ضمن اشتغالات استراتيجيات التفكيك، يقدم الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا تصورًا حول العهد/ الوعد، انطلاقًا من أن التفكيك ليس نقدًا ولا منهجًا ولا نظرية، ولا هو عدمية أو سفسطة، إنه إعادة الاعتبار لـ«الكتابة» وللمجاز والاستعارة بما يجعل من المفهوم مجازًا مفهومًا، الأمر الذي نعده نتاجَ عصر الشك، إذ استحال التفكيك ذاته إلى الشك في كل شىء خاصة القراءة الموثوقة Authoritative والأثيرة Privileged.
ويرى دريدا أن «العهد» ليس مجرد وعد أو تعهد شفهي أو مكتوب، بل هو فعل لغوي معقد يتضمن التزامًا أخلاقيًا وقانونيًا، يخلق رابطة بين شخصين أو أكثر، ويفرض عليهم مسؤوليات متبادلة، وهو عكس الاتفاق لا يمكن إلغاؤه بسهولة، لأنه ينطوي على التزام أخلاقي عميق ومسؤولية تجاه الآخر. ومن هذا المنطلق يمكن الدخول إلى ديوان الشاعر عبد الله ثابت «الإلهاء الرائع.. شدٌّ من أزر المستائين» والصادر مطلع عام 2024 عن منشورات المتوسط، ميلانو.
منذ البداية ندخل ديوان ثابت، المولود في مدينة أبها جنوب المملكة العربية السعودية 1973، وهو صاحب تجربة شعرية وروائية طويلة، بتعاقد مشروط، وهو العقد «الممهور» على الأقل من خلال طرفين، الشاعر والمتلقي، والحاضر هنا في صيغة الجمع «متلقين»، إذ يقدم لنصوصه بـ«تمهير»، يتعهد فيه الطرف الأول بـ«النصد» قسم من الولائم للجار والقريب والغريب، وبتقديم مفرادات بديلة لبعض المفاهيم؛ فأفكر تصير «أتمعنى»، وأتدبر تصبح «أتبيصر»، و«أقيس» بدلًا من أظن، و«أضامني» نيابة عن آلمني، و«أمزح» عوضًا عن أهزأ، وأخيرًا «الكتابة ليست رقش الكلمات؛ بل فعل السحر». ص3
يكتمل العهد بالإقرار «هذا الكتاب لا ينوي أي خداع، أي تشتيت، لأي أحد! إنه كتابتي، تشتيتي الشخصي، إلهائي الرائع، ويمكنك أن تنضم لهذا الشد من أزر المستائين، حال رغبت!» ص4. ويشير الإقرار إلى وجود التشتيت والسعي إليه أيضًا والعمل على إبرازه، وعلى الخداع والإلهاء معًا، لكنّه تشتيت الشاعر الخاص، وسعيه إلى إلهائه الرائع، وهل هناك أروع من القصيدة؟
بذرة منثورة في الهواء
ثمة كتاب لدريدا، يحمل عنوان «Dissemination»، ويأتي المفهوم لغويًا من الانتشار السلالي «من سلالة ونسب» أو كأن يبذر المرء بذورًا أو يشتتها أو ينثرها، موحيًا باللعب الحر، أو كيفية تفريق العناصر على النحو الذي يصعب معه تأطير ضمن نظام أو نسق أو حتى ترتيب معين؛ فيمضي العنصر في طريق آخر وحياة أخرى لا يضمنها الأصل الذي عنه صدر، وعدم الضمان هذا، ينزع عن الأصل امتياز كونه أصلًا أو علة أولى.
ويُجادل دريدا بأن المعنى لا يُنقل من شخص لآخر على نحو مباشر، بل يتشتت وينتشر من خلال سلسلة من الوسائط، مثل الكلمات والصور والأفكار، وانتشار المعنى هنا يشبه تناثر البذور في الهواء، إذ تنبت في أماكن مختلفة وتنتج معاني أخرى، وهو ما يجعل المعنى في ديمومة متغيرة، لا بنية ثابتة ولا استقرار، التبدل حاله من سياق لسياق، ومن تأويل لآخر، وهو ليس أحادي البنية ولا مستقلًا عن بقية التصورات والمعاني، فالمعاني مترابطة ومتشابكة مع بعضها البعض، ويحمل كل معنى في طياته معاني أخرى، بذور تتوالد إلى الأبد، سيولة تنتهي بنا إلى اللامعنى، الأمر الذي يتقاطع مع عبارة المخرج السينمائي وودي آلان «الحقيقة أن الحياة بلا معنى»، والتعويل هنا على التشتيت وانتثار المعنى.
ومن خلال الانتشار والتشتيت يُظهر دريدا مثلًا كيف أن نص جيمس جويس «عوليس» مليء باللعب وكيف أن المعنى يتغير باستمرار مع كل قراءة، فالنص لا يحمل معنى محددًا مسبقًا، بل يتطلب من القارئ تفسيره وتركيبه، المهمة التي تساعدنا في عمومها على فهم كيفية عمل اللغة والمعنى، وإعادة النظر في مفاهيمنا التقليدية حول الحقيقة والهوية على سبيل المثال.
إذن، لا تراجع عن التشيت والإلهاء، حتى مع النفي الذي لا يضر الإيفاء بالعهد في شيء، فالعهد مرهون بتقديم مفاهيم وتصورات جديدة، ولغة مغايرة تخاصم المثاليين «الجيدين السفلة» بتعبير نصّ الديوان، والذين يؤمنون في وجود حقيقة جوهرية واحدة يمكن الوصول إليها من خلال العقل أو الحدس.
«إلى الجيدين السفلة/ أصحاب الأنظمة الغذائية/ بهائم القش،/الذين ينامون الليل/ مطاردي الأوكسجين في الصبح،/ الجبناء../ الجبناء المرعوبين/من دواعي الوفاة المبكرة،/ لأجل ماذا/ ولأي معنىٍ/ هذا التوفير البائس؟!». ص 11
هؤلاء الجبناء مشغولون بالمعنى، في صورة حياة مثالية ربما ليموتوا في صحة جيدة، وينحازون إلى الأفكار النسقية ذات العناصر المنتظمة، ويستأنسون بالأفكار ذات المركز أو المعنى الثابت، لكنّ النصّ يفطن إلى «الصيرورة» حتى وإن رآها البعض «جرثومة»، فينفي المعنى بصيغة استفهامية استنكارية «لأي معنى؟»، ويمكن للجملة أن تستقيم لغويًا لو قال «لأجل ماذا هذا التوفير؟»، لكنّ الخطابَ الشعري هنا ليس معنيًا بنقد المثالية في حد ذاتها، إنما بـ«الانتثار» والتشتيت.
تعال مثلًا حين يتمعن الشاعر في «البعد العمقاني»، يقول: «الطمأنينة ليست معي/ولا طريقتي وإلا كنت قدمتها للدنيا،/ لكنَّ معي شيئًا آخر.. يجتاحني كالسيل/شيئًا../أحبه أكثر من أي خنوع داخلي/ شيئًا اسميه الملاحقة/ اسمه معاجنة المعنى والشكوك». ص55
تغيب الطمأنينة جراء التشتت وعدم اليقين، والطريق أيضًا فلا اتجاه محدد أو هدف واضح، لكنّ ثمة شيئًا آخر، قوة غامضة «آخر»، قوية وسريعة، شيئًا مليئًا بالعنفوان «يجتاح كالسيل»، ومع الغموض تنصاع الذات، أو تحب ذلك، إنه السعي «الملاحقة»، دون معرفة الوجهة، فالسياقات مربكة وعدم القدرة على الفهم سيد الموقف.
المعنى هنا متناثر مشتت، معجون بالشكوك، يبدأ كقوة غامضة، ثم يتحول إلى شعور داخلي، ثم إلى سعي وراء المعنى والطمأنينة. هو الهيام، نحو الشكوك ومعاجنة المعنى، هل نقول إلى القصيدة؟ يمكن -وعلى نحو مؤقت- أن نعتقد في ذلك، فالبطولة كما تكمن في خوض الوديان والشعاب ومجاري السيول والوثب من فوق الجبال، توجد أيضًا في اللعب، أليست القصيدة في جوهرها لعب؟
البداية بالمزح
في ظل غياب المعنى يتصور الإنسان وجود معنى ما للخطابات والنصوص، محاولات يائسين ومستاءين في الوقت نفسه، ربما هذه القراء واحدة منها، وإن افترضنا أننا نلعب في الأساس، وأن نقدم افتراضًا مؤقتًا قوامه مشاركة النصوص في لعبها، حتى وإن صارت كالحياة فيما بعد «مأساة»، نبدأ بالمزح والهزل واللعب لكنّ النهاية أكبر من التوقعات، «جلبنا الحسرة.. بيد أن كل شيء/كان قد بدأ بمزحة/ مجرد مزحة../ لكنها تفاقمت في قدحين!». ص56.
المآلات ليست نتيجة طبيعة للمقدمات، تصور عبثي ينقلب على أربابه وعناصره، كأن الذوات الإنسانية عمومًا جاءت إلى الدنيا هزلًا، لم يكن في حسبانها ما جرى وسيجري، وتتقاطع إشارة ثابت مع رؤية الأديب نجيب محفوظ في نهاية رواية «ثرثرة فوق النيل»، «أصل المتاعب مهارة قرد! تعلَّم كيف يسير على قدمين فحرر يديه، وهبط من جنة القرود فوق الأشجار إلى أرض الغابة». ذلك القرد اللاهي الذي صار فيما «ملكًا ضليلًا»، ولم يكن يعلم ما ستجنيه يداه «لو كنت أعرف أن يدي/ وهي تصب كأسين/ وتمتد بخفة المزاح الأول/ ستملًا تلك الروح المفزوعة!/ لو كنتُ..!/ لاكتفيت بتقاليد الضيافة/ ثم وسعت الخطى نحو المخرج!/ لو..!».
لو أننا نعلم خاتمتنا ما كنّا بدأنا، ربما، أو على الأقل «لاكتفينا بتقاليد الضيافة»، وفي إطار لعبة المعاني المتعددة يمكن أن نعد الضيافة طقسًا، مجرد طقس، نقدم خلاله حلى ومشروبًا، وفي سياق آخر نقرأها Hospitality، أي أنها مقولة لا تتعلق بترحيب الضيوف في منازلنا وتقديم الطعام والشراب لهم فحسب؛ بل بفتح عقولنا وقلوبنا للآخر، والاستعداد لتغيير هوياتنا في هذه العملية. فالضيافة -مقولة دريدا- ليست فعلًا طوعيًا، بل التزام أخلاقي وناموس طبيعي، أي أننا ملزمون بقبول الآخر حتى لو لم نرغب في ذلك، لأن هذا هو جوهرها، ويجر الإلزام تهديدًا لهويتنا، ما يعني أنها تتطلب منا أن نتخلى عن بعض من سيطرتنا على ذواتنا.
هنا السؤال، هل لو اكتفينا بتقاليد الضيافة لنجونا من عواقب اللعبة؟ مؤكد لا، أي أننا إزاء تشتيت جديد للمعنى، بذرة أخرى تضرب في اتجاه معاكس، لو أننا اكتفينا بتقاليد الضيافة ستتغير الخاتمة، لكنها فعليًا تنمو في جهة مضادة، في الضيافة التي لا تُغير فقط حياة الضيف، بل تُغير أيضًا حياة المضيف، في الأفكار والمعتقدات وطرائق الحياة، ومن ثمّ في المصير.
تبادل الأدوار
يمكن أن نعيد استضافة النصّ في سياقات تأويلية أخرى، وعلى نحو غير مشروط بالقيود الفكرية أو الاجتماعية، فالضيافة الحقيقية لا تُقدم بشروط أو توقعات، ونقدمها للآخر دون انتظار أي شيء. لعبة ندخلها معًا، أنا وأنت والنص، تاركين على عتبة السياق عبد الله ثابت نفسه، حتى لا نحمله وزر تأويلنا.
ماذا لو أننا في لعبة المعاني اللا نهائية تساءلنا من المُخَاطِب في النص؟ هنا ينفتح الباب على تأويلات من قبيل: الشاعر، أو امْرُؤُ القَيْس «الملك الضليل»، الذي يحضر نصه في متن القصيدة «أَلهَيْتُها عَن ذِي تَمَائِمَ»، أو أنه الإنسان في عمومه الذي يبكي مصيره الذي آل إليه، وجميعها تأويلات ممكنة وآمنة، لكننا نفترض أن الصوت الرئيسي يمكن أن يكون لقوى أعلى، لكينونة أكبر، أو لراع مثلًا يتدبر حال رعيته، إله يقلب في أحوال البشر، واحد من رموز القوى العليا التي سكنت جبل الأولمب، العلة الأولى، التي صبت الطين في قالب «لو كنت أعرف أن يدي/ وهي تصب كأسين»، ونفخت في الطين أو الكأسين، لا فرق، لـ«تملأ تلك الروح المفزوعة».
تأويل يمد برجليه في الميثولوجيا القديمة التي تُطرح تفسيرًا لسبب خلق الكون والإنسان. ويُمكن ربطه ببعض المعتقدات الدينية والأساطير التي تُصوّر الآلهة ككائنات ذات نزعات بشرية، بما في ذلك الشعور بالملل أو الرغبة في التسلية، وترى في عملية الخلق عبثًا، أي بلا هدف أو معنى محدد، وهي رؤى وتصورات تعبر عن عدم القدرة على معرفة دوافع الآلهة بشكل مؤكد.
ولأننا في لعبة المجاز، يصير كل شيء ممكنًا، بالتالي طبيعي أن نؤنسن الأشياء والكيانات، يخاطب النصّ الشعري في موضع آخر «الذات العليا» بصيغة مباشرة، لغويًا وشعريًا، «أيها المؤقر في أعاليك../ عمتَ صباحًا،/ وإن كنت لا أعرف ما التوقيت عندك!/ أكتب إليك،/ وبلا مقدمات../ أرجو أن تتلطف بترميم عالمنا،/ العربي بالذات،/وعلى وجه السرعة!» ص75.
الخطاب الموجه إلى الأعلى يبدو عملية تبادلية للأدوار، الخطاب صادر من الأدنى في هذه الحالة إلى الأعلى، ووصف «الموقر» يدعم التأويل السابق لنص «الملك الضليل»، ومعه وصف «أيها العزيز»، «خدمة أخيرة، أيها العزيز، لو سمحتَ»، بالتالي فإن الملك الضليل -لاحظ التسمية هنا- يمكن أن تكون كينونة، لندخل لعبة قوامها التهكم الذي لا نقصد به السخرية المباشرة، إنّما هو القدرة على استخدام اللغة لكشف الحقيقة بطريقة غير مباشرة، وعلى نحو يتسم بالرفق، بدلًا من التعبير عن المعاني مباشرة وبخشونة، أي المفارقة التي تجعلنا ندرك الفجوة بين المثالي والواقعي. وتدفعنا بالتالي إلى العمل على تقريبهما، أو تجعلنا ندرك أنه بغض النظر عن مدى صعوبة عملنا، فإن الواقع سيظل دائمًا دون المستوى المثالي.
الفجوة السابقة بين الواقعي والمثالي أُبرزت بوضوح من قبل سقراط، الذي صور تاريخيًا «ساخرًا» و«تهكميًا»، أو حتّى مخادعًا في نظر البعض، إذ بدا استجوابه للعظماء أو الأقوياء أو الأبرياء ساذجًا أو غبيًا، لكن بمرور الوقت كشف عن حكمته، لذلك، كاستراتيجية بلاغية، يتمتع التهكم بميزة تقديم حقيقة قاسية أو غير سارة بأسلوب لطيف – وجعل المستمع أو القارئ يعتقد أنها كانت فكرته!
بهذا المستوى من الدلالة، والتمرير الناعم للسخرية، فإن التهكم كما يجيء في المعجم، «تنكُّر بلبْس الأَقْنِعة والوجوه المستعارة»، بالتالي يعمد النص إلى استعمال التنكر، للدرجة التي يرى فيها ولا يُرى، من ثمّ لا تظهر هذه الرؤى التهكمية على نحو واضح، إذ تحتاج إلى تأويلات قد تبدو تعسفية، لكنّ في النهاية تتقاطع مع النص وتلعب معه.
التناص لعبًا
إن تمرير المعاني من خلال المفارقات التهكمية، يستلزم في النصوص، أن تلعب مع النصوص المتناصة معها باستراتيجية مغايرة، كأن تقلب أحداث النص المتناص معه مثلًا، أو أن تغير في بنيته الدرامية، بما يشي بنوع من المفارقة. جدير هنا أن نشير إلى أن الاستراتيجية المقلوبة للتناص لا تعني عرض عناصر النص المتناص معه مقلوبة، كما الحال مثلًا في قصيدة «مقابلة خاصة مع ابن نوح» للشاعر أمل دنقل. إنّما شريطة فاعلية التهكمية ألا يشير النص إلى نصوصه المتناص معها، بقدر ما نستشف ذلك من القراءة أو التأويل.
وعمومًا التناص كمفهوم ليس ببعيدٍ عن مقولات التفكيك؛ بل إنه ابن شرعي له، ولجاك دريدا، وهو عند جوليا كريستفيا كما عند التفكيكيين، يعنى اعتماد النص على مفاهيم وصور وشفرات وممارسات لا واعية، وتقاليد ونصوص سابقة تغلفها فيه، وهو كأداةٍ نقدية حاسمة، يبرز أسس النصوص الأشبه بالمتاهات، ويسهل انتشار المعنى ويفرض عدم الاستقرار السياقي؛ ويفترض التناص في آنٍ دائرةً تاريخية ممركزة وأساسًا أشبه بالهوة، منحى عن المركز للنصوص، ويمثل حتمية تحريرية.
