لتحميل الحوار : حوار إبراهيم عبد المجيد
- الأستاذ القدير إبراهيم عبد المجيد، يُسعدنا ويُشرّفنا استضافتك في منصة معنى، في البداية نودُّ التعرُّف على المؤثرات التي شكَّلت اتجاهك الأدبي وأثَّرَت في صياغة عالَمك الروائي؛ حدِّثْنا أيضًا عن الدراسة والبيئة الثقافية التي نشأتَ فيها.
سأبدأ من نهاية السؤال عن الدراسة والبيئة الثقافية التي نشأتُ فيها. أنا من حي كرموز؛ أقدم أحياء الإسكندرية في التاريخ، وهو حي شعبي كبير. في هذا الحي كنا نسمع حكايات مثيرة في الخيال من كثيرٍ من العابرين أو السكان، حكاياتٍ عن الفتوّات، عن المخدِّرات وهجمات البوليس. وفي هذا الحي تُوجَد أكبر مدافن للمسلمين وهي مدافن عمود السواري. جنازات كثيرة تمر كل يوم. وفي ميدان الساعة قبل أن يزدحم، كانت تقام مباريات كرة قدم في المساء بين شباب الأحياء. أي إنَّ الموت والحياة نراهما في يوم واحد. فضلًا على أنه في جنوب الحي كانت تقع ترعة المحمودية التي تأتي بها السفن محمَّلة بالبضائع من الريف، فكانت جلساتنا ونحن أطفال حول المراكبية كلها حكايات خرافية نسمعها منهم، عن الطريق وما شاهدوه فيه أو وقع لهم. كان عازف الربابة يمرُّ بكل المقاهي ينشد قصصَ أبوزيد الهلالي وغيره. المدارس كانت تحتفظ بشكلها أيام الملكية. ملاعب ومكتبة وقراءة حرة في المكتبة لا يكون فيها اختبار، وفرق للموسيقى من التلاميذ والمسرح والكشّافة وغيرها. كانت الثقافة أساس التعليم وليست مجرد دروس نحفظها. كانت به سينما (درجة ثالثة) هي سينما «النيل»، ثمن التذكرة تسعة مليمات؛ فكنا نذهب إليها دائمًا، نرى فيها الأفلام الأجنبية والعربية التي تثير الخيال. في البيت كان أبي – رحمه الله – يُحب كل مساء أن يجمعنا – نحن الصغار – حولَه ويحكي لنا قصص الأنبياء. باختصار كان الخيال حولنا دائمًا.
كل ذلك حبَّبَني في الرواية. لا أنسى يومًا وأنا في السنة الثانية الإعدادية حين كنت أقرأ في مكتبة المدرسة قصة لمحمد سعيد العريان عنوانها «صياد اليمام» عن صياد تاهَ في الصحراء. من جمال القصة بكيتُ فجاءني أمين المكتبة يسألني لماذا أبكي. قلت له الصياد ضاع؛ فقال لي: «أنت مصدّق يا إبراهيم؟ دي قصة خيالية يعني تأليف مش حقيقة». وجدتُ نفسي منجذبًا لهذا التأليف؛ فاندفعت إلى قراءة الرواية. في العام التالي حصلتُ على الشهادة الإعدادية، وفي الصيف بدأت التأليف. طبعًا ضاع كل ما ألَّفْته. كان ساذجًا، لكني كنتُ متوحّدًا معه سعيدًا بما أكتب، حتى جاء يوم وكنت في التاسعة عشرة أو العشرين، وحضرت ندوة للمرحوم الناقد الكبير محمد مندور بقصر ثقافة الحرية، تحدَّث فيها عن المذاهب الأدبية: الكلاسيكية والرومانتيكية والواقعية وغيرها، فعرفت أن الكتابة ليست مجرد حكاية. توقفتُ عن الكتابة الساذجة، وبدأتُ أقرأ في تاريخ الكتابة، وكتبًا كثيرة في النقد الأدبي. بعد ثلاث سنوات اشتركتُ في مسابقة للقصة القصيرة في نادي القصة بالإسكندرية الذي كان يشرف عليه الكاتب والصحفي بجريدة الأخبار فتحي الإبياري، ففزتُ بالجائزة الأولى على مستوى الجمهورية، ونُشِرت القصة في جريدة أخبار اليوم على صفحة كاملة عام 1969 مع مقدمة لمحمود تيمور عنوانها «هذا قصّاص موهوب». عرفتُ أني في الطريق الصحيح وعليّ أيضًا إنضاجه أكثر.
- كيف أثَّرَت دراستُكَ للفلسفة في الشكل الروائي الذي قدمتَه؟ وما أبرز الأفكار الفلسفية التي تأثرت بها واستلهمتها في أعمالك؟ وما حدود العَلاقة بين الفلسفة والأدب من وجهة نظرك؟
أدركتُ من قراءاتي في النقد الأدبي أنَّ في الروايات والملاحم القديمة معانيَ فلسفية خفية لا يُدركها القارئ العادي؛ ففكرتُ في دراسة الفلسفة. قرأتُ فيها ثم حين دخلت كلية الآداب بالجامعة اخترتُ قسم الفلسفة. أحببت الوجودية التي تتحدث عن وجود اضطراري للبشر، فلا دور لهم في الظهور للحياة ولا في الموت. وبين الحياة والموت فالآخرون هم الجحيم لأنه بشكل بسيط أنت تفعل ما يجعلهم في رضًا عنك، بينما يمكن أن تفكر في المشي عاريًا في الشارع ولا تستطيع. جذبَتْني فكرة الاغتراب والنفي. النفي ليس خارج الأوطان لكن في الحياة نفسها، فكثيرًا ما يكون الإنسان عبدًا للعادة. أعجبتني أفكار فلاسفة يونانيين قبل سقراط مثل زينون الإيلي الذي لا يرى زمانًا ولامكانًا ولا حركة. على الناحية الأخرى أعجبتني فلسفة هيجل من كون العالم يتقدم بصراع الأفكار، ثم أعجبني أكثر كارل ماركس الذي رأى تقدُّم العالَم من صراع الطبقات. قرأت في الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام. أحببت المعتزلة الذين آمنوا بالعقل لا النقل، ومن ثم فليست كل الثوابت صالحة في الزمان والمكان. أعجبني المتصوفة الذين جاهدوا للاتحاد بالله. أخذني التاريخ إلى ما جرى لكثير من المفكرين والفلاسفة من ظُلمٍ أو نفي أو سجنٍ أو قتلٍ منذ سقراط. صاروا عالَمًا لي.
لكن في النهاية أدركت أن الفلسفة يجب ألّا تظهر في الأدب في شكل حوار أو أفكار مباشرة، بل في مواقف تكون هي خلفيتها الخفية. في رواية «المسافات» مثلًا: شخص يستدعي عمله في السكة الحديد أن يمشي بالنهار من الشرق إلى الغرب يتفحص القضبان، ويعود بعد الظهر ماشيًا من الغرب إلى الشرق. اكتشف أنه لا يرى الشمس. فكَّرَ أن يعود قبل أن تصل الشمس إلى الغرب ليراها أمامه في الشرق، فخذلته قدماه ورفضَتا العودة. صار أسيرَ العادة منفيًّا. الأمثلة كثيرة في رواياتي وقصصي القصيرة عن مرور الزمن دون إدراك من الشخصيات. عن الأماني التي تتحقق في الخيال ولا تتحقق على الأرض. لن أستطيع أن أمشي مع أعمالي، فهذا ليس عملي كما أني أوضحتُ كثيرًا من ذلك في كتابي «ما وراء الكتابة – تجربتي مع الإبداع». باختصار، صارت الفلسفة رؤية، وصارت أيضًا محركًا للشخوص حتى لو لم يعرفوا بها. وعلى الإجمال، فالفلسفة الوجودية أكثر ما تأثرتُ به في الإبداع. بينما في المقالات والسياسة فكانت الماركسية محرّكًا أكثر.
- لجأ بعض الفلاسفة، مثل سارتر وألبير كامو، للأدب كشكلٍ جماهيريٍّ للتعبير عن أفكارهم الفلسفية، فهل تعتبر نفسك امتدادًا لهذا الاتجاه؟
أنا لا أحب وصف نفسي؛ أترك ذلك لغيري، لكن يوجد مفكرون يحبون تطبيق أفكارهم في أكثر من مجال. فولتير مثلًا كتب رواية «كانديد». سارتر كان من هذا النوع. ألبير كامو، رغم أنه فيلسوف وجودي كبير، إلا أن إبداعه الأدبي هو الأساس؛ مسرحًا أو رواية. وبالمناسبة هو فنيٌّ في رواياته أفضل من سارتر في رواياته. سارتر كان يبدو عاقلًا يعرف ما يفعل، بينما كامو كان متماهيًا مع عمله الفني لا تظهر أفكاره مباشرة ولو في حوار.
- ذكرتَ في إحدى المقابلات معكَ أنه «لولا الفن والكتابة لمتُّ قهرًا، ولكي لا أصاب بالجنون أصنع عالَمًا خاصًّا بي، عالَمًا يختلط فيه الواقع بالخيال، والمتعة بالبؤس….» فهل الكتابة بالنسبة لك آلية دفاعية للهروب من بؤس الواقع؟
بعد أن أنجزتُ منها عدة أعمال اكتشفتُ أنها الأبقى، وأنها تأخذني بعيدًا عمّا حولي، حتي إنني في أثناء الكتابة لا أدرك أن بشرًا حولي في البيت مثلًا، فما بالك في الشارع؛ خاصة أنّي أكتب بعد منتصف الليل والكل نيام، ولا يكون معي غير الموسيقى الكلاسيكية تسبح بي في الفضاء. لم أقصد أن أهرب بها عن الواقع فهي التي تأخذني إليها، وتُحدد الوقت الذي أكون فيه معها. أصعب الأوقات حين تنتهي الرواية أو القصة وأدرك ما حولي، لكنّي دائمًا أكون على يقين أن قصة أخرى أو رواية أخرى ستأخذني إليها، فلا أتعجل.
- ننتقل إلى أعمالك ونبدأ بثلاثيتك عن الإسكندرية: («لا أحد ينام في الإسكندرية»، و«طيور العنبر»، و«الإسكندرية في غيمة») التي منحتك المجد الأدبي، من وجهة نظرك ما السرُّ وراء ارتباط القراء بها إلى هذا الحد؟
ربما لما بذلتُه فيها من جُهدٍ في جمْع المعلومات عمّا أكتب عنه. والمؤكد أنها لمست قلوبهم بالشخصيات والأحداث والبناء الفني للرواية. الرواية كما فيها من وقائع، فيها من غرائب الأحداث أيضًا. كان جهدي أن آخذ القارئ إلى زمن كل رواية وأجعله يعيشه، لا أن أعيد تفسير الأحداث سياسيًّا مثلًا. كنت أزور أماكن الرواية ولا ألتقي أحدًا. أمشي صامتًا وأعود صامتًا إلى القاهرة، ولديّ يقين أن ما أحسست به في زياراتي سيظهر في الشخصيات والأحداث. أعتقد أن هذا أحد أسباب ارتباط القراء بهذه الثلاثية.
