»المزيد من الأغاني عن الطعام والمباني» هذا هو عنوان ألبوم فرقة الروك »توكنغ هيدز» الصادر في ١٩٧٨. تطرّق الألبوم إلى كلّ الأمور التي لا يدأب نجوم الروك على الغناء عنها. فأغاني البوب عادةً ما تكون تنويعات على ثيمة الحبّ؛ أما الأغاني المشابهة لأغنية جورج هارسن «محصّل الضرائب»، التي أُلِّفت ردًا على معدّل الضريبة الحدّي البالغ ٩٦٪ الذي قدّمه رئيس الوزراء هارولد ولسن في الستينيّات، فهي استثناء.
ومثلهم الفلاسفة؛ إذْ يميلون عادة إلى مواضيع محدّدة؛ فهم يصبون تركيزهم على الإبستيمولوجيا، والميتافيزيقا، إضافة إلى مواضيع هامشية في نظرهم مثل معنى الحياة. بيد أن بعض العقول العظيمة تشطّ آنًا بعد آن عن مضمارها وتكتب عن مسائل أخرى. تكتب على سبيل المثال عن المباني (مارتن هايدغر)، أو عن الطعام (هوبز)، أو عن عصير الطماطم (روبرت نوزِك)، أو عن الطقس (لوكريتيوس وأرسطو). تتناول هذه السلسلة من «موجز فلسفي» الثيمات غير الشائعة؛ أي الأشياء التي يكتب عنها الفلاسفة أيضًا.
كان رينيه ديكارت (1596- 1650) يُحبّ النوم الجيّد الطويل. لا عجب أن الفرنسي الناعس كان كثيرًا ما يستغرق في الحديث عن الأحلام في فلسفته. من ذلك مثلًا قوله في كتابه مقال عن المنهج: “أنه من المستطاع أن يتخيّل النائم أن له جسمًا آخر، وأنّه يُبصر كواكب أخرى، وأرضًا أخرى، دون أن يكون من ذلك شيء[1]“. لكن وللأسف، كانت ربّة عمله، ملكة السويد كريستينا، من الأشخاص الذين يستيقظون في الصباح الباكر، وأصرّت على أن يُعطيها دروس الفلسفة في الساعة الخامسة صباحًا، الأمر الذي أسفر عنه وفاة العقلاني الفرنسي بعد فترة وجيزة جرّاء إصابته بالتهابٍ رئويٍّ لخروجه المتكرّر من المنزل في فجر السويد الثلجي.
وبعد حوالي مئة عام، أتى هيوم الذي كان يحمل نَفْسَ عقليّة ديكارت، وقال في كتابه رسالة في الطبيعة البشرية: “لا يعي المرء الزمن إن كان غارقًا في النوم” (ص 84). كان سورين كيركغارد هو الآخر، والذي أتى بعده بقرن من الزمن، يحب البقاء في السرير لفتراتٍ طويلة. يقول الفيلسوف الوجودي في كتابه: “أُقسّم وقتي كالتالي: أنام النصف الأول، وأحلم في النصف الثاني. ولا أحلم قطّ عندما أكون نائمًا؛ إذ سيكون هذا أمرًا مؤسفًا، فالنوم ذروة العبقرية”.
هؤلاء الفلاسفة كانوا يستمتعون كثيرًا بالنوم. لكن هذا ليس حال جميع الفلاسفة. لم يكن أفلاطون يعطي الكثير من وقته لأولئك الذين يفضّلون الرُّقاد في الفراش. يقول أفلاطون: “الرجل النائم عديم الفائدة، بل وهو في حالته هذه أقرب ما يكون إلى الميت”. فعلى العكس من زملائه المثقلين بالنوم، يرى الفيلسوف الأثيني أنه “من العار أن يُكرّس رجلٌ نبيلٌ ليلةً بأكملها للنوم، وأنّ هذا أمرٌ لا يليق به” (القوانين، 297). من الجليّ أن تلك المذكرة كانت بحوزة إيمانويل كانط، إذ كان يجعل خادمه يُوقظه كل يوم في الساعة الخامسة صباحًا.
كان توماس هوبز ممن كتبوا عن النوم أيضًا، لكن اهتمامه كان يدور بشكلٍ أكبر حول أسباب الأحلام السيئة. كان هذا الرجل الإنجليزي -الذي يفتقر إلى الشاعرية افتقارًا تامًّا ويلتزم بنظرته الآليّة للعالَم- يعتقد أن “الأحلام تحدث بسبب اختلالاتٍ في بعض الأجزاء الداخلية للجسم” (اللفياثان، ص95). رأى هوبز كذلك أن الطعام قد يكون وراء حدوث الأحلام والكوابيس. والأمر المثير للاهتمام أن هذه الفكرة قد خطرت أيضًا لأرسطو قبل ألفي عام، حيث اقترح أن تكون الأحلام نتيجة عسر الهضم. وبالاستناد إلى دراساته التجريبية التي لم تعرف الكلل أو الملل، خلص أرسطو، في عملٍ له بعنوان حول النوم، إلى أن الأشخاص من ذوي الأوردة الصغيرة والأقزام وأصحاب الرؤوس الكبيرة ينامون كثيرًا (De Somno, 3.457). مما لا شك فيه أن أرسطو لم يكن ليتفاجأ من كون أحد الأقزام السبعة المساعدين لسنو وايت يدعى “نعسان”.
كتب الفلاسفة الأخلاقيّون أيضًا عن النوم، وعمّا يُمكن أن نسمّيه الحقوق الطبيعية للناعسين. رأت الفيلسوفة فيليبا فوت، خريجة أكسفورد، أن من غير الأخلاقي تصوير شخصٍ نائم (Natural Goodness، 2001، ص 64). أما إذا كان هذا الأمر خطيئة عظمى أم لا فهو أمر مطروح للنقاش، لكنّ الملاحظة الأخرى التي طرحتها ثابتة لا جدال فيها، وهي أنّه “يمثّل ضرورة أرسطيّة (أمرٌ نعتمد عليه في أسلوب حياتنا) في الحياة البشريّة، لدرجة أنه في حالِ دخل علينا مثلًا شخصٌ غريبٌ ووجدنا نيامًا، فسيتردّد في قتلنا” (ص 114)!
كم أسهبنا في الحديث! أما تزالُ مستيقظًا؟ حسنًا، لقد فهمت… أحلام سعيدة إذن. فكما كتب نيتشه في كتابه هكذا تحدّث زرادشت: “طوبى للناعسين، فعمّا قريب سيغفون”.
[1] من كتاب “مقال عن المنهج”، بترجمة محمود محمد الخضيري، الطبعة الثانية، 1968، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر.