في هذه الأيام، وفي عالمنا المتسارع الذي يستمر في التطور والتغيير، غالبًا ما يجد الناس أنفسهم يتصارعون مع مجموعة من الضغوطات والتغيرات الحياتية، ومع أن معظم الناس يتغلبون على هذه التحديات وهم متحلون بالصمود، فقد يصاب البعض بحالة صحية نفسية غالبًا ما يتم التغاضي عنها تُعرف باسم اضطراب الإِحْكام.
ما هو اضطراب الإِحْكام؟
اضطراب الإِحْكام Adjustment Disorder الذي يسمى أحيانًا بالاكتئاب الظرفي، هو حالة صحية عقلية تنشأ كردة فعل للضغوطات أو تغيرات الحياة الكبيرة، يمكن أن تشمل هذه الضغوطات أمورًا مثل فقدان الوظيفة، أو مشاكل في العلاقات، أو المشاكل المالية، أو الأحداث المؤلمة، يتميز اضطراب الإِحْكام بالمحن العاطفية والسلوكية التي يسببها، والتي غالبًا ما تتجاوز ما يمكن اعتباره رد فعل متوقعًا لهذا النوع من الضغوطات.
المعاناة الصامتة
العديد من الذين يعانون من اضطراب الإِحْكامِ تكون معاناتهم غير ملحوظة، لأن معاناتهم غالبًا ما تتنكر في صورة ضغوط يومية، قد يبدو أنهم يعملون بشكل طبيعي، ولكنهم -تحت السطح- يواجهون مجموعة متنوعة من التحديات العاطفية والنفسية، وإذا تُركت هذه التحديات من دون محاولة للعلاج، فقد تؤدي إلى عواقب أكثر خطورة وطويلة المدى.
كيف يمكنك أن تعرف إذا كنت أنت أو أي شخص تعرفه يعاني من اضطراب الإِحْكام؟
من الممكن أن يكون التعرف على أعراض اضطراب الإِحْكام في الوقت المناسب لديك أو لدى شخص تعرفه أمرًا بالغ الأهمية لطلب المساعدة والدعم، يتميز اضطراب الإِحْكام برد فعل عاطفي أو سلوكي مفرط تجاه ضغوط معينة أو بعض التغييرات في الحياة، ويحدث عادةً في غضون ثلاثة أشهر من الحدث الذي يسبب ردة الفعل، في الأسفل بعض الأعراض التي يجب مراقبتها وأخذ الحذر منها:
- القلق المفرط: قد يتجسد رد الفعل لحدث معين في مستوى غير متناسب من القلق أو التوتر، مثل فقدان الوظيفة أو مشاكل في العلاقات أو المرور بتجربة مؤلمة.
- تقلبات في المزاج: تقلبات مزاجية متكررة ومكثفة خارجة عن الطبيعة، مثل الانفعال المتكرر أو الحزن أو الغضب، خاصة عندما تستمر هذه المشاعر لفترة طويلة بعد مرور الحدث الذي أثار رد الفعل.
- الانعزال في المواقف الاجتماعية: انسحاب ملحوظ من الأنشطة الاجتماعية أو الهوايات أو التفاعل مع الأصدقاء وأفراد العائلة، قد يصبح الشخص معزولًا بشكل متزايد.
- تغيرات في السلوك: تغيرات مفاجئة في السلوك، مثل زيادة السلوكيات المحفوفة بالمخاطر، أو تعاطي المخدرات، أو التصرفات المتهورة التي لا تتفق مع السلوك المعتاد للشخص.
- صعوبة التركيز: مواجهة الصعوبة في التركيز والتدقيق واتخاذ القرارات، مما يصعّب إكمال المهام اليومية أو الإلمام بالمسؤوليات.
- الأعراض الجسدية: تطور الأعراض الجسدية، مثل الصداع أو آلام المعدة أو غيرها من الأعراض الجسدية التي تزداد سوءًا مع العوامل النفسية، دون أي سبب طبي أساسي.
- اضطرابات النوم: حدوث تغيرات كبيرة في نمط النوم، مثل الأرق أو النوم لفترات طويلة أكثر من المعتاد، مما قد يؤدي إلى تفاقم الإرهاق وعدم الاستقرار العاطفي.
- مشاكل في العلاقات: صعوبة الحفاظ على العلاقات الصحية، مع زيادة الصراعات وانخفاض القدرة على التواصل بشكل فعال.
- ضعف في الأداء اليومي: انخفاض ملحوظ في القدرة على القيام بالمسؤوليات اليومية، مثل العمل أو الدراسة أو المهام المنزلية.
- المدة والحدث المسبب: عادة ما ترتبط أعراض اضطراب الإِحْكام بضغوط معينة أو حدث في الحياة، ويجب أن تهدأ في غضون ستة أشهر بعد إزالة الضغوطات، إذا استمرت الأعراض بعد هذا الإطار الزمني أو لم تكن مرتبطة بمسبب محدد، فقد تكون مؤشرًا على حالة صحية عقلية أخرى.
