بقلم: باري شوارتز
“أبطئ وتيرتك، إنك تتحرك بسرعة فائقة…” – الخامس والعشرون، أغنية جسر الشارع (شعور الحماسة) (١٩٦٦) بول سايمون
نقدّس نحن البشر مبدأ الكفاءة، ونميل للعمل بصورة أقل للحصول على عائد أكبر، فعلى سبيل المثال؛ خدمة التوصيل في اليوم نفسه، وتعدّد المهام المدرجة، فنجد أنفسنا نرسل رسالة نصية على أحد الأجهزة، بينما نكون قد أنشأنا رسالة بريد في جهاز آخر، ولا تندهش إذا وجدتَنا نخوض في محادثة على جهاز ثالث! وبسبب طابَع هذه الحياة، نرى مبدأ الإنتاجية والكفاءة أمرًا حميدًا، بينما نعدُّ عدم الكفاءة مضيعة للوقت.
هنالك أساس منطقي للتفكير بهذه الطريقة، يشرح الاقتصاديون بأن زيادةَ الكفاءةِ أمرٌ أساسيٌّ لتحسين جَوْدة حياتنا، فإذا كانت شركتك تزيد أجرك دون أن تصبح أكثر كفاءة، فسيتعيّن عليها رفع أسعارها لسدِّ هذا الخلل الناجم عن رفع راتبك، وإذا كانت بقية الشركات تقوم بالمثل، سينتهي بنا المطاف في المكان نفسه، والذي قد يتطلب منك دفع راتبك العالي لملائمة الأسعار المرتفعة للحاجيات التي تقتنيها، وبالتالي، إذا أردتَ تحقيق تقدُّم مالي، يجب عليك أن تكون أكثر كفاءة، فسلاسل التوريد، والتسليم في الوقت المحدد، وعدم وجود ركود في القوى العاملة جميعها تعد داعمًا لرفع الكفاءة، وإذا توصّلنا لهذه الغاية، ستتحسن معيشتنا يومًا بعد يوم، أو هذا ما قد وعدنا به!
فبالنسبة لشركات تصنيع السيارات، والتي تتوق لاختصار أكبر عدد من الأميال لكل جالون من تصميم السيارات الخاص بها، فإن مقاومة الهواء والسيطرة على الطريق هما أعداء الكفاءة، وفي عالم المال، تنشأ معظم الخلافات عند البيع والشراء، فقبل تواجد المال، كان على مزارع البطاطس للحصول على البيض والحليب اللجوءُ للمقايضة عن طريق استعمال أكياس من البطاطس، وكما ذكر المؤرخ التاريخي نيال فيرجسون في كتابه صعود المال (٢٠٠٨)، فإنَّ اختراع المال قد حقّق تقدمًا ملحوظًا للحد من تقليل الكفاءة، وهنالك الكثير من الأحداث التي وقعت في عالم المال خلال المائتي سنة الماضية، والتي قد تشير إلى استمرارية تلك الثورة.
فالائتمان على سبيل المثال، يعني استطاعتك التسوق وشراء البيض والحليب حتى في ضوء عدم امتلاكك للمال في تلك اللحظة، وقد نقل السوق المالي هذه الكفاءة لمستوى آخر في عالم الأسهم، فإنشاء “عقد الخيارات” يعني عدم اضطرارك للخوض في متاعب شراء السهم الذي ستبيعه، على أي حال، يكفيكَ فقط أن تعِدَ بشراء هذا السهم، ومن ثم يمكنك بيعه بالسعر والوقت المحدّدَين من قبل عقد الخيارات، لاحقًا، ستتمكن من تداول هذا الخيار بدلاً من الأسهم الأساسية.
كل من هذه التطورات وغيرها الكثير سهّلتْ للفرد القيام بأمور تجارته من غير إهدار للطاقة والوقت، ومن غير وقوع خلافات أيضًا، وكل منها سهَّل المعاملات التجارية وجعلها أكثر كفاءة وسرعة، وبطبيعة الحال، تعدُّ هذه التطورات جيدة بشكل من الأشكال، لكن أزمة ٢٠٠٨ المالية أشارت إلى أنه قد يكون هذا الأمرُ مبالغًا فيه؛ فإذا كانت الرهانات العقارية والقروض لم تُحوّل إلى أصول قابلة للتداول (الأوراق المالية)، فلربما استغرق المصرفيون الوقت الكافي لتقييم الجدارة الائتمانية لكل مقدم طلب، ولو اضطُرَّ الناس للذهاب للبنك لسحب الأموال النقدية، فذلك قد يساعد على صرف الأموال بشكل أقل، وادخارها بشكل أكبر، وهذه الأمور ليست مجرد تكهّنات، فوفقًا للبحث الذي قام به ريتشارد ثالر الحاصل على جائزة نوبل؛ فإنّ الناس تميل للدفع عن طريق استعمال البطاقات المصرفية لشراء سلعة معينة بصورة أكبر مما يدفعونه نقدًا، ويمكننا القول إن وجود بعض التواصل ليخفف من وتيرتنا قد يكون من شأنه تمكين المؤسسات والأفراد من اتخاذ قرارات مالية أفضل.
قبل عقد من الزمن، ناقشتُ أنا وعالم النفس الأمريكي آدم جرانت في مجلة ورقية بأن ظاهرة “المبالغة في الأمور الجيدة” قد تُعدّ ظاهرة عامة، فبعض الدوافع قد تولّد أداءً متميزًا، لكن المبالغة فيها قد يؤدي للاختناق، على سبيل المثال، قد تخلق بعض الأعمال الجماعية الترابط وتعزّز من الإنتاجية، لكن المبالغة بها قد تؤدي للجمود، وإظهار بعض العاطفة أيضًا يسمح لك بفهم الطرف الآخر وتصوُّر الأمور التي يخوضها، لكن الإفراط بإظهارها قد يجعلك تستثقل قول أو فعل الأشياء الصعبة، ويعد الأمر مماثلًا لما نوقِش في كتابي مفارقة الاختيار (٢٠٠٤)، فقد ذكرتُ أن الحياة التي تخلو من حرية الاختيار ليست تستحق العيش، ووجود خيارات كثيرة تدفع لشلل في الحياة واتخاذ قرارات خاطئة وغير مُرضية، فإيجاد القدر المناسب – أو كما أطلق عليه أرسطو “الوسطية” من التحفيز، والمشاركة، والتعاطف، والاختيارات، وغيرها الكثير من جوانب الحياة بما يتضمن الكفاءة، تعد من التحديات المحورية التي نواجهها بصفتنا أفرادًا ومجتمعات.
ومع ذلك، إيجاد مفهوم الوسطية ليس بالأمر السهل، فكما لاحظ الشاعر الإنجليزي ويليام بليك في كتابه زواج الجحيم والجنة (٣٩-١٧٠٠)، “إنك لن تعلم القدر الوافي ما لم تتجاوز القدر الكافي”.
إذا جعلتْنا الأزمة المالية أكثر كفاءة مع معاملاتنا، فماذا حدث خلال جائحة كوفيد-١٩؟ لماذا لم نقُم بتخزين المستلزمات والآلات الأساسية، وتعزيز القدرة الاستيعابية في المستشفيات، أو التأكد من متانة سلاسل الإمدادات لدينا؟ قد يعود السبب بطبيعة الحال لمنظورنا لتلك الأمور على أنها قد تسرق الأرباح وأنها غير فعالة؛ فإنفاق الأموال على الأقنعة والثياب التي تُكدِّس الغبار في الخزائن يمكن استخدامها دائمًا بشكل أكثر “إنتاجية” في السوق، وعلى نحو مماثل، فتوظيف أفراد أكثر من الاحتياج في الأوضاع الطبيعية، أو إنتاج المنتجات بنفسك بدلًا من الاعتماد على سلاسل التوريد الدولية، قد يوصف بعدم الكفاءة والفعالية، لذلك، إننا بحاجة للعيش بشكل أقل كفاءة من الآن فصاعدًا، فنخلُص إلى درس من الدروس المستفادة من هذه الحادثة، وهو الاستعداد الجيد في المرة القادمة.
وفي ضوء هذا الحديث، قد نعد عدم الكفاءة مشابهة لبوليصة التأمين، تفكَّرْ في وضعك الحالي، في كل سنة تمر عليك وأنت بصحة جيدة، ودون حدوث حادث مروري، أو اشتعال حريق في منزلك، فإنه قد يتبادر لذهنك أنك أهدرتَ مالك على العديد من المنتجات التأمينية دون جدوى، وأنه قد يكون مستواك المعيشي أفضل من غير أقساط التأمين.
غالبيتنا لا يفضل فكرة أننا نهدر أموالنا على التأمين، فبدلًا من دَفعها لتلك الشركات، بإمكاننا شراء الملابس، أو السيارات، أو تناول الطعام، فمنذ عدة سنوات، أقنعتُ والدتي المُسنّة وبجهد كبير لاستكمال بويصلة التأمين الصحية الخاصة بها ببويصلة أكثر شمولًا، لم تكن تلك البوليصة رخيصة، مع أن دخل والدتي كان متواضعًا، مضتْ تلك السنة وانقضت ووالدتي لم تُعانِ من مشاكلَ صحيّةٍ خطيرة تستدعي استعمال التأمين الشامل، وعندما حان وقت التجديد، رفضتْ التجديد بزعمها أن المال الذي أنفقته تلك السنة يعد إهدارًا، ولكن ردي لها كان لاذعًا بصورة غير مبرَّر لها، فقد أخبرتها إنّها قد تكون محظوظة السنة المقبلة وتستعمل هذا التأمين بسبب مرض مزمن، وبالتالي ستستفيد من مالها المدفوع.
لحسن حظّنا، تحمينا اللوائح التنظيمية التابعة للحكومة في مختلف المجالات من رغبتنا للوصول لأكبر قدر من الكفاءة المالية الشخصية عن طريق إجبارنا على الحصول على التأمين، فالقانون يُلزمنا بوضع تأمين على مركباتنا، والرهن العقاري يطلب التأمين لمنازلنا، وفي الولايات المتحدة الأمريكية، يدفع “أوباما كير” (وهو قانون رعاية ميسرة صدر عام٢٠١٠، وصمّم لرفع نسبة المواطنين الأمريكيين الذين يغطيهم التأمين الصحي) المواطنين لشراء التأمين الصحي، إلى أن اعتُمِد قانون الضرائب عام ٢٠١٧، والذي ألغى هذا القانون وجعل العقوبات فيه غير قابلة للتنفيذ لعدم وجود تغطية صحية، وأنا في الحقيقة أزعم بظني أنَّ كثيرًا منا يعانون من نقص التأمين بصورة عامة، وقد تكون المشكلة أسوأ بكثير من غير متطلبات التأمين تلك التي تفرضها الدولة.
مقاومة الصدمات التي تواجهنا من عالم مجهول هي طريقة من طرق التفكير حول التأمين، وقد تقودنا تلك الطريقة لفهم مبدأ عدم الكفاءة، وهذه طبيعة الحياة، فكما أشار الاقتصاديّان البريطانيّان جون كاي ومارفن كينج في كتابهما عدم اليقين الجذري (٢٠٢٠)؛ إنّ الجهود لقياس المخاطر عن طريق ربط الاحتمالات مع حالات المستقبل غير الواردة والمتعددة في العالم، يعدّ في الغالب خيالات علمية، فعالمنا يعد فوضويًّا أكثر من عجلة الروليت أو رمي زوج من النرد.
ما الذي يجب علينا فعله لمواجهة عدم اليقين الجذري؟ هنالك عدة أمور قد توضع في الحسبان، فبدلًا من سؤال أنفسنا عند اتخاذ القرارات بماهية الخيار الذي سيجلب لنا أفضل نتيجة، يجب علينا سؤال أنفسنا ما الخيار الذي سيخلق نتيجة عائدة بالرضاء علينا بالشكل الكافي في ضوء المستقبل في هذا العالم؟ وبدلًا من محاولة تضخيم العوائد المالية المستثمرة في حساب التقاعد، يجب علينا أولًا تحديد هدف مالي، بعد ذلك اختيار الاستثمار الذي سيساعد لتحقيق هذا الهدف نظرًا للظروف المالية في المستقبل، وبالطريقة نفسها، يمكننا توظيف الفكرة عند بحثنا عن عمل معين، فبدلًا من البحث عن “أفضل” عمل يمكننا الحصول عليه، يمكننا البحث عن عمل جيد بما فيه الكفاية، ومُرضٍ لأنفسنا من حيث بيئة العمل المتقلبة من زملاء وإدارة، ومن ناحية المستقبل الاقتصادي المتذبذب أيضًا، وينطبق هذا الأمر أيضًا على اختيار الجامعة، فبدلًا من ارتياد أفضل جامعة، يمكننا اختيار جامعة جيدة بالشكل الكافي، حتى لو كانت تحتوي على رفيق سكن مزعج بعض الشيء، أو معلم أحياء ممل.
ويعد الرضا المصطلح الملائم لوصف هذا النهج في صناعة القرار، وقد يُطلَق مفهوم الرضا مع التطلع للمستقبل المجهول بالرضا الراسخ، فالرضا يعد شكلًا من أشكال الضمانات، فهنالك ضمانات ضد الانهياراتِ المالية، والأوبئةِ العالمية، والرؤساء السيئين، والأساتذة المملين، ورفقاء السكن المؤذيين، وقد تعد هذه الضمانات مملة بعض الشيء، مثل الرجل الذي يرتدي حزامًا وحمّالات، وقد لا نحتاج لكلا المفهومَيْن، لكن ما الذي سيحصل لنا حينئذٍ؟
بظني، إنّ العيب الحقيقي يقبَع في مفهوم الرأسمالية التي كشفتْ عنها الأزمةُ المالية في عام ٢٠٠٨، والتي كانت مطلقة العنان وذات هدف واحد، تسعى نحو الربح والكفاءة، وربما جائحة ٢٠١٩-٢٠ جسدت الأمر نفسه، وأظهرت الخلل الحقيقي في عدم جاهزيتنا، فليس بالضرورة أن تكون الرأسمالية منصّبةً على هدفٍ واحد أو مطلقة العنان، فهذا الأمر ليس متعارفًا عليه في المجتمعات الأخرى التي تتمتع بمعاييرَ معيشيّةٍ عالية، وليست مُدرَجة في مراحل التاريخ في الولايات المتحدة؛ لذلك، قد يكون هذا هو الوقت المناسب لإعادة إحياء بعض الأعراف الاجتماعية التي تصبُّ في إبطاء وتيرة عيشنا الحالية، فعلى سبيل المثال، لو كان يُنظر للمنازل على أنها مكان للعيش عامر بضجيج الأطفال، وحركة والكلاب، وتواصل الجيران، والمجتمع، أكثر من كونه استثمارًا ماليًّا، فقد يدفع ذلك للحد من المضاربات العقارية التي تركّز على بيع المنازل وشرائها من أجل الربح فقط، فإذا شعرت الشركات بأنها جزء من رعاية مجتمعاتهم، فقد يدفعهم ذلك لتغيير منظورهم بصورة مختلفة حول تبسيط عملياتهم من خلال القضاء على الوظائف.
لا يجب أن ننكر بأن قوى الاحتكاك التي تبطئ وتيرتنا تعد مصدر إزعاج باهظ الثمن، فجميعنا نرغب بقيادة تلك المركبة التي تقطع مسافة ١٠٠ ميل للجالون الواحد، فعندما نقود، نعلم أننا المسيطرون في هذه المركبة، وإلى أين ستكون وجهتنا؛ لذلك تخلق السرعة بداخلنا شعورًا جميلًا، وعلى الرغم من ذلك، فإن القليل من الاحتكاك قد يمنع حدوث كارثة عندما تواجه طريقًا جليديًّا.
القيادة بحدِّ ذاتها محفوفة بالمخاطر، والأمر سيان مع الحياة، فلا يمكن التنبؤ بالحياة مثلما لا يمكن التنبؤ بما قد يصادفنا خلال قيادتنا، فلا نعلم نحن على الدوام ما وجهتنا، فأقدارنا ليست بمتناول أيدينا، فالجليد الأسود يوجد في كل مكان، والشيء الصغير الذي يبطئ وتيرتنا في هذه الحياة المجهولة التي نعيشها، قد يكون منقذًا لأرواحنا؛ لذلك، فإن بناء الاحتكاك في حياتنا أفرادًا، ومجتمعًا، يقود لبناء المرونة في نظام معيشتنا، وقد تكون هذه الاحتكاكات بوليصة ضماننا مقابل كوارث الحياة.
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومنصة سايكي).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.