مقالات

تأمّلات من حياة تالفة (نصوص مختارة) – ثيودور أدورنو

ترجمة: علي محمود

مقدمة

في كتابه “الحد الأدنى من الأخلاق” أو “تأملات من حياة تالفة”، يفصح ثيودور أدورنو عن أحاديثه الداخلية بشفافية. غير أن أحاديث أدورنو الداخلية ليست كأي تأملات عابرة. هي تشبه، في تشكّلها وتصميمها، تأملات نيتشه مثلاً، أي أنها أفكار فلسفية ناتجة عن اشتغال فلسفي ونقدي جاد. يمثّل هذا الاشتغال الفلسفي أحد ركائز مدرسة فرانفكفورت النقدية، والتي ينتمي لها هو وهربرت ماركوز وماكس هوركهايمر مثلاً، وهم من أعادوا التفكير بشكل ناقد وجاد بمفاهيم متعددة، مثل الطبقات الاجتماعية وغيرها، في محاولة لفهم المآزق التي وصلت إليها ما تسمى بالنظرية الاجتماعية -والتي اتبعها من قبلهم الكثير وبالخصوص ماركس- قبل أن يطرحوا ما تسمى بالنظرية النقدية بديلاً.

أترجم هنا ثلاثة نصوص من الكتاب المذكور أعلاه، وهي تشكل نظرة سريعة على أفكار أدورنو المتعلقة بالطبقات الاجتماعية والرأسمالية وما يرتبط منها من ملكية للأفراد في ظل عالم رأسمالي، بالإضافة إلى ما أحدثته التقنية من تغيير لماهية الإنسان الحديث. ما يقدّمه أدورنو في النص الأول، وهو الذي يتحدث فيه عن ملكية الأفراد للمنزل بالمعنى التقليدي، هو بمثابة ما-بعد-المشكلة التي يحاول ماركس أن نتجاوزها -والتي لم وربما لن نتجاوزها في أي وقت قريب- من خلال إلغاء الملكية الخاصة، وذلك عبر اعتباره الرأسمالية أمرًا واقعًا غيّر حتى من نظرتنا للمنزل كماهية. يذهب أدورنو هنا إلى توصيف المعضلة الناتجة من الرأسمالية نفسها بدلاً من البحث عن حل لها، وذلك ما تقدمه النظرية النقدية إلى حد ما. أي، ما الذي يعنيه أن نبحث عن منزل لنستقر فيه؟ وما هي الأثمان التي يدفعها الإنسان في العصر الحديث والتغيرات الطارئة على هذا العصر السريع والطاحن من أجل أن يملك منزلًا يستقر فيه؟ هذا ما يتساءل عنه أدورنو في ظل الهاجس الذي لا يمكنه التخلص منه هنا، وهو البحث عن طريقة ليعيش فيها بالشكل الأخلاقي الأمثل في ظل استحواذ الرأسمالية على كل منحى من مناحي الحياة.

وفي نصّيه الثاني والثالث، يحاول أدورنو أن يقبض على ما يربط الفاشية الوظيفية بالتقنية الحديثة. لا تنفصل التقنية عن كلًا من الرأسمالية وأساليب الإنتاج الحديثة التي شكّلت إنسانًا يستنكره أدورنو، إذ يبدو أدورنو حالمًا ونوستالجيًا للإنسان القديم والبنى التي تشكّل بها وانقضت. كما أنه يتساءل عن الفارق بين الفردي والجمعي، قبل أن يقدّم ادعاءً بأن الأكثر فرادة هو الأكثر جمعية في نصّه الأخير.

لا تقدّم النصوص المترجمة هنا أدق صورة عن أدورنو بالضرورة، لكنها مقدمة للغته الصعبة وطريقة تفكيره المعقدة التي تربط تجربته الشخصية من جانب بما هو مجرد من اشتغاله الفلسفي الجاد من جانب آخر. ولذا نأمل أن يجد فيهما القارئ والقارئة ما يقرّبه ويقرّبها من العالم المعقد والمهم الذي يهتم ويشتغل فيه ثيودور أدورنو.

 

“(18)

ملجأ للمشردين.

يتضح مأزق الحياة الخاصة اليوم في حلبتها. أصبح المسكَن بمعناه اللائق مستحيلاً. أصبحت المنازل التقليدية التي نشأنا فيها غير ممكنة التحمّل، إذ يكلّفنا كل شكل من أشكال الراحة فيها فرصة للمعرفة، كما أن كل أثرٍ لمأوى فيها يكلّفنا ميثاق مصالح عائليٍّ قذر. صُمّمت المنازل الوظيفية الحديثة مما يسمى بـ”لوح فضاء” (Tabula Rasa). [1] وهي مثال حّي تم تصميمه من قبل الخبراء لغيرهم من الرعاع والبسطاء أو من قبل المصانع التي اتخذت طريق الاستهلاك المنفصل عن أي شيء ذي رابطة بالنازل. حتى الحنين الحميم في هذه المنازل يُصنع دون أن يكون ذا أي مغزى. هذا في ظل تقرير مجلة ألمانية بمازوخية رسالية أن الرجل الحديث يتمنى أن ينام على مستوى يكاد يكون بانخفاض الأرض بجانب هتلر كالحيوانات، ماحيًا بسريره الحد الفاصل بين اليقظة والحلم. يبقى الأرِقون متأهبين للاستدعاء في أي لحظة ومن أجل أي شيء بلا مقاومة، منتبهين لكن دون وعي في الوقت ذاته. كل من يرنو مسكنًا حقيقيًا بطراز العصر مع نية دفع ثمنه يحنّط نفسه حيًا. وبالمقابل، إن محاولة الهروب من مسؤولية الحصول على السكن الخاص من خلال السكن في فندق أو غرف مفروشة، تجعل الظروف القاهرة للهجرة والحركة المستمرة عادةً حكيمٌ اختيارها. غير أن الضربة الأقسى في أي مكان يتلقاها من لا خيار لهم. إن لم يعش هؤلاء في أحياء مدقعة فقيرة، فهم يعيشون في أكواخ أو مقطورات أو سيارات أو مخيمات أو حتى في الهواء الطلق. أصبح البيت جزءًا من الماضي. لم يكن تضخّم المدن الأوروبية، وتكوّن الطبقة العاملة ومعسكرات الاعتقال والمخيمات المكثفة أيضًا، إلا مُنَفّذَين لما كانت ستؤول إليه البيوت مع التطور التقني الهائل. لم تعد المنازل صالحةً إلا لترمى كعلب الغذاء القديمة. أبادت المجتمعات الاشتراكية إمكانية وجود المنازل بالمعنى التقليدي، وهي التي يستنزف نفيُها مرتكزاتِ الحياة البرجوازية. لا يمكن لأي فرد أن يقاوم هذا المنحى. كل ما عليه هو أن يهتم بالتأثيث والديكور الداخلي فيجد نفسه مطورًا أحاسيس هاوٍ للفن وللحِرَف اليدوية، مهما كان رفضه للفن والحرف بالمعنى المحدود لهما حازمًا. حينما يُنظر إلى هذه الفنون من بُعد أساسًا، يكاد أن لا يكون هنالك فرق بين معامل فيينا وباوهوس (Bauhaus) .[2] فقد حازت توجهات ذات ميول وظيفية مجرّدة فُرّغت من غاياتها على نفس الدرجة الجمالية التي نجدها في التركيب الأساسي للتكعيبية. ولمواجهة كل هذا، يبدو أن أفضل مسلكٍ هو مسلكٌ مُتجاهل ولم يُسلك بعد: أن نعيش حياة خاصة للحد الأقصى الذي يتحمّلانه النظام الاجتماعي وحاجات الفرد، وذلك دون جعلها حملًا ثقيلًا كما لو أنها ضرورية اجتماعيًا وملائمة فرديًا. يقول نيتشه في العلم المرح: “بل إنه جزء من حظي أنني لا أملك منزلاً”. يجب علينا اليوم أن نضيف: إنه لجزء من الأخلاق ألا نشعر بالسكنى حينما نكون في بيتنا الخاص. هذا ما تدل عليه الصعوبة العلائقية التي يواجهها الفرد أمام ممتلكاته، إن كان يملك شيئًا أصلاً. إن الحل الممكن هو في أن نضع بعين الاعتبار وأن نعبر عن حقيقة أن الممتلكات الخاصة لم تعد تخص أي أحد، إذ أن الوفرة البالغة للمنتجات الاستهلاكية لا تسمح لأي فرد بحق التشبث بمبدأ المحدودية والخصوصية. لكنها في الوقت ذاته تحتم على الفرد أن يحوز على ممتلكات إن لم يرد أن يغرق في الاتكالية وفي الاحتياج، مما يخدم الاستدامة العمياء للعلاقات الملكية. غير أن أطروحة هذه المعضلة تقود إلى الدمار، إلى تجاهل خال من أي حب للأشياء، مما ينقلب ضد الناس بالضرورة. في حين أن الأطروحة المقابلة للأولى حالًا آيديولوجيّة أولئك الذين يتمنون أن يحافظوا على ما يملكون دون ضمير. لا يمكن أن تُعاش الحياة الخاطئة بشكل صحيح.

 

(19)

لا تطرق.

