خصَّص أصغر فرهادي فيلم «الماضي» (2013) لمعالجة إشكاليات العلاقات العاطفية في سياق ثقافي-اجتماعي وتاريخي-اجتماعي متحوّل ومتقلب، كما أنّ هشاشة الحياة الزوجية تعدُّ ثيمة مركزية في منجز أصغر فرهادي (فيلم «انفصال» وفيلم «الماضي»، وفيلم «البائع»).
- لعبة المثلثات الدرامية في فيلم «الماضي»
يقوم البناء الدرامي لفيلم «الماضي»، على متوالية من المثلثات الدرامية، المتعاقبة والمتقاطعة.
المثلث الدرامي التأسيسي: الحُبّ وموانعه
يستند البناء الدرامي للفيلم على طبيعة العلاقة بين مكونات المثلث التأسيسي (ماري وسمير ولوسي) وتحوّلات هذه العلاقة. ترفض لوسي ارتباط أمها العاطفي بسمير، وتستميت في الرفض والتمرد والاحتجاج، حماية لأمها من صدمة عاطفية جديدة، ومن تبعات علاقة غير مأمونة العواقب برجل يستمتع بمباهج الحبّ والمساكنة، فيما ترقد زوجته في سرير الغيبوبة. ولا تكتفي بالرفض والضغط والتمرد، بل تسرب الرسائل الإلكترونية العاطفية المتبادلة بين أمها وسمير إلى زوجة سمير، مما ضاعف من معاناة لوسي وإحساسها بالذنب بعد إقدام زوجة سمير على الانتحار.
تستميت لوسي في الرفض والجفاء والتمرد والعصيان والانعزال للدواعي التالية:
1- استحالة بناء علاقة عاطفية مستدامة في سياقٍ مطبوع بالهشاشة والتسارع وغياب المرجعيات والمعايير الثابتة. 2-اعتقادها أنّ إقدامها على تسريب الرسائل الإلكترونية المتبادلة بين أمها وسمير هو سبب إقدام زوجة سمير على الانتحار. 3- احتجاجها الأخلاقي ضد إصرار أمها على الارتباط الرسمي برجلٍ كانت مغامرته العاطفية معها سببًا في اكتئاب زوجته وإقدامها على محاولة الانتحار.
لا تكتفي لوسي بالرفض السلبي (التغيب عن البيت، والقطيعة، وعدم المشاركة)، بل عمدت إلى الضغط (التغيب عن البيت وقضاء الليل في منزل شهريار، دون إخبار الأم بمكان مبيتها، وتسريب الرسائل الإلكترونية، وتجاوبها الجزئي مع وساطة أحمد)، بكل الوسائل من أجل منع أمها من التمسك بقرارها واختيارها.
وتتحكم في سلوك لوسي مرتكزات أو معايير ثلاثة:
– معيار الهوية: فهي تحتج وترفض العابرية والقيم والعلاقات الظرفية. إذ تشهر مطلب الانتماء والهوية ضد العلاقات الوظيفية.
– معيار نفساني وإحساس عميق بعقدة الذنب: لاعتقادها أنها اتصلت عمليًا بزوجة سمير في حين أنها لم تتصل إلاّ بالمستخدمة المغربية نعيمة.
– معيار أخلاقي: ترفض لوسي الاهتمام والرغبة في الاقتران برجلٍ متزوج بمقتضى القانون، والاستمتاع بمباهج الحبّ، فيما الزوجة في غيبوبة.
المثلث الدرامي التعضيدي: الحُبّ ومفاعيل الذاكرة
أثار إصرار ماري على إحضار أحمد – رفيقها السابق وزوجها الحالي الذي انفصلت عنه، ولكن ليس قانونيًا – إلى المنزل، بدل حجز غرفة في الفندق له كما هو متوقع، والجدال الحاد الدائر بينهما، أثار ذلك شكّ سمير، حبيبها الحالي وزوجها المحتمل. فالجدال الحادّ بين حبيبين سابقين، دليل على وجود أمور معلقة لم تحسم بعد بينهما. وقد اعتبر سمير حمل ماري مجرد محاولة لإغلاق مسار عاطفي سابق ونسيان تجربة زواج فاشلة لا أمارة أو دليلاً على علاقةٍ عاطفية أصيلة. يرنو سمير إلى علاقةٍ عاطفية أصيلة، لا تتأثر بآثار الماضي ولا بجروح الوجدان، ناسيًا أن تدبير الذاكرة العاطفية شاق وصعب. فيما لم تخف ماري امتعاضها من تحمس سمير لجمع عطور الزوجة وتجريبها، قصد استثارة ذاكرتها العميقة التي قد توقظها من الغيبوبة. كما أشارت إلى تضايقها الدائم من ضياعه الوجداني والعاطفي بينهما، ومن إقباله على محبتها لملء الفراغ العاطفي الناتج عن برودة الزوجة واكتئابها قبل انتحارها، وعن غيابها المأساوي بعد ذلك.
المثلث الدرامي التعضيدي: وساطة الآخر والتنازع حول شرعية الحُبّ
اضطر أحمد – بفعل حبّه الأبوي للوسي، والذكريات الحبية المشتركة بينهما – إلى التحري عن دواعي تمردها وتعنتها ورفضها الكلي لارتباط أمها بسمير. ويكتشف كلما سبر أغوار المراهِقَة المتمردة والمكتئبة والمصرّة على المعاندة والتحدي، عنادها واحتقارها لسمير، وإقدامها على تسريب الرسائل الإلكترونية المتبادلة بين أمها وحبيبها الجديد.
وجد أحمد عنتًا كبيرًا في إقناعها وثنيها عن رفضها الجازم وضراوتها في معاداة سمير، وفي رفض رغبة أمها في الحبّ والهناء العاطفي، وقد فوجئ برد فعلها بعد أن أخبرها بحمل أمها من سمير، والحقيقة أن أحمد فوجئ بإفادات مأساوية لم يتوقعها البتة، إلا أنه لم ينفذ إلى دواعي ودوافع لوسي، واكتفى بالنصح وتقريظ الاختلاف والحقّ في السعادة والهناء.
ويجد أحمد نفسه متورطًا تدريجيًا في علائق قلقة ومضطربة بماري (احتجاجها على إقدامه على إخبار لوسي بحملها، واحتجاجها على تكتم شهريار على وجود لوسي معه في منزله، وتذكيرها إياه باكتئابه بعد رفضه فرضية انتحار زوجة سمير بسبب الاكتئاب الحاد)، ولوسي (معاناتها الحادة بسبب إحساسها بالذنب بعد اعتقادها أن تسريب الرسائل الإلكترونية إلى زوجة سمير هو سبب انتحارها) بسبب تطلبهما وقوة التنازع بينهما.
المثلث الدرامي التعضيدي: قوة السلب والتيه العاطفي
لم يستفحل اكتئاب سيلين – زوجة سمير – واستغراقها في اللامبالاة والاكتئاب الحاد، إلاّ لشكها في ارتباط سمير بنعيمة المستخدمة المغربية بالمغسلة؛ فهي لم تقدم – حسب نعيمة – على الانتحار بسبب محتوى الرسائل الإلكترونية العاطفية المتبادلة بين سمير وماري؛ بل لشكها في علاقة زوجها سمير بنعيمة، وازدياد حنقها بعد تفهمه موقفها وتصرفها أثناء المشاجرة مع الزبونة، ورفضها الاعتذار عن تصرفها الأرعن ودعوتها إلى مغادرة المغسلة. لم تختر سيلين شرب غسيل الدترجون أمام نعيمة إلاّ لاقتناعها بارتباط زوجها عاطفيًا بنعيمة؛ فلو قرأت الرسائل واطلعت على محتوياتها لربما اختارت الانتحار في مكانٍ أو ظروف أخرى (أمام الزوج أو أمام الصيدلية، كما تفترض نعيمة).
ويتحكم في سلوك نعيمة وردود فعلها أمران أساسيان: هشاشة وضعيتها المهنية، فهي عاملة غير قانونية، وشك سيلين في ارتباطها عاطفيًا بزوجها. وبما أنها مقتنعة بسلامة تأويلها لأفعال سيلين (وجود اللطخة في ثوب الزبونة، وكره سيلين لها، والمشادة غير المبررة – ظاهرًا – مع الزبونة)؛ فإنها تولي عناية كبيرة للإشارات والمخفي واللامقول (نظرة سيلين بعد إمساك سمير بيد نعيمة). وفيما يكتفي سمير بالظاهر والمعلن والمكشوف، فإن نعيمة تعتني بالمخفي والمبطن والمسكوت عنه (النظرات والمواقف والسلوكيات والحركات).
تتحكم سيلين الموجودة في المابين (بين الماضي والحاضر / بين الحياة والموت / بين التذكر والنسيان / بين الوجود والغياب) في تطور الأحداث (طرد نعيمة من العمل، وتأجج التوتر بين ماري وسمير بسبب تضايقها من اعتنائه بزوجته، وتوتر العلاقة بين لوسي وماري) إنّ للسلب قوة لا تضاهى في أفلام أصغر فرهادي (تأثير الأب المصاب بالزهايمر في مسار الأحداث في فيلم «انفصال» مثلًا).
- وعود الحاضر وهواجس الماضي
إنّ التاريخ العاطفي للشخصيات حيّ، لا يقبل التغيير مهما تحول وعي هذه الشخصيات وإدراكها للأشياء ورؤيتها إلى ذاتها وإلى الآخر؛ فمهما رغبت الشخصيات الدرامية في التخلص من سلطة الماضي، والانخراط في مسارات عاطفية محررة للعاطفة والوجدان والمخيلة، فإنها تصطدم، لا شعوريا أو شعوريا، بكثافة وصلابة وصلادة هذا الماضي، المترع بالإخفاق والجفاء والتردد والحيرة الوجدانية واللامبالاة والاكتئاب والتوتر والهدر الوجودي.
إن ماري تفعل وتنفعل بتأثير لا شعوري وشعوري من هذا التاريخ العاطفي بالذات (الرغبة في إثبات الذات أمام أحمد، والانتقام منه بعد نسج سلسلة من الكذبات الصغيرة عن الرسائل الإلكترونية المرسلة). ولئن نقلت أغراض أحمد (كتبه وصورهما المشتركة) إلى مستودع البيت وسعت إلى طلاء المنزل وإعداده ( تغيير الألوان وتثبيت الثريات)، فإنها لم تتمكن كليًا من إعادة ترتيب وعيها العاطفي والتعامل بحسّ عملي مع حبيبها السابق (رغبتها في الانتقام منه بإحضاره إلى المنزل وإقحامه في مبارزة رمزية أو مجابهة وجدانية مع الحبيب الجديد).
يتحكم الماضي في الفعل حالًا، والتصور عن المآل. وتنخرط ماري في علاقة جديدة لتخطي إخفاقات الماضي والإحساس بالامتلاء العاطفي بعد تجارب عاطفية وزيجات تركت ندوبًا في الذاكرة والنفس والوجدان. تكتفي ماري، إذن، بالتجريب الهاوي في سعيها إلى إعادة بناء وعيها العاطفي ووجدانها، ولا تدرك أن الاستدامة مرتبطة بوجود مشتركات تغذي الحبّ وتمنحه القدرة على التأجج والتوهج كلما لامسته رياح الوهن.
ينقذنا الحبّ – كما ترى الباحثة الفرنسية كلير ماران – من عبثية الوجود وجواز البدايات. هل لحبٍّ منحصر في الإيروس – أيّ في الشغف العاطفي والتلذذي – ومفتقر إلى الصداقة والغيرية والفهم العميق لتفكير الآخر، هل لهذا الحب أن يدوم؟ لا يكتمل الحبّ، من منظور فلسفي، إلا باستيفاء ثلاثة شروط: الشغف العاطفي، والصداقة، والغيرية أو الإيثار.
