تأليف: كريستين دال سورينسن | ماريت رابو
أنْ تكون شديد الوحدة لدرجة أنك تواجه صعوبة في العثور على كلمات لوصف ما تشعر به. وتشك بكل كلمة تقولها، وكل فعل تفعله، وتشك حتى بذاتك. ولا تجرب شعور أنَّ أحدهم يعرفك عن قرب. وتخاف من الآخرين، ولكن ما زلت تود التواصل معهم. وترغب بالتشجيع للوقوف بثقة والتحدث؛
لتؤمن بنفسك وبالآخرين وتشعرهم بحضورك. هذا ما يشخص به مرض “اضطراب الشخصية التجنبية” (واحد من أشهر الاضطرابات الشخصية المتعارف عليها في الطب النفسي الحديث)، قال أحد الأشخاص الذين قُوبِلوا وقد أخبرنا أنه يشعر أنه واحد منهم:
أشعر وكأنني لست موجودًا. أشعر أني لا أعرف نفسي… لا أشعر أني أعرف من أنا. وهذا ما أود معرفته.
الأشخاص الصامتون موجودون، ولكنهم يفضلون أنْ يبقوا متخفين غير ظاهرين. الفتاة في الفصل التي لم ترفع يدها للإجابة عن أي سؤال أبدًا؛ زميل الدراسة الذي انطوى على نفسه؛ الطالب الذي يبدو وكأنه لم يجد مكانه في مجموعة الأصدقاء؛ خجول لكن مؤدب، ربما يشعر بالغرابة أو عدم الارتياح في الأماكن الاجتماعية. ربما البعض من هؤلاء الأشخاص أمورهم بحالة ممتازة وانطوائيون بطبيعتهم؛ مع ذلك، الأقلية يعانون من القلق والاكتئاب، وقد يطلبون المساعدة من الأخصائيين النفسيين ومن الخدمات السريرية المختلفة. حتى إن القليل منهم سيُشَخَّص بمرض “اضطراب الشخصية التجنبية”. بالإضافة إلى رغبتهم بالتواصل مع الآخرين، ولكنهم يشعرون بالعجز ويخشون التعرض للسخرية والرفض. إنهم حساسون للتقييم السلبي والنقد، ويشعرون أنهم ليسوا ذوي كفاءة، وأنَّ شخصيتهم غير جذابة، وأنهم أقل من الآخرين، بالإضافة إلى ترددهم في الانخراط في الأنشطة الجديدة.
بالنسبة للشخص الذي يُشَخَّص بهذه الحالة، هذه أنماط التفكير والمشاعر التي يشعر بها اتجاه نفسه والآخرين، والتجنب الاجتماعي والانسحاب الذي يتبعه، يجب أنْ تكون مستقرة نسبيًّا عبر الزمن والحالات. يجب أيضًا عدُّ هذه الأنماط مختلفة عما يختبره الشخص العادي في السياق الثقافي ذي الصلة، ويؤدي إلى معاناة نفسية، بما في ذلك منع الشخص من عيش حياته بالطريقة التي يرغب فيها.
شُخِّصَ بمرض “اضطراب الشخصية التجنبية” لأول مرة في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية، وهو النص التشخيصي الرئيسي للطب النفسي، عام ١٩٨٠م. في الآونة الأخيرة، كان يوجد نقاش حول ما إذا كان اضطراب الشخصية التجنبية مجرد شكل أكثر حدة من الرهاب الاجتماعي. ومع ذلك، يبدو أنَّ اضطراب الشخصية التجنبية يتعلق تحديدًا بالمشكلات المتعلقة بالهوية (معرفة الذات)، والحميمة، والانفتاح في العلاقات، بدلًا من مجرد التجنب الاجتماعي.
بالرغم من العديد من الأوصاف الموجودة في اضطراب الشخصية التجنبية، والنظريات النفسية المختلفة من الأسباب وطرق مقاومة الناس لهذه المشكلات، أدركنا منذ وقت قصير أننا لم نفهم حقًّا كيف كان الأمر بالنسبة للأشخاص الذين يعيشون مع اضطراب الشخصية التجنبية. أحد الأسباب هو أنه عندما يذهب الأشخاص الذين يعانون من اضطراب الشخصية التجنبية إلى العلاج، فإن التحديات ذاتها التي يطلبون المساعدة من أجلها تصبح عوائق للعلاج نفسه؛ إذ إنهم يحاولون بصعوبة التعبير عن تجاربهم، وكذلك يخشون ردود الفعل المؤذية إذا عرفوا عن أنفسهم للناس. فبالتالي، تظل المعالجة عادةً غير مدركة لما يحدث بينها وبين موكلها، ما إذا كان العميل راضيًا عن العلاج، أو رافضًا التغيير. قد يصبح المعالجون غير صبورين أو غير راضين عن التقنيات العلاجية التي أصبحت عالقة بينما معاناة عملائهم مستمرة.
بصفتنا معالجين، نحن نكتب جزءًا بسيطًا من التجربة. لهذا السبب -جنبًا إلى جنب مع الباحثين المشاركين الذين لديهم خبرة مباشرة مع اضطراب الشخصية التجنبية- شرعنا مؤخرًا في مشروع بحثي لفهم العملاء الذين يعانون من اضطراب الشخصية التجنبية بشكل أفضل من وجهة نظرهم. تساءلنا كيف تبدو حياتهم، وماهية تجنبهم؟
أجرينا مقابلات مع تسع نساء وستة رجال حول تاريخهم الشخصي وحياتهم اليومية ممن شُخِّصُوا باضطراب الشخصية التجنبية. تراوحت أعمارهم من 20 إلى 51 عامًا، وكانت لديهم تجارب مختلفة مع العلاج. أكمل البعض تعليمهم وتوظف. ولكن، لم يكن لدى أي منهم عمل في وقت المقابلات؛ وتلقى الجميع شكلًا من أشكال الرعاية الاجتماعية.
منحتنا القصص التي سمعناها شعورًا بالبؤس والوحدة. يذكر الأشخاص الذين أجريت معهم مقابلات كيف تفاقمت مشكلاتهم عندما كانوا صغارًا. كانت القصص مشتركة في أنها ظهرت أولًا في الطفولة، ثم المراهقة، وفي النهاية في الشباب؛ إذ تزيد هذه المرحلة من الوحدة، والضياع، والحزن، والحرمان من الراحة. يذكر أحد المشاركين:
لم يكن يوجد أحد يعتني بي، أو أتحدث إليه، أو أسأله عن الأشياء، أو يساعدني على أنْ أصبح واثقًا في أي شيء.
على الرغم من أنَّ بعض المشاركين اعتقدوا أنَّ شخصيتهم أو جيناتهم يمكن أن تسهم في مشكلاتهم، فإنهم تحدثوا عن طريقة تشكيل شخصيتهم من خلال أحداث الحياة المختلفة، مثل النشأة مع والدين لديهم مشكلات، أو التعرض للتنمر والرفض من قِبَلِ أقرانهم. أخبرنا شخص آخر قُوبِلَ:
لقد استمتعوا بالتنمر علي. بالإضافة إلى ذلك، الفتيات… كما تعلم، كان يوجد مكان للجميع، لكن لم يوجد مكان لي. لم أُدْعَ.
مهما كانت الأسباب، وصف مشاركونا شعورهم بالاستسلام لمصيرهم، والتزامهم الصمت وإكمال الحياة. كان يتردد صداهم من خلال قصصهم أنهم بعيدون عاطفيًّا وعلائقيًّا عن أسرهم الأصلية وعن أقرانهم. حتى عندما كانت توجد قصص عن العلاقات الأسرية الجيدة، لم يفكر الأشخاص الذين قُوبِلُوا في مشاركة مشكلاتهم التي حدثت في أثناء نشأتهم. أدركوا بعد فوات الأوان وجود قاعدة عائلية لعدم مناقشة المخاوف الشخصية:
توفي والدي عندما كنت في العاشرة من عمري. لم نتحدث عن تلك الحادثة أبدًا. أتذكر أنَّ القس (الرجل المسؤول عن الكنيسة) سألني كيف حالي، وأخبرته أنني بخير. كان هذا كل شيء.
قال الأشخاص الذين أجريت معهم المقابلات إنَّ التحولات الرئيسية في الحياة تزيد من سوء الأشياء، ويزيد بؤسهم:
أسوأ شيء مررت به على الإطلاق هو إنهاء المرحلة المتوسطة وبدء المرحلة الثانوية. بدأت تصبح المرحلة المتوسطة آمنة بعض الشيء . كنت أعرف من هم معظم الناس وإلى أين أذهب. وكانت توجد بعض الأماكن الآمنة. بعد ذلك، كان من المفترض أنْ أذهب إلى مكان جديد مع أشخاص جدد تمامًا. لم أستطع التعامل مع الأمر. لقد بكيت. كان هذا الأمر مخيفًا للغاية. لقد فقدت السيطرة.
كحالات جديدة تتطلب المزيد منهم، قال الأشخاص الذين قُوبِلُوا إنهم أصبحوا ضائعين الآن أكثر من أي وقت مضى، فيما يتعلق بمن تكون، أو ماذا تفعل، أو كيف تتصرف في البيئات الاجتماعية والحميمة، وكذلك في حالات الأداء مثل المدرسة أو العمل:
عندما انتهيت من المدرسة، وجدت صعوبة كبيرة في كتابة طلب وظيفي. ظننت أنَّ شهادتي تكفي، لكن لم يوظفني أحد، ولم أتمكن من اجتياز المقابلة. لقد حصلت على تدريب وعملت بشكل ممتاز، لكن الناحية الاجتماعية لم تسر على ما يرام. تلقيت عرضًا للعمل هناك، وكانت الوظيفة ممتازة. لكنني رفضتها لأنني شعرت وكأنني أحمق.
وصف عدد قليل من المشاركين بعض العلاقات الجيدة مع الآخرين، مثل أفضل صديق أو جدة أو شقيق. وجد البعض أيضًا أنَّ تغيير المكان، مثل مدرسة جديدة، يوفر بداية جديدة. ومع ذلك، فإن مشكلاتهم تتجدد دائمًا مع التغييرات الإضافية، أو عند مواجهة تجربة الانفصال في العلاقات الأسرية أو الأقران أو العلاقات العاطفية الأخرى.
في أوصاف الأشخاص الذين قُوبِلُوا لحياتهم اليومية ظهر موضوع مشترك ملفت للنظر، وهو النضال من أجل أنْ يكون شخصًا قادرًا على العمل، وقادرًا على إنشاء علاقات والتفاعل معها من ضمن عالم الفرد المعزول. أصبحت حياتهم ملونة بحالة متعارضة ما بين حالة من الخوف والتشوق إلى التواصل مع الآخرين، وكذلك إلى الانعزال. كانوا يتشوقون إلى الانتماء إلى رفقة، ومع ذلك كانوا يخشون آراء الآخرين ودوافعهم وأجندتهم. كلما اقتربوا من الآخرين، شعروا بضعف أكبر:
هنا يأتي الثقل، “أنت الآن وحدك مرةً أخرى أيها الرجل الصغير، ولن تغير هذا أبدًا، وستموت وحيدًا”.
إحدى الطرق التي قال بها المشاركون إنهم حاولوا العثور على القبول، كانت من خلال محاولة التأقلم، وفعلوا ذلك من خلال التظاهر أنهم طبيعيون ومطمئنون وأكفياء كما يرون الآخرين:
لاحظت أنك تُجهد نفسك ووعيك بالكامل في عدم… محاولة إظهار نفسك بحماقة وأنْ تبدو طبيعيًّا.
عندما كانت استراتيجية التظاهر أنهم طبيعيون مستحيلة أو فاشلة، قال الأشخاص الذين أجريت معهم مقابلات إنهم حاولوا إخفاء أنفسهم أو انسحبوا إلى منازلهم من أجل إصلاح أنفسهم. كانوا يقضون الكثير من الوقت في التدقيق في تجاربهم وتجنبها. أدى القيام بذلك إلى ابتعادهم عن هويتهم، كما لو أنهم فقدوا الاتصال بإرادتهم ورغباتهم.
لحسن الحظ، كان يوجد بعضٌ من بصيص الأمل في قصص من أجريت معهم المقابلات عن حياتهم. تحدث بعضهم عن إيجاد الراحة في الفنون، والحرف اليدوية، والموسيقى، والنشاط البدني، وفي الانشغال الإيجابي والشعور بالتنمية، خالية من القلق والتفكير الزائد. وصف البعض إحساسًا بالارتباط بين الأطفال والحيوانات الصغيرة، والتي عدوها صادقة وحقيقية في إظهارها للحب والاحتياج. أخيرًا، بالنسبة للعديد من المشاركين، قدمت الحياة في الهواء الطلق تجربة من الحرية والكفاءة والحضور.
كيف يمكن لهذه القصص أنْ تساعدنا على فهم ماذا يعني أنْ تشخص باضطراب الشخصية التجنبية، وتناضل مدى الحياة لتكون شخصًا طبيعيًّا؟ الأهم من ذلك كله، أننا نعتقد أنَّ النتائج التي توصلنا إليها تؤكد على أنَّ الطريقة التي نصنع بها شخصيتنا كبشر هي دائمًا من خلال العلاقات القريبة منا، وهي عملية تتطلب مهارات اجتماعية وتواصلية، يعدها الكثيرون منا أمرًا لا يتطلب الاجتهاد. إننا ننمي هويتنا ونطورها بالتفاعل مع الآخرين؛ من خلال التمثيل، والتفاعل، والتحدث، والإخبار، والاستماع. بالنسبة لأولئك الذين يعانون من أجل أنْ يشاركوا في هذه التفاعلات، الشخص الذي لا يشارك في هذه التفاعلات يمكن أنْ يصبح مجهول الهوية، ومجهول الاسم، ولا يمكن رؤيته، ومخيفًا، ويعد شخصًا لا يمكن قبوله أو الوثوق به. بالنسبة للأشخاص الذين أجريت معهم مقابلات، كانوا منعزلين بإراداتهم أكثر من كونهم يشعرون بالوحدة الموحشة. كانوا يتشوقون إلى شيء لم يجربوه من قبل؛ الشعور أنك على طبيعتك من خلال شخص آخر.
لقد غير إجراء هذه المقابلات فهمنا لشعور العيش مع اضطراب الشخصية التجنبية. لقد أعطتنا كلمات جديدة وصوتًا لوصف تجاربهم. نأمل أنْ يساعدنا هذا على أنْ نكون معالجين أفضل. في العلاج عندما نسأل عميلًا شُخِّصَ باضطراب الشخصية التجنبية في ماذا يحتاجون المساعدة، ولماذا يعانون، وما الذي يخشونه، فإنهم غالبًا ما يجيبون “لا أعرف”، وعادةً ما يعنون ذلك حقًّا. لذلك، فإن أهم شيء هو العمل معهم، والبدء في اكتشاف إجابات عن هذه الأسئلة معًا. نأمل أنْ توفر نتائج هذا البحث نقطة انطلاق للأشخاص الآخرين الذين يعانون من حياة التجنب، ومساعدتهم على التعرف على تجاربهم ورواية قصصهم.
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومنصة سايكي).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.