقي وتقتحم علي بيتي؟ هذا ما سيحدث لو شرعت في القراءة»[21].

لقد كان نيتشه يقدم الدّلائل على أن القراءة والمكتبة إنما تنتزعانه من نفسه، وبقدر ما تجوبان به أرجاء علوم جديدة، ونفوس أخرى، فإنها تُوثِقه وتُفسد عليه صفاء أفكاره فـ«حين أكون منهمكًا في العمل لا تُلازمني الكتب: إنني أحترس من ترك شخص آخر يتكلم، أو حتى يفكر، بالقرب مني … وعلى مثل هذا يكون الأمر حين أقرأ»[22]. لهذا كان يُفضل أن يأخذ قلمًا ومذكرة صغيرة ويخرج إلى الغابة، بعيدًا عن مكتبته، وإلا فإن جمهور القراء سيكونون سريعين في حزر الطّريقة التي انتهى بها كاتب ما «إلى أفكاره، جالسًا، أمام الدّواة، البطن معصور، الرّأس مكبة على الورق (…) يشعر المؤلف ببقية ألم من أمعاء الكاتب المنضغطة، من الهواء المنغلق، من سقف الغرفة ومن ضيقها، لا مجال للشك في ذلك».[23] والرّكون إلى المكتبة من أجل الكتابة كان وحده سببًا كافيًا من نيتشه للهجوم على أدباء كبار كفلوبير.

رغم أنه كان له في منزله مكتبة، وأينما ذهب كان هناك مكتب وكرسي، فإنه حاول جاهدًا أن يقيم الحُجّة بأن جو المكتبة جو غير إنساني بالمرّة، وغير جدير بالكتابة الجَيّدة والتّفكير العقلاني، وإنما الأمر يستلزم الابتعاد عنها وأخذ مسافة آمنة عن الكتب والمكتبة والمكتب، التي قد تكون عاملًا مساهمًا في إفساد المزاج والطَّوية، لهذا يصير المشي عنده شيئًا مُلازمًا للعملية الإبداعية، وأحد ضروراتها. لذا حينما سُئِلت أخته عن مكان عمله؛ حيث كَتب كلَّ ما كتب، ستُومئ إلى الغابات الممتدة، وإلى قمم الجبال حيث الفجاج والمنعرجات التي كان يَذرَعُها جيئةً وإيابًا. فمن بين جميع الأماكن على الأرض، كان يشعر بأن أصلحها للتأمل ولإتمام كُتبه ومنجزاته الفلسفية، إنما هي جبال Engandine السّويسرية، وقرية Sils-Maria وSils-Baselgia، أو Segl in Romansh، وأغلبها أمكنة تَنُوء عن السّهول المنبسطة بمئات الأمتار على شريط رفيع من الأرض يفصل بين بحيرة Sils وبحيرة Silvaplana وقمم الجبال الشّامخة التي كان يدعوها بأرض الله الموعودة التي تتنزّل عليه فيها أفكاره وشذراته القصيرة القامة والبالغة التأثير.

لأنه دائم الادعاء بأنّ مؤلفاته لم تُكتب في مكتبة ما، فقد كان يَعِدُ قارئه بأنه سيكتشف لوحده مكان كتابةِ نصوصه، فمن يستنشق نسائم كتاباته، يدرك أن هواءها هواءُ الأعالي والقمم، لا هواء قبو مكتبة أو في عِليّة بيت. مُنبّها قراءه في ذات الآن إلى أن الرّكون إلى المكتبات والجلوس لساعات أمام الكتب لا ينتج لنا إلا مفكرين ثُقلاء على القلب والرّوح، يصيرون هم أنفسهم ضحية للجلوس الطّويل لأداء شعائر القراءة والكتابة التي تفترضها أجواء المكتبة، والتي كاد يذهب هو ضحيتها نيتشه نفسه، لولا أن تداركه لطف المشي والتّجوال، يقول: «أدركت بأن الأوان قد حان لأعود إلى نفسي (…) أمضيت عشر سنوات توقفت فيها تغذية عقلي تمامًا، ولم أتعلم فيها أي شيء مفيد، وانكببت فيها على التّبحر في دراسة الكتب القديمة المغبرة فنسيت كل شيء. تحولت إلى ما يشبه بزّاقة (limace) حسيرة النّظر أزحف وسط علم عروض القدماء. بدأ الهزال يصيبني بشكل مريع، أصبحت عبارة عن عظام يكسوها جلد»[24]. فقد رأى نيتشه كيف أن نوابغًا ولدوا ليكونوا أحرارًا غير أنه تم تدمريهم بسبب المكتبات وطول القراءة وهم في الثّلاثين من عمرهم، وتحولوا إلى مجرد أعواد ثقاب[25]، فكان يجب التّحرر من سطوة المكتبة والابتعاد عن الجلوس الطّويل أمام رفوفها، وإلا ستصير أقدام الباحث صلصالية، دون أن نترك الفرصة للعقل لأن يستأثر بنفسه، ويحتك لوحده بمشاكله، ويحاور خوالجه وينصت لهسهستها، فهذه هي الطّريقة المثلى لأن يصير الرّجل فيلسوفًا عميقًا وناضجًا، فـ«ـأنّى للمرء أن يصير مفكرًا إذا لم يكن يقضي على الأقل ثلث اليوم بعيدًا عن الأهواء والنّاس والكتب؟»[26]. فأن تستفيق صباحًا، والعقل في أوج انتعاشه، وتدخل مكتبتك وتأخذ كتابًا لتقرأه هو ما يصير لدى نيتشه رذيلة غير محتملة، وذلك عوض أخذ طريق طويل وقطعه مشيًا.

لم يكن نيتشه بحاجة إلى مكتبٍ وسط مكتبة، يجلس خلفه، أو أريكة يتكئ عليها، ويسند إليها مَرفقيه، ليكتب عليها بشكل مُترف جدًّا. لقد كان يعتقد أنه كما من حقه أن يعرض جلده وملابسه لأشعة الشّمس، فمن حق أفكاره أن ترى نور الشّمس، وإلا ستبقى عرضة للرطوبة والعفونة التي تعاني منها جل المكتبات، فضلًا على كونه في الأصل مُنتمٍ لمنطقة الشّمال، وبالتّالي معاناته المستمرة من فقر الدّم[27]، مما يفرض حاجته الدائمة إلى شمس الجنوب الجمُوحة، لا إلى ظُلمة المكتبات الرّطبة جدًّا التي تنتج لنا مفكرين على شاكلة الأبقار الحلوبة أو الدّواب السّمينة المصابة بأنواع الرّوماتيزم الذي يقود عادة إلى خدر في الجسد وشلل في الأفكار، يقول: «لسنا من أولئك الذين لا يتوصلون إلى تكوين أفكار إلا وسط الكتب، إلا عند اطلاعهم على الكتب، عادتنا نحن هي أن نفكر في الهواء الطّلق، ونحن ماشون، ونحن نقفز، نتسلق، نرقص، بالأحرى بين الجبال المنفردة أو القريبة جدًّا من البحر، هناك حيث الطّرق ذاتها مفكرة»[28]. لذا يمكن العمل بالمكتبات فيما يمكن أن يكون أداته هو الخشب فـإذا بدأت الغابات بالاختفاء، سيحين الوقت لاستخدام «المكتبات كخشب وقش وبلاط، طالما أن أغلب الكتب ولدت من أبخرة ودخان الرّؤوس، فيمكنها أن تتحول مرّة أخرى إلى أبخرة ودخان. وإذا لم تشتعل فيها بعض النّيران، فينبغي معاقبتها بالنّار»[29]، ولهذا كانت كثرة الأسفار والرّحلات التي خاضها شُوبنهَاور رفقة والده، بعيدًا عن المكتبات، هي من قادته إلى «أن يتعلم لا أن يحترم الكتب بل البشر»[30].

 

خاتمة

مهما قال عن المكتبة ومهما وصف جوّها، فهو كفقيه لُغة متميز وغريب الأطوار أكيد سيُعز مكتبته بشكل غريب الأطوار، إن باحثًا مثله لا يمكن أن يرى نفسه دون جماعته التي ألِفها، وهي جماعة المؤلفين من كل الأزمنة ممن يؤثثون مكتبته خاصة وقد كانت له قدرة خاصة على بعثهم وتكليمهم ومحاورتهم كما يدعي، إلى جانب أن الرّجل لم يستطع أن يتنازل عن أي من كُتب مكتبته، إذ حينما أخذ في بيع ممتلكاته وأثاث بيته في بازل، لينتقل إلى مسكن بسيط في ضواحي المدينة، بالقرب من حديقة الحيوانات، تحسّبًا لاستقالته من الجامعة، وتحسّبًا لضيقه المادي الموعود بسبب تقاعده، فإننا نجده لا يستطيع أن يتخلى عن مكتبته، فالعالِم يبيع ثيابه، ولا يبيع كتابه. ليحتفظ بها جميعها، تاركًا كثيرًا منها بيد أخته إليزابيث وليحتفظ له بصندوقين من الكتب التي سترافقه في أسفاره وجولاته.

[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]

[1]– ف. نيتشه، المسافر وظله، ضمن إنسان مُفرطٌ في إنسانيته، الشّذرة: 180، «الأساتذة في قرن الكتب»، ترجمة: محمد النّاجي، ج. 2، ص. 172.

[2]– ف. نيتشه، هَذا الإنسَان، ترجمة: محمد النّاجي، الدّار البيضاء: أفريقيا الشّرق، 2013، ص. 36.

[3]– ف. نيتشه، إنسان مُفرطٌ في إنسانيته، الشّذرة: 143، الأعمش، ج. 2، ص. 161.

[4]– يطيب لنيتشه استعمال هذه الكلمات من القاموس العسكري لوصف كتبه، فيصف مثلًا إهداء فاغنر له أحد كتبه، في مقابل تلقي نيتشه في نفس اللّحظة لكتابه المطبوع للتو بأنهما قعقعة سيفين التقيا (انظر ف. نيتشه، هذَا الإنسَان، ص. 80.).

[5]– ف. نيتشه، إنسان مُفرطٌ في إنسانيته، مقدمة، ج. 2، ص. 9.

[6]– المصدر نفسه، الشّذرة: 145. «قيمة الكتب الصّادقة»، ج. 2، ص. 49.

[7]– المصدر نفسه، الشّذرة: 208، «الكتاب الذي كاد يصير إنسانًا»، ج. 2، ص. 115.

[8]– المصدر نفسه، الشّذرة:16، «كل جيد يمنح الرّغبة في الحياة»، ج. 2، ص. 14.

[9]– المصدر نفسه، الشّذرة:16، «كل جيد يمنح الرّغبة في الحياة»، ج. 2، ص. 14.

[10]– المصدر نفسه، الشّذرة: 58، «كتب خطيرة»، ج. 2، ص. 26.

[11]– المصدر نفسه، الشّذرة: 108، «أعياد نادرة»، ج. 2، ص. 153.

[12]– المصدر نفسه، الشّذرة: 130. «اقتراح حازم»، ج. 2، ص. 159.

[13]– المصدر نفسه، الشّذرة: 121، «قسم»، ج. 2، ص. 156.

[14]– المصدر نفسه، الشّذرة: 69، «تطفّل»، ج. 2، ص. 28.

[15]– ف. نيتشه، هذَا الإنسَان، ص. 36.

[16]– المصدر نفسه، ، الشّذرة: 111، «حذر في الاستشهادات؟»، ج. 2، ص. 154.

[17]– ف. نيتشه، شُوبنهَاور مُربّيًا، ترجمة: قحطان جاسم، الرّباط: دار الأمان؛ 2016، ص. 8.

[18]– ف. نيتشه، إنسان مُفرطٌ في إنسانيته، الشّذرة: 231، «أخطر الهجرات»، ج. 2، ص. 190.

[19]– ف. نيتشه، الفجر، ترجمة: محمد النّاجي، الدّار البيضاء: أفريقيا الشّرق، 2013، الشّذرة: 454، «استطراد»، ص. 235.

[20]– ف. نيتشه، العِلْمُ المَرِح، الشّذرة: 366، «إزاء كتاب علمي»، ص. 233.

[21]– ف. نيتشه، هذَا الإنسَان، ص. 35.

[22]– المصدر نفسه، ص 35.

[23]– ف. نيتشه، «العِلْمُ المَرِح»، الشّذرة: 366، إزاء كتاب علمي، ص. 233.

 [24]- ف. نيتشه، «هذَا الإنسَان»، ص. 78.

[25]– المصدر نفسه، ص. 78.

[26]– ف. نيتشه، المُسافِر وظلُّه، ضمن «إنسان مُفرطٌ في إنسانيته»، الشّذرة: 324. «أن تصير مفكرًا»، ج. 2، ص. 214.

[27]– ف. نيتشه، «ما ورَاء الخَير والشّر»، الشّذرة: 254، ص. 236.

[28]– ف. نيتشه، «العِلْمُ المَرِح»، الشّذرة: 366، «إزاء كتاب علمي»، ص. 233.

[29]– ف. نيتشه، «شُوبنهَاور مُربّيًا»، ص. 50.

[30]– المصدر نفسه، ص 104.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى