في ظاهرة يصعب أن نجدها عربيًا على نحو وفير، تقدم عدد من الكتب الغربية رؤية مزدوجة تجمع بين الكتابة التطبيقية/ النصوص الإبداعية والمقالات النقدية والتنظيرية، ما يمنح القارئ تجربة قراءة غنية ومتنوعة، من جهة يحصل على تصور فلسفي، ومن جهة أخرى، يستمتع بأسلوب الكاتب الإبداعي وأفكاره النقدية، وهي الكتب التي تكثر غربيًا خاصة في مجال المسرح.
تعال نخترع مسمًا لها، فلتكن «الكتب النّصّنقْدية» أو الإطار «النصّنقديّ»، أي تلك التي تجمع بين النصوص المسرحية والمقالات النقدية والنظرية نهجًا شاملًا لدراسة الدراما والمسرح، ولا تقدم هذه الكتب المسرحيات نفسها فحسب، بل تتضمن أيضًا مقالات علمية توفر السياق والتحليل والتفسير. يساعد هذا النهج المزدوج القراء على فهم الأطر التاريخية والثقافية والنظرية التي كتبت المسرحيات وأُديت في إطارها. ومن خلال مقارنة النصوص الأساسية بالمنظورات النقدية، تشجع على المشاركة على نحو أعمق مع المادة، وتعزيز التفكير النقدي والتقدير الأكثر دقة لهذا الشكل الفني.
واحد من هذه الكتب، وربما أهمها، كتاب «الدراما الحديثة: مسرحيات مختارة من عام 1879 حتى الوقت الحاضر»، من تحرير أستاذ اللغة الإنجليزية بجامعة بيس، نيويورك، والتر ليفي. وهو كتاب يجمع بين مجموعة مختارة من المسرحيات الحديثة التي تمتد من عام 1879 وحتى الوقت الحاضر. ويتضمن نصوصًا لمسرحيات من كتاب مشهورين مثل هنريك إبسن، أنطون تشيخوف، بيرتولت بريخت، صمويل بيكيت، وأخرى، مع تقديم لمحة شاملة عن تطور المسرح الحديث من خلال تقديم نصوص تمثل مختلف الحركات والأساليب المسرحية التي ظهرت خلال هذه الفترة. إضافة إلى مقالات نقدية ونظرية تساعد في فهم السياق التاريخي والثقافي لكل مسرحية، فضلًا عن تحليل الأساليب الفنية والتقنيات المستخدمة.
يأتي بعده كتاب «المسرح.. النظرية والتطبيق: النصوص النقدية الرئيسية من أرسطو وزيامي إلى سوينكا وهافيل» تحرير دانييل جيرولد أبرز منظري الدراما الشرقية والغربية، ليقدم مختارات من نصوص ومقتطفات مسرحية تمتد لقرون، مع مقالة تمهيدية عن رؤية كل مؤلف ونظريته، ليبدو تصور جيرولد تقديم حوار مفتوح وتبادل حرّ للأفكار.
أما ثالث الإصدارات الرفيعة في هذا المضمار، فهو «مختارات نورتون للدراما» من تحرير إلين جينور وستانتون ب. جارنر الابن ومارتن بوشنر، ويجمعون فيه مجموعة واسعة من النصوص المسرحية من فترات وثقافات مختلفة، إضافة إلى مقالات نقدية ونظرية توفر سياقًا وتحليلًا لهذه النصوص.
«عظمة العين»
كما أشرنا، تبدو هذه الظاهرة نادرة عربيًا، مما يكسب كتاب «عظمة العين» للشاعر والمؤلف المسرحي والناقد صالح زمانان أهمية فوق أهمية محتواه الذي تألف من أربعة نصوص مسرحية، وثلاثة تعقيبات نقدية، تُعنى بالأساس بالتأسيس المعرفي والفلسفي لصنّاع المسرح العربي، بجانب التركيز على دور الممثل، أو بالأحرى الأبعاد الثقافية والمعرفة الفلسفية للمثل وتأثيرها على أدائه، متوقفًا أمام نموذج سعودي وعربي ملهم، وهو الممثل والشاعر إبراهيم الحساوي.
ومن خلال كتابه النّصّنقديّ يدعو المؤلف إلى توفير أساس استراتيجي وأدوات ممارسة، وفى قلب هذه الممارسة تكمن الفلسفة، فأينما يولى المسرحي وجهه فثمة وجه الفلسفة، وحيثما يضع يديه على ركن من أركان المسرح سيكتشف العمق الفلسفي الذي أقيم عليه هذا الركن أو ذاك، بالتالي نصبح إزاء دعوة لنشر وتأسيس مقاربة فلسفية للنصوص، ما يعني أن المسرحي أيًّا كان موقعه في عملية الإنتاج ودورتها، يتوجب عليه معرفة الفلسفة الغربية الحديثة وقراءتها، وغيرها بالطبع من الفلسفات وتأثيرها في حركة الفنون.
أساس ما بعد حداثي
في دعوته إلى التأسيس الفلسفي، ينطلق زمانان، مؤلف أول أوبرا سعودية، من أساس ما بعد حداثي، الذي يستند بدوره إلى رفض التضاد الكلاسيكى، وقلب مسلمات الفلسفة الكلاسيكية رأسًا على عقب، مثل التسليم بأن الفلسفة تستطيع الوصول إلى الحقائق التي يطمسها الأدب ويفسرها بالتلاعب الظاهرى باللغة والخيال. وفى طريق ومسعى قلب مسلمات الفلسفة تهاجم ما بعد الحداثة الصرح الداخلي سواء الشكلي أو المعنوي للوحدات الأساسية للتفكير الفلسفى؛ بل تهاجم أيضًا ظروف الممارسة الخارجية أى الأشكال التاريخية للنسق التربوي لهذا الصرح والبنيات الاجتماعية، الاقتصادية، والسياسية لتلك المؤسسة التربوية.
في ضوء ذلك يشير المؤلف إلى أن «الغالبيَّة المسيطرة من المسرحيِّيْن العرب الحاليِّيْن تِقْنِيُّون، لا جدليِّيْن يظهر هذا في محاضراتهم وندواتهم، وكُتُبهم، ومقالاتهم ويتجلَّى بسفورٍ في مناقشاتهم مع بعضهم والجلسات الحوارية التي تعقب العروض، وفي جدالاتهم وصداماتهم في فضاءات الواقع والافتراض، والمتَّسمة في جُلِّها بالانطباعيَّة والشخصانيَّة».
ويشير مصطلح المسرح التقني إلى جوانب الإنتاج المسرحي التي تنطوي على استخدام التكنولوجيا والمهارات التقنية. ويشمل ذلك الإضاءة والصوت وتصميم الديكور وتصميم الأزياء وإدارة المسرح. ويعمل محترفو المسرح التقني خلف الكواليس لإنشاء العناصر البصرية والسمعية التي تدعم سرد القصص على المسرح. أما المسرح الجدلي فهو من أشكال المسرح الذي يؤكد على استخدام الحوار والمناظرة والحجاج لاستكشاف القضايا الاجتماعية والسياسية والفلسفية. وغالبًا ما يرتبط بشجيع الجماهير على التفكير النقدي في القضايا المقدمة في المسرحية.
ويركز المسرح التقني على الجوانب العملية والفنية للإنتاج، بينما يركز المسرح الجدلي على المشاركة الفكرية والفلسفية للجمهور من خلال الحوار والمناظرة، لكن «المسرحيين المشغولين بالمعرفة والتأصيل في المسرح العربيّ قلَّة»، بتعبير زمانان، ويمدها كرؤية ليصل إلى أن ذلك أبعد «المسرحيِّيْن عن منصَّات المعرفة والتنظير الثقافي، واحتلال مكانة متقدِّمة في وجدان الجماهير العربيَّة وقت أزماتها ومعاركها الفكريَّة، وحتَّى السياسيَّة والاجتماعيَّة وهي – حالة الفصل تلك – السبب ذاته الذي جعل قائمة الأعمال الخالدة في المسرح».
«بلا فلسفة بلا حرية»
من عناصر إنتاج العملية المسرحية إلى نقادها، يشير المؤلف وكتابه إلى حرية المسرح، فالوصول إلى الجماهير المحلية والعالمية هدف لا يمكن تحقيقه من دون مناخ ديمقراطي، تُمارس فيه العملية المسرحية التي تبدو لعبة ديمقراطية في جوهرها، وآلية من آليات التغيير أو بتعبير الناشط المسرحي أوجستو بوال «المسرح شكل من أشكال المعرفة، ويجب أن يكون وسيلة لتغيير المجتمع، لأنه يساعدنا في بناء مستقبلنا بدلًا من مجرد انتظاره».
أو برصد صالح زمانان «سقوف الحرِّيَّات وتداعياته على كينونة المسرح كفنٍّ صاخب وكخطاب معاند، كذلك في تدنِّي دعم المؤسَّسات الحكوميَّة والقطاع الخاصِّ للمسرح، وما في ذلك من متواليات عاطبة للحَرَاك، ثمَّ الصناعة وصولًا للمثاقفة، ولن ننسى كذلك القصور الفادح في العمل النقدي الحديث للمسرح».
مؤكد أن الحرية شرط لنهضة أي فنّ، بل سبب التقدم في أي مجال فني أو غير فني، ويمكن الإشارة إليها بوصفها شفاءً لكل أمراض المسرح، مع وجوب التخلص من أشكال الرقابة التي تقيد العملية الإبداعية وتعرقلها بيروقراطية أكثر من أن تعمل على تنظيمها، وهي تتنوع في أشكالها بين رقابة على المصنفات، وثانية رسمية وثالثة غير معلنة يمارسها مديرو المسارح. إن أي حديث عن المسرح عامة، والمسرح العربي خاصة، لهو في حقيقة الأمر حديث عن الحرية، فكيف ينجح مسرح والرقباء يقفون عند عتبته؟
لكن ومع توفر الحرية يبقى غياب البعد الفلسفي نقيصة تكشف عوار الخطاب النقدي المسرحي، وتُظهر «الحاجة لتجاوُز حالة العُقْم التي عمَّت مجموعة من المسارح الأوربية. هذا التبايُن الجذري بين رأي المسرحيِّيْن العرب والبحث هذا يقودنا لإدراك الهُوَّة بين النقد المسرحيِّ العربيِّ ونظيره الغربيِّ»، بتشخيص زمانان.
لكن ما السبب وراء غياب التصور الفلسفي والإلمام بمنجز الحكمة العالمي؟ فالمتأمل لحال النقد العربي في عموميته يلاحظ أن الإسهام العربي في تلقي الفلسفة على نحو عام على المستويين النظري والتطبيقي ضئيل، ولم تقترب الممارسة النقدية اقترابًا حميمًا من الاشتغال الفلسفي، وبما يدخلها فعليًا في دائرة اهتمامات الثقافي العام بتعدد قضاياه.
ولأن العمل فلسفيًا يعني الدخول في معترك الأفكار والتصورات المتشابكة، فإن الناقد المصري الراحل جابر عصفور يفسر قلة الاشتغال الفلسفي في عمومه داخل متن الخطاب النقدي، وحضور فلسفة ما بعد الحداثة تحديدًا، بـ«مزاج الناقد العربي، الذي ينحاز إلى الأفكار النسقية ذات العناصر المنتظمة، ونفوره من الأفكار ذات المركز، أو المعنى الثابت». وبعيدًا عن صعوبة تحديد مفهوم “المزاج النقدي” للناقد العربي، فإن حديث عصفور ينطبق في المقام الأول على عصفور نفسه وإنتاجه النقدي، المنتمي إلى النسقية المنضبطة «البنيوية».
وفي رأي عصفور، ثمة شروط لازم توافرها لإنتاج حركة نقدية فلسفية عربية، أولها: ترسيخ المفاهيم الأولية لاستراتيجية التفكيك، ووضعها في سياقاتها المعرفية والفلسفية والإجرائية، وثانيها: الترجمة الدقيقة لكتب الفلسفة والنقد معًا، وثالثًا: تراكم التطبيقات العربية الدالة والمؤثرة على المستويين الكمي والكيفي، بما يمكن أن يشكل تيارًا يصنع تعاقدًا بين مجموعة من النقاد العرب.
عودة نصّنقدية
ومن خلال الكتاب لا يكتفي المؤلف باشتغالاته الفلسفية وطرح أسئلته فحسب، بل يقدم نصوصًا تستند في متونها على الجدل، لتصبح «نصوص متعة»، إذ يفرق الناقد الفرنسي رولان بارت بين نوعين من النصوص؛ الأول نص اللذة الذي ينحدر من الثقافة، فلا يحدث قطيعة معها، ويرتبط بممارسة مريحة للقراءة. والثاني نص المتعة الذي يجعل من الضياع حالة، ويحيل إلى الراحة رهقًا، فينسف بذلك الأسس التاريخية ، والثقافية، والنفسية للقارئ نسفًا، ثم يأتي إلى قوة أدواته، وقيمه وذكرياته، فيجعلها هباءً منثورًا. وإنه ليظل كذلك حتى تصبح علاقتنا باللغة أزمة.
وأيًا كان نوع النص، فإن الاشتغال الفلسفي يبحث في النص المدروس «على ما لا يقبل التحديد أو التقرير وعلى ما يعمل داخل النص على أنه لا يقبل التحديد أو التقرير أي على الفائض الزائد على تركيبة أو بنية الدلالة»، على حد قول الناقد السعودي ميجان الرويلي.
ونعود من حيث بدأنا الحديث، ونعيد التوقف أمام ظاهرة «النّصّنقدية»، المفهوم الذي نتلمسه للإشارة إلى الجمع بين مفهومين أساسيين هما النص والنقد، أي الإشارة إلى نوع من الكتب والإصدارات التي تتجاوز كونها مجرد مجموعة من النصوص الأدبية، بل تتعمق في تحليلها وتفسيرها، وتقدم قراءات نقدية وتنظيرية حولها، ونعد «عظمة العين» أبرزها عربيًا. هنا، لا يشير المفهوم إلى العملية الفكرية التي تسعى إلى فهم النص وتفسيره وتقييمه. فالنقد في هذا السياق ليس مجرد إبداء رأي، بل عملية معقدة تعتمد على أدوات فلسفية مختلفة، ومن ثمّ تأتي تجربة صالح زمانان دمجًا بين النص الأدبي الأصلي مع التنظير الفلسفي، وربط المارسة بالنظريات الأدبية المختلفة، مع الاستفادة من أدوات النقد والفلسفة، وهما مجالان غير منفصلين، بهدف توسيع فهم القارئ، وتقديم قراءات جديدة ومبتكرة، وتحفيز النقاش حول الفلسفة النقدية، وهو ما يعني في الأخير تعزيزًا للحوار الثقافي، ومحاولة عملية لسد فراغ معرفي في المكتبة العربية.