العواقب طويلة المدى لعدم معالجة اضطراب الإِحْكام
يمكن أن يكون لاضطراب الإِحْكام غير المعالج أو غير المشخص تأثير عميق على الصحة النفسية للشخص وسلامته بشكل عام، فيما يلي بعض العواقب طويلة المدى التي يجب اعتبارها:
الإجهاد المزمن: غالبًا ما يؤدي اضطراب الإِحْكام إلى الإجهاد المستمر، مما قد يؤدي إلى مشاكل صحية جسدية مثل أمراض القلب والسكري والآلام المزمنة.
الانعزال: قد ينسحب الأفراد الذين يعانون من اضطراب الإِحْكام من التفاعلات الاجتماعية، مما يؤدي إلى العزلة ونقص من جهات الدعم، مما يمكن أن يؤدي إلى تدهور الصحة النفسية مع مرور الوقت.
الاكتئاب: في بعض الحالات، يمكن أن يتطور اضطراب الإِحْكام غير المعالج إلى اكتئاب سريري، وهي حالة صحية مزمنة وأكثر خطورة.
تعاطي المخدرات: قد يؤدي التعامل مع المشكلات العاطفية التي لم يتم حلها إلى لجوء بعض الأفراد إلى المخدرات أو الكحول، مما يولد المزيد من المشاكل.
توتر العلاقات: قد تتأثر العلاقات الشخصية والمهنية، إذ يمكن أن يؤدي اضطراب الإِحْكام غير المعالج إلى التهيج وتقلب المزاج والصراعات مع الأحباب والزملاء.
انخفاض الإنتاجية: قد يؤدي اضطراب الإِحْكام غير المعالج إلى انخفاض الإنتاجية والأداء في مكان العمل مما يؤدي إلى فقدان الوظيفة.
الدراسات
تشير العديد من الدراسات إلى أن اضطراب الإِحْكام غير المعالج أو غير المشخص يمكن أن يؤدي إلى عواقب طويلة المدى، مثل زيادة أعراض الاكتئاب والقلق والتوتر، وانخفاض استقلالية الفرد في اتخاذ القرارات، وتأثيرات سلبية على التوظيف والتعليم والدخل.
ويرتبط تأخير العلاج في حالات الاضطرابات النفسية بانخفاض مستويات التوظيف، وانخفاض الإنجازات الأكاديمية، وانخفاض الدخل، وبالإضافة إلى ذلك، فقد وجد أنه مرتبط بمعدلات أعلى من الحالات النفسية والجسدية المرتبطة ببعض، مما يؤدي في النهاية إلى عواقب صحية شديدة الضرر على كل من الأفراد المصابين والمجتمع حولهم ككل.
علاوةً على ذلك، فإن المرض العقلي يقلل من دخل الفرد بشكل كبير، وفي بعض الحالات يستمر التأثير لمدة قد تصل إلى 15 عامًا.
فتشير نتائج الدراسات في عام 2013م إلى أن متوسط مستويات التأثير السلبي الذي يعاني منه الأشخاص وكيفية استجابتهم للأحداث البسيطة في حياتهم اليومية لها آثار سلبية طويلة المدى على صحتهم العقلية.
وأما ارتفاع عدد سنوات العمل الضائعة بسبب الاضطرابات النفسية فيسبب عواقب جسيمة على كل من الفرد والمجتمع والاقتصاد ككل.
الخاتمة
إن اضطراب الإِحْكام غير المعالج أو غير المشخص يشبه العاصفة الهادئة التي تهتاج في حياة الفرد، في البداية، قد يبدو الأمر سهلًا، شعور خفيف بالتوتر أو القلق يأتي ويذهب، ومع ذلك، إذا تركت هذه العاصفة الصغيرة من دون معالجتها، فيمكن أن تتطور إلى عاصفة مدمرة تلحق الضرر بالصحة العقلية وسلامة الفرد.
يجب ألّا نستهين بعواقب اضطراب الإِحْكام غير المعالج التي يمكنها أن تظهر بطرق مختلفة، وغالبًا ما تتسلل بشكل خبيث إلى كل جانب من جوانب الحياة، قد يجد الأفراد الذين يتصارعون مع هذه الحالة أنفسهم عالقين في حلقة قاسية من اليأس والقلق والاضطراب العاطفي، فهو يؤثر على قدرتهم على العيش بأفضل حالاتهم، ليس فقط في حياتهم الشخصية، ولكن أيضًا في تفاعلاتهم المهنية والاجتماعية.
وهنا تكمن القوة التحويلية لطلب المساعدة من منشأة مختصة في العلاج، ومن خلال اتخاذ هذه الخطوة الحاسمة للتواصل، تنفتح الأبواب أمام مستقبل واعد وأكثر إشراقًا.
نبذة عن الكاتب
روبين خدام، حاصل على شهادة الدكتوراه، وهو طبيب نفساني في مدينة لوس أنجلوس.
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومنصة سيكولوجي توداي).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.