ولئن اعتقد سمير أنه تجاوز ماضيه العاطفي اعتمادًا على تقدير غير دقيق للسلوك العاطفي للزوجة الغارقة في اللامبالاة والاكتئاب والعزلة الشعورية فإنه سيكتشف بعد إفادات نعيمة، وتوتر علاقته بماري بعد مجيئ أحمد إلى باريس، وإشارة الزوجة في سرير الغيبوبة إلى أنه لم يتحرر من سلطة تاريخه العاطفي قط. ومهما استغرق في الراهن وما يزدان به من أشواق و أتواق عاطفية وتطلعات مستقبلية (تكفله بطلاء بيت ماري وإحضار وتركيب الثريات والإقامة معها في المنزل)، فإنه لم يفلح في إعادة بناء وعيه العاطفي وبقي ممزقًا بين امرأة تلهج بحبّه وتعبر عن تعلقها به (الرسائل الإلكترونية المتبادلة، والعناق الحار المحفوف بكثير من الألم والتمزق النفساني، والغيرة من الزوجة الحاضرة-الغائبة)، وأخرى راقدة في سرير الغيبوبة، يميل إليها في العمق رغم برودها الظاهر واكتئابها.
وبينما اكتفى أحمد بالمشتركات الإنسانية، واستبعد كليًا كل استظلال بظلال الماضي (رفض أخذ كتبه وأغراضه)، فإن سمير، يعيش تمزقًا وجدانيًا وعاطفيًا بين امرأتين لا يدرك في العمق بناءهما النفساني وحاجياتهما الاجتماعية والثقافية .
أما لوسي فهي ترفض انخراط أمها في علاقةٍ عاطفية جديدة مآلها الإخفاق والعزلة والمعاناة النفسانية واجترار الإخفاقات. تظهر لوسي حساسية مفرطة إزاء التاريخ العاطفي لأمها (رفضها عابرية العلاقات العاطفية).
ويمكن القول إجمالًا بأن لوسي تعاني من تبعات التاريخ العاطفي لأمها (الانفصال عن أبيها، والخيبات العاطفية المتواترة، والإحساس بعابرية وبهشاشة العواطف والانتماءات)، وتحاول ماري إعادة ترتيب ذاكرتها العاطفية، والانخراط في علاقة عاطفية مستديمة (بدلالة وضمانة الحمل).
لا ترفض لوسي زواج أمها بسمير فحسب؛ بل تحتج صراحة على عابرية وهشاشة وظرفية العلاقات العاطفية والانتماءات، فهي تجسد – في الحقيقة – الوعي المضاد للوعي التحرري الهيدوني، المتمخض عن تحولات الستينيات وثورة 1968.
وخلافًا لماري، فإن أحمد تمكن- إجمالاً – من تخطي جراحات وندوب وشروخ وذكريات الماضي. لا يبقى لأحمد – في وعي ماري – إلاّ الثقافة وذكريات باهتة عن حبٍّ مفجوع بالاكتئاب وغياب التفاهم وعدم التجاوب، ومكان قصي ومظلم في مستودع المنزل. لقد اختار أحمد الإيراني فيما يبدو الذاكرة والتاريخ الثقافي، وغيّب قصدًا حاضره العاطفي.
يكتفي سمير وماري بتقريظ النسيان، كلما أحسَّا بثقل الماضي، واتساع رقعة الشك في قدرة أحدهما على القطع مع نداءاته وتبعاته وبناء علاقة جديدة ليست – بالقطع – امتدادًا بشكلٍ آخر لما سلف. تحلم ماري بحبٍّ أصيل مؤسس على اختيار قلبي خالص، إلا أنها تشك في قدرة سمير، الموزع عاطفيًا بين عالمين عاطفيين مختلفين على منحها هذا المبتغى، أما سمير فيشك في قدرتها على تجاوز وتخطي آثار وجراحات وندوب الماضي. فهما يرفعان النسيان كبديل لعلاقةٍ ملتبسة ومصاغة بمادة «الماضي»، أساسها الانجذاب/ النفور وكأمارة على تكوين علاقة عاطفية مؤسسة تأسيسًا متينًا بناءً على اختياراتٍ مسوغة لا على رغباتٍ تعويضية.
إلا أنهما لم يتحرّرا بالكلية من أثقال الماضي وآثاره ووعوده (زيارة سمير لزوجته سيلين وتجاوبها المحتمل معه). ولذا لا ينفكّ الماضي عن الحضور في الوعي والوجدان، وعن التأثير في مسارات العواطف والعلاقات، وتوجيه السلوك العاطفي، مهما أخلصت الشخصيات للحاضر ووعوده وأشواقه.
- مأساوية الحُبّ: وعود الحُبّ ووعيد الذاكرة
يقوم الحبّ، هنا، على الوهم والاستيهام والاستشراف غير المبني على معرفةٍ موثوقة بالآخر؛ تطلّ شخصيات الفيلم في أكثر من ملمحٍ على المأساوي، بسبب وثوقها الكلي وركونها إلى العاطفة دون استيفاء شروط المعرفة بالآخر وتاريخه العاطفي. فماري مهوسة بالحبّ، ليس لأن المحبوب مستكمل لشرائط النبل والاستحقاق والسموّ، معرفة وأخلاقًا وسلوكًا، بل لأنّ التئام جراحات الذات والخروج من العزلة العاطفية القاتلة يقتضيان ذلك.
ويغوص سمير في مباهج ولواعج الحبّ، فرارًا من رابطة زوجية، يحكمها البرود والفتور واللامبالاة واللا تواصل والاكتئاب والتوجس الخفي من نوايا وتطلعات الآخر. ينشد سمير تعويضًا عاطفيًا، يمنحه الدفء المفقود والطمأنينة المرجوة.
انفتاح مسارات الاكتشاف وانغلاق مسارات البناء
ثمّة بعد آخر للعلائق الإنسانية، هو الأجدر بالمعالجة في أية معالجة سينمائية جادة؛ فمهما بدت العلاقات واعدة، فإنها تنطوي على مجاذبات ومفارقات كبيرة أحيانًا، تكتشف ماري بعد وثوقها بسمير وحملها منه أن حبّهما لا يبرح دائرة الاحتمال والافتراض والالتباس، ومهما أظهر سمير من حبّ، فإنه يعترف بتمزقه العاطفي بين زوجة باردة ومكتئبة ولامبالية ظاهريًا، وحبيبة ملتهبة شوقًا إلى الحُبّ والشغف والبذل.
يحف التعقيد والالتباس والتردد بسلوك ماري وسمير؛ فكلاهما يتوق إلى الحُبّ، دون أن يتخلص من مخاوفه المتجذرة (الخوف من الفشل والإخفاق) والمعلقة، وأن يربط العاطفة بالمعرفة (المعرفة بتفكير وهواجس والتاريخ العاطفي للآخر). فحين تفتقر العاطفة إلى المعرفة، تكون حبلى بالاستيهامات وأدنى إلى الفواجع والتمزقات والهواجس التراجيدية في أسوأ الأحوال.
يتصاعد الإيقاع الدرامي ويتطور الحدث، باكتشاف الذات لعجزها عن معرفة الآخر (عجز سمير عن فهم سلوك ومواقف سيلين، ودواعي انخراط ماري في علاقةٍ حميمة معه، وتضايق ماري من التيه العاطفي لسمير)، ودوافع ومحفزات إقدامه على أفعالٍ غير متوقعة.
تكمن مأساة الحُبّ والارتباط بالآخر الثقافي (أحمد الإيراني، وسمير العربي)، في انطوائهما على مفارقةٍ صريحة هي مفارقة: الانخراط في صيرورةٍ قابلة لكل الاحتمالات وكل الفرضيات، والمراهنة – عمليًا – على معرفةٍ متصورة وغير محققة، موضوعيًا عن الآخر/ الشريك. إنّ الآخر هو موضوع معرفة برسم البناء والاكتشاف والسبر والتقصي، وشريك جوهري في بناء الذات المزدوجة. فكيف نبني المشترك – وهو يستدعي معرفة عميقة بالشريك – فيما صيرورة الاكتشاف قائمة وغير منتهية ويمكن أن تفضي إلى تصوراتٍ ومعارف وصور غير متوقعة البتة؟
إنّ الفعل غير مؤسس هنا على معرفة كافية بالآخر. كما تكشف المثاقفة عن حدودها (استعمال ماري الشوكة بدل الملعقة في أكل أكلة قورمة سبزي، ونسبية الدلالات الثقافية والاختلاف حول دلالة ابتسامة أحمد)، فإن الشغف بالآخر الثقافي لا يخلو من تهويمات يكذبها الواقع العنيد.
الأفعال والأخطاء التراجيدية الصغرى
وفيما تستغرق الشخصيات في الفعل وتوجيه مسار الأحداث (سعي لوسي إلى إيصال الرسائل الإلكترونية إلى سيلين، ودفاع سمير عن نعيمة بعد اختلاف وشجار سيلين مع زبونة، وتبليغ أحمد للوسي بحمل أمها من سمير)، فإنها لا تتحكم في المآلات؛ إذ تستحيل كل مبادرة إلى إشكالٍ نفساني-اجتماعي، لا تعرف الشخصيات كيف تدير نتائجه وتبعاته، وكيف تعالجه معالجة ناجعة.
فقد أدى إرسال الرسائل الإلكترونية إلى خلخلة التوازن النفسي للوسي، وإلى إحساساها بالذنب لاعتقادها بأنها مسؤولة عن انتحار سيلين، وضياع ابنها، كما أسهم في توتير علاقتها – إلى أقصى درجة – بأمها وسمير.
ولئن دافع سمير عن نعيمة العاملة بدون أوراق قانونية في مغسلته، وتفهم دواعي تصرفها (الاتصال به سرًّا خشية حضور الشرطة، والوقوف على وضعيتها غير القانونية)، أثناء المشادة الحادة وغير المسوغة في اعتباره بين سيلين وزبونة، ورفض سلوك زوجته غير المسؤول وغير المفهوم (رفض الاعتذار للزبونة)، فإنه أجج دون أن يدرك شكوك وغيرة واكتئاب الزوجة.
وحين أخبر أحمد لوسي بحمل أمها، فإنه رام تليين مواقفها ودفعها إلى المرونة، والتفهم، والليونة في التعامل مع قرارات أمها، لكنها أمعنت في التصعيد ما أسهم في توتر العلاقة واتساع مساحات العنف الرمزي وانعدام التفاهم بينهما.
- حيرة المثقف القومي-الكوني
يجسد أحمد نموذجَ المثقفِ المنحاز إلى ثقافته الأصلية (طهي الطعام الإيراني، والحديث عن المرأة الإيرانية، التأكيد على الطريقة الصحيحة لأكل قورمة سبزي)، والثقافة الإنسانية – الكونية في الآن ذاته، فهو يتقبّل منظومة القيم الحديثة، دون أن يتمكن من التعايش معها بالكلية، بدلالة انفصاله عن ماري بعد خيبات ومرارات واكتئاب نفساني حاد، كاد يوصله إلى الانتحار. فهو يظهر كثيرًا من علامات التفتح الذهني (تبريره لغياب لوسي عن المنزل، ودعوته لوسي إلى اختيار أكلة الرافيولي الإيطالية) إلا أنه لن يتوفق في الجمع بين الوعي القومي والوعي الكوني، والصدور في الممارسة الاجتماعية عن رؤيةٍ جامعة للوعيين.
لم يلتفت أحمد إلى دقة وصعوبة الإشكاليات والقضايا التي تثيرها لوسي (العلاقة بالتاريخ العاطفي للآخر، ومسألة الهوية والانتماء، والمعايير الأخلاقية في تدبير العلاقات) في مسار رفضها للعابرية والظرفية والهيدونية.
كانت خيبة أحمد مزدوجة: عاطفية وثقافية، وقد اختار بعد نفض يده من علاقةٍ باعثة على الاكتئاب والقلق والهدر الوجودي العودة إلى إيران، وتعميق ارتباطه بإرثه الثقافي القومي دون التخلي عن المشتركات الإنسانية والكونية، أما شهريار الواعي بضرورة التخلص من ازدواجية الانتماءات، فقد واصل مساره العاطفي والمهني والحياتي بدون عثرات أو معوقات. وحين استغرق أحمد في تأمل ما جرى، وتأثر بعد أن شهد أطوار التوتر العنيف وطرد لوسي من المنزل، وتمنى بدافع الإحساس بالذنب لو لم يهجر ماري وأسرتها، فإن شهريار ذكّره بضرورة الحسم وتجنب الازدواجية واختيار الوضوح النظري.
- التشخيص وتراجيدية المواقف الدرامية
تمكنت ماري من أداء دور معقد يستلزم توظيف كل القدرات والإمكانات الأدائية والتشخيصية (الملامح ووضعيات الجسد والانفعالات النفسانية والصمت والحركة والإيماءة …)، والحساسية الشخصية للممثل/ الممثلة. تطلب أداء دور امرأة /أم باحثة عن هناء عاطفي ممتنع في سياقٍ يطبعه الاختلاف حول حقيقة الحبّ وصلابته (شكّ حبيبها في دواعي وبواعث ارتباطها به، وعزوها ارتباطه بها إلى رغبته في التعويض العاطفي واستدراك ما فات)، ومعنى الارتباط بالآخر (رفض لوسي ارتباط أمها بسمير، بحكم عابرية العلاقات واستحالة دوام الارتباط العاطفي).
ما كان من الممكن تشخيص وضعيات نفسانية-اجتماعية معقدة ومركبة مثل وضعية ماري دون ما يلي:
1- استثمار كل قدرات وكفاءات الممثلة (الهيئة والسمت و ملامح وتعابير الوجه ووضعيات الجسد في لحظات الألم والقلق والتضايق والامتعاض والحيرة والارتباك والإشارات ونبرات الصوت والصمت والحركة والإيماءة واللمسة والنظرة والحركة ) في تشخيص وضعيات درامية مركبة ومختلفة، والتلقائية الممزوجة ببعض اللامبالاة (استقبال أحمد في المنزل).
2- المرونة، وسلاسة الانتقال من حالةٍ نفسانية-درامية إلى أخرى مباينة ومختلفة: ونشير هنا إلى الانتقال السلس من حالة التوتر الشديد والعنف إلى حالة التضرع، كما في مشهد تعنيف ماري للوسي، ومشادتها اللفظية مع أحمد، مثلاً. وكذلك الهدوء والتحكم في الذات بعد بذل مجهود فيزيقي وذهني ونفساني، كما في مشهد منع فؤاد من الهروب من المنزل وحمله كرهًا على الجلوس وحيدًا في غرفةٍ مقفلة ومحادثة أحمد بهدوءٍ ظاهر.
3- إدراك جيد لتراجيدية المواقف الدرامية: تميزت المواقف الدرامية في الفيلم بشحنةٍ درامية عالية وبنفَسٍ تراجيدي ظاهر في أحيان كثيرة، حيث إنّ وجهات النظر، والتصورات حول الذات والآخر، والقيم ذات الأولوية مختلفة، ومسارات الأفعال والأحداث متعرجة في الغالب، فيما ثمّة فجوة بين القصد ونتائج الفعل، والمساحة الدرامية تتسع وإمكانات انبثاق التراجيدي كبيرة (اصطدام الأطفال والمراهقين بأسئلة الموت، كما في خوف إلياس من أمه الميتة في اعتباره)، وهشاشة العلاقات الأسرية (تمرد لوسي بسبب معاناتها من هشاشة الأسرة المختلطة)، وإشكاليات المعنى والهوية (تدهور علاقة لوسي بأمها وأبيها، وضياع فؤاد بين مكانين وعالمين).
ينمو التراجيدي كلما توافرت شروط، أهمها: غياب اليقين (عدم معرفة الحيثيات الكلية للحدث، والاختلاف حول أسباب الانتحار)، وهيمنة النسبي والنسبانية (تضارب الأحكام، والتصورات، والنظرات إلى نفس الأحداث والواقعات)، وصعوبة التوقع والعجز عن التحكم في نتائج الفعل (التمزق النفساني والتفكك الاجتماعي المرافقان للحبّ والمساكنة)، وصعوبة تدبير التاريخ العاطفي والتمزق بين إكراهات الماضي، ووعود الحاضر، وصعوبة الاستيقان ومعرفة دواخل ومقاصد الآخر.
