يمثل التحرش الجنسي Sexual Harassment أحد أشكال العنف (التاريخي) ضد المرأة، ذلك أنه ممارسة قديمة غير منظورة، إلا أنه أضحى اليوم مشكلة اجتماعية واسعة الانتشار في معظم المجتمعات.
يعني التحرش الجنسي بشكل عام ذلك السلوك الذي يهين الفرد ويحط من قدره استنادًا لنوع ذلك الفرد، أما التحرش الجنسي بالأنثى فيشير إلى كل فعل أوسلوك يصدر من ذكر ضد أنثى رغمًا عنها، سواءً أكان بالنظر أو اللفظ أو الاحتكاك الجسدي، وقد يترك هذا الفعل أو السلوك أذى نفسيًا أو ماديًا أو اجتماعيًا لدى الأنثى التي تتعرض له. والتحرش بالنسبة للأنثى هو نشاط غير مرغوب فيه unwanted, يتضمن مضايقات جنسية تتمثل في نظرات فاحصة للجسد، وألفاظ ذات مغزى جنسي مضمر أو صريح، وطلبات جنسية قد تكون مصحوبة بتهديدات معينة.
والحق أن التحرش الجنسي لا يقتصر على مجتمع بعينه أو ثقافة بذاتها، وإنما هو ظاهرة اجتماعية منتشرة في كل المجتمعات الإنسانية، وتؤشر على ذلك إحصاءات ودراسات متواترة [1]. لكن أظهرت العديد من الدراسات والإحصاءات العلمية أن ثمة تزايدًا ملحوظًا في ظاهرة التحرش بالنساء في المجتمع العربي وذلك بصورة واضحة خلال العقدين الأخيرين من هذا القرن. فقد أثبتت بعض المسوح العلمية تفشي ظاهرة التحرش الجنسي في أماكن العمل [2]، والواقع أن هناك العديد من الدراسات والبحوث التي حاولت الكشف عن أسباب انتشار وتزايد معدلات التحرش في مجتمعاتنا العربية، ورصدت معظم هذه الدراسات الأسباب المعتادة للظاهرة، والتي يمكن أن نسميها الأسباب النمطية للتحرش، والتي تدور عادة حول أزمة عملية التنشئة الاجتماعية في الأسرة العربية المعاصرة، وضعف الضوابط القانونية، وغياب القيم الأخلاقية، وفشل النظام التعليمي وسطوة وسائل الإعلام إسامها بشكل غير مباشر في زيادة معدلات الظاهرة . . . الخ، ورغم أهمية هذه العوامل وتأثيرها الكبير، إلا أن التحليل الفاحص للظاهرة يكشف عن أن ثمة أسبابًا وعوامل كامنة مسكوت عنها تمثل العوامل الأكثر تأثيرًا في تفاقم الظاهرة واتساعها، نناقش أهمها في هذا السياق.
ينبغي ابتداءً ألا نعزل تلك المشكلة عن كل المشكلات والقضايا المرتبطة بوضعية المرأة في مجتمعنا العربي من ناحية، وعن مجمل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية للمجتمعات العربية المعاصرة من ناحية أخرى. إذ أن ظاهرة التحرش تمثل انعكاسًا مباشرًا لكل تلك الظروف بكل تجلياتها وتعقيداتها.
والحقيقة أن ثمة عوامل مترابطة كامنة في بنية المجتمع العربي تسهم بشكل عميق في حدوث الظاهرة، وفي تمددها في فضاءات عديدة، وتعد تلك العوامل بمثابة المصادر الأولية – أو معامل التفريخ – التي تنبثق منها مختلف العوامل الأخرى التي تساعد في تفشي الظاهرة، وتتحدد أهم تلك العوامل فيما يلي:
الهيمنة الذكورية في المجتمع العربي:
تتسم المجتمعات العربية – كغيرها من المجتمعات التقليدية قبل الحداثية – بما يطلق عليه بيير بورديو الهيمنة الذكوري masculine domination، ويتجلى ذلك بشكل عام في تلك السلطة التي يتملكها الذكر – بصرف النظر عن مستوى تعليمه وسنه ووعيه – ويمارسها على الأنثى – بغض النظر عن قدراتها الفكرية والاجتماعية – ويفاقم تلك الهيمنة تراث راسخ من القيم والمعتقدات الشعبية العتيقة.
ولذلك تمثل المرأة في الوعي الشعبي للمجتمعات الذكورية ذلك (الشيء) القابل للتملك، وهو مايجعلها عرضــة للتحرش الجنسي. فالمـرأة والفتاة لا تتحكم في الفضاءات العامة التي هي ملك للرجل. بل هي جسد جنسي (مُشُيّئ) يوجد داخل هذه الفضاءات العامة؛ وبالتالي فهي أيضا ملك للرجل. إن خروج المرأة إلى الفضاءات العامة، في التصور الذكوري، يعني خروجها من كونها ملكا خاصا للرجل )الأب، الزوج، الأخ، إلخ) بحكم وصايته عليها؛ إلى كونها ملكا مشاعا يحق للذكر، أيًا كان، أن يتملكه، وهذا التمثل يكرس دونية المرأة إزاء الرجل.
ومن ناحية أخرى فثمة ازدواجية وانفصام في العقلية الذكورية فيما يتعلق بوضعية المرأة، فالمجتمع الذكوري يلصق بالمرأة التي تقتحم الفضاء العام صفات شهوانية (بل وشيطانية)، وبالتالي يحيلها من ضحية إلى جانٍ، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إذا ما وقع لها تحرش جنسي ينبغي التكتم عليه بشدة، لأن إعلان ذلك يعني نقض بنية رأس المال الرمزي للذكر المرتكز بالأساس على مفهوم الشرف والعرض؛ ولذا فإن التحرش يمثل وباءً صامتًا، وإذا خرجت المرأة عن صمتها تتعرض لعقوبات ذكورية قاسية، تتجلى أهمها في وصم اجتماعي social stigma لا ينمحي أثره من الذاكرة الجمعية.
التدين الطقوسي:
ثمة فهم ملتبس ومغلوط للتدين منتشر بين قطاعات واسعة من الناس في مجتمعاتنا، تتجلى أبرز مظاهره في اختزال التدين في الاستغراق في أداء الطقوس والشعائر و(المظاهر) الدينية، والإهدار شبه التام للبعد العملي والسلوكي والإنساني للدين، وكأننا نتحدث عن طرفي نقيض لا يجتمعان. إن ثمة انفصامًا حادًا بين الطقوس والشعائر من جهة، والممارسات العملية الحياتية من جهة أخرى، وهو ما يعكس قصورًا في فهم فلسفة الدين ومبادئه التي لا تركز على الشعائر في ذاتها وإنما في مدى انعكاسها في الفعل الاجتماعي بتجلياته المتعددة، وينبغي في هذا المجال أن تراجع بقوة تلك المقولة الرائجة التي تصف مجتمعاتنا بأنها متدينة بطبعها، والحق أنها طقوسية بطبعها.
والملاحظ أن هناك تراجعًا للمعنى السليم للتدين الذي يصبو إليه الدين، والذي يمكن أن نسميه التدين المدني العميق، واستبداله بتدين طقوسي براني قائم على الاستغراق في أداء الشعائر الدينية بصورة روتينية جوفاء، وانفصال ذلك عن السلوك الواقعي، بحيث لا تتجلى فضائل الطقوس في إصلاح النفوس، ولا يظهر أثر الشعائر في ترقيق المشاعر.
إن ذلك لايعني – بحال – اتهامًا للطقوس أو الشعائر الدينية في ذاتها، وإنما هو اتهام لبعض ممارسيها، الذين فقدوا المعنى الإنساني والأخلاقي للقيم والممارسات الدينية، التي تتأسس على السلوك الفضيل، فالملاحظ أن قيما من قبيل: (البر حسن الخلق) و(ليس الإيمان بالتمنى ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل). و (من لا تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له) لم يعد لها مكانها المستحق.