«خدمة أخيرة، أيها العزيز، لو سمحتَ../ أعد لنا الأغاني الكبيرة،/ على الأقل!/ وإن أمكن../ فلتعط الحلوات بعضًا من خفة الدّم،/ وامنح البيوت القليل،/ ولو القليل، من الضحك والذكاء!/ تدخل من فضلك،/ وصدقني../ لن نعطلك عن تدابير المجرات،/ فنحن بغاية الإرهاق.. حقًا بغاية الإرهاق/ من هذه التفاهة كلها../ من كل هذه الضيوم!». ص76
إذن، يطلب المخاطِب في المقطع السابق، دعواته وأمنياته في اتفاق هذه المرة، وليست وعدًا، شيء مقابل شيء، استجابة الدعوات مقابلها عدم تعطيل «العزيز الموقر» عن مهمته «تدبير المجرات»، والتي يراها الذات «تفاهة» في الوقت نفسه، ليصبح النصّ نفسه «تعويذة» لاستجلاب الصوت لا يوصف، استدعاءً للقوى العليا، وصدًا لها في الوقت ذاته.
بهجة «الشطب»
مع التشتيت والانتثار، ومع تعدد المعاني حد نهائيتها أي غيابها، تتعدد الرؤى ويصبح كل شيء نسبيًا، «لا تروقكَ المنافسة من أصلها../ فتخرج!/ هيا../ فسر لي،/ لماذا يبهجك الشطب؟»، هذا الشطب هو العملية الإبداعية في مكنونها. طالما المعاني على الأقل من منظورنا، لا تعدو كونها «طيفًا»، فمهمة الأدب منذ أن عرفه الإنسان تجسيد هذا الطيف في الخطابات المنتجة، للتأكيد على طبيعة الحقيقة الفردانية، ونسف أي صفات جمعية، ولطالما صارت فردية فهي نسبية، تخص صاحبها وحده دون أن ينازعه فيها أحد، ومن ثمّ تشطب الممارسةُ الإبداعية على أي نوازع مطلقة يحاول البعض إلصاقها بالمعاني.
ومع تعدد الرؤى ولا نهائيتها، تصبح كل الحقائق نسبية، وتصير المعاني الخاصة بكل فرد صالحة في إطار سياقاته الخاصة، وتقف على قدم المساواة مع غيرها من رؤى ضمن سياقاتها الخاصة أيضًا، الكل نسبي، حتى الوجود المتعين للشخص نفسه، وتستمر النسبية حتّى يصبح الفرد مجرد وهم.
لعبة الشطب تمتد إلى أولئك الذين خطفوا الوطن في سنوات سابقة، ليعود الأخير «محلوًا» و«بطلًا سينمائيًا» يبث الأمل من جديد في قلوب أبنائه، هل نقول إنه شطب على محكتري المعاني، أصحاب الحقيقة المطلقة؟ أولئك الذين يقلقهم الانتثار، يخاصمون حد العداء التعددية، الكارهين للمجاز، والفارين من اللعب، في حين يغوي اللعبُ الشاعرَ «دعونا نلعب/ لعبة نغز الأشياء في خاصرها» ص111.
دائرية اللعبة
وعدَ عبد الله ثابت بـ«النصد» ممثلًا في تصوير تشتيته الشخصي وخداعه الذاتي وإلهائه الرائع، بالتالي فتأثير ذلك على أي شخص هي مسؤولية الأخير، وعليه تحمل النتائج، كانت اللعبة مكشوفة أوراقها منذ البداية، لكنها لعبة دائرية، تتكشف خاتمتها نهاية الديوان، فمثلما تعهد الشاعر بـ«الإلهاء» ونثر المعاني، يطالب القارئ بدوره، المسؤولية المشتركة، «بهذا المصب من جريان النهر، وللشد من أزر المستائين، يمكنكم بعث ما تشاؤون، من صور إلهاءاتكم الرائعة!» ص119، هنا يمنح القارئ دوره في عمليت «التشتيت»، «بوسعكم الاستفاضة في الغضب، التأفف، الجموح، وسائر الكتابات المساندة، محلاة بأسمائكم، إلى ضفاف المراسيل»، يفسح له جانبًا من الملعب لإبراز دوره، والمساهمة في خلق معان جديدة.
يتطلب الأمر منك أيها القارئ أن تخلص للجدية واللعب فى الوقت نفسه، إنه أشبه بالزواج من ضرتين، كيف تلعب فى جدية، وكيف تكون جادًا فى اللعب، ومن هنا، يمكن أن أعدّ هذه الورقة باشتغالاتها متوافقة مع قواعد لعبة ثابت، لنبدو متوافقين في اللعب مع الحياة على نحو جاد، فالحياة جادة حتى اللهو أو الإلهاء، أيهما أقرب.