
تحتوي المقالة على حرق كامل لأحداث الفلم
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
استهلال
من مُنطلق أسلوبه الفني الذي يُمازج بين الرُومانسية والرُّعب، يتفرّد المُؤلف ماثيو توري في فيلمه «عِدائي» Hostile، بِخلقه مسافة غير قابلة للاختزال، بين التأليف «السينما توغرافي»، و«النوع الثيماتي». فيُثمر عن هذا التلاقح رؤية جديدة ومُجدّدة لمُحتوى الشاشة السينمائية العالمية والفرنسية بخاصة، تُحسَب بلا جدال لِصالح إبداعات سينما المؤلفcinéma d’auteur (1) وهي عمومًا السينما التي تعتزم المُغامرة والخَلق بالمُضيّ في الأراضي المُتعرٍّجة وتَحمُّلٍها للمخاطر، بعيدًا عن تكرار للموضوعات وتلبية مُتطلبات السُوق السينمائية. ومن ثمّ فإن السينما التي ستُثير اهتمامنا هنا، ليست السينما المُهيمِنة إلى حدٍ كبير – أي تلك الصناعية – ولكن ما يُسمى بسينما المُؤلِّفين، تلك القادرة على إنتاج أعمال فنيّة ذات بصمةٍ وأثر.
إنّ المؤلِّف مبدع مُستقِل، يتميز بالتزامه، وحِدّة نظرته إلى المجتمع والواقع، وهو مُفكِّر أصيل في القضايا المُختلفة التي يطرقُها وينقُلها لنا عبر الكاميرا والصُور المتحركة. ويدخل المخرج ماثيو توري ضمن هذه الدائرة المُغلقة من المخرجين الذين يترجمون هذا التوجه. إذ قليل هُم من تجرّأوا وضع أعناقهم على الطاولة، في سبيل إنتاج مثل هذا النوع من الأفلام، والسّبب في هذا التعقيد، يعود بالأساس إلى مُشكلة الوسائل الإعلامية والثّقة والشجاعة من قِبل المُنتجين والمُوزعين، وأيضًا لعدم وجود وسائل قُوة دافعة للعُثورعلى الأفكار. غير أنه وإن كانت المُنتجات من هذا النوع معقدة بشكلٍ عام في التنفيذ، وتُمثّل تحديًا حقيقيًا في جلب المتفرجين إلى دور العرض، فإن معظم عُشاق السينما المُفكِّرة يُسعدهم دائمًا أن يروا مؤلفين جدّيين، لديهم معرفة حقيقية وعُمق فلسفي يُحيط بأعمالهم.
بعد إتمام كتابة سيناريو الفيلم والعزم على إخراجه، سيقع السيناريو في يد غزافي جينس – وهو اسم رائع في السينما الفرنسية – والأخير سيقرر إنتاج فيلم توري، الذي ضمّ طاقم تمثيل شمل كُل من: بريتاني أشوورث، جريجوري فيتوسي، خافيير بوتيه، جاي بنديكت، ديفيد جاسمان، كارل جاريسون، ريتشارد ميمان. سيختتم الفيلم تصويره خلال صيف عام 2016، ويتم اختياره لمهرجان نوشاتيل الدولي للأفلام، حيث فاز بجائزة وقُدّم في العرض العالمي الأول. لقد أنتج المخرج الفرنسي توري فيلم «عِدائي»، بناءً على سيناريو أصيل من تأليفه وكتابته، الشيء الذي أبرز هوية عَملِه «كسينما المؤلف»، التي غالبًا ما يتم استيعابها ضمن «سينما الفن»، أو «السينما البحثية».
يخُوض توري في فيلمه هذا نوعًا من المُجازفة التي أصبحت نادرة عند صُنّاع الأفلام، وذلك من حيث إقحامه لنوعين مُتعارضان: الرُومانسية والرُّعب، وجعله من تَصادُهما صُورة واقعية يتفتّق منها خيال الأحداث. وليس هذا الفيلم الروائي بسلسلةٍ عشوائية من الصور المُثيرة؛ لأن طاقته الشُعورية لا تستند فقط إلى الإدراك البصري، بل تنهَض على الخصائص الأساسية للقصة (لا سيما الثيمة والشخصية) التي تتجه نحو العلاقات الإنسانية والطريقة التي تتطور بها بعد الدراما. وهي تحتوي في سير خُطوطها «الميلودراما»، و«الفانتازيا الخيالية» معًا؛ كما رأينا مثلاً في رائعة «الحسناء والوحش» المُندرجة ضمن أعمال المخرج كوكتو (حيث تتداخل الأحلام المجنونة مع الفظاعة المُربِكة).

إن سياسة المؤلفين في دراسة الفيلم وإنشائه – وفقًا لما أشار إليه فرانسوا تروفو – تَعتبر هذا الأخير استثمارًا للخيارات الجمالية للمُخرج، وليس كعمل كامل، يُنسب إلى نوعٍ سينمائي مُعين أو فيلم النوع (2). ولكون المُخرج مُؤلِّفًا بطبيعته، يعني ذلك أن لهُ سُلطة كاملة على أفلامه، يتخطّى بمُقتضاها الحُدود الفنّية، من أجل تحديد أسلوبه الخاص (3). ثم إنّ لهذه الحُريّة في إخراج الرُؤى من طبيعة فكرية إلى مادّةٍ معروضة بصريًا، تقاطعًا مع مُصطلح الحساسية الجديدة New sensation، الذي برَز في خِضم النقاش عن وُجود أنواع ما بعد حداثية، بوجود لنظريات النوع ما بعد الحداثي. وهذه النظريات تتقاسم القناعة التي ترى أنّ «الفن لم يعد مُحاكاة للواقع ولا حتى هو مُوازيًا له، بل أصبح عالمًا قائمًا بذاته» (4).
يَبتكر الفيلم أيضًا أدوارًا لـ«مُمثِّلي الشخصيات»، ويستفيد من التأثيرات العملية الإجرائية التي لا يُمكنها التّطور إلا في «مختبر الأداء التمثيلي الفيلمي». فعلى صعيد الخلق الإبداعي والفني للصورة، يرسُم المُخرج بواسطة الكاميرا مخلوقا لم يسبق له مثيل في السينما. يتحول المخلوق المُخيف أو«الزومبي» الذي يهاجم البطلة جولييت إلى شخصية كاملة، تبرز كواحدة من أقوى العُروض الجسدية في مهنة خافيير بوتي؛ الرجل الذي استطاع أن يصنع لنفسه اسمًا كبيرًا من خلال حركاته الجسدية، وقُدراته على الالتواء (5). كما يقدم لنا فيلم «عدائي» مدخلاً تفكرّيًا في المُمكنات الجمالية المأمول استطلاعها من أفلام الرعب. فالرُّعب يخدم بشكلٍ قاطع الخيال الفني، كما يُمكِّننا من اكتشاف العُمق المركزي الداخلي للإنسان (حسب الرسام فرانسيس بيكون).
غير أن تسليع الإحساس بالخوف والرُّعب في السوق السينمائية خاصة الغربية، قد سهّل على عددٍ من استوديوهات الإنتاج السينمائي المدعومة رأسماليًا، رصف أفلام الرُعب في منطقةٍ رِبحية – تجارية، تكاد تخلو من أيّ حسّ جمالي أو رسالة إنسانية، وتهيم بالمُقابل في مُستنقعات العنف والتّقتيل والدّموية والإثارة الحسية وتتلاعب بانفعالات المشاهد ومخزون غريزة العدوان لديه. بدليل أن الفيلم وهو يُنافِسُ على مكانته في مهرجان ليلة الرُّعب السينمائي، قد أرضى الاشباع الاستهلاكي لدى غالبية المشاهدين، عوض إثارته الشغف الفكري الآخذ إلى حلّ شيفرة القصة ومنطق الحساسية الفنية التي تمتّع بها الفيلم.
قصة برأسين: ثنائية عوالم السرد
يحفر المخرج عبر تقنية الفلاش باك قناة للذهاب والإياب في ممرات الذاكرة، والترحّل بين «العوالم الثنائية»، التي ستُمكِّن من إعطاء نفَسٍ إلى المجموع في نهاية القصة. فالرؤية ثُنائية القُطب للفيلم ستجعله يتكشّف عن عبقرية الزمن عبر خطوط متوازية، واحد يحدُث في الماضي والآخر يحدُث في الوقت الحاضر. حيث تكون البطلة هي وجهة نظرنا الوحيدة في هذا الكون الذي اختفى منه الإنسان تقريبًا، وأيضًا الشخصية المحورية التي تربط بين عوالم السرد الثنائية. ففي مستوى أول من العرض، وقبل انعكاس السرد على العالم الموازي (العالم الطبيعي أو عالم ما قبل الخراب) المُسترجع على مدار القصة عبر تقنية الفلاش باك، تُفتح وقائع السرد الفيلمي على صحراء غير مِضيافة وغير مُحددة المعالم، تُقربنا منها أفقيًا اللّقطات الجوية المؤطرة بدقّةٍ من حيث الإحساس بالإطار والذّوق الواضح في التّدريج، يجعل المُشاهد يتوهّم سُقوطه في نفس الجحيم العدمي apocalyptique. ثم تبتلع تدويرات أحجام العدسة خواء الصحراء الواسعة عبر تسلسلات قريبة تنتهي بطيّ مسافة النّظر عند وجه شخصية جولييت المُلثّم، لتترك العُيون وحدها من تتكلم عن وحدتها، لتواجهنا اللغة البصرية أيضًا بهذه الوحدة التي تعتصر كيان البطلة وتعدّنا لمحنتها ومأساتها القادمة. علاوة على ذلك، فإن الشعور بالوحدة في المشاهد الأولى، سوف يُردِّد صدى بقيّة الفيلم؛ أيّ أن جولييت في الحقيقة كانت أسيرة الماضي الذي أوصلها إلى هذه اللحظة الدقيقة في حياتها، لقصة حُبٍّ ناضلت من أجل كشفها، مكونة من حنينٍ وندم، ومستقبل بلا مستقبل.
تلتفُّ قصة فيلم «عِدائي» حول امرأة عالقة في صحراء مُوحشة وقاحلة، تترك وراءها عُشًا يضمُّ ما يقرب أربعين ناجيًا من هُجوم بالغازات السامة، أهلك معه معظم الجنس البشري وحوّل آخرين مِمّن مسّهم من الأحياء إلى مُسوخ. جولييت هي الوحيدة التي تتجرأ على المغامرة بالقرب من المدن، لديها روح المثابرة حتى في أصعب الظُّروف. وفي كل يوم تُسافر بمُفردها، وتواجه المخاطر لوحدها، بحثًا عن المؤونة والوقود والأدوات المهجورة. أيّ شيء يمكن العثور عليه تحت الأنقاض، من أجل مساعدة نفسها والمجموعة للاستمرار ليومٍ آخر. في طريق عودتها إلى المُخيم – الذي لم نشهده في الفيلم – وقبل غروب الشمس وخروج الكائنات الزومبية للصيد – استسلمت جولييت إلى مشاعرها وحنينها وعاطفتها الإنسانية، فقامت بتشغيل مقطوعةٍ موسيقية داخل جهاز الاستماع داخل العربة.

نلحظ كيف يُخرج المؤلف من هذا المشهد صورة دالة عن فرادة الصوت عند الكائن الناطق étre – parlantوهو طرح ثيماتي من شأنه الإعتراف بـ«الصوت» كدافع أو نزوة من الناحية التحليلية النفسية؛ أيّ استعادة تأثير الصوت نفسه، كوحي للعالم والحياة (6). فكلّ سبل اقتفاء آثار وبقايا البشرية باتت شبه معدومة في عالم ما بعد الخراب، ما عدا الصوت، ولذلك تقوم جولييت بتشغيل مقطوعة موسيقية وتتفاعل مع الكلمات والصوت الطربي العابر منها، لينقلها إلى رحاب العالم الإنساني وبهجته المفقودة. وحتى يُمكنها الشعور – ولو لوهلةٍ خاطفة – بوجودها كإنسانة، وهي تردّد مع المُغني كلمات الأغنية بصوتٍ مرتفع. لكأن الشاعر إيف نيفوي قد أهدى جولييت المفجوعة في هذا المشهد أبياته التي تقول: «أحتفل بالصوت المُختلط للون الرمادي، من يتردّد في مسافة الأغنية المفقودة». ولأن الصوت – كما وضّح موريس ميرلوبونتي – يُعتبر ناقلاً عاطفيًا وجسديًا قويًا للغاية: «صوتي مرتبط بكُتلة حياتي مثل صوت أيّ شخص آخر، إنه يحافظ على حضور الآخر».
مع الأسف، وهي تنظُر إلى الصورة التِّذكارية الوحيدة التي تبقّت لها مع حبّها المفقود جاك، ستنزلق من يدها مُرفرفة خارج نافذة عربتها. ستحاول – في رد فعل لا إرادي – الإمساك بالصورة الفوتوغرافية خشية تضييع هذا الأثر المُتبقي من حطام حياتها المُستعادة في ظروفٍ صعبة، إلا أن عدم تحكمها في المِقود سيُودي إلى انحراف عجلات العربة عن الجسر، ما تسبب في انقلابها ومُلازمتها لمكان الحادثة. بعدها، ستجد البطلة نفسها معزولة، محتجزة في مجالٍ ضيق، وتحديدًا، في ماضيها. ففي الوقت الذي نرغب فيه نحن كمشاهدين البقاء مع جولييت في الشاحنة، تعود ذكرياتها إلى الظهور خلال هذه الليلة الهالوينية، لتدعونا حبكة الفيلم للعودة إلى مدينة نيويورك. هكذا حتى يرسم لنا السرد صورة عن شخصية جولييت، وهي تظهر كفأرة سريعة الحركة في شوارع هذه المدينة الضخمة، حذرة على نحوٍ خجول، وغير موثوقة من قبل الناس نظرًا لتعاطيها للمخدرات، إلى جانب معاناتها من ثقل حياة بالكاد تقضي عليها؛ امرأة تُكافح من أجل الحفاظ على واجهة في الليل لا تعكس واقعها في النهار.
سيكون كفاح جولييت في عالم الزومبي، مختلفًا عن كفاحها في العالم البشري. لقد كانت سابقًا تحاول التّخلص من شوارع مدينة نيويورك، بعد أن هربت من عائلتها وانغمست في عالم المخدرات تجارة واستهلاكًا. رأيناها تفعل كل ما يلزم لتضمن نقودًا ليومٍ آخر. أما في عالم ما بعد الخراب فقد أظهرت القدرة الكاملة على تحمل المسؤولية، ومواجهة الصعاب، والتضحية من أجل الآخر.
تنعكس جولييت أثناء محنتها على حُبّها الضائع (زوجها السابق جاك) في الوقت الذي تكون فيه مطالبة بحشد كل تركيزها وطاقتها العقلية والبدنية للكفاح والبقاء على قيد الحياة ضدّ هجوم مخلوق مُشوّه وهائج، يبدو أنه كان حريصًا على تصفيتها. يفترض ماثيو توري هنا إنتاجًا خلف الأبواب المغلقة حتى يشعر المتفرج بنفس القلق، نفس المخاوف، عبر تنظيمه جُزءًا كبيرًا من الحركة داخل المساحة الضيقة لشاحنةٍ مُدمرة تختبئ فيها البطلة جولييت.

لقد بدا المخرج حريصًا على الاستفراد بجُولييت، حتى يُشكّل بورتريه لها من داخل هذه المساحة / الإطار، وهي تتمزق، وتأنّ، وتتذكر، وتتلوى، وتحن، وتصرخ، وتبكي، وتضحك؛ إلخ، كُلها صور تتعاصر في جسدٍ واحد، وفي روحٍ تجتاز قوالب الأشكال، فتكون مثل قطعة قماش تعيش في واحة الآثار الإدراكية للربط والمسح وخربشة بصمات اللاّ تحديد. كما أنها ستسترجع في هذا الحصار – بحِرص من المؤلف – وضعيتها وهي محتجزة في بيت جاك، عندما ارتحلت للسكن معه وحاول أن يمنعها من الخروج حتى تقلع عن تعاطي المخدرات الصلبة وتتعافى كُليًا من إدمانها. حصار كان في مصلحتها لكنها لم تقدّره كفاية، مثل سائر الأفعال التي قام بها جاك من أجلها. وحتى ذلك الحين، لم يظهر ماثيو توري مظهر جاك (المسخ) مطلقًا. لقد اقترح ببساطةٍ وجوده بأصواتٍ أو مواجهاتٍ غير مرئية للمشاهد.
أثناء دُخولها في حالة فقدان للشُعور، والبدء في تلقي رسائل من أدنى طبقات العقل، تتذكّر جولييت المرّة الأولى التي قابلت فيها الرجل الفرنسي الوسيم واللطيف والمتطور جاك، داخل معرض تشكيلي يُديره. يُقرأ لقاؤهم الحواري على أنه عدواني بقوة، فيما يهتم هذا الأخير بشكلٍ خاص بإلهام الشابة على الحُبّ، وعامل الثقة، وعدم الاستسلام، والإيمان بالقدر حتى وإن أتت به الصدفة. لتبدأ رحلة عميقة في خُطوط الذاكرة من خلال استرجاع النِّقاط البارزة في علاقتهما الصّخرية والرومانسية. الصوت الصغير الذي يعمل كدليل لها هو في النهاية همس، صوت لصدىً بعيد للغاية.
عندما تستيقظ جولييت وتستعيد فاعلّية حواسها، ستجد نفسها مُحاصرة في جوف الليل داخل الحطام، معطوبة الساق، وعاجزة عن الحركة. والأنكى من ذلك، أنها مُحاطة بمخلوقات لا تظهر نيّة للمُغادرة. ويجب عليها أن تُعيد النظر في ماضيها، لاستدعاء القوة اللازمة لكي تنجو بحياتها. تسترجع ذكرياتها مع حبيبها الذي اعتقدت أنه قد مات في واقع الأحداث المسترجعة – إزاء تعرضه لحادثة سير مميتة – بينما هو لا يبعُد عنها في عالم ما بعد الدمار سوى ياردات.
إن المخلوق الذي يتجول حولها، ويريد اختراق عربتها، هو نفسه جاك، لكن في خليقةٍ مُتشوّهة الشكل، وصادمة، ومُتغيّرة النغمة الطبيعية. لنكتشف في الأخير، أنهُما (جولييت وجاك البطلين) موجُودان معًا في عالم ما بعد الخراب، حتى وإن أظهرت الكاميرا وجه شخصية واحدة فقط وهي جُولييت. لتصل بنا النهاية إلى نتيجةٍ غير متوقعة، لقاء وشوق ونزيف ووداع فوق أرض الجسد. كما يطلع من حالة الفوضى هذه القليل من الأمل و يُفسح الظلام الطريق لنور عالم أكثر هُدوءًا!
الصيرورة والمملكتان
لم تكن البطلة – التي تعيش حياة مُنحرفة تتوزّع بين التجارة في المخدرات والتعاطي لها – أهلاً لكي تحضر معرض الفن التشكيلي الذي نظمّه السيد جاك. وكان ولوجها أروقته بمثابة عُنصر طُفيلي وجد نفسه في فضاء ممتلأ بأشخاص ذوي ميولات فنية وانحدار طبقي مُتميّز. غير أن صاحب المعرض لم يُعر اهتمامه تمامًا للحضور أجمعين، سوى لهذه الفتاة التي كانت تنظر إلى اللوحات المعروضة بامتعاضٍ شبيه بالسُخرية، مما دفع حِسّهُ الفضولي إلى الاقتراب منها، إنْ لم نقل إعجابه بها من أول نظرة. فيجد الاثنان كيمياء مُذهلة تعبر بينهم على الرغم من الاختلافات الطبقية، والذوقية، والفكرية التي لا بد وأن لها تأثير في نهاية علاقتهم.
تتماسّ العلاقة الحوارية بين اللوحة والشاشة عند اللقاء الأول الذي جمع بين جاك وجولييت في معرضه الفني. تبعه نقاش بين العاشقين المستقبليين حول لوحة للرسام فرانسيس بيكون، وهي لوحة تبدو في مُنتهى الغرابة من حيث الشكل والصورة: وجه لاشكل له، أو هو يهرب من أي تحديد: قامة مُرتفعة كشموخ النخلة، وألوان طيفية تغمُر الإطار، تبدو بقايا رماد يكاد يذّر على عين الناظر، لولا تفادي العين الناظرة للحظة إبقاء التحديق في اللوحة (7). لم تتوان جولييت في استقباح اللوحة وإصدار حُكم قيمة عليها، وقد وجد جاك حكمها جدّ متسرّع وغير مُبصر لما وراء الإطار، لذا طالبها بالنظر مرّة أخرى قائلاً:
– جاك: الخُدعة مع فرنسيس بيكون، كانت في الذهاب وراء الحتمي، إذا نظرت هنا جيدًا، ستُشاهدين كم هو كبير ومتناغم.
– جولييت: يبدو مثل وحش.
– جاك: اقتربي أكثر، وانظري بإمعان إليه، لكي تُشاهدي الشيء الجميل فيه. هكذا يأمر جاك جُولييت بالتحديق في لوحة بيكون!
كل تفاصيل هذا المشهد ستسترجعها جولييت، وهي في غيوبة بعد تعرُّضها لحادثةٍ في العالم الآخر، وأيضًا وهي تُصارع الكائنات المشوهة، لتتفاجئ في الأخير، بأن من تُقاتله منهم، ومن كان يحُوم حولها طيلة الليلة الهالوينية، هو نفسه زوجها وطليقها جاك. كما لو أن ذلك الشكل المرعب الظاهر على اللوحة في المعرض، والذي أثنى عليه جاك بالجمال والتناغم والشموخ، كان يتلبّسه قبل أن يتصيّره بالفعل في العالم الزومبي. لكأن جاك قد أراها في هذه اللوحة صورته المستقبلية التي ستجدُه عليها في عالم الزومبي؛ أي كخليقة آدمية مشوهة، إنه وجه اللاّ وجه، ظُهور مظهر في وقت انقطاع المظهر. ذلك «المظهر» الذي سُحب من الواقع الموضوعي (8). ومن ثمّ فالقوة هي الشكل الذي فقد شكله، والوجه الذي فقد مَلامِحه (وجه البطل جاك). وتلك الجملة الأخيرة التي ظلّ صداها يتردد حتى نهاية الفيلم، عندما تأخذ جولييت وجه جاك المسخ بين يديها، تغرق بصرها فيه. ولم تعد ترَ القبح هناك، بل رأت الأمل والحبّ والجمال.
لقد قادتنا القراءة التحليلية في التّكون النصي لفيلم «عِدائي»، إلى إيجاد صلات وصل شبيكة مع عوالم وأسلوب الرسام الشهير فرنسيس بيكون francis bacon (المُلقّب برسول الهلع)، الذي نقدّره كواجهة خلفية لمعظم النّهل الفنّي الذي راود المخرج وهو يعتصر سينماه من فلسفة الصورة عند هذا الرسام (9). فيكرّس فيلمه بالكامل – حسب رأينا – للتعرّف على الجمال الكامن في كلّ قُبح، ووراء كل تشوّه، وتحت كلّ غطاء أو شكل (حالة الإنسان في عالم ما بعد الخراب). وهي فكرة عظيمة، طالما اشتهر بها بيكون، وأحب أن يخدمها بالرسم في لوحاته المُشرّحة للرُّعب Anatomy of Horror. فكلما أعاد فيها تشكيل الواقع من خلال إعادة إنشائه بطريقته الخاصة، بدا له أنه يقترب أكثر من الحقيقة الموضوعية (10). ويقول هنا عبارته التي تحلّ ببراعةٍ هذا التناقض الظاهري: «في مرآة الفن المشوهة، يبدو الواقع غير مشوّه».

تقفز هذه العبارة من ميدان الرسم إلى مشاهد أحداث الفيلم، وتنسكب مع الرؤية الإخراجية التي امتصت طاقتها التعبيرية من الاتجاه الفني التّصوري (عوض التصويري). بحيث لم يبدو المخرج أنه يُصوٍّر، بل يرسُم بالكاميرا نقط اختلال التوازن النفسي، والعلائقي، والوجودي بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان/ الحيوان ووجوده. فيبدأ عرضه لنقطة مُهدّدة بالسقوط في الهاوية (زوال الجنس البشري في عالم الزومبي)، ثم لعلاقةٍ حميمية في طريقها إلى التّفكك (العلاقة الزوجية المنتهية بالطلاق)، يركز أيضًا على المشاهد المكسوة بالتّشويه والتّبعثر والتخلّع Se déconstuite؛ أيّ فُقدان الشيء لبِنيته (التحولات الجسدية والروحية لأبطال الفيلم). لنلاحظ في التقييم النقدي النهائي للفيلم، أن البُعد التّصوري قد أخذ مكانة غالبة في الفيلم على البُعد التشخيصي. وهذه الفكرة تُعد جوهرية بما كان في توجيه الرؤية الإخراجية لفيلم «عِدائي».
وبحُكم أن المخرج يتبنّى في فيلمه فكرة «العالم كحادث مُصطنع» – مِثلما يهتم بيكون بالحدث من دون ماهية – قد طغت على أسلوبه تحولات فكرية مفرطة، عبّرت عن نفسها في حركة تشكيل دائمة للوقائع الفيلمية المتناثرة بين عالمين (العالم المُدمَّر، والعالم الإنساني المُستعاد). ولكي نحصل في نهاية الأحداث ولحظة الموت الثنائي للبطلين على صورةٍ سينمائية فريدة، كما لو أنهما جسدين عُجنا في رُوحٍ واحدة تُغادر بشكلٍ خاطف تُراب الأرض، مُستخرجًا من هذا المشهد الختامي للفيلم ذلك الشكل الأخير الصوري figural الخالي من سوابق المعرفة الإنسانية، والذي صنعه المؤلف من الانتزاع والعزل وتنظيف الوجود من «القناع الجمالي». ليتركنا أمام حالة غير معهودة من الإخراج البصري، باحثًا في تقديرنا عن جمالٍ خالص منفصل عن الظروف التي تدعمه.
إن ما تكونه كاميرا المخرج عند لقاء البطلين، هو منطقة لا تميّز، لا بتّية، بين الإنسان والحيوان، مثلما وجدها جيل دولوز في رسوم بيكون. حيث يصير الإنسان حيوانًا، لكنه لا يصيره من دون أن يصير الحيوان في الوقت ذاته روحًا؛ روح الإنسان. ليس هذا إطلاقًا مزج أشكال، هو بالأحرى الواقعة المشتركة: الواقعة المشتركة للإنسان والحيوان (11). «ليس هذا مُصالحة للإنسان والبهيمة، ليس تشابهًا، إنه هوية قعر، إنه منطقة «لا تميّز» أعمق من كل تماهٍ شعوري: الإنسان الذي يُعاني هو بهيمة، والبهيمة التي تعاني هي إنسان. إن المؤلف في فيلمه ينشد ضيافتنا في عالم لا تمييز فيه من حيث الصيرورة بين الإنسان والحيوان، ليس هناك من تقليد ولا تشابه ولا انتقال من حالٍ إلى حال، بل هناك صيرورة تقوم بين الاثنين، ما بين المملكتين على حدّ تعبير دولوز.

في جمالية القبح والقبيح
عند المواجهة الأخيرة لجولييت مع الكائن المسخ وجهًا لوجه، توفّقت في إصابته بطلقتين أو أكثر، لكنه قاوم وزحف بكل مُثابرة وأنين حتى امتطى جسدها بالكامل وصولاً إلى الوجه ومنطقة الرأس تحديدًا. وفي الوقت الذي اعتقدت جولييت أن هذا الكائن سَيلتهِمُها أو يقتلع رأسها عن عُنقها – في مشهدٍ انتظره الجُمهور بشوقٍ وتوثر– مرّر أصابعه الخمس بمُرونة على وجهها من أعلاه إلى أسفله، وهي حركة اعتاد التَّوريح بها على جُولييت، عندما كانوا معًا في الحياة السابقة. وكان وقتها يقول لها إنّه يكفي أن يقوم أحد بهذه الحركة – التي علّمته أُمُّه في طفولته – على وجه أيّ شخص، حتى يشعُر هذا الأخير بالفرح والبهجة والرغبة في الضّحك بشكلٍ عفوي وتلقائي.
إنّ لغة الإشارة هي ما تَبقّى من كيان جاك الإنسان / الحيوان جراء التشوهات والتحولات التي طمست صورته الإنسية. إنها الإشارة المفتاح التي استطاع أن يُحدّد بها هويته المُضطربة لزوجته السابقة جولييت، وتعرُّفها عليه وهو مُجرّد من خاصية النُطق والكلام المفهوم بالنسبة للآخر. لكأن إنسان ما بعد الخراب لن يعثُر على بقايا من أصله إلا في لُغته الإشارية التي تركها وراءه بعد أن فقد نعمة الكلام. إن هذه الحركة البسيطة التي قام بها جاك / المسخ، تُقدَّر كدال غير الصوتي في الجهاز السينمائي، ذلك لكون الدّال المادي مُتنوعًا، فهو ليس صوتيًا فحسب، بل يُمكنه أيضًا المُرور عبر صورة، أو صورة حركة، أو صوت، أو كائن، أو لون، أو حتى تعبير لوجه.
وحدها اللحظات الأخيرة من أرتنا تطوّر جولييت الشخصي كفرد، ونَعِي ما ألهم هذا التّغيير الدرامي في دوافعها بالكامل، والخلفية التي تُوفر لَحْمَ هذه الحكاية، ورؤية كيف كشفت تقلّبات نفسيتها في العالم الآخر عن وجه الرومانسية المخبوء بداخلها، وهو الذي بدا منها بجلاء تُجاه جاك، عندما تعرّفت عليه في صُورته البشعة، وأحبّت قُبحه الذي أضحى معه جماله مُتكشّفًا. إن تعرّف جولييت على جاك رغم قُبحه، وأيضًا مقدرته التعرّفُ عليها هو كذلك وإن تشوّه وتحوّل وصار بلا عقلانية راشدة تُوصله إلى لمس ما هو كينوني عند البشر، دليل راجح على أن الإحساس بالجمال قد تعدّى المعايير التقليدية. كما بدا لنا أن الحُب الحقيقي هو ذلك الذي يُحيي في الفاجعة الشيءَ الذي ترك طعمًا غير مفسر أو غير قابل للتفسير. فبعد مُرور جولييت من اختبارات التّعرف على كل ما يفقد شكله (شكل الحياة، وذاتيتها المتقلبة، وهيئة جاك المتحولة؛ إلخ)، وجدت نفسها تعترف له في آخر لحظات عُمرهما بتلك الكلمة التي انتظر أن يسمعها منها بصدق: وهي كلمة أحبك Je t’aime. ليأتي بعد ذلك حدث انتحارهما معًا.
لقد أدركت جولييت في النهاية أنها هي التي كانت قبيحة ربما من حيث الروح، شيء ما في داخلها هو ما لم يسمح لها برؤية الجمال خلف أقنعة النفس. ولأن المُهم – حسب رسالة الفيلم – هو ما يظهر في الروح لا ما تراه العين. وهذا بالتحديد ما فشلت في استبصاره.
من زاويةٍ فلسفية أخرى تُقحم الوجه الليفناسي (نسبة للفيلسوف لفيناس) في قراءة سيميائية للمشهد، رأينا كيف يَعْبُر الخوف من «الوجه»، النداء إلى المحبة يتدفق من الوجه، والهشاشة التي تُسمّر عُرينا ينشُدها الوجه. الوجه يفرض ذاته عليّ فلا أستطيع أن أمتنع عن سماع ندائه، أو أن أنساه، أو أن أتخلى عن مسؤوليتي أمام بؤسه. إن الوجه هو أول شيء يرى للآخر، وهذا الوجه ليس بريئًا. من خلال ضعفه الذي يذكرنا بالضعف الملازم للطبيعة الإنسانية، هذا الوجه ينادينا. إنه يمنحنا مسؤولية تجاه الآخر. وهكذا يتموضع الغير في قلب علاقتنا بالعالم (12).
حتى «المُسدس» اندمج في صيرورة المزج بين القبيح والجميل، الضار والمفيد، المبهج والمخيف (وفقًا للإشارات السابقة). لم يعُد بآلة مُحايدة صامتة وغبيّة. إنه خادم للقدر وفي نفس الوقت مُتاح لأي صدفة. تنفجر من المسدس الذي رافق البطلة جولييت، في محنتها عدّة صور، تُبعثر علاقتنا الذهنية الثابتة مع شيء، يكفي أنه رمز للقتل والعدوان والأذيّة والخطر. لقد أخذ المسدس مكانه ضمن الصيرورة، وأصبح يشتغل هو كذلك بالموازاة مع ديناميكية الجسد؛ جُزء من اليد، يتعطل ويشتغل على كيفه، بل حدث أن كان المسدس معبر الموت من روح جولييت لروح حبيبها جاك، بطلقةٍ واحدة، أخيرة، ناجحة، يُمكننا بعثها برصاصة الرحمة، اخترقت جمجمتيهما معًا. فكانت النتيجة مؤثرة وغير مُنتظرة. انتحار شائع بين توأم روح، كان انفصالهما قبل سنوات قليلة مأساة تُلطخ بالاستياء. وأخيرًا يغفر كل منهما للآخر، في لقاءٍ نهائي مُفجع، لكنه مشحون عاطفيًا برومانسية فائقة. وبالطبع، يعمل هنا عمل الشاعرية بشكلٍ بارز في لحظات التفسير الأدائي.
يُثبت الهيكل السردي لفيلم «عِدائي» أنه أكثر حميمية؛ حبّ صارع للبقاء في عالمين، من خلال العديد من ذكريات الماضي، يستحضر البطلين أقوى لحظات العلاقة الصخرية والرومانسية بينهم. دراما متوازنة تتأرجح بذكاءٍ بين قصة حبّ والحاضر الفوضوي. ففي الواقع، كل الفلاش باك يترجم عاطفة مكبوتة، موقف تكون فيه جولييت سجينة ويجب أن تُحرِّر نفسها منه، خاصة من شعور الإحساس بالذنب؛ لأن جُوليت لم تُحب جاك بكُل صِدق، بالرغم من وسامته، وشأنه، وسعيه الصادق إلى نيل قلبها. الشيء الذي طبع حياتهما السابقة بغرابةٍ غير مفهومة على مدار الفيلم، لم نجد لها مُبرّرًا إلى حُدود نهايات الفيلم. ففكرة القبح تُوجد أصلاً فينا نحن البشر، لأننا نودُّ دومًا التعليق على الجمال، وعليه السقوط في استقباح شيء ما في هذا الجمال. وهو ما تبسطه بكل وضوح الحكمة القائلة: «الجمال عندما يُفسّر يُفسد».
لقد شكَّل الرُّعب عمادًا بِنائيًا للُغة الفيلم البصرية في عالمٍ مضطرب ومُوحش، لكنه لا يتمتع بتاتًا بغائية مُطلقة، غير مُبرّر فلسفيًا بين «القُبح»، و«الجمال». إذ كُلما حاولنا تخليص الجميل من أيّ بصمة أو توقيع للقُبح حتى نحكم على صفاء مُفترض لماهيته، كُنّا في خدمة حُكم جمالي يُؤسس لفهم صِدامي بين الظاهر والجوهر، كرّسته النزعة الجمالية المحضة. فحالة القُبح هذه التي أحلّها المُؤلف عبر تكوينه خيال العنف والدّمار، وتشويه الهيئة البشرية في عالم ما بعد الخراب، ماهي في العُمق سوى دعوة فكرية تتوسل الصورة السينمائية، لكي تغور في ما وراء قواعد الجمال في عالم ما بعد الكارثة، عندما تضطرب الإنسانية، وتتلاشى المعايير، ويحاول الجنس البشري إعادة بناء نفسه. يمتحن إذن مضمون الفيلم الرابطةَ التي تقرن الرعب بالبشاعة، من خلال إقحام المحتويَين: الرومانسي، والمُخيف معًا، والعمل على نسجهما في لُحمةٍ واحدة. وهنا يستخدم المخرج عن طريق المونتاج قوة توليفية لا تُصدّق.
ختامًا
يُناجي المخرج آثار الإنسان وما تبقى من بصماته، من عاطفته، أفكاره، أحاسيسه، فنّه، وذاكرته ولا وعيه. ويبعثُها ضمن عالم خرابي برعَ في تصويره لنا بصريًا من خلال ثنائية العوالم، والأشكال الإنس- حيوانية، إلى جانب سعيه لإظهار العالم كحادث مُصطنع، مثل تأويله المصير الواحد للبطلين بالصدفة. ليحارب على نهج ملهمه – بيكون – المعتقدات المصطنعة التي نفرضها على الحياة. وهكذا فعالم ما بعد الخراب أو في طور التشكيل من جديد، رغم ضبابية أفقه، هو تفعيل للاستراتيجية المستخدمة في العرض الوحشي لمعاناة الجسد، وهزال الروح وقباحة الوجود.
عهدت أحداث أفلام الرُّعب عامة – وبحُكم انتظارات سيكولوجية الجماهير – على تدمير المسخ الشرير ونجاة الشخصيات الطيّبة أو البطولية واختفاء تلك الشريرة، إلى غير ذلك من النهايات المُتشابهة. في الحين الذي يتحاشى المخرج السير في سوابق الطرق الجاهزة، ولذلك صُدِم المشاهد بنهاية الفيلم؛ نظرًا لعدم صيده كالعادة جرعة «الكاترسيس» التي يبحثها عنها أيّ مُشاهد. حيث عمِل المؤلف على توريط المشاهد في موجة الإحساس بالحدث، وتحريك تعاطفه تُجاه جاك الكائن المشوّه، بعد أن تم الاعتراف بآدميّته أخيرًا. وتهُب رياح في غير اتجاه انفعالات المشاهد السابقة، وهو الذي لم يكن يُبدي أي رحمة، ولا يشعر بأية تعاطف في القضاء على المسخ أو الكائن المُتحول.
يُمكن أن نُرجع درجة التباين في الحكم على الفيلم بالنسبة للجمهور الذي شاهده في دور العرض إلى ظاهرة يُطلق عليها علماء النفس اسم «التعرّض الانتقائي». فعلى الناس اختيار البيئات والأحداث التي يرغبون في التعرض لها؛ سواءً كانت مكتبة، أو شارع في مدينة، أو دار سينما، وهكذا. وهم يقومون بتلك الاختيارات بناء على نوع ودرجة الحافز. بمعنى أن الأفلام التي نُعرّض أنفسنا لها تختلف من شخصٍ لآخر، لكن تظهر بعض الأنماط التي تعكس اتجاهاتٍ شخصية، وثقافية، وتاريخية.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
الهوامش
- يستخدم مصطلح المؤلف اليوم في اللغة الإنجليزية لتعيين المخرجين بأسلوبهم الخاص أو رؤيتهم المميزة. كما يسعى هذا المصطلح قبل كل شيء إلى ربط عمل صانع الأفلام بالموضوعات المفضلة وتماسك أسلوب مبتكر وفريد من نوعه. هذا المفهوم السائد في الخطاب النقدي الفرنسي مُنذ الستينات، يجعل المخرج هو الخالق الوحيد على حساب كاتب السيناريو والمنتج والفريق الفني. ومع ذلك، فهذه الفكرة ذاتية لا يوجد تعريف دقيق لها.
- إن تعريف «النوع» في اللغة السينمائية ليس دقيقًا، بمعنى أن كل فيلم يُساهم في تطوير تدوينات جديدة وقضايا لكتابة سيناريوهات جديدة، تظلّ ذات خصوصية بالنسبة لكل نوع سينمائي. بالإضافة، «فإن مُعظم أنواع التصوير السينمائي لا تلتزم بالضرورة بقواعد دقيقة، وتستخدم الرموز وتتناول الموضوعات المتكررة. هذه «الرموز» لها مصدرها في الأفلام التي أثبتت أنها مثال / أنموذج على فيلم النوع، وطريقة تمثيله وتسجيله أو الاحتذاء به، مع مُراعاة حُدود المماثلة، حتى لا تسقط في الابتذال والتقليد.
- لا يتعارض مفهوم سينما النوع من باب التّنبيه مع مفهوم سينما المؤلف. أيّ عندما يزْدهِر صانعوّ الأفلام في نوع مُعين، أو يتجاوزون الاتفاقيات المُبرمة حول الفيلم.
- منذ مُنعطفات فن – البوب pop art في الستينيات، وظهور ما بعد حداثة أخرى في «عالم الفن»، أصبح هناك إجماع نقدي وتفسيري كبير حول أهمية الاستفزاز الذي يُقوٍّض اليقين التقليدي والجماليات التقليدية للجمال، بما في ذلك اليقين بالذات والقُوة التعويضية للفن.
- إن بنيته البدنية الفريدة التي تسببها «متلازمة مارفان»، تجعله يقلد مخلوقات وحشية كما هو الحال في فيلم Alien.
- Jacques Nassif, L’écrit, la voix fonctions et champ de la voix en psychanalyse.
- غالبًا ما تُثير مشاهدة أعماله عدم الارتياح والإحساس الطاغي بالهشاشة وكرب الروح وحتى الألم النفس جسدي. كما يُعلّق إرنست فان ألفين: «إن النظر في لوحات بيكون يجعلك عاجزًا عن الكلام، كل جانب فيها قد يؤلمك بشدّة، ولا تستطيع أن تحدد ماهيتها». ويُعزى هذا اللاتعرّف، إلى ارتياح صانع الأشكال – بيكون – للإحساس الحشوي Visceral sentation، ورُعبه البرغسوني من الساكن، ومن ثمّ مُحاولته تسريع النبض العصبي للرسم عن طريق تقريبه من المصادر البصرية والنفسية للحركة والعمل في الحياة.
- Voir: Philosophy today , volume 47, issue 1, spring 2003 , Richard White , reflections on the scream ; francis bacon, lessing ; and the aesthetics of the beautiful and the sublime , 2003, p 4.
- نُشير إلى أن هوى فرنسيس بيكون الفني، لم يكن ببعيد عن ميدان السينما في الأصل. فهو نفسه أفصح في حوار له قائلاً: «كنت سأصبح مخرجًا للأفلام، لو لم أكن رسامًا».
Voir : M. Archimbaud, Francis Bacon : In Conversation With Michel Archimbaud (London : Phaidon, 1933 ; p 16.
- Hunter, Francis Bacon : The Anatomy of Horror, « The Magazine of Art, 1952 , 11 – 15.
- جيل دولوز، ص 374.
- Lévinas Emmanuel, Altérité et transcendance, p 112.