قراءة في كتاب إيتوري بيوكا: يانواما. قصّة امرأة برازيليّة اختطفها هنود الأمازون([1]*)
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
دعونا نعلن منذ البداية أنه ما من اعتراض قد يُنقص من الاحترام والتعاطف اللذين يستحقّهما هذا الكتاب الذي يسعدنا بدون تردّد، أن نقول عنه إنه عظيم. ودعونا نشهد أيضًا على الإعجاب الذي ستثيره في روح أي قارئ بريء، المؤلفة المجهولة تقريبًا لهذا الكتاب الرائع، هيلينا فاليرو (Elena Valero)، التي تولّى الطبيب الإيطالي المحظوظ إيتوري بيوكا (Ettore Biocca)، توثيق روايتها على جهاز تسجيل صوتي. بعد هذا الاعتراف لصاحبيْ الفضل بفضلهما، دعونا ننتقل إلى موضوعنا.
يضمّ هذا الكتاب، إذا صحّ التعبير، سيرة ذاتيّة تروي مسيرة اثنين وعشرين عامًا من حياة امرأة، لكنّه لا يقتصر على ذلك، حتّى وإن كانت تلك السيرة رائعة في حدِّ ذاتها. ذلك أنّ تجربة هيلينا فاليرو الشخصيّة والموسومة بخطوط ثابتة ودقيقة، تتقاطع وتتشابك مع الحياة الاجتماعيّة لمجتمع بدائي في أعقد اختلافاته وأدقّ تفاصيله، ونقصد قبيلة اليانواما (Yanoama)، الهنديّة التي تعيش في جبال باريما (Parima)، على الحدود الفاصلة بين فنزويلا والبرازيل. وقد حدث أوّل لقاء بين هيلينا فاليرو والهنود في عام 1939، عندما كانت في الحادية عشرة من عمرها. فقد أصيبت حينها في بطنها بسهمٍ مسموم أطلقه أحد الهنود خلال هجومه مع رفاق له على عائلتها، وهي عائلة من البِيض الفقراء جاءت من البرازيل بحثًا عن الأخشاب الثمينة في هذه المنطقة التي كانت ما تزال حينها غير مستكشفة. وقد هرب الوالدان والشقيقان، ووقعت هيلينا في أسر المهاجمين لتعيش أعنف تمزّق غير متوقّع يُمكن أن يتخيّله المرء في حياة فتاة صغيرة تعرف القراءة والكتابة وسبق لها حضور قُدّاس في الكنيسة. وقد حملها الهنود معهم وتبنّوها إلى أن أصبحت امرأة، ثمّ تتزوّج مرّتين، وتغدو أمًّا لأربعة أولاد، قبل أن تترك القبيلة والغابة صحبة أبنائها وتعود إلى عالم البِيض في عام 1961، بعد اثنين وعشرين عامًا من العيش بين الهنود. لقد كانت تلك السنوات الطويلة بالنسبة لهيلينا فاليرو، وهذا أمر لا يكاد يُصدّق، عمرًا كاملاً تعلّمت فيه شظف العيش بين هنود اليانواما، وهو ما لم يخلُ في البداية من آلام ودموع، قبل أن تغدو حياتها أكثر رغدًا إن لم نقل أكثر سعادة. ومن خلال ما قالته هذه المرأة التي ألقت بها المقادير إلى ما وراء عالمنا، وأجبرتها على استيعاب ماهيّة عالم ثقافي يعيش على بعد سنوات ضوئيّة من عالمنا، بل واستبطانه في أدقّ تفاصيله حميميّة، يكفي أن نقول إنّ الهنود هم من كانوا يتكلّمون على لسانها، وأنّ بفضلها بدأت تتشكّل لدينا تدريجيًّا صورة عالمهم ووجودهم في ذاك العالم، وهذا من خلال خطاب حُرّ وتلقائي لا قيود عليه، تقوله امرأة قادمة من ذاك العالم، لا من عالمنا الذي يُحاذيه دون أن يتماسّ معه.