- إلى أي مدى أثرت الإسكندرية في أعمالك؟ وهل ما زلتَ أسيرًا لها؟ وهل يمكن اعتبار عملك الأخير «رسائل إلى لا أحد» نوعًا من الرثاء لها؟
الإسكندرية هي سبب أعمالي. الوقفة على شاطئ البحر تحيي تاريخًا للمدينة منذ العصر اليوناني. وإلى جانب هذا الإحساس عشتها في طفولتي، وهي مدينة فيها العالم؛ كل الجاليات الأجنبية يعيشون مصريين بيننا: يونان، وأرمن، وإيطاليون، وقبارصة، وشوام، ومغاربة، وأتراك، وإنجليز، وفرنسيون، ويهود. ثم رأيتها تخلع ثوبَها العالَميّ بسبب سياسة عبد الناصر والتأميم. ثم رأيتها تخلع ثوبها المصري مع السادات لتصبح مدينة سلفية. هذه التغيّرات تُثير أسئلةً كثيرة في الروح. فضلاً على من قال إن العلم في الصغر كالنقش على الحجر، ومِن ثم ما رأيتُه أو عشتُه حَفَر في روحي مدينةً صارتْ حلمًا ضائعًا، ومن ثم أخذتْني للكتابة عنها. وليس القصص والروايات فحسب؛ بل المقالات أيضًا. المدينة التي كانت بين شطّين ومياه، أي بحيرة مربوط في الجنوب، والبحر المتوسط شمالًا، صارت على شاطئ واحد هو البحر بعد تدمير البحيرة بالمصانع والمباني، ثم صار الهجوم على الشاطئ الواحد فاختفى في المسافة من الشاطبي إلى المنتزه بالأسوار ولم نَعُد نرى البحر. ومن كثرة ما كتبتُ من مقالات في كل ذلك جعلتُ كتابي الأخير الذي هو مرثية للمدينة بعنوان «رسائل إلى لا أحد»؛ لأن لا أحد يستمع إلينا وكل ما جرى فيها من انهيار كان بسبب السلطات الحاكمة.
- قدَّمتَ ثلاثية أخرى وهي «الهروب من الذاكرة» ووصفتَها بأنها «رحلة النسيان ومحاولة للنجاة»، فماذا تختلف عن سابقتها؟ وما الذي تحاول نسيانه والنجاة منه؟
ثلاثية الإسكندرية هي ثلاثية عن المكان وما جرى للمدينة. الثلاثية الأخيرة هي ثلاثية في الزمان، عن أيامنا الحالية، خلفها فكرة جاءت مما يحدث من سجون لكثير من أصحاب الرأي. الفكرة هي هل ستغير السجون من المسجونين؟ السائد هو القول بمتلازمة أستوكهولم التي يخضع فيها الضحية لمن تسبب في تعذيبه أو قهره. أكثر المثقفين الذين عرفتهم مرّوا بالسجون، والآن أسماء كثيرة من الشباب وغيرهم نعرف أخبارهم من السوشيال ميديا. أكثر من عرفتهم خرجوا من السجون، وعاشوا حياتهم، وتقدّموا فيها ولم يقعوا في متلازمة أستوكهولم. حتى الكتاب والمفكرون الذي قضوا وتعذبوا في معتقلات عبد الناصر خمس سنين خرجوا وكتبوا واستمروا وتعلمنا من كتبهم الكثير. لذلك فكرت في هذه الرواية لأنها محاولة الهروب من الذكريات التي تقيد السجين بعد خروجه. كيف نجحوا؟ فهذا هو صراعهم مع ما حولهم وهذا موضوع الرواية، فلم يكن الأمر سهلًا في النجاح.
- في روايتك «السايكلوب» استدعيتَ إحدى شخصياتك الورقية التى كتبتها في السبعينيات – سعيد صابر – فمن أين جاءتك تلك الفكرة العبقرية خصوصًا أنّه شخصية خيالية؟ وهل استدعاؤه كان بهدف إظهار التناقض الذي حلَّ على الهُوية المصرية فيما بعد السبعينيات؟
يحدث لي وأنا أكتب القصة أو الرواية وأعيش مع شخصياتها أن يختلط عليّ الواقع بالخيال، فكثيرًا ما أبحث عنهم في الطرقات أو أنادي الناس بأسمائهم. أذكر أن الأمر وصل في أثناء كتابتي لرواية «في كل أسبوع يوم جمعة» أني كنت كلما ذهبت إلى وسط البلد أتجه إلى العمارة التي جعلتُ شخصية مثل «مختار كحيل» يسكن فيها، لكي أزوره. عند باب العمارة أنتبه أنه خيال، وأتألم، وأشتري حبوبًا مهدئة من الصيدلية، لكني أعود أفعل ذلك. كتبت في عام 2011 بمناسبة شهر رمضان حكايات في جريدة اليوم السابع بعنوان «حكايات ساعة الإفطار» كل يوم حكاية. الحكاية الثلاثون جاءت مفارقة، فهي عن الكاتب الذي عاد إلى البيت ليجد التسعة والعشرين شخصية السابقة في انتظاره: يلومونه، ويشكرونه، ويضحكون، ويبكون، وفي النهاية أخذوه معهم إلى الجنة بعيدًا عن الأرض. باختصار أنا مشغول بما أكتب من زمان وأعدُّه دون قصد حقيقة. من هنا جاءت رواية «السايكلوب» عن الكاتب الذي اشتاق لشخصية من رواياته السابقة، فكانت سعيد صابر من رواية «هنا القاهرة»، ولأن الرواية الأولى كانت أحداثها في السبعينيات وأن الشخصية عادت الآن، فكان طبيعيًّا أن يظهر ما جرى على الهُويّة المصرية، الذي جعل سعيد صابر في النهاية يعود إلى روايته الأولى. الموضوع فكريًّا لم يكن فكرة مسبقة لي، لكن أحداث الرواية جاءت به ومتسقة مع الشخصية العائدة من زمن آخر تبخّر. لقد جرت العادة أن يستعيد الكتّاب شخصيات تاريخية، لكني استعدت من يطاردوني في الحياة رغم أنهم أبطالٌ مِن وهْم.
- من عالَم الورق إلى عالَم السينما والدراما حيث لاقى عدد من أعمالك الروائية كـ«في كل أسبوع يوم جمعة» و«صياد اليمام» وغيرهما نجاحًا كبيرًا على الشاشة، فلماذا لم تتجه للكتابة السينمائية بشكل خاص على الرغم من عشقك لها؟
فعلتُها مرة عام 2001 وكتبتُ مسلسلًا تليفزيونيًّا بعنوان «بين شطين ومياه» أخرجه عمر عبد العزيز، وكان من بطولة حسين فهمي. عُرِض المسلسل مرة واحدة وعلى قناة فضائية وقتها، وليست القناة الأولى ولا الثانية مثلًا. رغم ذلك كان سببًا في اتصال كثير من المنتجين بي. لقد حافظ عمر عبد العزيز على ما كتبتُ، لكن التليفزيون لم يعيد إذاعة المسلسل، دون إعلان عن السبب (الذي هو بالتأكيد أن المسلسل كان به كثير من الفانتازيا ذات المعنى السياسي). المهم استجبتُ لدعوة المنتجين وكتبت مسلسلَيْن آخرَيْن. الأول عن روايتي «لا أحد ينام في الإسكندرية» والثاني عن روايتي «قناديل البحر» لكن مخرج كل مسلسل لم يلتزم بما كتبت. غيّره كله تقريبًا، فابتعدتُ وعدتُ في صمت إلي بيتي الأليف: الرواية. اعتبرت نفسي سيئ الحظ؛ مخرج رائع مثل عمر عبد العزيز يلتزم بما كتبتُ ولا يُغيّر شيئًا إلا بحوار معي، لكن التليفزيون يُخفي مسلسله، ثم مخرجان يغيران كل ما كتبت. الأمر الآن أصعب، فالرقابة أكثر تدقيقًا، كما أن الدراما التليفزيونية صارت قليلة، والأفلام صارت أقل منها. لم نعد هوليود الشرق، كان حلمًا وصار سرابًا.
- في كتابك «الأيام الحلوة» ذكرت أن الموسيقى هي الصديق الذي لم يتخلَّ عنك قط وعبَرتَ بها كل الآلام، هل ثمة علاقة بين عالَمك الأدبيّ واهتمامك بالموسيقى؟
منذ عام 1969 تقريبًا حين اكتشفت البرنامج الموسيقي صارت هي صديقي طول الليل قارئًا أو كاتبًا. حملتْني الموسيقى الكلاسيكية والموسيقى التصويرية لأفلام عالَمية رأيتُها كل ليلة إلى عالَم من الجمال، جعلتني سابحًا في الفضاء وحتى الآن. كتبتُ عليها أعمالي وأنسَتْني ما أراه حولي بالنهار، من قضايا سياسية وأحداث في البلاد. ظهرت الموسيقى في كثير من رواياتي من خلال الشخصيات، وأخيرًا صارت موضوعًا لرواية «أداجيو» التي بطلتها عازفة بيانو في الأوبرا لها شهرتها في كل العالم. يستدعي زوجها كل حياتهما مع الموسيقى وهي تقضي أيامها الأخيرة في الدنيا بسبب مرض السرطان اللعين. استقلَّت الموسيقى برواية. لكنها ما زالت معي تطل في كل رواياتي حتى آخر عمل وهو «ثلاثية الهروب من الذاكرة».
- قلتَ مؤخّرًا إن عالَمكَ ينهار وتحييه بالكتابة، كيف غيَّرَت تجربة المرض إبراهيم عبد المجيد؟ وكيف تُساعدك الكتابة على تجاوز تلك المحنة؟
الكتابة الإبداعية جعلت لي عوالمَ أجمل مما حولي حتى بما فيها من أخيار وأشرار، فهم لا يُؤذونني ولا يُؤذون غيري، بل هم سبب متعتي ومتعة القرّاء. أبكي معهم، وأضحك معهم، ويجعلون لي عوالمَ موازيةً أجمل، رغم ما فيها من آلام. للإبداع متعة إنسانية أعظم من أي متعة واقعية. أما في حالة مرضي الأخير فما زلتُ في فترة النقاهة. ما زلتُ بعيدًا عن الإبداع. أكتب المقالات لكي أستعيد عقلي، وأقرأ الكتب الفكرية أكثر من الروايات لاستعادة العقل أيضًا، لكن التجربة كانت صعبة مع المرض تحتاج إلى وقتٍ لتُصبح سرابًا، وأحاول بالمقالات أن أنساها وأجعلها كذلك.
- الأدبي والسياسي ما العلاقة بينهما في أعمالك؟ وهل تحمل أعمالك إسقاطات سياسية على الواقع أم أنك تتعمد المحايدة فيها؟ وما رأيك في طبيعة العَلاقة بين المثقّف والسلطة؟
مؤكد أن السياسة موجودة، لكن الرواية مواقف وأحداث وليست آراءً. يمكن للقارئ أن يصل إلى فكرة، لكن يجب على الكاتب ألّا يُصرّح بالفكرة. يُقدم ما يُعبِّر عنها إذا أرادت الشخصية ذلك. بمعنى لا يُجبر الشخصية لتقول ما يريد هو، بل هو الذي يكتب ما تريده الشخصية. أحداث سياسية تحرك كثيرًا من الشخوص، لكن كيف يتصرفون فنيًّا معها؟ هذا هو سؤال الكتابة. رواية مثل «بيت الياسمين» كلها مبنية على فكرة سياسية أيام السادات حين كانوا يجمعون العمال لتحيّته وضيوفه حين يصلون إلى الإسكندرية نظير مبلغ مالي لكل عامل. ماذا فعل من كُلِّف بذلك في إحدى الشركات؟ اقتسم الأموال مع العمال ولم يذهبوا ولو مرة واحدة لتحية السادات، وظل يفعل ذلك لسنوات ويُوفِّر نقودًا حتى تزوج. صارت الرواية كلها ضحكًا وسخرية حتى إنّه قُبِض عليه في أثناء مظاهرات يناير عام 1977 باعتباره وراء تلك المظاهرات. وهذه رواية ساخرة ضاحكة من عصرٍ مضى، تُروى من خلال الأحداث وليس الكلام المباشر.
- ما دور الأسطورة في أعمالك؟
قراءة الأساطير والحكايات الشعبية تُثير الخيال. لقد قرأتُ مبكرًا ملاحمَ مثل الإلياذة والأوديسا والإنيادة والكوميديا الإلهية بأجزائها الثلاثة لدانتي إليجيري، ثم ألف ليلة ولية وغيرها. لكن قراءاتي في السياسة، والاقتصاد، ومشاركتي في العمل السياسي في سنٍّ مبكّرة في حزب شيوعي سرّي جعلني فترةً أميلُ إلى الكتابة واضحة المعنى. لم أكن سعيدًا وكنتُ كثيرًا ما أُمزّق القصص القصيرة ولا أسعى لنشرها. أدركتُ أن انغماسي في السياسة هو السبب. في عام 1978 تركت كل عمل منظَّم في السياسة وبدأت في رواية «المسافات». تركت نفسي على سجيتها. وجدت نفسي أكتب خيالًا وأساطير من مكان الرواية وزمانها، وليس مما قرأتُ. انطلق الخيال ولا أنسى سعادتي وأنا أقول لنفسي «وجدتها وجدتها». بعدها صارت العجائبية رافدًا لكتاباتي تُوسِّع من معنى المواقف الفنية. لم نكن في ذلك الوقت نعرف جابرييل ماركيز في مصر، وتوقعت أن يقولوا إنّي تأثرت به. والحقيقة أنه أكد لي صحة الطريق الجديد. بالإضافة لما كنتُ قرأتُه، كانت دراستي في الجامعة للأنثروبولوجيا تُوسِّع من خيالي. وعدتُ أتذكر المهمشين الذين عرفتهم في طفولتي وصباي، وكانت كل حكاياتهم خيالًا. الأماكن التي كتبتُ عنها ساعدت على خلق أساطيرَ صغيرة في الرواية، تُوسِّع من رؤى القارئ وخياله وتزيده متعة، وتختصر للكاتب الكثير من الكلام.
- تحدثتَ عن تجربتك الإبداعية في «ما وراء الكتابة»، فكيف يرى إبراهيم عبد المجيد نفسه كأديب؟ وهل أنتَ راضٍ عن إنتاجك؟ ومع تلك الحفاوة بأعمالك، هل ما زلتَ تشعر بالاغتراب عن واقعك؟
أنا سعيد بما كتبتُ. على الأقل فالمتعة التي حصلت عليها في الكتابة تفوق أي متعة. وراضٍ عن كل ما كتبت، ومقتنع أيضًا أنه من حق القارئ أن يُعجَب بعمل أكثر من الثاني، فتلقِّي الأعمال أمرٌ نسبيٌّ بين القرّاء والنُقّاد. أما الاغتراب فهو يمشي معي ولا فكاك منه خاصة في أثناء الكتابة. الحفاوة بأعمالي زادٌ عظيم يجعلني في رضًا أكثر، لكنَّ الاغتراب أمرٌ آخَر يظهر وأنا أكتب، وإذا كنتُ بعيدًا عن الكتابة، أتفاعل مع كل القراء وغيرهم من البشر بقلب جميل ومحبٍّ لهم.
- ما معالم الرواية العربية في وقتنا الراهن؟ وهل هناك حركة نقدية موازية لها؟
الرواية العربية تملأ الفضاء والأسماء الرائعة كثيرة من كل البلاد العربية، والحركة النقدية قائمة وإن كان الإنتاج الروائي أكثر، إلا أن هذا ليس ذنب النقاد.
- أخيرًا، ما المشروع الجديد الذي تعمل عليه الآن؟
انتهيتُ قبل رحلة العلاج من رواية وربما أنشرها قريبًا. هي من وحي أيام الكورونا. لا أحب أن أتحدث عما سيأتي، فلم أُقرّر النشر منها بعد.