جسد المرأة في المخيلة الشعبية العربية:
تتجلى صورة المرأة في المخيلة الشعبية في اختزالها في مجرد جسد فاتن، وتغييب المرأة كفاعل اجتماعي واع يسهم مع الرجل جنبًا إلى جنب في نهضة الأمة وتطورها.
ومن الملائم أن نستدعي في هذا السياق تلك التفرقة المهمة التي أسسها عالم الاجتماع الكبير بيتر بيرجر P. Berger بين مصطلحين مهمين في سوسيولوجيا الجسد. فلقد طرح «برجر» وهو واحد من رواد علم اجتماع الجسد، مفهومين مهمين في تصور الجسد، الأول أن يكون الإنسان جسداً Man is a body والثاني أن يمتلك الإنسان جسداً Man has a body (Turner 1992: 40) واستناداً لهذه الرؤية نرى أن كثيرين من أبناء المجتمع العربي ينظر إلى المرأة باعتبارها جسداً Woman is a body أي أنها جسدًا خالصًا بما تتضمنه هذه النظرة من مضامين دونية وشهوانية ولا يراها كائناً اجتماعياً يمتلك جسداً has a body مثلها مثل الرجل سواءً بسواء.
ولذا فإن المرأة ما خرجت إلى الفضاءات العامة – من وجهة النظر الذكورية المهيمنة – إلا لكي تثير شهوة الرجل وتحرضه على التحرش بها. فالمرأة، من هذا التصور، هي المسؤولة عن التحرش الذي تتعرض له. لذلك وجب عليها، إذا سعت للخروج إلى الفضاءات العامة أن تستر جسدها، وأن تلتزم التحفظ والتخفي في مشيها وتحركها، ولا ينبغي لها أن تثير الرجل، والحقيقة أن تلك الرؤية تمثل أيضًا إدانةً للرجل وتجرده من إنسانيته، إذ لا تحركه إلا غرائزه الشهوانية.
وثمة عوامل أخرى مهمة تسهم في تفاقم ظاهرة التحرش الجنسي، من أوضحها تراجع وأفول منظومة القيم الاجتماعية الراسخة في أعماق المجتمع العربي، وظهور منظومة قيمية جديدة أفرزها التغير الاجتماعي السريع في هذا المجتمع، تلك المنظومة القيمية التي أسست لمعايير جديدة مغايرة تماما للمعايير التقليدية للأسرة العربية. ولذلك فوفقًا لتلك النظرة، يعد التحرش أمرًا طبيعيًا في ظل تراجع منظومة القيم الأصيلة المرتبطة بضرورة حماية المرأة والدفاع عنها ضد أي اعتداء، لقد كان دفاع الشاب عن جارته، وابنة (حارته أو ضيعته) أو منطقته، من القيم الأساسية في مجتمعاتنا لفترة طويلة، ومؤشرًا لشهامة أبناء البلد ومرؤتهم.
ولا ينبغي أن نتجاهل عوامل أخرى مهمة أسهمت في تراجع منظومة القيم وبالتالي تفاقم ظاهرة التحرش منها التراجع الكبير لدور الأسرة في التنشئة الاجتماعية، وضعف الخطاب الديني وضحالته وابتعاده عن مناقشة القضايا المهمة التي تمس قطاعات واسعة من المجتمع ومنها الشباب بطبيعة الحال، وانحسار اهتماماته في قضايا فقهية ضيقة.
