النقاط الرئيسية
- إن اعتبار فقدان ذاكرة الطفولة بداية الذاكرة يغير مفهومنا حول الذاكرة المبكرة.
- تبدأ ذاكرة الطفولة من خلال تعاون مجموعة من التطورات العصبية والمعرفية المحددة.
- تبدأ ذاكرتنا في تسجيل الأحداث الشخصية فقط بعد أن نبني مفهومًا للذات وسردًا بدائيًّا للحياة.
فقد ذاكرة الطفولة (أو فقدان الذاكرة في مرحلة الطفولة) هو عدم قدرة الشخص على تذكر أول سنتين أو ثلاث سنوات من حياته، وهو غياب الذاكرة الذي حير علماء النفس منذ القرن التاسع عشر.
عندما كنا أطفالًا، لا بد أننا كنا شديدي الملاحظة، نشطين، فضوليين، ومندفعين للغاية، ومع ذلك، فإننا غير قادرين على تذكر ما مررنا به خلال تلك الفترة، فنحن لا نتذكر عيد ميلادنا الأول، أو عيد ميلادنا الثاني، كما لا نتذكر كلماتنا الأولى، أو خطواتنا الأولى، أو أطعمتنا المفضلة، أو الإجازات والرحلات التي قضيناها عندما كنا رضّعًا أو أطفالًا صغارًا.
يشكل فقدان ذاكرة الطفولة لغزًا ومعضلةً، ويصاحب التغير في النمو عدم تذكر كيفية تعلم المهارات الأساسية، فنحن نتعلم المشي والتحدث والتسلق والاستكشاف والاختلاط مع الناس من دون أن نتذكر الأحداث التي أدت لذلك.
من الأساليب المفيدة لفهم معضلة فقدان ذاكرة الطفولة تغيير المفهوم والتفكير فيه بطريقة مختلفة.
بداية نشوء الذاكرة
بدلًا من اعتبار عملية النمو الطبيعية مرضًا من خلال وصفها بفقدان الذاكرة، يمكننا تغيير وجهة نظرنا والتفكير فيها على أنها لحظة نشوء الذاكرة، بالنسبة للكثير منا، تبدأ الذاكرة الشخصية في التشكل بين 24 و36 شهرًا من العمر، فما الذي يسمح للذاكرة ببدء تسجيل الذكريات؟ تتضمن الإجابة مجموعة من العمليات، فيما يلي سبعة منها يجب أخذها في الحسبان:
- نمو الدماغ
تستمر القشرة الدماغية في النضج خلال العامين الأولين من الحياة، كما أن النمو الكبير للخلايا العصبية وزيادة تكوين الميالين يجعل القشرة جاهزة للحفظ، ويخضع الحُصين -الذي يلعب دورًا أساسيًّا في تكوين الذكريات- لتطور كبير، ليس عند البشر فحسب، بل أيضًا في المخلوقات الأخرى.
أحد الاختلافات في هذا الموضوع هو أن إضافة الخلايا العصبية في القشرة الدماغية والحصين تستبدل الروابط القديمة بأخرى جديدة، لذا، فإن الزيادة في الخلايا العصبية تعطل الذكريات التي تكونت في وقت مبكر من الحياة عن طريق إنشاء نقاط تشابك عصبي جديدة تحل محل الروابط الموجودة.
أما في الواقع، فالوقت الوحيد الذي يمكننا أن نتذكر فيه مرحلة الطفولة المبكرة هو خلال مرحلة الطفولة المبكرة نفسها، أي قبل تكوين الخلايا العصبية، يمكن للأطفال بعمر العامين ونصف أن يتذكروا بسهولة الأحداث التي وقعت قبل 6 أشهر، على الرغم من أنهم لا يستطيعون تذكر الأحداث نفسها بعد مرور عامين آخرين.
- التعلّم على التذكّر
عندما نكون صغارًا جدًّا، لا نكون مهتمين على الإطلاق بالتذكر، إذ نعيش حياتنا ببساطة، ولكن عند التعامل مع الأشخاص الأكبر سنًّا، نتعلم أن التذكر مهم، قد يتذكر الآباء الإجازات الماضية أو يسألوننا عن الهدايا التي تلقيناها في حفلة عيد ميلاد ماضية، عندها فقط ندرك أن التذكر أمر يقوم به الكبار ويجب ممارسته وتعلمه.
- معرفة التمييز بين الأمور
تنجذب الذاكرة إلى الأحداث الجديدة والتبعيات في حياتنا، مثل الصدمات، والأفراح، والأحداث التي تعلمنا الدروس، والمرّات الأولى التي ينجز فيها الشخص شيئًا جديدًا، ولكن الأطفال في صغر عمرهم لا يستطيعون التفريق بين ما يعد أمرًا مميزًا وما يعد روتينيًّا، في الواقع، عندما يصف الأطفال الصغار حدثًا من ماضيهم المباشر، فإنهم يربطون معلومات قد يعتبرها الكبار عادية أو عامة، وبالتالي لا تُذكر.
وبالتالي، فنحن في ذلك السن لا نعرف ما يكفي لتحديد ما هو مميز، فكل شيء في نظرنا جديد وبارز، وبالتالي لا شيء مميز أكثر من الآخر.
- اكتساب مفهوم الذات
إن نوع الذاكرة التي نفقدها من طفولتنا المبكرة هي ذاكرة السيرة الذاتية، وهي معلومات عن الأحداث التي نتذكر أننا عشناها، ومع ذلك، لا نستطيع في مرحلة الطفولة تأسيس مفهوم للذات المستقلة، لذلك لا نتذكر وجودنا خلال أحداث هذه المرحلة، ومن أجل ذلك نحتاج إلى مفهوم الذات.
ومع تقدمنا في العمر وتراكم الذكريات، نكتسب إحساسًا أشمل للذات، مما ينتج عنه ذاكرة سيرة ذاتية أقوى وأكثر تفصيلًا، علاوة على ذلك، لا تؤثر الذاكرة على الذات فحسب، بل مفهوم الذات يؤثر أيضًا على ما نتذكره من خلال تقوية تلك الذكريات التي تدعم مفاهيمنا الذاتية.1
- إدخال الذاكرة في سرد الحياة
كبالغين، نتذكر حياتنا كسلسلة من الفترات والمعالم، مما ينشئ بنية استرجاعية تسهل عملية التذكر، ولكن قبل أن نشكل قصة حياة بدائية، تتدفق الأحداث المتصورة داخل وخارج نظامنا المعرفي دون أي مكان للاستقرار في الذاكرة.
في العادة لا يكون لدى الأطفال الصغار جدًّا سرد للحياة، ولكن عندما يميزون حدثًا مهمًّا، يكون بإمكانهم تذكره لاحقًا، على سبيل المثال يتذكرون ولادة أشقائهم الأصغر سنًّا قبل أي فئة أخرى من الأحداث، بدءًا من عمر 24 شهرًا، ويمكن أيضًا تذكر زيارات العلاج في المستشفى منذ مرحلة الطفولة المبكرة جدًّا، أي قبل سن الثالثة بفترة طويلة.
- معالجة المعلومات
يركز إطار معالجة المعلومات على تشفير المعلومات وتخزينها واسترجاعها، في هذا الإطار، تعمل الذاكرة فقط عندما تتوافق جهود الاسترجاع التي نبذلها مع الطريقة التي قمنا بها بتشفير المعلومات في الأصل، ونظرًا لأننا لا نستطيع إعادة إنشاء سياق التشفير منذ مرحلة الطفولة والطفولة المبكرة، فإن إشارات الاسترجاع لا تعمل عندما نتقدم في السن.
يؤكد فرويد أيضًا على نظرية فشل الاسترجاع، لكن في نظريته، يرجع الفشل في الاسترجاع -على وجه التحديد- إلى الذاكرة المبكرة المكبوتة بسبب التهديد بالمحتوى الجنسي أو العاطفي، وهي فرضية لا تحظى بدعم كبير من غيرها من دراسات الذاكرة.
- تطوير اللغة يؤدي إلى تطوير الذاكرة
يتم تنظيم الكثير من ذكرياتنا وتفسيرها باستخدام اللغة، فالذكريات التي تم إنشاؤها قبل أن نتعلم اللغة يتم تنظيمها بشكل مختلف، ويكون استرجاعها أكثر صعوبة، يتزامن ظهور الذاكرة مع ظهور اللغة، مما دفع بعض الباحثين إلى استنتاج حاجتنا إلى إدراك اللغة لنتذكر.
ولكن هناك غيرهم من الباحثين الذين يرون أنه على الرغم من أنه لا شك في أن اللغة تنظم الذاكرة وتدعمها، إلا أنها ليست ضرورية لإنشاء وتذكر ذكريات طويلة الأمد، مع البالغين أو مع الحيوانات التي لا تملك لغة، في الواقع، يمكن استرجاع الذكريات المنسية منذ فترة طويلة بسهولة من خلال إشارات غير لغوية، مثل رائحة مميزة، أو طريقة انعكاس الضوء على وجه شخصٍ معين، أو من الاستماع إلى لحنٍ قديم.
ومن ثم نصل إلى نقطة تأخر نشوء الذاكرة لدى الفئران، على الرغم من أن الفئران من جميع الأعمار يمكن أن تتعلم مهام التمييز، والتعلم في المتاهة، والتدريب على التجنب، فإن الفئران الرضع (في عمر 18 يومًا) تنسى بشكل كلي بعد أقل من شهر، كما تنسى الفئران في طفولتها المبكرة (في عمر 23 يومًا)، إن الفئران التي يبلغ عمرها 54 يومًا وما فوق (البالغة) في وقت التعلم هي المجموعة الوحيدة التي تظهر الاحتفاظ بالذاكرة بعد أكثر من شهر، والتي تعد فترة طويلة بالنسبة للفئران.
شرح تكاملي لنشوء الذاكرة
تدعم القشرة والحصين اللذان ينموان ويتجددان بشكل سليم إنجازات معرفية محددة: بناء مفهوم الذات، تعلم أهمية الذاكرة، التمييز بين الأحداث المهمة، تطبيق الاستراتيجيات المكتسبة حديثًا للتذكر، وبناء سرد للحياة، وتسمح مجموعات التطورات الفسيولوجية والمعرفية هذه للذاكرة بالبدء في الحفظ.
تغيير مفهومنا عن الذاكرة المبكرة يمكن أن يساعدنا في التذكر لاحقًا في حياتنا
إن اعتبار فقدان ذاكرة الطفولة بداية الذاكرة لا يغير فهمنا لنمو الطفل فحسب، بل يخبرنا أيضًا عن كيفية تعزيز التذكر لاحقًا في الحياة، فيمكننا التركيز على:
- إدخال الذاكرة في سرد حياتنا، وربما يمكننا فعل ذلك من خلال تدوين اليوميات.
- تحديد النتيجة، من خلال التفكير الواعي.
- مطابقة استراتيجياتنا في الاسترجاع مع سياق التشفير الأصلي، من خلال الاهتمام بتجارب الإدراك الحسي والعاطفي الأصلية.
المراجع
ملاحظة 1. على سبيل المثال، قد تتذكر طفلة تبلغ من العمر سبع سنوات بوضوح أنها ضاعت في محل بقالة عندما كانت في الرابعة من عمرها، وهي تركض في الممرات منادية “أمي، أمي!” قد يكون التذكر واضحًا لأن الحدث بدا مهمًّا في ذلك الوقت، أو قد يكون واضحًا لأن الذات الحالية البالغة من العمر سبع سنوات لديها مخاوف بشأن التخلي عنها وقد تم تسليط الضوء على ذكرى الضياع لدعم هذه المخاوف.
Bauer, P. J. (2015). A complementary processes account of the development of childhood amnesia and a personal past. Psychological Review, 122(2), 204–231. https://doi.org/10.1037/a0038939
Josselyn, S.A., & Frankland, P.W. Infantile Amnesia: A Neurogenic Hypothesis. Cold Harbor Spring Laboratory Press. Vol. 19, 423-433.
Usher, J. A. & Neisser. U. (1993). Childhood Amnesia and the Beginnings of Memory for Four Early Life Events. Journal of Experimental Psychology: General. Vol. 122. No. 2, 155-165.
نبذة عن الكاتب
روبرت كرافت، حاصل على شهادة الدكتوراه، بروفيسور علم النفس المعرفي في جامعة أوتربين.
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومنصة سيكولوجي توداي).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.