يعاني سمير من الأسر العاطفي، ومن الانسحاق الوجداني، ومن التيه الشعوري؛ ولذلك يعيش في التباس دلالي وارتباك في التدبر والتصور والتقييم، وذلك لا يسمح له بالرؤية (الإشارة إلى إصابته بحساسية العين) الواضحة والشاملة للأشياء والعلاقات؛ فهو يحب ماري، ويساكنها، ويحضر ابنه فؤاد إلى منزلها، إلا أنه يزور زوجته ويتقصى أحوالها الصحية بانتظام ويفرح لتجاوبها المفترض معها، ولا يكفّ عن التعريض بغيرة ونرجسية ماري/ تارة، ويشك في علاقتها بأحمد تارة أخرى، إنه مرتبط بالحاضر ووعوده، ومسكون بأصداء وحقائق وأوهام الماضي، ومهما فعل فإنه لا يبرح المنطقة الرمادية، حيث يلبد التراجيدي، وتغيم الحدود، ويصير الحزن المشفوع بالاكتئاب سيد الموقف، ولا يملك في الأخير سوى التعويل على الذاكرة العميقة (وصول الإشارات الشمّية إلى الجهاز الحوفي أو الجهاز النطاقي)، ونداء النفس المستعادة (ضغط سيلين على يده).
وقد تمكن طاهر رحيم من تقمّص شخصية سمير باقتدار. وهي شخصية مركبة تجمع بين الهدوء المتوتر (تعريضه بنفي ماري، وعلاقة زيارته لسيلين بالخدوش الظاهرة على بطنها)، والبرود الظاهر (استقبال ماري ببرود ظاهر في المغسلة)، والهدوء النفساني الخادع (لقاؤه الأول بأحمد في المطبخ صباحًا)، والانطوائية والحزن (التفاعل السيء مع متطلبات الآخر والاستغراق في الهموم الذاتية)، والتطلب (طلب الاعتذار مرات عديدة من ابنه فؤاد بعد أخذه الهدية من حقيبة أحمد المفتوحة، وطلبه من ماري عدم التدخين حفاظًا على صحة الجنين)، والانفعال والتوتر (حواره المتوتر مع أحمد) والتفهم (تفهم دواعي سلوك نعيمة)، والتعاطف والعطف (العطف على فؤاد الرافض لزيارة أمه الميتة في اعتقاده)، والتمزق والحيرة والتردد (التمزق النفساني الناتج عن الارتباط بماري، دون التحرّر من سطوة وفتنة سيلين).
- تركيب
إنّ فيلم «الماضي» فيلم عن تراجيديا الحُبّ في مجتمع الفردانية، والمثاقفة المجهضة، وهيمنة الأسرة المختلطة. يتحرك أبطال الفيلم بين ربوع محكومة بالمأساوي، والناشئة مما يلي:
1- استحالة التحكم في مآل الأفعال.
2- عدم القدرة على فهم التاريخ العاطفي والانشغالات الآنية للآخر.
3- اتخاذ قرارات فردية دون أدنى اعتبار لإكراهات المحيط والسياق الاجتماعي.
4- البحث عن علاقاتٍ تعويضية لا عن علاقاتٍ مؤسسة باستقلالٍ عن رهانات وآثار الماضي.
ليس فيلم «الماضي» فيلمًا عن الحُبّ الملتبس والمجهض فحسب؛ بل هو كذلك عن المثاقفة الملتبسة والممتنعة؛ إذ بالرغم من وعود الحاضر، وكثافة وزخم العواطف، وقوة الإرادة والرغبة، وتقبّل الأساطير العاطفية لما بعد الحداثة، فإن الذات الراغبة والمُحِبّة لا تتمكن من تحقيق المرام العاطفي، بسبب سوء تقديرها لكثافة وقوة التاريخ العاطفي للآخر، ومتانة التاريخ الثقافي والاجتماعي للأفراد.