ويبقى السؤال أو التحدي كيف نواجه تلك الظاهرة؟ نرى أن ثمة آليتين لمواجهة الظاهرة، إحداهما آنية سريعة، والأخرى بعيد المدى، يتمثل الحل السريع في المواجهة القانونية الصارمة لكل صور التحرش وتشديد العقوبة على مرتكبيها، أما الحل بعيد المدى فهو وضع برنامج اجتماعي شامل لتنمية فكر وثقافة احترام المرأة، وتغيير نظرة المجتمع إليها، ومحاصرة القيم الاجتماعية الجديدة التي تختزل المرأة في البعد الجسدي العضوي، وتطوير الخطاب الديني وتعميقه، وإعادة الأسرة لدورها الريادي في التنشئة الاجتماعية وتلقين الأجيال الجديدة كل القيم الإيجابية المتعلقة بالمرأة باعتبارها كائنًا اجتماعيًا وإنسانيًا يشارك بقوة في نهضة الأمة. ولا شك أن للقيادات النسائية والرجال المهمومين بقضايا المرأة ووسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية دورًا كبيرًا في تفعيل ذلك البرنامج وإنجاحه.
[1] في المجتمع الأمريكي – على سبيل المثال – كشفت بعض الدراسات أن 42% من النساء يتعرضن للتحرش في أماكن العمل، وقرابة 92% يتعرضن للتحرش في المحال التجارية، و 70% من الطالبات يتعرضن للتحرش من زملائهن وأساتذتهن في المؤسسات العلمية. وأشار تقرير الشفافية الدولي والذي تناول مسألة التحرش الجنسي في العمل, إلي أن هناك دراسات أجريت في أسيا وجزر المحيط الهندي حول التحرش الجنسي في العمل قد أشارت إلي أن نسبة 30% من النساء العاملات أبلغن عن تعرضهن للتحرش الجنسي كلاميا وبدنيا . كما أشارت دراسة قام بها الاتحاد الأوروبي إلى وجود معدلات عالية من التحرش الجنسي في أماكن العمل، فقد تبين أن هناك نسبة تتراوح بين 40% إلى 50% من النساء العاملات في دول الاتحاد الأوربي تعرضن لشكل من أشكال التحرش في أماكن عملهن. وفي الصين تتعرض 18% من النساء العاملات للتحرش حسب دراسة أجريت في عام 2007. وفي المجتمع الكندي اتضح أن 61% من عينة قوامها 1200 امرأة تعرضن للتحرش في مكان العمل، وأن الطالبات في المدارس والجامعات يتعرضن بشكل دائم لإحدى صور التحرش من قبل زملائهن وأساتذتهن، كما أن عضوات هيئات التدريس في الجامعات مررن بتجارب تحرش من قبل زملائهن وطلابهن، وكشفت دراسة في إسرائيل عن تعرض 91% من عينة حجمها 487 ممرضة لأحد أشكال التحرش خلال عملهن.
[2] بلغت النسبة في الأردن 18%، وفي اليمن 87%، وفي فلسطين 77%، وتترواح النسبة في مصر بين 66% و70% في بحوث أجريت في عام 2008 .
أهم المراجع:
- سوسن فايد، وليد رشاد زكي، التحرش الجنسي في المجتمع المصري: دراسة ميدانية على عينة من الفتيات المتحرش بهن، ورؤى النخب (الشرطة – القضاء – أساتذة الجامعات). رابطة المرأة العربية، 2015.
- عبد الرحيم العمراوي، مناهضة التحرش الجنسي في الفضاءات العامة، جمعية فضاء للمستقبل، المغرب، د.ت.
- مديحة أحمد عبادة، خالد كاظم أبو دوح، الأبعاد الاجتماعية للتحرش الجنسي في الحياة اليومية :دراسة ميدانية بمحافظة سوهاج، مركز دعم قضايا المرأة، 2007.
- Jennifer L. Berdahl & Jana L. Raver, Sexual harassment, In Zedeck, (ed.) APA Handbook of Industrial and Organizational Psychology, Vol. 3, American Psychological Association, 2001.
- Reva B. Siegel, A Short History of Sexual Harassment, In Cathaiune Mackinnon & Reva B. Siegel (eds.) Directions in Sexual Harassment Law, Yale University Press, 2003
- Turner, B., Regulating bodies: Essays in medical sociology, Routledge, London and New York, 1992.