تصبح الإيماءات بفضل التكنولوجيا دقيقةً ووحشيةً، كما يصبح معها الإنسان. إنها تقصي من الأفعال تردُّدَها ومقاصدها وحضاريّتها بالكامل. هي تُخضِعُ الأفعال إلى المطلق كما لو كانت تفاعلات لا-تاريخية ناتجة من إلحاح الشيء بذاته. ولهذا، فُقدت القدرة مثلاً على إغلاق الباب بحزمٍ بهدوء وحذر. حيث أن أبواب السيارات والثلاجات لا بدّ أن تُصفع، وغيرهما غالبًا ما يغلق نفسه، وهذا ما يخلق لدى من يدخل عادةَ عدم النظر السيئة لما ورائهم عند الدخول، عادة عدم الاهتمام بحفظ وحماية داخل المنزل الذي يستقبلهم. لا يمكن فهم نوع الإنسان الجديد دون الانتباه إلى ما يتعرّض إليه باستمرار من عوالم الأشياء التي تدور حوله، حتى في أعمق نقطة بأعصابه. ما الذي يعنيه للإنسان أنه لم يعد هنالك نوافذ بابية ليفتحها، وما تبقى هو إطارات منزلقة ليدفعها فقط؟ ولا وجود لمزلاج ناعم وإنما مقبض يدور؟ لا فناء أمامي، ولا عتبة باب تسبق الشارع، ولا حتى جدار يحيط بالحديقة؟ وأي سائق هذا الذي لا تغريه قوة محركه لينسف المشاة والأطفال والدراجين؟ إن الحركات التي تطلبها الآلات من مستخدميها تحمل بالفعل عنف وقسوة وحركة الدفع الاضطرابية كالتي نجدها في سوء المعاملة الفاشية. وفيما يتعلق بذبول التجربة، تُوجه أصابع اللوم لحقيقة أن الأشياء، في ظل قانون الوظيفية المحضة، يفترض منها أن تحصر معنى التواصل إلى ما هو وظيفي حصرًا، ولا تحتمل إضافةً على هذا المعنى لا في حرية التصرف، ولا في سيادة الأشياء، وهما اللتان تنجوان في جوهر التجربة الإنسانية لأنهما ما لا تُستهلكان في لحظة الفعل نفسها.

 

(23)

المجموع فقط.

إذا كان المجتمع هو التمثل العام للضجيج، كما تنصّ نظرية حديثة، فإن أكثر نموذج صادق له هو النقيض التام مما هو جمعي، أي الفرد في موناديته. عبر تقصي ومعرفة منتهى مصالح كل فرد، يُمكن للطبيعة الجمعية في مجتمع مختل أن تُدرس بشكل أدق. وليس بعيدًا عن الصحة أبدًا أن نعتبر تنظيم النزعات المتفرّدة تحت أسبقيّة الذات بوصفه إجابة على مبدأ الواقع (Reality Principle)،[3] وذلك باعتبار هذه النزعات، منذ البدء، مثل فرقة لصوص، بقائد وأتباع واحتفالات وحلف بالولاء وخيانات وتضارب مصالح ومؤامرات وكل ما يتبع ذلك. كل ما على المرء هو أن يلاحظ التفجّر الذي يساعد الفرد على تعزيز ذاته في مقابل محيطه، كالغضب مثلاً. يظهر الرجل الغاضب كقائد العصابة الخاصة التي بداخله، وهو الذي يأمر لاوعيه بعدم القيام بأي لكمة، وعيناه تشعان بالرضا لحديثه للجمع الذي هو عليه. كلما ازداد اعتناق الفرد لسبب عدوانيته ازداد كمال تمثيله لمبدأ القمع بالمجتمع. ربما يصح بهذا المعنى أكثر من غيره القولُ بأن الأكثر فردية هو الأعم”.

 


 

[1] وهي هنا قد تأتي بمعنى الصفحة الفارغة أو البيضاء، في إشارة إلى أنها تفتقد إلى أي رابطة ثقافية فعلية.

[2] باهاوس (Bauhaus). إحدى المدارس الفنية الألمانية، والتي على النقيض من معامل فيينا، تحاول أن تدمج وتخلق ما هو جميل ومفيد في الآن ذاته. في الحين الذي ترنو معامل فيينا، وهي الأكثر شهرة، إلى خلق تصاميم فنية حداثية خالصة.

[3] مبدأ الواقع (Reality Principle)، هو مصطلح فرويدي يُستخدم في التحليل النفسي. وهو قدرة الذهن على الفهم والتعامل بناء على الواقع الخارجي، وذلك بمعزل عن الفهم والتعامل بناء على مبدأ اللذة الفردية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى