ظهرت لفظة روبوت أوّل مرّةٍ في مسرحيّة “كارل شابك” «Karel Capek» سنة 1921: روبوتات روسّوم العالميّة «Rossumovi Univerzalni Roboti». وتعني لفظة «robota» في اللّغات السلافيّة: العامل أو العبد؛ حيث يتضمّن المصطلح معنى الآليّة والتكنولوجيا. وخلاصة القول: إنّ الرّوبوت صنيعةٌ بشريّةٌ؛ لذا أودّ أن أدرس كيف حدّد الدِّين والفلسفة التّصوّر الثّقافيّ لتكنولوجيا الرّوبوت انطلاقًا من تحليل الرّوبوت نفسه؛ إذ سأقارن اليابان بالغرب، محاولًا الإجابة عن السّؤال التالي: هل تملك الروبوتات أرواحًا؟ لا يتمحور هذا السّؤال حول إمكانيّة صنع آلة واعيةٍ، وإنما يتمحور حول تباين الثّقافات إزاء هذه المسألة، وما تعنيه لمكانتنا بوصفنا فصيلةً تعيش بين حياةٍ اصطناعيّةٍ ما زالت تتقدّم.
لقد أثارت فكرة روبوت واعٍ عددًا من الأسئلة الأخلاقيّة والفلسفيّة التي لاقت أجوبةً مختلفةً من العالم، ولم يعد هذا الأمر خيالًا علميًّا؛ حيث ازداد خطر فقدان الكثير من النّاس وظائفهم أمام صعود الآلة، بينما أصبحت التّطبيقات – مثل: سيري وألكسا – أمرًا شائعًا. أمّا الآن فقد بلغ الذّكاء الاصطناعيّ مرحلةً يستطيع فيها توليد الشّعر والفنّ، وهذا ما يثير قلقنا؛ حيث كان هذا النّوع من الإبداع حكرًا على الجنس البشريّ أكثر من ألف عامٍ. وها نحن نشرع في إعادة تقييم فرادتنا.
وأظنّ كذلك أنّ التّركيز على روبوتاتٍ معروفةٍ في الثّقافة الشّعبيّة هو خير طريقةٍ لتحليل هذا الموضوع؛ لأنّ الإعلام يكشف عن آمالنا ومخاوفنا؛ إذ يكشف لنا “ترمنايتور” «Terminator»، و”الفتى أسترو” «Astro Boy» عن المخاوف الغربيّة والتطلّعات اليابانيّة فيما يخصّ الآلات الواعية، على الرّغم من غياب هذين المثلينِ في عالم الواقع.
الرّوح بين الشّرق والغرب
إنّ خير ما يسهّل فهمنا للتّصوّر الغربيّ للرّوبوتات «جدليّة السيّد والعبد» في كتاب “هيغل”: «GWF Hegel» “فينيمينولوجيا الرّوح” «The Phenomenology of Spirit» (1807). يجادل هيغل بالقول: إن امتلاك عبدٍ سيؤدّي إلى انتزاع الإنسانيّة عن السيّد؛ لذا سيؤدّي استعمالنا الروبوتات والتّكنولوجيا إلى انتزاع الإنسانيّة عنّا. وعلاوةً على ذلك يرى “هيغل” أنّ الرّوح (وهي ذهنٌ مدركٌ لذاته) لا يمكنها أن تكون موجودةً إلاّ إذا كانت مدركةً. ولبّ الكلام: تحدّد الأذهان الأخرى قيمة الكائن الآخر، وهي من خلال تحديدها تفرض تفوّقها.
وفي الإطار الدّينيّ: يضع الاعتقاد اليهوديّ المسيحيّ – علنًا – البشر في منزلةٍ «دون الملائكة قليلًا» (المزمور 8:5)؛ فآدم لم يُعطَ روحًا إلهيّةً فحسب، بل هرميّةً طبيعيّةً أيضًا، وخير أسلوب صور ذلك هو ما ورد في تلك الآية من سفر التّكوين (تك 1:26): «وقالَ اللّه: لنَصنَعِ الإنسانَ على صورَتِنا كمِثالِنا، ولْيَتَسلّطْ على أسماكِ البحرِ، وطيورِ السّماء، والبَهَائمِ، وجميعِ وحوشِ الأرض، وجميعِ الحيواناتٍ التي تدِبُّ على الأرضِ». لقد قامت الأخلاق الغربيّة على وضع البشر فوق الحيوات العضويّة الأخرى كلّها.
ولم يتطوّر هذا الاعتقاد إلاّ في حقبة التّنوير؛ حيث قدّم الفلاسفة – أمثال “جان جاك روسو” «Jean-Jacques Rousseau» – صورةً رومنطيقيّةً عن العالم الطّبعيّ، رغم ازدراء القيم الدّينيّة التّقليديّة في هذا العصر. لقد اعتقد روسو أنّ لدى المجتمع تأثير مفسد على البشريّة، وأنّ الطّبعيَّ متفوّقٌ فطريًّا على الاصطناعيّ، وأنّ الإنسانيّة تعلو على الاثنين. كذلك وُضعت أشهر قصص الرّعب في ذلك الزّمن؛ فقد كان وحش فرانكنشتاين مسخًا غير طبعيٍّ؛ رُكّب من أعضاءٍ مختلفةٍ، ومن قوّة البرق، ومن علمٍ لاإلهيٍّ؛ فلا عجب أن ينقلب المخلوق على خالقه، ولا عجب أن يختبر الاثنان أزمةً وجوديّةً بأنّ الله وحده قادرٌ على خلق حياةٍ. وقد انتقل هذا الخوف نفسه إلى هواجسنا المعاصرة بشأن عالم التّكنولوجيا التي لا يكفّ عن التّقدّم؛ حيث سيتحتّم ظهور الرّوبوتات القاتلة فيه.
وفي هذا الإطار تختلف الثّقافة اليابانيّة اختلافًا كبيرًا عن ثقافة الغرب؛ إذ يغيب في الأولى هذا الإسقاط الهرميّ اليهوديّ المسيحيّ على الطّبيعة، ونكون نحن أمام مجتمعٍ قائمٍ على الشّنتويّة «Shintoism» والبوذيّة «Buddhism». لا شك في أننا نعثر في الرّوحانيّة اليابانيّة على الطّبعيّ أيضًا، لكنّ هذا الطّبعيّ يشمل أشكال الحياة جميعها. ووفقًا لمذهب الشّنتو: تملك النّباتات، والطّبيعة، والإنسان، والكامي «Kami» (الآلهة)، والآلات كلّها ماهيّةً روحيّةً طبعيّةً، وهذا ما يسمّى غالبًا: مذهب الإحيائيّة «Aminism».
إن خير ما يمثّل هذا الاعتقاد وجود اليوكاي «Yokai»؛ وهي – وفقًا للمعتقدات الشعبيّة اليابانيّة – أرواحٌ تعيش بين البشر، وتكون أحيانًا في هيئة تحوّلات الأشياء اليوميّة. ومن أشهر الأمثلة على اليوكاي: “كاسا أوباكيه” «Kasa-obake» الذي يظهر في القصّة المعروفة على أنه استعراضٌ ليليٌّ لمئة عفريتٍ «Night Parade of One Hundred Demons». إنّ “كاسا أوباكيه” واحدٌ من عدّة يوكاي استُلهمت هيئته أساسًا من أغراضٍ جامدةٍ؛ حيث يظهر في شكل مظلّةٍ متحوّلةٍ ذات رجلٍ واحدةٍ، وعينٍ واحدةٍ، وفمٍ مبتسمٍ، ويدين هزيلتين. ويُدعى هذا الصّنف من اليوكاي: “تسوكوموغامي” «Tsukumogami» (وتعني حرفيًّا: روح الأداة). وقد ناقش عالم الأنثروبولوجيا “كازوهيكو كوماتسو” «Kazuhiko Komatsu» – في كتابه: “مُدخلٌ إلى ثقافة اليوكاي: وحوشُ، وأشباح، والغرباء في التّاريخ اليابانيّ” «An Introduction to Yokai Culture: Monsters, Ghosts, and Outsiders in Japanese History» (2017) – الطّريقة التي يستحصل بها غرضٌ دام أكثر من مئة سنة على روح يوكاي. وقد يكون هذا الغرض مظلّةً، أو نعلًا، أو فخّارًا، أو حتّى أطباق طعامٍ؛ إذ يمكنها كلّها أن تمتلك حضورًا روحيًّا. ولا شيء إلهيّ في هذا التّحوّل، بل إنّه طورٌ يوميٌّ من أطوار الطّبعيّ؛ فلا هرميّة ولا علاقة سيّد بعبد، وإنما تصبح هذه الكائنات – التي كانت يومًا جامدةً – فصائلَ أخرى تقطن عالمنا، وليست الرّوبوتات – بالطبع – استثناءً من ذلك.
ومثلما يقدّم الاعتقاد اليابانيّ وسائل لتفسير اعتبار الرّوبوتات جزءًا من الطّبيعة فإنّ تقبّل الآلة أمرٌ شائعٌ في الثّقافة اليابانيّة. وقد بات لدينا الآن روبوتٌ راهبٌ (يُدعى “ميندار” «Mindar») صُمّم لتلاوة العظات البوذيّة؛ حيث وُضع في معبد “كودايي” «Kodaiji» في كيوتو «Kyoto» (لمعلوماتٍ إضافيّةٍ عن علاقة اليابانيّين بالروبوتات اطّلع على كتاب المؤرّخ “يوجي سوني” «Yuji Sone»: ثقافة الرّوبوت اليابانيّة: الأداء، والخيال، والحداثة «Japanese Robot Culture: Performance, Imagination, and Modernity»). يسلّم معظم النّاس في اليابان بأنّ ما يُحدَّدنا هو الطّريقة التي نتفاعل بها مع الكائنات الأخرى، ومن ثمّ يحدَّد غير البشريّ الكائن البشريّ؛ لذا لا يعارض اليابانيّون وجود مقاهي روبوت وفنادق روبوت؛ أي أماكن يتفاعل فيها النّاس مع مضيفاتٍ روبوتاتٍ وعاملات استقبالٍ آليّةٍ، بل وينحنون أمامهم ترحيبًا. أمّا الغربيّ فلا يرتاح عندما تدوّن آلة شبيها بـ «HAL 9000» في فلم (رحلة فضاء 2001) طلب طعامه.
تؤكّد الفلسفتان: اليابانيّة والغربيّة، على فكرةٍ مفادها أنّ الرّوبوت انعكاسٌ للبشريّة. لكنّ الفرد الياباني يُعدّ الرّوبوتات جزءًا من الكوزمولوجيا، بينما يعيش الغربيّ في قلقٍ دائمٍ إزاء التّكنولوجيا، حائرًا بين رغبته في السّيطرة على الطّبيعة وبين خوفه من عواقبها المحتملة. كذلك تحدّد الافتراضات الدّينيّة اليابانيّة والغربيّة تصوّرًا خاصًّا للرّوح؛ أي ما إذا كان الشّيء حيًّا أم جامدًا، وهذه مسألةٌ مهمّةٌ؛ لأنّها تشير إلى أنّ الميتافيزيقيا المستمدّة من الدّيانة الأكثر شيوعًا عاملٌ ضمنيٌّ يؤثّر على نظرتنا للتّكنولوجيا عمومًا، وعلى تطوّر الذّكاء الاصطناعيّ خصوصًا، وهذا ما يحمل بدوره نتائجَ على المجتمع، وفي نهاية الأمر يكون ثمّ فارقٌ كبيرٌ بين الاعتقاد بأنّ آلةً عاقلةً ستبلغ إشراقًا روحيًّا وبين الاعتقاد بجنوحها نحو رغباتٍ تطهيريّةٍ وتدميريّةٍ.
فتى أسترو مقابل الترمنايتور
خير ما يوضّح الاختلاف في وجهات النّظر في التّكنولوجيا بين اليابان والغرب الإعلام. وسأناقش “الفتى أسترو” (الذي يُدعى الذّرّة العظمى في اليابان) و”الترمنايتور”.
لا يبدو للوهلة الأولى أنّ “الفتى أسترو” لـ”أوسامو تزوكا” «Osamu Tezuka»، وآلة “ت-800″ «T-800» لـ”جيمس كاميرون” «James Cameron» يتشاركان أمورًا كثيرةً؛ فقد ظهرت الشّخصيّة الأخيرة في فيلم علم خيالٍ مرعبٍ، بينما تُعدّ الأولى أحد أشهر الشخصيّات الكرتونيّة في اليابان. ومع ذلك فإنّ الشخصيتينِ روبوتان مؤنسنان؛ حيث يمثّل كلٌّ منهما ردّة فعل ثقافته على التّطوّر التّكنولوجيّ السّريع.
يشير الكاتب الأميركيّ ومترجم شخصيّة “الفتى أسترو” إلى الإنجليزيّة “فردريك شوت” «Frederik Schodt» – في كتابه: “مقالاتٌ في الفتى أسترو «The Astro Boy Essays» (2007) – إلى أنّ الشّخصيّة الآليّة (التي ظهرت سنة 1951) ترمز إلى مرحلة إعادة إعمار اليابان – بعد الحرب العالميّة الثّانية – وما صحبها من نموٍّ اقتصاديٍّ، وابتكاراتٍ هندسيّةٍ وتقنيّةٍ؛ مثل: برج طوكيو، وأوّل طريقٍ سريعٍ، والقطار السّريع؛ لذلك يجسّد “أسترو” التّطلّع الاقتصاديّ لليابان وافتراضاتها الدّينيّة، وهذا منظورٌ بعيدٌ بعدًا تامًّا عن وحش “فرانكنشتاين” الجاحد بالله. ثَمّ تفاؤلٌ في “الفتى أسترو”؛ إنّه آلةٌ شبيهةٌ بالولد ووليدة انصهار مفاعل طاقةٍ نوويّةٍ ذات حسٍّ قويٍّ بالعدالة؛ إذ يجسّد قوّتي الاصطناعيّ والطّبعيّ مجتمعَين.
تسرد قصّة “الفتى أسترو” ما يمكن تسميته «نضالًا في سبيل الاعتراف»؛ حيث يصوّر الفيلسوف الألمانيّ “أكسل هونيت” «Axel Honneth» – في كتابه: “كفاحٌ في سبيل الاعتراف: القواعد الأخلاقيّة للنّزاعات الاجتماعيّة «Struggle for Recognition: The Moral Grammar of Social Conflicts» (1996) – هذا النّضال في سبيل تحقيق الاعتراف فكرةً هيغليّةً يصف فيها كائنًا يصارع لتأكيد وجوده، واستقلاله، وحرّيّته. لكن هذا المصطلح يشير – عند “هيغل” – إلى عبيدٍ بشريّين لا إلى روبوتاتٍ خارقين. وهناك حتمًا روبوتاتٌ شرّيرةٌ، وأخرى منافسةٌ في سياق “الفتى أسترو”، ولكن لا يختلف هذا التّعقيد الأخلاقيّ عمّا ذكرناه أساسًا في الثّقافة اليابانيّة بين البشر واليوكاي؛ إذ يرتكب “أسترو” نفسه الأخطاء أحيانًا، ولكنّه يبقى – على الرّغم من ذلك – روبوتًا يابانيًّا مثاليًّا، يحارب في سبيل الحرّيّة، ويناضل من أجل تقبّل الآلة في عالمٍ بشريٍّ معادٍ لها.
وتتّضح هذه الصّورة في الحلقة الأولى من “الفتى أسترو”؛ ففي قصّة نشأته أنّ صانعه هو الدكتور “تنما” «Dr. Tenma»، وهو الشّخصيّة المناوئة التي صنعت “فتى أسترو” كي يحلّ مكان ابنه المتوفّي، ثمّ يستشيط غضبًا من حقيقة أنّ “أسترو” ليس بشريًّا. وفي أوّل ظهورٍ لـ”تنما” نراه يبيع صنيعته الآليّة للسّيرك؛ حيث يُحرم الرّوبوت من حقوقه، ويُعرّى من ثيابه، ويُجبر على تأدية أدوارٍ بهلوانيّةٍ كأنّه حيوانٌ.
أمّا الغرب فلا شكّ أنّه أكثر ارتياحًا مع فكرة عبوديّة الرّوبوت. إنّ الشّخصيّتين الآليّتين: “أر تو دي تو” «R2D2»، و”سي ثري بي” أو «C3PO» في فيلم “حرب النّجوم” «Star Wars» قد اشتُريا وبيعا على الرّغم من كونهما عاقلين، بينما لم تكن روبوتات “روسّوم” العالميّة سوى خدّامَ آلييّن متطوّرين. وهو ما حدث أيضًا مع الروبوت “بي 9” «Robot B9» من فيلم “الكوكب المحرّم” «Forbidden Planet»، والشّخصيّة الكرتونيّة: “الروبوت روزي” «Rosie the Robot» الخادمة في مسلسل “عائلة جاتسن” «The Jetsons». وبالإضافة إلى ما شهدناه مؤخرًا من شعبيّة شخصيّة “جارفيز” أو “فيجن” «Jarvis/Vision» في أفلام “أيرن مان” «Iron Man» التي لا تتحدّى قيم “طوني ستارك” «Tony Stark» القائمة على أولويّة الحياة البشريّة، على الرّغم من حقيقة كونها ذكاءً اصطناعيًّا متفوّقًا. والحقّ أنّ الروبوتات في الغرب تهدف إلى أن تكون عبيدًا، بينما نكون نحن أسيادًا عليها. ولكن تخطر على ذهني بعض الاستثناءات القليلة؛ منها: شخصيّة “مارفين” الآلة المصابة بالرّهاب «Marvin the Paranoid Android» في كتاب: “دليل المسافر إلى المجرّة” «Hitchhikers Guide to the Galaxy»، و”باندر” «Bender» في المسلسل الكرتونيّ: “فيوتشوراما“ «Futurama»، أو شخصيّة “كريتن” «Kryten» في “القزم الأحمر” «Red Dwarf»، وقد صُمّمت هذه الشّخصيّات لأغراضٍ فكاهيّةٍ.
زد على ذلك أنّ الغرب مولعٌ بتصوير روبوتٍ شرّيرٍ، أو وحش “فرانكنشتاين” معاصرٍ؛ كما في شخصيّة “ت800” في فيلم “الترمنايتور”. بينما يرمز “الفتى أسترو” إلى التّقدّم التّكنولوجيّ والتّفاؤل اللذين سادا اليابان في مرحلة ما بعد الحرب؛ إذ يكشف الترمنايتور تلك الأخطار النّاتجة عن اعتماد العالم على التّكنولوجيا اعتمادًا تامًّا، وعواقب الوعي الذّاتي عند الآلات؛ مثلما نرى في شخصيّة “سكاينت” «Skynet»، وهي ذكاءٌ اصطناعيٌّ انقلب على صانعيه البشر على مستوًى عالميٍّ، وأدّى إلى دمارٍ نوويٍّ. لقد أُطلق الفيلم سنة 1984 – في الوقت الذي كانت الولايات المتّحدة تشهد ثورةً في مجال استهلاك التّكنولوجيا في ظلّ الحرب الباردة – وكانت شخصيّة “ت800” تنبيهًا مرعبًا على الأخطار النّوويّة. كذلك لم تكتفِ أفلام “ترمنايتور” بهذا الحدّ، بل تطوّرت؛ لتكشف عن هواجسَ حديثةٍ أخرى. ولا عجب – بعد عدّة تقاريرَ عن أخطار وسائل التّواصل الاجتماعي التي تؤدّي إلى الكآبة، وتطرّف السّياسة، وشيطنة البشر – في أن تصبح شخصيّة “سكاينت” تطبيق جوّالٍ في فيلم “ترمنايتور جينيسيس” «Terminator Genisys» الصّادر سنة 2015.
افترض “ك. ف. ماكدورمن” و”هـ. إشيغيرو” – في بحثهما الإدراكيّ والاجتماعيّ – أنّ الرّهبة التي تنتابنا عندما نواجه روبوتًا غريبًا هي استجابةٌ للتّأقلم مع حتميّة الموت، والاستبدال، والخوف من أنّنا لسنا سوى «آلاتٍ من دون روحٍ» (The Uncanny Advantage of Using Androids in Cognitive and Social Research, p.313, 2006). فأيّ تجسيدٍ لانتزاع الإنسانيّة عنّا أقوى من شخصيّة الترمنايتور الذي هو تنبيه عن مخاوفنا من التّطوّر التّكنولوجيّ السّريع والمتفلّت؟ هذه الروبوتات – التي صُمّمت للاندماج في محيطها – ليست سوى مرآةٍ مشوّهةٍ عن البشريّة. تملك آلة “ت 800” شبهًا مخيفًا بالإنسان؛ إذ لا تتألّف إلاّ من إطارٍ معدنيٍّ تغطّيه بشرةٌ وشعرٌ يقربان من الواقع، لكنّ دورَي السيّد والعبد مقلوبان؛ حيث يهيمن الاصطناعيّ على الطبعيّ. ويعتمد أحد أفلام الترمنايتور تشبيهًا دينيًّا عبر اعتماده عنوان “يوم الدّينونة” «Judgement Day».
والمدهش في هذه القصّة أنّه لا يُفترض منّا التّعاطف مع “سكاينت “بينما يحتفي “الفتى أسترو” بالنّضال في سبيل تقبّل الرّوبوتات في مجتمع البشر. وفي حلقات المسلسل يحمي “أسترو” النّاس، ويحضر المدرسة، ويلتزم بحكمه الخاصّ. إنه طبعًا ليس معصومًا، لكنّه في طور التّعلّم تمامًا كالولد. أمّا الحالة الوحيدة التي تتعاطف فيها مع آلة “ت800” فهي الحالة التي يعاد فيها برمجتها؛ إذ نشعر بالرّأفة نحوها عندما ننتزع منها الإرادة الحرّة.
ثَمَّ أمثلةٌ كثيرةٌ في الثّقافة الشعبيّة عن اختلاف وجهات النّظر بين الإعلام الغربيّ والإعلام اليابانيّ؛ إذ من خلال هذه الأمثلة وما شابهها استطاعت الفلسفات التي تحملها ثقافاتها أن تؤثّر على تأويلنا لوعي الآلة.
أزمةٌ وجوديّةٌ
إننا نستخدم التّكنولوجيا في أجسادنا من خلال الأعضاء الاصطناعيّة، والأدوية، والتّطبيقات التي تُعنى بالصّحّة. وبينما نستمرّ في تطوير أنفسنا، وأنظمتنا، وفنوننا، يتغيّر تصوّرنا لما يعني أن نكون بشرًا، ولكنّنا جميعًا – بحسب كتاب “دونا هاروي” «Donna Harraway»: “بيان السايبورغ” «A Cyborg Manifesto» (1990) – روبوتاتٌ عضويّةٌ في أساسنا بوصفنا كائناتٍ هجينةً من إنسانٍ وآلةٍ؛ ومن الأمثلة على ذلك: استعمال السّاعات لمعرفة الوقت، وارتداء نظّاراتٍ لتوضيح الرّؤية، أو استخدام جهاز تنظيم ضربات القلب، وهذا ما يجعلنا روبوتاتٍ عضويّةً وفقًا للتّعريف السّابق. ولا يقرب هذا الأمر – طبعًا – من تصوير ثقافتنا الشّعبيّة للرّوبوت العضويّ؛ فإن كان كذلك فلم يجب علينا أن نهاب الرّوبوتات والرّوبوتات العضويّة؟
لا عجب أن تظهر في الآلة أسئلةٌ حول الجدوى، والفرادة، والأخلاق؛ وذلك مع ازدياد الاعتماد عليها وفقدان النّاس وظائفهم وسبل تأمين عيشهم. وكما يتبدّل اقتصادنا كذلك يتغيّر منظورنا، والسّياسة أوضح مثالٍ على ذلك؛ حيث تبرز نقاشاتٌ عن إدخال مداخيلَ أساسيّةٍ في سبيل تحسين اعتمادنا نمط حياةٍ آليٍّ.
ولا ينحصر هذا الأمر في إطار التّعريفات الاقتصاديّة والدّينيّة. كذلك يظهر التقادم في الطريقة التي نرى فيها أخلاقنا وإرثنا؛ فالموت موضوعٌ مشتركٌ في قصص الرّوبوتات، سواءٌ أكان علنيًّا أم كان ضمنيًّا؛ لذلك نعثر على نوعٍ فنيٍّ قائمٍ بذاته يُدعى «الروبوت القاتل»، وإن مواجهة روبوتٍ قاتلٍ هو مواجهة خوف المرء من الموت.
تُتلف الروبوتات اليابانيّة ويُعاد تصنيعها على نحوٍ متكرّرٍ. ويجسّد هذه الواقعة “الفتى أسترو” و”ميكاغودزيلا” «Mechagodzilla»؛ حيث صُنع الأخير من جثّة وحش غودزيلا (التي حوت روحه) وظهرت في فيلم “غودزيلا ضدّ ميكاغودزيلا 2″ «Godzilla vs. Mechagodzilla II» (1993). وهذا ما يعيدنا إلى المنظور اليابانيّ في الموت؛ إذ يفترض “شوت” أنّه نوعٌ من التّناسخ؛ فقد انفجر “أسترو” ودُمّر، وطُوّر برنامجه، ثمّ أُعيد بناؤه على نحوٍ طبعيٍّ تمامًا كالنّفس البشريّة التي تتعالى على البدن الميّت لتدخل في بدنٍ حديث الولادة. ولدى هذا التّصوّر بُعدٌ واقعيٌّ؛ فقد عُقدت مراسيم دفنٍ بوذيّةٍ للحزانى؛ كي يحزنوا على كلابهم الآليّة الميتة، وذلك بعد أن أوقفت “سوني” نموذج “أيبو” «Sony AIBO» الأصليّ، وقد أدّى الكاهن في هذه المراسيم طقسًا؛ ليجعل الرّوح تغادر الجسد كما يفعل مع الإنسان.
يتحدّى الروبوت الغربيّ تصوّر الغرب للموت أيضًا، فالاعتقاد اليهوديّ المسيحيّ واضحٌ مفهومه عن معنى الموت؛ كما جاء في سفر الجامعة 12:7: «فيعودُ التُّرابُ إلى الأرضِ حيثُ كان، ويعودُ النّفَسُ إلى اللهِ الذي وهبَه». لكنّ الروبوت الغربيّ لا يموت، لا خالق إلهيّ للروبوت، كما أنه لا يملك روحًا. وعلى الرّغم من ذلك فلديه القدرة أن يعمّر طويلًا بعد فنائنا. هكذا تُبنى التّصوّرات الكئيبة للرّوبوت على تقادمنا وفرادتنا. وكذلك، يتعرّض الرّوبوت العضويّ للشّكّ والخوف والتّشكيك، على الرّغم من كونه إنسانًا في أساسه، وبخاصّةٍ إذا كان هذا الروبوت محاولةً للهروب من الموت والنّظام الطّبعيّ؛ خذ مثلًا شخصيّة “دارث فايدر” «Darth Vader» المشهورة – وهو روبوتٌ عضويٌّ وُصف بأنّه آلةٌ أكثر من كونه إنسانًا – فقد تلاقى فسادها الأخلاقيّ مع آليّتها الجسديّة. إنّ الهروب من الموت موضوعٌ شائعٌ في الثّقافة الشّعبيّة الغربيّة؛ حيث نعثر على رعب التّكنولوجيا؛ كما حدث مع الرّجال السّيبرانيّين «Cybermen» في مسلسل “دكتور هو” «Doctor Who»، أو مع شخصيّة “بورغ” «Borg» في مسلسل “ستار تراك: الجيل التالي” «Star Trek: The Next Generation»؛ وهي شخصيّاتٌ تسعى إلى إزالة فرادتنا البشريّة، وإبداعنا، وحرّيّتنا؛ كي نتمكّن من العيش سنين غير محدودةٍ.
ويذكّرنا هذا الأمر بمخاوف عصر التّنوير من إفساد التكنولوجيا للطّبيعة، على الرّغم من كونها بعيدةً عن تخيّل روبوتاتٍ تحاول تغييرنا أو قتلنا. ووفقًا لهذا الاعتقاد نكون – نحن البشر – في موضعٍ منافسٍ للآلات، عوضًا عن تعاوننا معهم.
الروبوت العضويّ موجودٌ في الثّقافة اليابانيّة أيضًا، لكنّ السّياق مختلفٌ جدًّا؛ فمتى استطاعت الروبوتات امتلاك روحٍ فإن الروبوت العضويّ سيستطيع حتمًا امتلاكها أيضًا. إنّ مشهد الرّعب الذي نشاهده في ختام فيلم “أكيرا” «Akira» سنة 1988 هو مثالٌ على الهوس التّشاؤميّ بانقضاض التكنولوجيا على ما يكون بشريًّا؛ إذ يبدو هذا التوجّس غربيًّا، ولكن عند مراجعة السّياق نعثر على قراءةٍ مختلفةٍ حيث يتحلّل جسم “تتسوو” «Tetsuo»، ويتحوّل “تتسوو” نفسه إلى كائنٍ كونيٍّ؛ أي إلى روحٍ متعاليةٍ.
ورغبةً في اتّخاذ اليابانيين الموقف المتوازن إزاء التكنولوجيا بأنها ليست تذكيرًا بحتميّة فنائنا ولا خطرًا علينا فإنهم ينظرون إلى الرّوبوت على أنه ظاهرةٌ روحيّةٌ، ولا يبالون بالخطر الوجوديّ الذي قد يؤدّي إليه، بل إنّ الروبوت موجودٌ في العالم تمامًا كالأشياء الأخرى. أمّا الثّقافة الغربيّة فترى العنصر البشريّ متفوّقًا، ويكون تفوّقه أحيانًا ذا أسبابٍ اعتباطيّةٍ محضةٍ؛ إذ نحتاج إلى اعتبار الروبوت كائنًا غير بشريٍّ كي نبرّر تفوّقنا، وإلاّ ستُهدَّد فرادتنا.
الآلة المتنوّرة
أعتقد أنّ فكرة روح الروبوت موضوعٌ مهمٌّ حاليًّا؛ لأنّه يعكس السّرعة التي يتحدّى فيها الذّكاء الاصطناعيّ تصوّراتنا لقدرات الآلة؛ إذ تصبح الروبوتات أكثر بشريّةً في شكلها (ويُعدّ روبوت جامعة “أم أي تي” «MIT» مثالًا على ذلك، وهو قادرٌ الآن على القيام بحركاتٍ شبيهةٍ بالإنسان)، وكذلك تتحسّن عمليّة الاستيعاب والتّفاعل على نحوٍ سريعٍ؛ فنجد – مثلا – أن برنامج “صوفيا” الذي طوّرته شركة “هانسون روبوتيكس” «Hansen Robotics» قادرٌ على التّحاور، والجدال، بل وعلى إلقاء النّكات. وإثر تطوّر الذّكاء الاصطناعيّ تنشأ إمكانيّة ظهور التّفكير الخلاّق.
