بيّن لي طالب سابق أنَّ «الهُويّة العرقية سهلة التمييز، فكل ما عليك فعله هو النظر إلى لون جلدهم». كنت أُدرِّس في جامعة أكثرها بِيض.
عندما سمعت ذلك راودتني فكرة نشاط لأحد الفصول، لم يسبق لي أن قدمته. يبدأ التمرين بعرض صورة ابنة عمي للطلاب، ومن ثم سؤالهم عن عِرقها. الراجح أن يكون تخمينهم أنها “بيضاء”؛ لشعرها الأشقر وعينيها الزرقاوين. بعد ذلك أعرض لهم فيديو وهي تتحدث الإسبانية لغتها الأم، ثم أقول: ”ما عِرقها الآن؟“ يتلعثم الطلبة حينئذٍ، وتجاهد عقولهم لحل هذا التنافر المعرفي الذي يواجهونه. قد يرغبون في تغيير إجاباتهم إلـى ”مكسيكية، أو إسبانية، أو أمريكية من أصل أسباني.“؛ فستكون الرغبة نفسها كفيلة بأن تدفعهم للشك في الفرضية الساذجة، بأن العِرق مرتبط بلون البشرة حصرًا.
يتبنّى بعضنا هُويّته العرقية في اسمه، فأبي مثلًا اسمه (راؤول)، لكن لكونه أمضى معظم حياته في الولايات المتحدة، فقد كان يتلقى البريد باسم (بول)؛ حيث فقد علامة هُويّته المميزة التي تمتع بها زهاء ثلاثين عامًا في تشيلي؛ إذ كان نطق اسمه أو كتابته على المجتمع الأمريكي صعبًا، ولم يستعِد أبي هذا الاسم إلا منذ ثلاث سنوات، بعد انتقاله للحدود المكسيكية الأمريكية، التي يشيع فيها استخدام اسم (راؤول)، بصفته اسمًا أمريكيًا.
ونتبنّى أيضًا أعراقنا في لغاتنا، فنصير عرضة للعنصرية اللغويّة؛ إذ كثيرًا ما تُخطئ تقنيات التعرف على الكلام في الولايات المتحدة تأويل الكلمات المنطوقة باللغة الإنجليزية للأمريكان السود ضِعف معدل الإنجليزية الرسمية. وتضطر المرأة الهندية لترقيق صوتها؛ لتجعل “سيري” تشغِّل موسيقاها. أمَّا الرجل الأسود فيمكن أن يستعين بــ”صوته الأبيض” ليتفوق في عمله، وفي المقابل فإنه يخاطر بالنبذ من مجتمعه. وبشكلٍ يومي، يخفي اختلافاته. مَن يستطع منا إجراء ذلك؟ نظهر بهُويّات مُحايدة، لراحة الآخرين، ولتيسير الجولاتالاجتماعية. نسوّي لهجاتنا لتصبح شاحبة غير مميزة بلا سمات، وندعوها بـ ”الأمريكية.“
على الرغم عن أن غلوريا إي. إنزالدو- الأستاذة الأمريكية المكسيكية في الفلسفة- من الجيل الخامس الأمريكي، وتتحدث الإنجليزية بطلاقة تحدثًا لا تشوبه شائبة، إلا أنها انضمت قسرًا إلى برامج تعليمية لتصحيح النطق في جامعة الحدود، جهة عملي الحالية. تكمن الفكرة في أن أحد شروط نجاحها في أمريكا مرتبط بتغيير لهجتها، إذ لن تبدو أمريكية إن نطقت بالمكسيكية.
