
«سوف نصنع شيئًا بمثابة إله، حرفيًا» هذا ما قاله أنثوني ليفاندوسكي -زعيم دين يُدعى «طريق المستقبل»- لمجلة وايرد. «هو ليس إلهًا كالآلهة التي تُرسل الرعود والعواصف، ولكنّه شيء أذكى من أذكى البشر مليار مرة؛ فما عسّى أن تُسمّي ذلك؟»
يرى ليفاندوسكي نفسَه نَبيّ الذكاء الاصطناعي، وتترقب ترقّبًا دينيًا طائفتُه الناشئة حديثًا قوةَ التقنية مستقبلًا؛ التقنية التي يزعم شبهها بالإله. لعلّ هذه الوثنيةَ التقنية حالةٌ شاذة، ولكن إنْ لم يُصَدّق أغلب الناس أن الذكاء الاصطناعي ممكن الآن؛ فإنهم سيصدّقون ذلك في المستقبل القريب.
إنّ الفهمَ الشائع عن الذكاء الاصطناعي مفادُه أن الذكاءَ الاصطناعي سيفكّر كما يفكّر البشر، وسيتواصل مع البشر كتواصل البشر مع بعضهم بعضا؛ تواصلًا لا تكادُ تفرّق بينه وبين الإنسان الحقيقي، وهذا المستوى من التطوّر يُسمّى عادةً «الذكاء الاصطناعي الشامل». وها نحن نشهد منذ الآن أساطير التطورات التقنيّة التي ستقود إلى حواسيب تبلغ مستوى قدراتنا الإدراكيّة -بل وتَعي ذاتها-.
يُطلق على حدث بلوغ الذكاء الاصطناعي الشامل «التفرّد«؛ وهو حدث لم يسبق له مثيل في التاريخ البشري. يرى البعض هذا الحدث على أنه نهاية البشرية، بينما يراه آخرون بدايةً جديدة. ويُعدّ «اختبار تورينغ» المعيار البسيط في اختبار بلوغنا هذا النوع من الذكاء الاصطناعي الشامل من عدمه؛ وهو اختبار قدّمه آلان تورينغ؛ وغايته معرفة هل سيخطئ الإنسان في اعتبار آلةٍ ما إنسانًا آخر حين يتبادل معها الرسائل؛ أي، بمبادلتِها الحوار؟
ولكن هل تُفكّر الآلات؟ أيُمكنُ أن يكونَ الذكاءُ اصطناعيًا؟ وما «الذكاء» أصلًا؟
لقد شغلت هذه الأسئلة بال أحد فلاسفة القرن العشرين، لودفيج فيتجنشتاين، الذي فكّر في الذكاء الاصطناعي قبل عدّة سنوات من تقديم اختبار تورينغ.
يتأسس الذكاء الاصطناعي الشامل على نظرية في العقل مفادها أن العقلَ هو الدماغُ، والدماغ جهاز معالجة بيانات، وتُعرف هذه النظرية باسم «نظرية العقل الحاسوبيّة».
ولكن ما جعل فتغنشتاين -في نظر العديد من الفلاسفة- أهمَّ فيلسوفٍ في القرن العشرين هو توضيحه أننا غارقون حتى أخمص قدمينا في شبكة اللغة، وفي المشاكل التي تُبرِزُها لبعض أهم جوانب الإنسان؛ بما فيها العقل، والوعي، والذكاء، و«نظرية العقل الحاسوبيّة» قد لا تكون مؤهلة لتفسير هذه الجوانب الإنسانية. وبعبارة جامعة: إنّ فكرةَ الذكاء الاصطناعي الشامل خاطئة لأنها لا تشابه الذكاء في شيء.
التلميذ
وُلدَ فتغنشتاين في فيينا في أبريل عام 1889 حينَ كانت المدينة النمساويّة المركز الثقافي والاقصادي للإمبراطورية النمساوية المجرية. ولقد كان والده -كارل فتغنشتاين- صاحبَ مصنع، ومن أثرياء أوروبا؛ حيث كانت في يديه صناعة الحديد في الإمبراطورية.

يُعرف منزل العائلة بـ «قصر آل فتغنشتاين»، إذ كان قصرًا فخمًا مَثّلَ مكان تجمّع المثقفين والفنانين القريبين من والديّ لودفيج؛ إذ قدّم فيه برامز ومالر حفلات موسيقية، وكُلّف النحّات أوغوست رودان والرسّام غوستاف كليمت بنحتِ ورَسمِ أعمال فنيّة للعائلة.
ولم يكن آل فتغنشتاين سعداء، على الرغم من هذا الرخاء والثراء الفاحش. علّم كارل أبناءه تعليمًا منزليًا، وقد كان رجلًا قاسيًا مهووسًا بالكمال أراد من أولاده الخمسة أن يتعيّنوا في مناصب هامة في إمبراطوريته التجارية. اِنتحرَ ثلاثة منهم؛ اثنين من هؤلاء انتحروا حين كان لودفيج طفلًا صغيرًا. وقد هَرب لودفيج من أجل أن يتلقى تعليمًا جامعيًا، أما الأخ الوحيد الذي بَقي على قيد الحياة «بول» فقد أصبح عازفَ بيانو معروفًا عالميًا.
تَلقى لودفيج تعليمًا تقنيًا في البداية ليصبح مهندسًا، لكن حبَّه للرياضيات جذبه إلى جامعة كامبردج لكي يدرسَ الرياضيات والمنطق على يد الفيلسوف برتراند راسل عام 1911. وراسل ألّف بالتعاون مع ألفريد وايتهيد كتاب «مبادئ الرياضيات»؛ إحدى العلامات الفارقِة في أسس الرياضيات.
لقد نضج فتغنشتاين نضجًا مُبكرًا؛ إذ أجرى حوارات مع راسل وغيره من فلاسفة كامبردج الكبار في عامه الأول هناك، وسرعان ما فاق كتابات وفلسفة أستاذه.
كَتب راسل إلى عشيقته «السيدة أوتولاين» قائلًا إن نقد فتغنشتاين لأعماله كان «حدثًا بالغ الأهمية في حياتي، وقد ترك أثره على كل شيء قمت بها منذ ذلك الحين. رأيتُ بأنه مُحق، ولم أعد أرغب في تأليف عملٍ تأسيسي في الفلسفة مجددًا».
طوّر فتغنشتاين أفكاره حول اللغة والمنطق في مستهلّ العقد الثاني من القرن العشرين. لقد اِعتقدَ بأن اللغة تُمثّل العالم؛ حيث تُشير الكلمات إلى الأشياء، والجمل تُعبّر عن حقائق تحتمل الصحّة والخطأ، ولكي يؤكدّ هذه الفكرة، كتبَ قائلًا: «إنّ حدودَ لغتي حدودُ عالمِي».
وهذه الفكرة مُستهلمة جزئيًا من قضايا المحاكم حيث تستعمل مجسّمات توضع على الطاولة لإعادة تصوّر الحدث المتعلّق بالقضية. وعادةً ما تُسمى هذه الفكرة «نظرية الصورة للمعنى»؛ وذلك لأن الجملة -وما يُكوّنها من «حقائق ذريّة»- تُمثّل حالة الأشياء وكأنها صورة لهذه الأشياء؛ كما يُزعم. وقُد قُدّمت هذه النظرية في كتاب فتغنشتاين المُذهل «رسالة منطقية فلسفية» (1921)، الذي كَتبه في خنادق الحرب إبّان الحرب العالمية الأولى (إذ قاتلَ آنذاك مع الإمبراطورية النمساوية المجرية ضد زملائه في كامبردج).
لا يُعد هذا الكتاب علامة فارقة في فلسفة القرن العشرين فحسب، بل يُعد أيضًا تُحفة في الكتابة الشذريّة التي أشبه ما تكون بأسلوب الكتابة الصوفيّة؛ فبنية الكتاب واضحة وشفافة كوضوح الجليد الزجاجي. ويماثل الكتاب في جماله الجليدي هذا تحفة سبينوزا في القرن السابع عشر «الأخلاق» (وعنوان الكتاب باللاتينية « Tractatus Logico-Philosophicus» تقديرًا لكتاب سبينوزا « Tractatus Theologico-Politicus» أو «رسالة لاهوتية سياسية»(، كما يماثل أيضًا كتاب تولستوي «الإنجيل موجزًا» الذي قرأهُ فتغنشتاين بهوس حين خَدم في صفوف الجيش الأمامية.
تتكوّن «الرسالة» من سبع قضايا مُقسّمة تقسيمًا عشريًا، وكل قسم يشرح ما سبقه. فمثلًا، 2.1 توضّح 2، و2.2.1 تشرح 2.1، وهكذا. القضيّة الأخيرة هي الاستثناء الوحيد والمحيّر التي ليس لها شروح؛ وهي: «ما لا نستطيع الحديث عنه؛ نُمرره بصمت».
لقد اِعتقدَ فتغنشتاين أن «الرسالة» قد حلّت جميع مشاكل الفلسفة؛ إذ ترك الفلسفة وأصبح مُعلمَ رياضيات في مدارس النمسا الريفية، وهي وظيفة سرعان ما سيكرهها وسيُفصل منها بسبب مزاجه الحاد.
الألعاب اللغويّة
لكن سرعان ما سيُدرك فتغنشتاين أن لغة البشر ليست نظام إحالة.
حين صبّع سائق دراجة غاضب لفتغنشتاين في الشارع، أدرك هذا الأخير غلطته التي اِرتكبها في نظريته؛ فما هي «الحقيقة» وراء التصبيع، أو ضرب الكف بالكف، أو الغمز؟ وبدلًا من هذه الرؤية، بدأ فتغنشتاين في رؤية اللغة ليس بوصفها تمثيلًا متماسكًا وواحديًا للعالم، بل بوصفها أعدادًا لا متناهية من الأنشطة التي تشابه الألعاب لا يجمعها جوهر واحد، وقد اِستعملَ مصطلح «الألعاب اللغويّة» تعريفًا لها.
إن إشارة وقحة باليد، أو الغمز، أو الطلب، أو الأمر، أو عدّ الأشياء، أو تنكيس الأعلام؛ كل هذه طُرق في استعمال اللغة استعمالًا لا حد له، وكلّ هذه الأفعال ليستْ مقولات عن حقائق؛ تلك المقولات التي تُشكّل أساس نظرية الصورة للمعنى؛ إذ إن نظرية الصورة للمعنى ترى بأن اللغة مرآةٌ للعالم؛ مُكونة من حقائق ذريّة لها ارتباطاتها في العالم الواقعي، وقد زُعم بأن هذا الارتباط هو جوهر اللغة.
أخذ يقتنع فتغنشتاين بأن اللغة أشبه ما تكون بمجموعة من الأنشطة في العالم، ولكن نُدرك هذه الأنشطة بوصفها لغةً بغض النظر عن اختلافاتها. وهذه علّة أن الألعاب تشبيه مثالي لما أراده فتغنشتاين؛ إذ لا يَحدُّ اِختلافُ الألعابِ شيء. يوجد طيفٌ واسع من الأنشطة نُسمّيها ألعابًا؛ من ألعاب الفيديو حتى ألعاب الكرة مرورًا بألعاب الكلمات. فقد لا يجمع لعبةٌ بأخرى أي رابط مشترك، ولكن مع ذلك نعرّف النشاطين المختلفين بوصفهما لعبتين؛ فمثلًا، لا يوجد رابط مشترك بين البلوت والبيسبول، كما لا يوجد رابط مشترك يربط لعبة فيديو مثل «كاونتر سترايك» مع لعب إحضار العصا مع الكلب، ولكننا مع ذلك نعلم بأن كلها ألعاب.
لماذا؟ يحاجج فتغنشتاين بأن علّة ذلك هي وجود تشابهات عائلية؛ إذ لا توجد سِمة جامعة لكل هذه الألعاب؛ فقد لا يوجد مشترك يجمع بعضها بعضا، ولكنها مرتبطة ببعضها بواسطة حشد من صفات -وليس صفة واحدة- تُشكّل مجموع الألعاب. إن السِمات المتداخلة بمثابة تشابهات عائلية؛ فقد لا تكون عينيك بنّيتين كعينيّ أختك التي ورثتها من أبيك، لكن قد يكون شعّرك مجعّد كشعر أبيك، بينما شعر أختك ليس كذلك.
ولعبة الأونو تتضمّن اللعب بالورق مثل البلوت، والبلوت فيها نقاط ربح مثل البيسبول، وغاية البيسبول هزيمة الخصم مثل الملاكمة، والملاكمة تتضمن القتال مثل لعبة الفيديو «كاونتر سترايك». إذن، يوجد رابط وحيد بين الأونو وكاونتر سترايك من هذا الجانب: كلاهما لعبتان، فهما جزءان من عائلة من الأنشطة. ثمّة أمر واحد قاطع: لا يربط الألعاب جوهر مشترك واحد.

إن «الألعاب اللغوية» -كما يرى فتغنشتاين- تُشابه الألعاب من جانب مهم: يُمكن اختراعها ارتجالًا. ففي الكتاب الأزرق (وهو مجموع من الملاحظات سُجّلت من محاضراته في ثلاثينيات القرن الماضي) صرّح فتغنشتاين: «لا نستخدم اللغة عمومًا وفق قواعد صارمة، كما أننا لم نتعلّمها عن طريق قواعد صارمة أيضًا».
إنّ اللغةَ أفقُ تجربةٍ مشتركة؛ فاستعمال اللعبة ليس مجرّد فهم قواعد معينة واتّباعها، بل تشكيل هذه القواعد في المشاركة؛ إذ تتطلّب اللغة حدسًا في فهم القواعد مع أمر أشبه ما يكون بالخليط من وصفة جاهزة وسابقة قضائية. فاستعمال لغة مثلُ لَعِب لعبةٍ يتفق اللاعبون فيها على وضع القواعد وهم يلعبون.
أنماط الحياة
للغة مرونة الألعاب لأنها مُجسّدة في «نمط حياة» البشر؛ فكما قال فتغنشتاين قولته المشهورة «لو تكلّم الأسد فلن نفهمه». لماذا؟ لأن الأسد يعيش ضمن «نمط حياة» مختلف؛ نمط حياة الأسد. فلو كانت اللغة نظام إحالة لها جوهرها الخاص؛ لَفَهِمنا الأسد، ولكنّ اللغة تُلبيّ حاجات عمليّة لنمط الحياة الذي نشأت فيه؛ فحتى لو تكلّم الأسد، فإن فهمه للعالم سيختلف اختلافًا لا يمكن تصوّره عن فهمنا نحن إلى حدٍ لن نفهم معه ما قاله الأسد.
وينطبق الأمر ذاته على الحاسوب. لقد تساءل فتغنشتاين في ورقة عمّا لو كانت الآلات تُفكّر، وقد خَلُص إلى نتيجة مفادها أنها غيرُ قادرة على ذلك. أحد الأسباب هو أن الآلات غير قادرة على مشاركة «نمط حياة» البشر؛ نمط الحياة هذا المطلوب في أفق معنى مشترك. وهاكم شذرة أخرى من شذرات فتغنشتاين (من كتاب «تحقيقات فلسفيّة») تؤكّد هذا المعنى: «فهم جملة يعني فهم لغة».
إنّ معضلةَ الذكاءُ الاصطناعي هي أن اللغةَ أكثرُ من مجموعِ أجزائِها. إن الفكرة التي يُشير إليها فتغنشتاين هنا هي أن نظام ما قد يحلل الكلمات ويفككها، ويعالجها على أنها جملة، ولكنه مع ذلك لن يفهم الجملة بوصفها جزءًا من لغة البشر.
استخدم جون سيرل -فيلسوف أصغر من فتغنشتاين سنًا اشتغل في التقليد المتمركز حول اللغة الذي اِستهلّته ابتكارات فتغنشتاين التأملية- التجربةَ الفكريّة المعروفة «الغرفة الصينية» لكي يُثبت بأن الذكاء الاصطناعي الذي وإن كان قادرًا على اتّباع القواعد، إلا أنه لن يُدركها. وهاكم خلاصة التجربة الفكريّة:
شخص لا يتحدث اللغة الصينية موجود في غرفة برفقة تعليمات عن كيفيّة قراءة الرموز الصينية وكتابتها، سيطلب من هذا الشخص تبادل الحوار مع متحدّثين باللغة الصينية خارج الغرفة عن طريق تبادل الرسائل فيما بينهم. يستطيع هذا الشخص إقناعهم بأنه يفهم الصينية باتّباعه القواعد في كتابة ردوده. ولكن لاحظوا بأن الرجل لا يفهم هذه اللغة حقًا، بل يُحاكي فهمها.
تتطلّب اللغة محاورين قادرين على إدراك تبادل قواعد اللعبة، ومجرد آلة تتبع القواعد لن تقدر على ذلك. ولا يتعلّق الأمر بتعقيد التقنيات المستخدمة التي سوف نصلها يومًا ما، بل يتعلّق الأمر بكون اللغة شيء عضوي لنمط حياتنا؛ وعليه، هي خارج نطاق التحسيب أصلًا.
قد تصل القوة الحاسوبية ذات يوم إلى قوة الدماغ البشري، ولكن الدماغ ليس علّة الذكاء البشري، إنما ينشأ الذكاء البشري من اللغة التي تصل أدمغتنا ببعضها بعضًا.
اللغة والأحاسيس الداخليّة
هذا هو سرّ جاذبية فتغنشتاين الرائعة؛ فقبل فتغنشتاين، كان الفهم العام في الفلسفة أن الذكاء داخل الذهن البشري؛ ففي القرن السابع عشر، قدّم رينيه ديكارت جملة سيكون لها وقعها فيما بعد: «أفُكر؛ إذن أنا موجود» ( تُذكر في اللاتينية عادةً: «Cogito, ergo sum»).
إن فكرة ديكارت التي مفادها أن التفكير كافٍ ويقع في العقل هيمنت على التفكير الفلسفي مئات السنين.
وقد طرح فتغنشتاين سؤال فيما لو كان الشخص قادرًا على أن يمتلك لغة خاصة لا يفهمها إلا هو لوصف أحاسيسه الداخلية (مثل الألم) لنفسه، وقد رأى بأن ذلك مستحيل. إنّ فهمَنا -بما في ذلك فهمنا لأنفسنا- هو فهم عمومي تتوسّطه اللغة. إن الإحساس الداخلي يتطلّب معيارًا خارجيًا لكي يكون ذا معنى؛ حتى وإن كان إحساسًا خاصًا؛ إذ أشار فتغنشتاين إلى أنك لا تتعلم مفهوم «الألم» إلا حين تتعلّم اللغة.
يمكن أن «تُفكّر» الآلة إنْ أردنا بذلك أن الإشارة الإلكترونية تمرّ عبر دوائرها الكهربائية، فيمكنها أن تجري حسابات بناءً على مدخلات معينة، ولكن هل تفهم الآلة نفسها كما يفهم الإنسان نفسه؟ لا يعني ذلك بأننا لن نتبادل الحوار مع الآلات؛ فنحن بلا شك نتحدث مع آلات مثل «سيري» من شركة آبل و«أليكسا» من شركة آمازون، ولكن المقصد أن الآلات لن تتجاوز اختبار تورينغ إنْ ضغطنا عليها واختبرناها خارج حدود القواعد الصوريّة.
إنّ مقارنة «الذكاء الاصطناعي الشامل» بالذكاء البشري مثل مقارنة الطائرة بالعصفور: نعم، ستحلّق الطائرة في السماء، لكنها لن تحلّق بنفس مرونة تحليق العصفور وبراعته؛ فمهارة وبراعة العصفور في الجو جوهريّة لنمط حياته، بينما الآلة ليس لها نمط حياة؛ بل لها غرض فحسب.
إنّ أداء الحواسيب لمهمات بشرية (والتحدث مع البشر) سيشكّل قيمة عالية على أمل أن يُيسّر ذلك حياتنا مستقبلًا، ولكن فكرة أن الحواسيبَ ستكون ذكية بنفس ذكاء البشر فكرةٌ يُبطلها التأمل الفلسفي.
المدمّر
إن فلسفة فتغنشتاين -في النصف الثاني من حياته الفكريّة- ليست نظرية أو عقيدة بقدر ما هي علبة أدوات مفاهيمية وإستراتيجيات ترنو التفكير الواضح. وأعماله -كما يحاجج البعض- تعبّر عن فكر مدمّر «ضديد-الفلسفة» بدلًا من أن تكون فلسفة بنّاءة. فمع أن أعماله كانت مهمومة بهم «أن تبيّن للذبابة كيف تخرج من قارورة الذباب»، إلا أنه اِعتقدَ بأن أعماله لها هدف أخلاقي؛ إذ قال ذات مرّة «إنّ الفلاسفة الرديئين مثل أصحاب عقارات الأحياء الفقيرة»، حيث رأى بأن مهمّته هي «أن يفلّسهم».
و«الفلاسفة الرديئون» ليسوا بالضرورة أكاديمين متخصصين؛ إذ يوجد أنواع من قادة الفكر الذين يكرّسون الخرافات والأغاليط عن العالم والحياة فيه. وجانب مخصوص من غضب فتغنشتاين موجه تحديدًا إلى اعتقاد جاهل مفاده أن العلّم قادرٌ على تفسير كل شيء.
كتب فتغنشتاين في «الرسالة» قائلًا:
«إنّ المفهوم الحديث عن العالم قائمٌ على وهم أن ما يُسمى قوانين الطبيعة هي تفسيرات الظواهر الطبيعية، وبناءً على ذلك يقف الناس عند قوانين الطبيعة ويعاملونها معاملةَ المحرمات التي لا يجوز انتهاكها؛ كما كان يعامل الله والقدر في العصور الخوالي. […] لقد كان القدماء أوضح مع أنفسهم منّا من ناحيّة أنهم أدركوا نقطة يتناهى عندها علمهم، بينما يحاول النظام الحديث أن يجعل الأمر يبدو وكأن كلَ شيء قد فُسّر وفُهِم».
إنّ الجانب المضمر والسلبي من اعتقاد أن الذكاء الاصطناعي سوف يعادل ذكاء البشر أو يتجاوزه في يومٍ ما هو أن العقل البشري عبارة عن آلة أو عقل «حاسوبي». وأعمال فتغنشتاين تُبطل سحر هذه الفكرة، وفهم ذلك بمثابة الاستيقاظ من حلم ثقيل.
إنّ علبة الأدوات المفاهيمية لفتغنشتاين -مثل الألعاب اللغوية- تساعدنا في تجريد التفكير من عاداتِه السيئة، وهذه العادات السيئة تُشكّل معتقدات نعيش بواسطتها حياةً غير أصيلة في الحاضر، كما أنها تكوّن مستقبلًا محدودًا.
حين تظهر ادعاءات مبالغ فيها عن أن الذكاء الاصطناعي سيحل محلّ البشر؛ فإن ذلك يرخّص الإنسانيّة، ويشوّش على إمكانية فهم أنفسنا فهمًا واضحًا. وتساعدنا أفكار فتغنشتاين في رؤية أن الذكاء الاصطناعي حلمٌ خيالي مضطرب، وتساعدنا نزعته المضادة للفلسفة في حماية أنفسنا .. من أنفسنا.