كان الإبداع أحد مظاهر الحركة الرومنطقيّة؛ فقد أدّى تحدّيه التّقليد إلى نشوء الممارسات الجديدة في الموسيقى والفنّ. لقد اعتقد “روسو” أنّ النّفس البشريّة غير المفسدة وحدها تجيز للنّاس الاستمتاع بالجليل، ويعني بالنّفس البشريّة: خاصيّةً غير محدّدةٍ من العظمة في القدرات الجسديّة، والأخلاقيّة، والفكريّة، والميتافيزيقيّة، والرّوحيّة، والفنيّة عند الإنسان. وتبعًا لهذا التّحليل لن تستطيع إنتاجَ الموسيقى والاستمتاعَ بها إلاّ إذا امتلكتَ روحًا، وهاتان القدرتان محصورتان في البشر حتّى الآن. ولكننا شهدنا في هذا العقد الأخير أنظمة ذكاءٍ اصطناعيٍّ تؤلّف الموسيقى، وتولّد الفنّ، بل وتنظم الشّعر والنّثر الفنيّ. وهناك أنظمة ذكاءٍ اصطناعيٍّ في العالم قادرةٌ على توليد موسيقى كلاسيكيّةٍ بأسلوب “موتزارت” «Mozart» و”بيتهوفن” «Beethoven»؛ مثل “ميوزنت” «MuseNet» – النّظام التّابع لـ”أوبن إيه آي” «Open AI». كذلك، هناك أيضًا مؤلّفٌ موسيقيٌّ إلكترونيٌّ آخر يُدعى “إيفا” «AIVA» (فنّانٌ افتراضيٌّ ذو ذكاءٍ اصطناعيٍّ «Artificial Intelligence Virtual Artist») وقد اعترفت به رسميًّا جمعيّة الفنون في فرنسا (Societe des auteurs, compositeurs et editeurs de musique). وسواءٌ أكان حقًّا إبداعًا أم لم يكن فسيظل الأمرُ قابلًا للنّقاش؛ حيث يستطيع المرء المحاجّة بأنه يعيد تجميع معلوماتٍ من معطياتٍ محفوظةٍ على نحوٍ ذكيٍّ. ولكن النّاس يولّدون الفنّ انطلاقًا من الذّاكرة، والتّجارب، وممّا يستلهمونه من الأعمال الفنّيّة الأخرى. ربّما يعني ذلك أنّنا لسنا مختلفين في نهاية الأمر، ولكنّنا لأوّل مرّةٍ في التّاريخ البشريّ موجودون إلى جانب فنّانين وكتّابٍ ومفكّرين افتراضيّين؛ إذ يتحدّى كلّ تطوّرٍ تكنولوجيٍّ فرادتنا، ويدفعنا إلى إعادة تقييم ما يعني أن نكون بشرًا.
الخلاصة
إننا حين نسأل عما إذا كانت الروبوتات تمتلك أرواحًا فهذا يعني أننا نعاين الثّقافة نفسها. ويقوم الاعتقاد اليابانيّ (بأن الروبوتات تمتلك أرواحًا) على فكرة الشّبه، والمساواة، والكوزمولوجيا الطّبيعيّة، والتّعاون مع الروبوتات. وفي مقابل ذلك نجد أن الغرب لديهم ثقافة التّفوّق البشريّ؛ إذ نعزّي أنفسنا بالاعتقاد النّابع من ثقافتنا؛ ومفاده أنه ينبغي على البشر التّحكّم بالأشياء كلّها، وليس الروبوت سوى شيءٍ آخر وُضع في خدمتنا.
لقد تجنّب اليابانيّون بعض جوانب التّعاسة الوجوديّة التي تقبض على الغرب عبر ترحيبهم بالتّكنولوجيا واحترامهم إيّاها. فليست التكنولوجيا، والحواسيب، والهواتف الجوّالة، والخوارزميّات سوى وقائع في الحياة المعاصرة التي غيّرت تفاعلاتنا، وطبعيٌّ أن تنشأ حاجةٌ ملحّةٌ لإعادة تعريف علاقاتنا المتزايدة مع الآلة؛ إذًا ينبغي علينا إمّا اعتناق فرادة الروبوت أو الاستمرار في منظورنا القائم على أولويّة الإنسان؛ كي لا نواجه مكانتنا في الكون.