لكل منطقة في العالم قصتها في ضبط هُويّتها، بإضفاء الشرعية على الناس، أو نزعها منهم، بناءً على لون بشرتهم، وأسمائهم، و”لون” لغاتهم. كم منّا جُحدت أو حُوِّرت هُويّاتهم، استجابةً لنظام مجتمعي مشوّش؟ وكم عدد الهُويّات التي سُحِقت نتيجة عجز عالمنا عن تقييد التفاوت اللغوي؟
في زيارتي للغرب الأوسط في الولايات المتحدة ذات مرة (حيث اللغة الإنجليزية هي المهيمنة) لوحظت وأنا أتحدث مع أولادي بالإسبانية في الحديقة؛ فحدّق إليَّ البعض حتى خاطبتهم ارتجالًا باللهجة الإنجليزية لمدينة نيويورك، حينها بدا السكون على ملامحهم. ونظراتهم تردد ”إنها إذن أمريكية على أية حال“، ”إنها مثلنا.“ أشعرهم ذلك الاكتشاف بالطمأنينة، وربما يكونون قد أذنوا لي بتعليم أبنائي لغة ثانية. ولكن لو كنت تشيلية أحادية اللغة، وأتحدث مع أبنائي بتلك اللغة الغريبة، سيبدو ذلك عارًا أو إهانة حتمًا؛ لأنَّي لست أمريكية. سيكون هذا مقبولًا طالما أنني أود أن أكون أجنبية. ولكن ماذا ستفعل لو كنت مواطنًا أمريكيًا لكن دون علامة هُويّة تُثبت هُويتك؟ ماذا لو كنت (راؤول) الذي وُلد في الجانب الأمريكي من الحدود الأمريكية المتحدة، وكنت تتحدث الإسبانية والإنجليزية المتأثرة باللهجة الإسبانية؟ هل ستصبح أمريكيًا؟ وهل ستتخلص من السؤال العنصري: ”ولكن من أين أنت في الأصل؟“
بصرف النظر أن الولايات المتحدة بلا لغة رسمية، وأنَّ الإسبانية لغة أمريكية أكثر من اللغة الإنجليزية من حيث التاريخ والجغرافيا (حيث إنَّ أمريكا -القارة- تشمل أمريكا الوسطى والجنوبية)، ما زالت الإسبانية مرفوضة كلغة أمريكية في الولايات المتحدة. تحاول المدارس جاهدة حتى ”تنقل“ سريعًا الأطفال الذين يتحدثون اللغة الإسبانية من الصفوف الثنائية اللغة إلى أخرى إنجليزية تمامًا، ويقنعون الوالدين بأنها لحظة فريدة تستحق الاحتفال. عندما ينتقل هؤلاء الأطفال إلى صفي، تكون لغتهم الإنجليزية هي اللغة المهيمنة أكاديميًّا، بينما الإسبانية لغة محادثة فحسب. بيد أن قرابتهم لمتحدثي اللغة الإسبانية، جعلتهم يشعرون بالخزي من فقدانهم للغتهم الأم. لم يعللوا ذلك بنظام المدرسة الذي سرق لغتهم منهم، وبالتالي جعل من المتعذر عليهم تبنّي هويّة مكسيكية قوية. إلا أنَّ هذا التصرف العنيف المتمثل بكبت لغاتهم (أطلقت عليه أنزالدوا ”الإرهاب اللغوي“ رغم أنه تمّ بحجة التعليم) لم يتح لهم أيضًا بلوغ الهُويّة الأمريكية، ولم تفلح تجربة (التي بدأت منذ منتصف القرن الماضي) بإعداد صفوف لتصحيح النطق في أن تقنع أي شخص خارج تكساس الجنوبية بأن أنزالدوا أمريكيةالجنسية. وبالمثل فإنَّتحويل الأطفال الذين يتحدثون الإسبانية إلى بالغين يتحدثون الإنجليزية لم يخدع أحدًا كذلك، بل انتهى الحال بهؤلاء إلى التحدث بلغة واحدة.
لكن محاولتك بإقناع الآخرين بأنك أمريكي المولد، وأنَّ الإسبانية هي لغتك الأم شيء – مثل راؤول المحلي – وتشريع لهجة “التيكسميكس” (وهي الإسبانية المكسيكية يشوبها شيء من الإنجليزية) شيء آخر؛ إنها مزيج من الإنجليزية والإسبانية، قيل لطلبتي عنها مرارًا وتكرارًا بأنها لغة ”قبيحة“. أما العاميّة الإسبانية فلا تصف الأطفال الذين يتحدثون بها بكونهم (ثُنائيي اللغة)، بل بكونهم “بلا لسان” أي: إنهم لا يتحدثون أيَّ لغة أبدًا. منذ طفولة طلابي وهُويّاتهم موسومة بالنقص اللغوي، حتى سيري Siri)) لا تتحدث التيكسميكس.
أخذت أنزالدوا هذا التمييز اللغوي على محمل شخصي قائلة: ”من يود إيذائي حقًّا، فلا يستهيننَّ بلُغتي؛ فالهوية العرقية والهوية اللغوية وجهان لعملة واحدة، وأنا أُمثِّل لغتي، ولن أفخر بنفسي، إن لم أفخر بلُغتي“. يشعر طلابي بضعف الهُويّة، ويرجع ذلك جزئيًا إلى العنصرية اللغوية. وهم يشعرون بكثير من الامتنان والتقدير لتشريع أنزالدوا للغتهم، محاججةً:
“ما دمت مُلزَمة أن أتحدث الإنجليزية أو الإسبانية، رغم أني أفضّل التحدث بـ”الإسبانجليزية”، وطالما أنه يتوجب عليَّ استيعاب متحدثي الإنجليزية، بدلًا من استيعابهم هم لي، فإنَّ لساني سيكون غير شرعي، إلى أن أملك حرية الكتابة بلغتين والحديث بتناوب لغوي دون الحاجة الدائمة للترجمة.”
بينما نعيش في منطقة جغرافية جميع سكانها تقريبًا من ذوي البشرة السمراء، فلون طلابي لم يمنعهم من ادعاء الهُويّة الأمريكية، بيد أنَّ العنصرية اللغوية تهددها دومًا. ويصعب جدًّا العمل بوصية الفلاسفة الدائمة وصية معرفة الذات، بعدما يستأصل نظام المدرسة لغتك الأم، ويخبرك بأنَّ اللغة التي تحلم بها لغة همجية وغير أمريكية.