وباختصار نقول إنّه لأوّل مرّة بدون شكّ، يحدث أن تتكلّم ثقافة بدائيّة عن نفسها، وأن يكشف لنا العصر الحجري الحديث أحواله بشكل مباشر، وأن يصف المجتمع الهندي نفسه من الداخل. بل لعلّها المرّة الأولى التي أمكننا فيها التسلّل إلى داخل البيضة دون كسر قشرتها، وهذا لعمري حدث نادر يستحقّ الاحتفال. فكيف كان هذا ممكنًا؟
الجواب واضح: لأنّ هيلينا فاليرو قرّرت في أحد الأيّام قطع رحلتها الكبرى، ولولا ذلك لما وصل إلينا خبرها. لذا، فإنّه يُمكن القول بمعنى من المعاني، إنّ العالم الهندي، رغم عشرة هيلينا الطويلة معه، قد لفظها من حضنه، وسمح لنا بذلك بأن نلج إليه من خلال كتابها.
إلا أنّ رحيل المرأة يدعونا إلى التفكير في قدومها وهي فتاة، أي التفكير في هذا «التثاقف» العكسي الذي يثير السؤال: كيف استطاعت هيلينا فاليرو أن تُصبح هنديّة صميمة، ثمّ تتوقّف مع ذلك عن أن تكون كذلك؟ إنّه سؤال مهمّ من ناحيتين. أوّلاً من حيث تعلّقه بشخصيّة استثنائية، ثمّ بما يُلقيه من أضواء على الانتقال العكسي للهنود نحو العالم الأبيض، وعلى هذا الانحطاط البغيض الذي لا يتردّد الوقحون أو الساذجون في تسميته تثاقفًا.
يجب أن يحظى عُمر الفتاة باهتمامنا. فقد كان دخولها إلى العالم الهندي عنيفًا، عن طريق الاختطاف. لكنّها كانت، كما يبدو لنا، في سنّ مثاليّة ساعدتها على التكيّف مع هذه الصدمة أوّلاً، ثمّ مع حياتها الجديدة مع الحفاظ على مسافة منها، مهما كانت صغيرة، منعتها من أن تغدو هنديّة بالكامل، قبل أن تُشجّعها لاحقًا على قرار العودة إلى عالمها الأوّل الذي لم تنسه أبدًا ([2]). ولو كانت هيلينا حين اختطافها أصغر ببضع سنوات، أي قبل أن تستبطن حضارتها الأصليّة بالكامل، لكانت ستعيش بالتأكيد نُقلة جذريّة وتغدو محض هنديّة، ولن تُفكّر أبدًا في العودة إلى موطنها. ولئن لم تكن حالة هيلينا فاليرو هي الوحيدة التي اختطف فيها الهنود أطفالاً بِيضًا، إلا أنّهم كانوا يختفون بشكل دائم تقريبًا. والسبب واضح وبسيط، ويتمثّل في أنّ هؤلاء الأطفال كانوا في سنّ صغيرة جدًّا، ولذلك يموتون بسرعة أو على الأرجح يفقدون كلّ ذكرياتهم عن موطنهم الأصلي. ولعلّ من حسن حظّنا في حالة هيلينا، أنّها كانت في الحادية عشرة من عمرها وأنّها كانت بالفعل بيضاء ومنتمية إلى الغرب. ويتّضح من روايتها أنّها، بعد اثنين وعشرين عامًا، لم تنسَ تمامًا التحدّث بلغتها البرتغاليّة الأصليّة، وأنّها ما تزال تفهمها بشكل جيّد. ولنلاحظ أنّها كانت ما تزال قادرة، بعد سنوات عديدة من أسرها، على تلاوة بعض الأدعية الدينيّة كلّما وجدت نفسها في موقف حرج. أمّا لو كانت من ناحية أخرى، أكبر سنًّا، أي تقريبًا في سنّ البلوغ (بالنسبة لفتاة)، فالراجح أنّها لم تكن لتتحمّل هذه الصدمة كما لو كانت أصغر، وأن لا تحدوها تلك الإرادة المذهلة في العيش بما سمح لها بتجاوز صعوبات لا تكاد تُصدّق، وأن تخرج منها سالمة آمنة. لقد اضطرّت وهي لم تزل بعد دون سنّ البلوغ، إلى الفرار من شابونو (منزل جماعي)، لمختطفيها، وعاشت سبعة أشهر بمفردها في الغابة، وحاولت دون جدوى إيقاد نار تتدفّأ بها بحكّ أعواد الخشب ببعضها كما يفعل الهنود، وهو ما يعني أنّ عمرها وشخصيّتها هما بالتأكيد ما سهّلا الأمر عليها. ودعونا لا ننسى قبل كلّ شيء أنّ الأمر يتعلّق بامرأة، أي بكائن أقلّ هشاشة بما لا يُقاس من الرجل، وبمعنى آخر، فإنّ الأمر لو كان متعلّقًا بصبيّ في نفس عمرها، فإنّ الاندماج في العالم الهندي قد لا يكون بمثل تلك السهولة.
بعد وقت قصير من أسرها، التقت الفتاة صبيًّا برازيليًا في عمرها، اختُطف مؤخّرًا هو أيضًا، لكنّه اختفى ولم تسمع عنه مرّة أخرى. ذلك أنّ المرأة المخطوفة تُمثّل ثروة إضافيّة للجماعة الهنديّة، فهي هديّة ألقت بها السماء ومكسب غير متوقّع، بينما يُنظر إلى الرجل باعتباره يستحوذ على النساء دون أن يُعطي شيئًا بالمقابل؛ ولذلك لا مكسب للجماعة مبدئيًّا في تركه حيًّا.
وعلى طول الكتاب، سنلاحظ أنّ هيلينا فاليرو كانت في مواجهة العالم الهندي بقدر ما كانت ضمنه، ولذلك نكتشف فيها قدرة كبيرة على الملاحظة والاندهاش، وميلاً إلى التساؤل والمقارنة. وقد تمكّنت هيلينا من ممارسة هذه المواهب النياسيّة (الإثنوغرافيّة) ، أتمّ معنى الكلمة، لأنّها لم تسمح لنفسها بالذّوبان في الحياة الهنديّة، واحتفظت ببعض المسافة تجاهه، وبذلك ظلّت دائمًا ناباغنوما (Napagnouma)، أي «ابنة البِيض»، لا في نظر رفيقاتها اليانواما فحسب، بل وفي نظر نفسها أيضًا. بل هذه النياسة (الإثنوغرافيا) البرّية التي مارستها بطلتنا وصلت أحيانًا إلى حدّ الرفض؛ وعلى سبيل المثال، فقد ظلّت متشككة لفترة طويلة جدًّا حيال معتقدات الهنود الدينيّة ووجود الهيكورات (Hékoura)، أي «أرواح» النباتات والحيوانات والطبيعة التي تُلهم الشامان [الساحر العرّاف]، وتحمي الناس. «لقد سألتني النساء: ألا تُؤمنين بذلك؟ أجبتهنّ: لا، أنا لا أومن بذلك، فأنا لا أرى شيئًا ولم يسبق أبدًا أن رأيت هيكورة». بل إنّ بعض الممارسات كانت تُثير فيها اشمئزازًا لا يخفى على الهنود ولا يخلو من بعض التهوّر، وخاصّة تجاه طقوس أكل لحوم الأقارب الذي يتمّ خلالها استهلاك رماد عظام الأقارب المتوّفين. وهنا تظهر، في أكثر أبعادها عُرْيًا، تلك السِّمة الملازمة لثقافتنا، وهي الرعب الذي يُثيره أكل لحوم البشر. وقد تحدّثت هيلينا عن الجدل الذي خاضته مع زوجها حول هذا الموضوع، إذ قال لها: «أنتم تضعون أقاربكم تحت الأرض ليأكلهم الدّود. أنتم لا تحبّون أهاليكم». وقد اعترضت عليه ببسالة قائلة: «ما أقوله صحيح. أنتم تحرقون الجسد، ثمّ تجمعون العظام وتدقّونها. أنتم تجعلون الميّت يُعاني حتى بعد وفاته، وتضعون رماده في ثريد الموز وتأكلونه. ثمّ تذهبون بعد أكله إلى الغابة لإخراج فضلاتكم، وكأنّه ما يزال يتعيّن على تلك العظام أن تكون فضلات. نظرَ إليّ التوشاوا (touchawa) [الزعيم]، بجدّية وقال: عسى أن لا يسمعك أحد تقولين هذا».
هذه الحقائق وغيرها كثير، تدلّ على أن هيلينا احتفظت بقدر معيّن من الحريّة في علاقتها بالهنود، وأنّها بذلت جهدًا دائمًا في الحفاظ على اختلافها معهم. وهذا يعني أنها لم تتخلَّ تمامًا عن فكرة العودة إلى عائلتها، باستثناء، ونُؤكّد على هذا، خلال الفترة التي عاشت فيها مع زوجها الأوّل فوسيوا (Fusiwe).
في الجزء الثاني من روايتها، ترسم هيلينا لزوجها الأوّل صورة مليئة بالدفء والمودّة، دون أن تخلو كذلك من مرارة ، وهي صورة تطلّ منها شخصيّة كاسحة لبطل قديم. ولا شكّ عندي في أنّ أندري تيفي (André Thevet)، الذي عرض في كتابه سير الأعلام اللامعين (Pourtraicts des hommes illustres) سيرة «كونيامباك» (Coniambec)، الزعيم الكبير لقبيلة التوبي-نامبا (Tupi-namba) الهنديّة، كان سيضيف سيرة رجل مثل صاحبنا فوسيوا. ولعلّ ما يتّسم به حديث هيلينا عن زوجها من تواضع ورصانة، وهما من ميزات الهنود، يُبرزان عمق الرابطة التي جمعتها بهذا الرجل، على الرغم من نوبات الغضب التي كانت تنتابه أحيانًا، كما حدث عندما ضربها بهراوة وكسر ذراعها. وتذكر أنّها قالت لفوسيوا حين تزوّجها: «سأبقى مع النامواتيري (Namoeteri)، ومنذ ذلك اليوم لم أعد أحاول الفرار. لقد كان فوسيوا عظيمًا وقوّيًّا».
***************
هذا في ما يتعلّق بهيلينا فاليرو. ماذا يمكننا أن نقول عن الأفق الأسطوري الذي شكّل مسار حياتها؟ إنّه لمن الأسطوري حقًّا أن تعود هذه المرأة من الغياهب على غرار عودة يوريديس (Eurydice)، من العالم الآخر كما تروي الأساطير اليونانيّة، بل هي عودة من عالمين إن جاز القول، أوّلاً لأنّ المجتمعات البدائيّة مثل مجتمعات هنود اليانواما تُشكّل الحدّ بين حضارتنا وما وراء حضارتنا، وقد تكون لهذا السبب بالذات المرآة التي تعكس صورة حضارتنا، ثمّ لأنّ تلك الحضارات نفسها قد ماتت بالفعل أو هي قيد الاحتضار. ومن هنا، فإنّ عودة هيلينا كانت تحمل هذين المعنيين، وبذلك ظلّت ناباغنوما [ابنة البِيض].
فماذا عن اليانواما؟ إنّ ما يتضمّنه الكتاب من توصيف نياسيّ لهذه القبيلة هو من الثراء بحيث يغدو من الصعب الإتيان على جميع ما حواه من تفاصيل حول مختلف جوانب حياة هذه الجماعات، ومن ملاحظات كثيرة قد تبدو عابرة لكنّها عميقة ودقيقة.
فلنبتعد إذن، عن التفاصيل التي عرضتها القصّة رغم ثرائها، ولنقتصر على الإشارة إلى بعض السِّمات البارزة، بغرض اقتراح مسألة، إن لم تكن تخلو من فائدة، فإنّها ستكون في جميع الأحوال مثيرة للفضول. وتتعلّق هذه المسألة بالامتناع عن أيّ قراءة أخرى غير قراءة اليانواما، وترتيب وتحليل جميع المعطيات الأوليّة التي تتضمنّها من أجل استخلاص نتائج نُقارنها مع ما توصّل إليه إيتوري بيوكا [كاتب السرديّة]، في المجلّدات الأربعة التي كرّسها لهؤلاء الهنود، أملاً في أن تكون المقارنة مثمرة.
لقد جذبت مسألة أكل لحوم الأقارب انتباهنا بشكل خاصّ. وهذه حقيقة نعرفها منذ فترة طويلة، كما نعرف أنّ سكّان منطقة شمال غرب الأمازون يُمارسون أكل لحوم البشر خلال طقوسهم، ولكن بشكل أخفّ ممّا يتمّ في مناطق أخرى. فما أن يموت أحدهم، حتّى تُوضع جثّته داخل سلّة وتُعلّق فوق شجرة إلى أن تتحلّل ويختفي اللحم، أو تُحرق الجثّة على الفور. لكن في جميع الأحوال، يتمّ جمع العظام وتحويلها إلى مسحوق، وحفظها داخل قثّاءة مفرغة. وكلّما ظهرت الحاجة إلى إقامة احتفال، يُخرج نصيب من ذاك المسحوق ويُمزج بالموز المهروس، قبل أن يُؤكل. ومن المدهش أن نسمع على لسان أناس قبيلة اليانواما نفس النظريّة التي يقولها أناس قبيلة الغاياكي بشأن أكل لحوم الأقارب. إلاّ أنّ أكل لحوم البشر عند الغاياكي، وهو أمر شائع عندهم، هو النظير المعاكس لما نجده عند اليانواما، حيث يأكلون اللحم المشوي ويتركون العظام المحترقة. لكن في كلتا الحالتين، يدرك الفكر البرّي هذه الطقوس كوسيلة تصالح بين الأحياء والأموات. كما نُلاحظ أيضًا عند هاتين القبيلتين، أنّ أكل الأقارب المتوفّين يتمّ بشكل جماعي في الأعياد الكبيرة وأنّهم يدعون لذلك الأصدقاء حتّى البعيدين منهم، وأنّ الإنسان المأكول، أكان في شكل مسحوق عظام أو لحم مشوي، لا يُؤكل إلّا مخلوطًا بمادّة نباتيّة، وهي الموز المهروس عند اليانواما، ولُبّ جوزة نخيل البيندو (pindo) عند الغاياكي. ومن هنا، فإنّ أكل لحوم الأقارب ينخرط ضمن فضاء حضاري متجانس ينبع بالتأكيد، على الرغم من اختلاف الشكل، من نظريّة واحدة. فهل يمكننا تطوير مثل هذه النظريّة دون أن نُدخل فيها أيضًا أكل لحوم الأغيار (exocannibalisme)، كما يُمارس على سبيل المثال عند قبائل التوبي-غواراني (Tupi-Guarani)؟ ثمّ ألا ينتمي كلا شكليْ أكل لحوم البشر بدورهما إلى نفس الحقل الذي يشمله هذا التحليل؟ إنّ فرضيّة فولهارد (Volhard)، وبوغلار (Boglar) ([3]*)، التي تربط بين أكل لحوم الأقارب في شمال الأمازون و«الزراعة المبتدئة»، ليست مقنعة تمامًا بأيّ حال من الأحوال. وقد تُلقي البحوث الجارية حاليًّا مزيدًا من الضوء على هذه النقطة (يظلّ عنوان أحد فصول الكتاب غامضًا في نظرنا: «أكل لحوم الأقارب والتخلّص من الأرامل»، حيث لا يتحدّث الفصل عن أيّ من المسألتين أو أيّ علاقة بينهما على الإطلاق).
كما لا يخلو الكتاب أيضًا من إشارات عديدة قد تُعين على مزيد فهم موضوع الشامانيّة عند قبيلة اليانواما، حيث يمكن للمرء أن يقرأ فيه وصفًا كاملًا ودقيقًا للعلاجات التي يقوم بها الشامان اليانواما، ونقلاً حرفيًّا لنصوص أغانيهم التي يستحضرون بها الهيكورات، أي «الأرواح» حامية البشر.
ولكي يغدو المرء شامانًا، يجب عليه أن يكون عارفًا بالأغاني المخصّصة لاستحضار جميع الهيكورات. ويظهر لنا أحد فصول الكتاب بدقّة كيف يتعلّم الشبّان هذه المهنة، تحت إشراف صارم من السحرة الشيوخ. ولا يخلو تعلّم هذه المعارف من صعوبات جمّة، مثل الالتزام الكامل بالعزوبيّة، والصوم، والاستنشاق المتكرّر لمسحوق اليابينا (yépêna)، ذاك المخدّر المسبّب للهلوسة والذي يستخدمه اليانواما بكثرة، وبذل جهد ذهني دائم لحفظ الأغاني من الشيوخ، وهذا ما يًصيب المبتدئ بحالة من الإرهاق الجسدي والنفسي، وهي حالة ضروريّة للحصول على رضى الهيكورات واستحقاق نِعَمِها: «أبتاه، هاهي الهيكورات تأتي نحوي؛ إنّها كثيرة. إنّها تأتي إليّ وهي ترقص، يا أبي. الآن نعم، الآن، أنا أيضًا سأغدو هيكورة! …». ومن الخطأ الجسيم النظر إلى الهيكورات وفق رؤية أداتيّة: فهي ليست مجرّد أدوات محايدة موجودة خارج الشامان الذي يكتفي باستدعائها واستخدامها وفقًا لاحتياجاته المهنيّة، بل هي تتوحّد به حتّى تغدو جوهر أناه، وأصل وجوده، والقوّة الحيويّة التي تحفظه في آنٍ في دائرة البشر وفي نشاط الآلهة.
ولعلّ ما يُلخصّ هذا الوضع الوجودي للشامان هو أحد الأسماء التي تُطلق عليه، وهو »الهيكورة« تحديدًا. كما يظهر ذلك بوضوح أيضًا في النهاية الرصينة والمأساوية لشابّ شامان أصيب بجروح قاتلة بضربة سهم: »التفت نحو والده، وغمغم:”أبتاه، آخر هيكورة ظلّت إلى جانبي وجعلتني حيًّا إلى حين وصولك، هي الباشوريوي (Pachoriwe) [هيكورة القرد]، وهي تتخلّى عنّي الآن” […]، ثمّ التصق بجذع الشجرة، وتيبّس جسمه وسقط ميْتًا«. ما الذي يُمكن أن تقوله المفاهيم الحاليّة لظواهر الشامانيّة حول هذا الأمر؟ وما الذي »يمتلكه« هذا الشابّ وسمح له بتأجيل وفاته عدّة ساعات حتّى تمكّن من إلقاء نظرة أخيرة على والده، وأن لا يموت إلاّ بعد تحقّق أمنيته الأخيرة؟ في الواقع، لا يبدو أنّ المقولات الهزيلة للفكر النياسي قادرة على سبر أغوار الفكر الأهلي ومدى كثافته، بل هي ببساطة عاجزة عن تمثّل اختلافه. وهكذا تُفلت الإناسة من بين يديها، باسم يقينيّات تافهة، مجال بحث تتعامى عنه (مثل النعامة، ربما؟)، وهو مجال تعجز فيه عن تحديد مفاهيم مثل النفس والروح والجسد والنشوة، إلخ، والحال أنّه يطرح في الصميم مسألة الموت.
وقد أرادت الأقدار أن تجعل من هذه الناباغنوما زوجة خامسة لزعيم يُدعى فوسيوا، إضافة إلى زوجاته الأربع، دون أن تكون الأخيرة. بيد أنّها كانت بشكل واضح الزوجة المفضّلة لديه، حتّى أنّه شجّعها على أن تتسيّد الأخريات، وهو الأمر الذي كرهته بشدّة. ولكن المشكلة لا تكمن هنا. فما أثار اهتمامنا الكبير هو أنها ترسم، وهي تتحدّث عن زوجها، الصورة ذاتها للزعيم الهندي كما يظهر بشكل متكرّر في جميع أنحاء قارّة أمريكا الجنوبيّة.
فنحن نجد في هذا الكتاب نفس السّمات التي تُميّز عادةً نموذج السُّلطة السياسيّة والزعامة عند الهنود: الموهبة الخطابيّة أو الغنائيّة، والكرم، وتعدّد الزوجات، والشجاعة، إلخ. ولا يعني ذكر هذه الأمور المشتّتة عدم وجود نظام يجمع بين هذه الخصائص أو عدم وجود منطق يجمعها معًا في كلّية ذات معنى، بل الأمر على العكس من ذلك تمامًا. ولعلّه يكفي أن نقول إنّ شخص فوسيوا يُوضّح تمامًا المفهوم الهندي للسُّلطة، وهو مفهوم يختلف اختلافًا جذريًّا عن مفهومنا لها من حيث أنّ مجمل جهد الجماعة يميل بشكل خاصّ إلى فصل الزعامة عن الإكراه، وبالتالي إلى جعل السُّلطة بمعنى من المعاني، عاجزة.
وبشكل ملموس، فإنّ الزعيم – القائد أو المرشد كما يجب أن نُسمّيه بالأحرى – ليس له أيّ سُلطة على قومه، سوى السُّلطة التي تُوحي بها هيبته وما تستدعيه من احترام. وهنا تُولد لعبة خفيّة ودقيقة بين الزعيم وجماعته، وهي لعبة يمكن قراءتها بين سطور قصّة هيلينا، وتتمثّل بالنسبة للزعيم في القدرة على سبر نوايا الجماعة وتقديرها في كلّ لحظة، حتى يُصبح بعدها الناطق باسمها. وهذه بلا شكّ مهمّة حسّاسة تقتضي نباهة، ويتعيّن إنجازها تحت رقابة الجماعة التي تقوم بذلك في سرّية، ناهيك عن اليقظة التامّة. فإذا لاحظت الجماعة أدنى انحراف في استخدام السُّلطة (أي تجاوز أعراف السلطة)، قد يمسّ من هيبة الزعامة، فإنّها تتخلّى عن زعيمها لصالح شخص أكثر وعيًا بواجبات الزعامة. لقد أضاع فوسيوا نفسه لأنّه حاول إشراك قبيلته في حملة حربيّة رفضت الانخراط فيها، ولأنّه خلط بين رغبته الشخصيّة ونوايا الجماعة. لقد أصرّ بعد أن تخلّى عنه الجميع تقريبًا، على أن يشنّ حربه الشخصيّة إلى أن لقي في النهاية حتفه. لكن موته، شبه الانفرادي، لم يكن في الحقيقة سوى انتحارًا، فقد انتحر الزعيم الذي لم يستطع تحمّل خذلان رفاقه، وانتحر الرجل الذي لا يُمكنه أن يُواصل العيش كزعيم في نظر شعبه وامرأته البيضاء، ولذلك فضّل الموت كمحارب. إن مسألة السُّلطة في هذا النوع من المجتمعات، إذا عُرضت بما يُناسبها من عبارات، تتعارض مع النزعة الأكاديميّة للتوصيف البسيط (أي النظرة القريبة والمتواطئة مع أشدّ النزعات الغرائبيّة تسطيحًا). بل هي تُشير من طرف خفيّ إلى إنسان مجتمعاتنا، بأنّ الخطّ الفاصل بين المجتمعات الغابرة والمجتمعات «الغربيّة» قد لا يتمثّل في تطوّر التقنيات بقدر ما يتمثّل في تغيّر السُّلطة السياسيّة. وهنا أيضًا، يبرز مجال بحثي جديد من الضروري لعلم الإنسان أن يهتمّ به، وإلى أن يُفرد بمكانة خاصّة في الفكر الغربي.
ومع ذلك، يُوجد ظرف واحد تتسامح فيه المجتمعات الهنديّة حيال الاجتماع المؤقّت بين الزعامة والسُّلطة، وهو الحرب. ذلك أنّ لحظة الحرب قد تكون الوحيدة التي يُوافق فيها زعيم على إعطاء أوامر يُنفذّها رجاله (بعد فحص وتبيّن بالطّبع). لكن الحرب تكاد تكون حاضرة بشكل دائم في النصّ الذي يشغلنا، وهو ما يقودنا إلى التساؤل: ماذا ستكون، بعد القراءة، انطباعات قارئ قليل الإلمام؟ يبدو أنّها ستكون سلبيّة للغاية. فكيف سينظر إلى أناس لا يتوقّفون أبدًا عن قتل بعضهم بحماسة لا هوادة فيها، ولا يتردّدون في إمطار من كانوا بالأمس القريب أفضل أصدقائهم بوابل من السهام؟ حينها، ستنهار الأوهام حول الأخلاق السلميّة عند الهمجي الطيّب، لأنّنا لا نرى هنا، وبأتمّ معنى الكلمة، سوى حرب الكلّ ضدّ الكلّ، أي حالة ما قبل المجتمع كما يعتقد هوبز. لكن يجب أن نُوضّح أنّ حالة الطبيعة عند روسّو، ومقولة «حرب الكلّ ضدّ الكلّ» الخاصّة بهوبز، لا تتوافق أيّ منهما مع أيّ لحظة تاريخيّة محدّدة في التطوّر البشري، وهذا على الرغم من أنّ كثرة الأحداث الشبيهة بالحرب عند اليانواما قد تُوحي بعكس ذلك. أوّلاً، تمتدّ قصّة هيلينا فاليرو على مدى اثنين وعشرين عامًا؛ ثمّ إنّها قد تكون أعطت الأولويّة لسرد أشدّ ما أثارها من أمور، ألا وهي المعارك. وأخيرًا، دعونا لا ننسى، ودون التقليل من الأهميّة الاجتماعيّة للحرب في هذه الثقافات، أنّ قدوم البِيض إلى جميع أنحاء أمريكا، شمالها وجنوبها، قد أدّى بشكل يكاد يكون آليًّا إلى استفحال العداوات وتأجّج الحروب بين القبائل. بعد تقديم هذه التوضيحات، يبدو لنا أن مصطلح الحرب لا يُغطّي الوقائع بشكل مناسب. فمن هي الوحدات المتعارضة؟ إنّها جماعات محليّة متحالفة، أي جماعات تتبادل نساءها، وترتبط فيما بينها نتيجة ذلك بعلاقات قرابة. وقد يصعب علينا أن نفهم كيف يُفكّر الأصهار في المقام الأوّل في قتل بعضهم، ولكن يبدو واضحًا أنّنا يجب أن نُفكّر في «الحرب» عند هؤلاء الهنود انطلاقًا من تداول النساء اللواتي لا يُقتلن أبدًا. وعلاوة على ذلك، فإنّ اليانواما يعرفون جيّدًا كيف يستبدلون، كلّما أمكن ذلك، تراشق السهام في مواجهات دمويّة بضرب الهراوات في معارك طقسيّة تستنفد مشاعر الانتقام. وبهذا تصبح الحدود بين السلام والعنف، وبين الزواج والحرب، ضبابيّة للغاية، ولعلّ من المزايا العظيمة لهذا الكتاب هو تغذية هذه الإشكاليّة بشهادات حيّة لا تُضاهى.
***************
كلمة ختاميّة أخيرة
ماذا عن قارئ هذا الكتاب إذا كان عالم نياسة؟ لا شكّ أنّه سيجد فيه ما يُشبع عطشه المعرفي، لكنّه لن يرتوي منه حتمًا. ذلك أنّ خطاب رجل العلم، مقارنةً بفَوَرَان الحياة في مجتمع بدائي، أشبه ما يكون بخطاب شخصٍ متلعثم ثقيل اللسان، أضف إلى أنّه أعشى لا يُجيد النظر.
إنّه كتاب يتركنا للأسف حبيسيّ اليقين بأنّنا لا نتجاوز سطح المعاني، وهي معانٍ كلّما حاولنا الإمساك بها زادت ابتعادًا. لكنّ الأمر هنا لم يعد يتعلّق بعلم النياسة، وما دامت الأشياء باقية على ما هي عليه، فإنّ لغة العلم (وهي ليست هنا موضع تشكيك) ستظلّ – وقد يكون هذا قدرها – مجرّد خطاب حول البرّيين، لا خطاب البريّين أنفسهم. بيد أنّه لا يُمكننا أن نكون نحن أنفسنا الآخرين، وأن يكون الآخرون نحن، وأن يكون الجميع هنا وهناك في الوقت نفسه، دون أن نفقد كلّ شيء ونعيش في اللاّمكان. كما يرفض الجميع أيَضًا خدعة المعرفة التي ما إن تسعى إلى أن تكون مطلقة، حتّى تتلاشى في صمت.
المقال الأصلي:
Clastres (Pierre), « Une ethnographie sauvage », A propos de Yanoama, L’Homme, 1969, Vol. IX, n°1. pp. 58-65.
[1]* – Ettore Biocca, Yanoama. Récit d’une femme brésilienne enlevée par les Indiens, Paris, Plon, 1968.
[2] – هنا يبرز في رأينا الفرق بين وثيقة مثل كتاب يانواما، والسير الذاتيّة للسكّان الأصليّين التي جُمعت في أجزاء أخرى من العالم، وفي أمريكا الشماليّة على وجه الخصوص. فالمخبر الهندي، مهما كانت موهبته كبيرة ومهما كانت ذاكرته وفيّة، يظل حبيس عالمه، أو قريبًا جدًّا منه، أو على العكس من ذلك شديد البعد عند. ولأنّ عالمه قد دُمّر بسبب الاتّصال مع حضارتنا، فإنّ الكلام يغدو مستحيلاً، إن لم يكن قاتلاً. ولهذا استحال على أيّ هندي كتابة مثل هذا الكتاب، ومن هنا فرادته.
[3]* – إضافة من المترجم:
– إيوالد فولهارد (Ewald Volhard) [1900-1945]: عالم إناسة ألماني، وقد وضع النظريّة التي أشار إليها كلاستر ضمن كتابه: أكل لحوم البشر، شتوتغارت، 1939.
Volhard (Ewald), Kannibalismus, Stuttgart, Stricker und Schröder, 1939.
– لويس بوغلار (Luis Boglár) [1929-2004]: عالم إناسة مجري تبنّى نظريّة فولهارد نفسها في مقاله الشهير: “طقوس آكلي لحوم البشر في أمريكا الجنوبيّة”، في: منوّعات مهداة إلى بول ريفي في عيد ميلاده الثمانين، ج 2، مكسيكو، 1958، ص 67-85.
Boglár (Luis), « Ein endokannibalischer Ritus in Südamerika », Miscellanea Paul Rivet octogenario dicata, Vol. 2, México, 1958, pp. 67-85.