أيّ نوع من الحياة هي الحياة الفلسفيّة؟ هل هي كما يدّعي سقراط، الحياة الأفضل؟ هل يمكن للحياة الفلسفيّة أن تكون حقًا تلك الحياة ذات المعنى؟ في هذا المقال، سأقدّم وصفًا للحياة الفلسفيّة باتّباع مسارَين لمفكّرَين قلّما يُسترشد بهما: الأوّل؛ عالم الأساطير الشهير جوزيف كامبل، والثاني؛ الفيلسوف السياسيّ المثير للجدل ليو شتراوس. أحاجِج بأنّ المشروع الفلسفيّ يفشل في النهاية بإضفاء معنى على حياة أولئك الذين يمارسونه. تحتوي هذه المقالة على عناصر من سيرتي الذاتيّة الفكريّة، وهي موجّهة بشكل خاص إلى الذين يجدون صعوبة مثلي في إدراك هدف الفلسفة، وما تطرحه من إشكاليّات مرتبطة بالمعنى. وجديرٌ بالملاحظة أنّ العديد من الادّعاءات التي أطرحها هنا تستند إلى الخبرة. كما أنّها لن تكون مقنعة إلّا بالقدر الذي تتوافق فيه مع تجربة القارئ الخاصّة أو التعاطف المفترض.
معنى الحياة
الحياة بلا معنى لن تكون حياةً طيّبة، سأفترض أنّه يمكننا التفاهم على هذه الفكرة. ومع ذلك، يمكن أن تكون الأفكار حول “معنى الحياة” غامضة وغير مرضية؛ لأنّ عبارة “معنى الحياة” لها معنيان رئيسان على الأقلّ. من الناحية الأولى؛ عندما نقول: «إنّ للحياة معنى»، فإنّنا نعني الطريقة التي نختبر بها الحياة، فمثلًا، إنّ الشخص الذي يصبّ كلّ طاقاته وقدراته في سبيل تحقيق هدف يهمّه أو إنجاز مهمّة تعني له بشدّة، من المحتمل أن يشعر بالجدوى من حياته اليوميّة، حتى لو كانت أيّامه متعبة وصعبة. في المقابل، إنّ الشخص الذي يفتقر إلى محفّز، والذي لا تحثّه المهامّ اليوميّة نحو أيّ هدف ذي أهمية، من المرجّح أن يشعر عاجلًا أو آجلًا بإحساس جارف نحو اللّا معنى، بمعزل عن مدى حلاوة تجاربه اليوميّة أو سهولتها.
من ناحية أخرى؛ وبصرف النظر عن الإحساس العميق باللّا جدوى، يمكن أن تُشير «معنى الحياة» أيضًا إلى توصيف للعالم الذي نعدّه حقيقة مطلقة (The Truth)، أي باستخدام الحرف T. بعبارة أخرى: إنّ “معنى الحياة” هي الإجابة الأخيرة الّتي نستخدمها حين يطلب منّا أن نصف العالم كما يبدو حقيقةً. يعطينا هذا التصوّر الكلّيّ إطارًا يمكننا من خلاله التأمّل في العالم وفهمه. وعادةً ما يوفّر أيضًا إطارًا لحياتنا الأخلاقيّة، من خلاله ندرك ما هو المفترض أن نختاره أو نرفضه بناءً على الأسباب التي يوفّرها أيضًا. لذلك يمكننا القول: إنّ المسيحيّين هم أولئك الذين يرون في العقيدة المسيحية معنى الحياة، والماركسيّين هم الذين يستمدّون معنى الحياة من العقيدة الماركسيّة… إلخ.
ينقسم معنى الحياة إلى بُعدَين؛ بُعد شعوريّ وبُعد إدراكيّ. يمكننا التمييز بين هذَين البُعدَين انطلاقًا من التمييز بين تنوّع التجارب الشخصيّة، وسأطلق عليه: «المعنى النسبيّ» (meaningfulness)؛ والفهم القائم على النظرة العالميّة، وسأسمّيه: «المعنى المطلق» (Meaning)، ليس لأنّ المعنى الأخير هو أكثر أهمية من الأوّل، ولكن لأنّه يتعدّى انشغالات الحياة اليوميّة إلى المطلقات (Absolutes) والنهائيّات (Ultimates).
بالطبع، إنّ ثنائية المعنى النسبي/المعنى المطلق هي تصوير مبسّط للغاية لإشكاليّة معنى الحياة. ولتوضيح حجّتي، سأنتقل إلى التشعّبات والتعقيدات العديدة التي تنبثق من هذه الثنائية، وسأركّز على قضية واحدة فقط، ألا وهي العلاقة بين المعنى النسبيّ والمعنى العامّ في حياة الفيلسوف. لذا، سأحتاج أوّلًا إلى توضيح ما هو المعنى النسبيّ بشكل عامّ، قبل التطرّق إلى كيفيّة تجلّيه في حياة الفيلسوف الشخصيّة.
المعنى والبحث عن البطل
في عمله الأساسي «البطل بألف وجه» (١٩٦٨)، يوضّح العالِم الأدبيّ جوزيف كامبل لماذا يعدّ «البحث عن البطل» -وهو نوع من أنواع السرد القصصي- سردًا عالميًّا مشتركًا لدى جميع ثقافات العالَم، وكيف تتّبع الحكايات البطوليّة معيارًا أو بنية يمكن التنبّؤ بها. (سأستعرض أفكار كامبل وسأستخدمها دون نقدها، لكن قبل ذلك يجدر بي أن أشير إلى أنّ دوائر مختلفة استبعدت كامبل، ورأى كثيرون أنّ أعماله ذات طابع إشكاليّ في نواحٍ عديدة. مهما يكن، يمكن العثور بسهولة على هذه الانتقادات).
يقسّم كامبل رحلة البطل في الواقع إلى سبع عشرة مرحلة متميّزة. بتعبير علميّ، تسير البنية القصصيّة على النحو الآتي: أولًا، نلتقي بالبطل في حياته اليوميّة العاديّة: «كان يا مكان في قديم الزمان ولدٌ يُدعى جاك يعيش مع جدّته…». ثم تأتي «الدعوة إلى المغامرة»، والتي قد تأخذ شكل مشكلة ينبغي حلّها، أو شيئًا مرغوبًا يشدّ المرء، أو كلا الأمرَين: “يأخذ جاك البقرة إلى السوق، وهناك يلتقي برجل يبيع الفاصولياء السحريّة». ثم ما يلبث أن يتخطّى بطل الرواية عتبة “العالَم العاديّ” ليصل إلى «العالَم الخاص»، حيث توجد مخاطر جمّة، لكن مع وجود فرص مميزة: “يتسلّق جاك شجرة الفاصولياء بحثًا عن الكنوز، ويصل إلى عالم العملاق”.
في العالم الخاصّ، يواجه البطل سلسلة من التحدّيات، وغالبًا ما يواجه الأعداء بمساعدة أصدقاء ومرشدين. وفي النهاية يهزم الأعداء وينال كلّ واحد جزاءه: «يسرق جاك الكنوز المختلفة من قصر العملاق، ويقطع شجرة الفاصولياء قبل أن يصل إلى الأرض، مما يتسبّب في سقوط العملاق وموته». في نهاية المهمّة، يعبر البطل العتبة مرّةً أخرى إلى العالَم العاديّ حاملًا معه «الغلّة»، والتي لن تعزّز حياته وتدعمها فحسب، بل ستعود بالخير على المجتمع الأوسع: «بفضل الإوزة والبيض الذهبي والكنوز الأخرى التي “ربحها” جاك، لن يعيش هو وجدّته في فقر مجدّدًا”.
يمكن أن نعثر على هذه البنية القصصيّة ليس في قصص الأطفال فحسب، بل في أيّ شكل من أشكال السرد القصصيّ الشائع كأفلام هوليوود، والكتب ذات الأغلفة الورقيّة الأكثر مبيعًا، وألعاب الفيديو، وما إلى ذلك. كما أنّنا نتخذها وسيلة حين نقصّ على الآخرين وعلى أنفسنا قصصنا الشخصيّة أو سيرنا الذاتيّة. عادةً ما تكون قصصنا أكثر تواضعًا من حكايات لوك سكاي ووكر أو جاك قاتل العملاق، ولكن غالبًا ما تعتمد على الصيغة نفسها في فهمنا لحياتنا ولشكلها، خاصّةً حين نشعر بأنّ لحياتنا معنى أو جدوى. تطرح الحياة مشكلة ينبغي حلّها، أو تدفعنا إلى البحث عن أشياء مختلفة، وفي رحلة البحث هذه نواجه تحدّيات ونختبر قدراتنا. وإذا كنّا محظوظين، فإننا نلتقي بحلفاء وربّما بمرشدين؛ أخيرًا (نأمل) أن نتغلّب على المشكلة أو أن نشبع رغباتنا؛ ونعود إلى «العالَم العاديّ» بعد اكتساب أو تعلّم شيء مفيد. إذا بدا لك أنّ حياتك تتّبع هذا النمط، وإذا كنت ترى أنّك «في مهمة بحثيّة» -وإن كانت بسيطة- ستشعر بشكل عامّ بأنّ حياتك أكثر أهمية ممّا تبدو عليه. في المقابل، غالبًا ما يرتبط اللّا معنى بالشعور بأنّ الحياة تمضي بلا أي هدف مهمّ يستحق السعي أو العمل لتحقيقه. بالانتقال مرة أخرى إلى عالَم الأفلام، سيكون المثال الأقرب إلى وصف هذا الشعور، الكابتن ويلارد في فيلم Apocalypse Now الذي يشعر بالخيبة، وهو ينتظر -في غرفة فندق سيغون- تلقّي مهمّته التالية.

الفيلسوف ومهمّة البحث عن البطل
كما أنّ مهمّة البحث عن شريك حياة رومانسي هي مهمّة بطوليّة تعطي جدوى لحياة شخص وحيد، وكما أنّ التطوّر في المسار الوظيفيّ وتسلّم مراكز أعلى مهمّة بطولية تُكسب حياة الموظّفِ الطموحِ معنى، هكذا هي مهمّة الفلسفة في بحث الفيلسوف عن بنية دالّة لحياته. ولكن لسوء الحظّ، يتبيّن أنّ هذه المهمّة مستحيلة وغير قابلة للتحقيق، وسنتطرّق إلى ذلك لاحقًا.
من أجل فهم البعد المحدّد للبحث البطوليّ على المستوى الفلسفيّ، سأعتمد على أفكار الفيلسوف السياسيّ ليو شتراوس (1899-1973). تركّز كتابات شتراوس على العلاقة بين الفيلسوف والمجتمع، لكن جلّ ما يتمحور حول فكره هو الإجابة عن سؤال: ما الذي يعنيه أن تكون فيلسوفًا؟ وهذا الأساس هو الذي يهمّنا (راجع: الحقّ الطبيعيّ والتاريخ، ١٩٥٣، وما الفلسفة السياسية؟ ودراسات متنوّعة، 1988) من بين جميع المواقف التي تحاول الإجابة عن سؤال: ماذا يعني أن تكون فيلسوفًا؟ اخترت موقف شتراوس ببساطة لأنّه يتوافق مباشرة مع تجربتي الشخصيّة. ربّما وقعت على انتقادات لشتراوس تدّعي أنّه يدافع عن الرياء السياسيّ ويندّد بالإمبريالية والهيمنة. إذا كان الأمر كذلك، فسأطلب منك أن تضع هذه الأفكار بين قوسَين، على الأقلّ مؤقتًّا.
ينشغل الشخص الوحيد بالبحث عن الحبّ والرومانسية، في حين يبحث الشخص الطموح عن المركز والراتب. أمّا الفيلسوف فإنّه يهتمّ بالمعنى المطلق الذي سبق وأشرنا إليه، أي بالآراء حول العالَم وأنظمة المعتقدات. هذا القلق يضع الفيلسوف في مسار سرديّ معيّن، والذي سأحاول تتبّعه من خلال ربط وصف شتراوس للفيلسوف بآراء كامبل حول بنية البحث عن البطل. تجدر الإشارة إلى أنّني سأخلط تحليل شتراوس بتحليل كامبل، وستكون النتيجة هجينًا قد لا يمثّل فكر أيّ من المفكّرَين.
في بداية مسعى الفيلسوف، يؤيّد الفيلسوف شتراوس دون أدنى شكّ الرؤيةَ السائدة في المجتمع الذي يحيا فيه، أو إحدى وجهات النظر العالمية السائدة إذا كان هناك العديد منها. يتلقّى الفيلسوف الدعوة إلى المغامرة في اللحظة التي يدرك فيها أنّ وجهة النظر التي يؤمن بها ليست بالضرورة الحقيقة المطلقة: إنّها نظرة مشرّعة على التساؤل، ويمكن أن تكون نظرة خاطئة. كما أنّ من يتبنّاها قد يعرف القليل عن التحليل الدقيق والتفكير النقدي، هذا إن لم نقل إنّه لا يملك شيئًا منها. وربّما تكون وجهة النظر هذه مرتبطة أكثر بالتثاقف والصدفة المطلقة للظروف التي اختبرها الفيلسوف. في تلك اللّحظة بحسب شتراوس، يفهم الفيلسوف المبتدئ أنّ جانبًا رئيسًا ممّا كان يؤمن به هو مجرّد رأي، والرأي هو شكل من أشكال الاعتقاد يُحدّد من خلال حقيقة انفتاحه على التساؤل بدلًا من ارتكازه على مداميك لا تدع مجالًا للشكّ. لذا يجد الفيلسوف أنّ الرأي في هذه القضية المركزية هو رأي غير مرضٍ بطبيعته، ويشعر بالحاجة الماسّة إلى استبدال الشكّ بالمعرفة اليقينيّة التي تقاوم كل الاعتراضات أو التفنيدات المتوقّعة. فيهبّ للبحث عن «الشيء الوحيد المطلوب»، وهو المعرفة اليقينيّة التي تبتغي وصف العالَم كما هو حقًا. في هذه المرحلة، يتجاوز الفيلسوف عتبة العالَم العاديّ وينتقل إلى ً«عالَم الفلسفة الخاصّ» بكل ما يحتويه من أخطار.
والخطير هنا -وفقًا للحسابات الشتراوسيّة/الكامبليانيّة- يكمن على الأقلّ في أنّه من أجل السير في طريق الفلسفة يجب على الفيلسوف أن يتخلّى عن النظرة العالمية التي اعتنقها برضى في بداية رحلته البحثيّة. لكن هذه النظرة المسبقة للعالَم، لم تكن سوى بُعد من أبعاد «المعنى المطلق» للمعنى الذي حدّده سابقًا. لذا فإنّ التخلّي عنها يعني تعريض المرء لخطر جسيم يتمثّل في انعدام المعنى والتفكّك الشخصيّ. من ناحية أخرى، إنّ الفيلسوف منخرط بالتأكيد في مهمّة أخرى عاجلة، وتاليًا فإنّ الشكل الآخر للمعنى ساري المفعول إلى حدّ كبير، أقصد الشعور بالمعنى الذي يتبدّى من الاستخدام الشامل لملكات الفرد في السعي لتحقيق هدف مهمّ. بعبارة أخرى مبتذلة إنّ «معنى الحياة هو البحث عن المعنى”. في الواقع، يبدو أنّ ما أتينا على ذكره يتلاءم مع حالة الفيلسوف، حيث إنّ معنى “المعنى النسبيّ” في حياة الفيلسوف مستمدّ من البحث عن حقيقته، أي عن المعنى النهائيّ والمطلق.
في بحثه -أو بحثها- عن المعرفة، غالبًا ما يلتقي الفيلسوف بمرشد أو أكثر في طريقه. على سبيل المثال، يتّخذ شتراوس أفلاطون معلّمًا له، ويرى أنّه أفلاطونيّ في المقام الأول، وإن كان بنمط غير تقليديّ. يسافر الفيلسوف بصحبة مرشدَيْه (كان مرشدا شتراوس موسى بن ميمون والفارابي، وهما نقلا فكر أفلاطون من التقاليد اليهوديّة والإسلاميّة تباعًا في القرون الوسطى)؛ ويمضي شتراوس في معاركه مع الأعداء: يخوض معركة مع تقليد الفلسفة السياسيّة «الليبراليّ» وتحديدًا من ميكافيلي وهوبز، فضلًا عن مواجهته لحركات مختلفة تنتمي إلى فلسفة القرن العشرين.
أخيرًا، يزعم العديد من الفلاسفة عبر التاريخ أنّهم قد فازوا بالنّصر الحاسم، وأنّهم عادوا إلى عالَمهم المشرق يحملون الجائزة التي تسعى إليها كل الفلسفات، أعني «نظرية كلّ النظريّات» أو ربّما صياغة أخرى لحقيقة ثابتة تستطيع أن تروي ظمأ البحث الفلسفيّ. من منظور شتراوس، يزعم العديد من الفلاسفة أنّهم عادوا من العالَم السفلي وهم يلوّحون بمعرفة لا تتجاوز الواقع.
فشل البحث الفلسفيّ البطوليّ
مهمّات البحث عن البطل الأسطوريّ التي قرأنا عنها في كتاب كامبل، تشبه تلك المهمّات التي نشاهدها في الأفلام أو التي يطلب منّا تنفيذها في ألعاب الفيديو. كلّها مهمّات ناجحة في نهاية المطاف؛ في كلّ واحدة منها، يتغلّب بطل الرواية بطريقة أو بأخرى على غريمه، ويحصل على جائزة، ثمّ يعود إلى إحياء العالم. في المقابل، نعلم أنّ العديد من المهام تفشل في الحياة الواقعيّة؛ تفشل لأنّه ببساطة “ليس كلّ ما يتمنّاه المرء يدركه”، كما هو حال متسلّق جبال يعود أدراجه لأنّه لا يستطيع الوصول إلى القمّة. يفشل البعض؛ لأنّ الهدف الذي يسعون إليه يتبيّن لاحقًا أنّه هدف مستحيل أو خياليّ. على سبيل المثال، في الصين القديمة، ذهب عدد لا يحصى من السفن للبحث عن جزر الحظّ -في مكان ما في شمال شرق المحيط- حيث يُعتقد أنّ عشبة الخلود تنمو هناك. بالطبع، إمّا عادوا بلا وفاض وإمّا لم يعودوا أبدًا. عندما تفشل مهمّة ما ويتعيّن على البطل التخلّي عنها، فإنّ هذا يعني حتمًا نهاية الإحساس بالمعنى الذي كان يشعر به سابقًا. بالطبع، لا نغفل أيضًا تلك المهام التي يعود فيها البطل إلى عالَمه المشرق بعد العديد من التجارب التي يظنّ أنّها تحمل أمثولةً، ولكن سرعان ما يكتشف أنها بلا معنى. تتماثل هذه الفكرة مع قصّة متسلق جبالٍ وصل إلى قمّةٍ معتقدًا أنّها القمة الأخيرة، أو مع قصّة ملّاح صينيّ قديم وجد قطعة من الأرض في المحيط، نبتت فيها شجيرة جديدة، فخيّل إليه أنّه وجد عشبة الخلود.
يدّعي العديد من الفلاسفة أنّهم عادوا من مغامرتهم حاملين المعرفة النهائية، مبتغى كلّ فيلسوف. ومع ذلك، فإنّ أبسط نظرة إلى تاريخ الفكر توضّح أنّ كلّ ادّعاء من هذا القبيل هو ادّعاء واهٍ؛ إذ إنّ هؤلاء الفلاسفة هم في الوضعيّة نفسها لمتسلّقي الجبال المرتبكين والبحارّة المضلّلين. في رأيي، يبدو سعي الفيلسوف للمعرفة النهائية شبيهًا تمامًا بالبحث عن عشبة الخلود، من حيث كونه بحثًا عن شيء غير موجود.
فيلسوف شتراوس يسعى إلى اليقين. يريد أن يتحقّق ما إذا كانت نظرته إلى العالم يقينيّة، لن يتمّ دحضها أو الإطاحة به. ومع ذلك، لا يمكننا أبدًا استبعاد احتمال ما يسمّيه أليستر ماكنتاير “الأزمة المعرفية”: إنّ اللّحظة التي تظهر فيها معلومة ضخمة جديدة، أو حين يدرك المرء وجود تناقض في معتقداته، سيحمله ذلك حتمًا إلى المربّع الأوّل (راجع: الأزمة الإبستيمولوجيّة، السرد الدرامي وفلسفة العلم، The Monist، 1977). بالطبع، يبذل العديد من الفلاسفة -بمن فيهم شتراوس نفسه- جهودًا كبيرة لتجنّب هذه الأزمة. لكن عندما نصل إليها، ندرك أنّ البحث الفلسفيّ لا يمكن أبدًا أن يكتمل بنجاح. الفيلسوف يتوق إلى اليقين. ومع ذلك، حتّى الاعتقاد الذي يظلّ ثابتًا ألف عام يمكن أن ينهار غدًا في مواجهة مجهول غير معروف حاليًا، أو دليل غير متوقّع أو تناقض داخليّ خفيّ؛ لذا لا يمكن «للحقائق الكلّيّة» أن تهرب من اختبار الزمن، باستثناء حقائق الرياضيّات والمنطق الرياضيّ التي يشعر تجاهها من يبحثون عن المعنى المطلق براحة أقلّ مقارنةً مع الحقائق الكلّيّة. حين يدرك الفيلسوف أنّ هدف رحلته ليس سوى سراب، عندها لن يستطيع بعد ذلك التمسّك ببنية متعالية للمعنى، وسيكون عليه مواجهة الإحباط. من هنا، إنّ احتمال وجود معنى مطلق يمكن أن يشبع الحاجة إلى اليقين سيتلاشى. وبما أن شعور المرء بالمعنى يتوقّف عليه، فإنّ هذا المعنى سيزول في اللّحظة نفسها. قد نقول هنا، الفيلسوف الآن هو روح هائمة.
ملاحظة أخيرة عن الأمل
يتوقّف معنى الحياة على شكلَين مترابطَين: المعاني الواسعة المجرّدة التي نؤمن بها، والشعور بالمعنى النسبيّ الذي يعترينا حين نوجّه حياتنا نحو بلوغ غاية تهمّنا. غالبًا ما يرتكز الشعور بالمعنى النسبيّ على قدرتنا في فهم حياتنا من منظور «رحلة البطل». وفقًا لهذه المصطلحات، تبدو حياة الفيلسوف ذات مغزى لأنّه يبحث عن معنى نهائيّ، عن بُعد دقيق من أبعاد المعنى المطلق يكون مقاومًا لكلّ أشكال الدحض والتغيير. ومع ذلك، لا يمكن لأي فكرة عن المعنى الطلق أن تلبّي هذه المعايير، وعندما يفهم الفيلسوف ذلك، سينتهي بحثه وسيتبدّد الإحساس بالمعنى الذي سبق وأن حثّه على خوض رحلة البحث.
هناك أمل. هناك تقاليد بديلة ضمن ما نسمّيه على نطاق واسع بالفلسفة، تقاليد ترفض الوعد الزائف بـ «المعرفة اليقينيّة» وتعلّمنا أن نتبنّى شيئًا ما يشبه «الرأي». هناك أيضًا استراتيجيّات للتخلّص من عادة الإدراك الإجباريّ للحقيقة المطلقة. لكن هذه قصّة أخرى.