«يشير “الجرح الذي لا يندمل” إلى تصدّع الكائن، ذلك التصدّع الذي يجعل التفرّد ضعيفًا أمام قوة التعدّد، والتوحّد ضيقًا أمام شساعة التنوّع، والاقتصار على الأنا فقرًا أمام غنى الآخر، والانغلاق على الذات سدًّا أمام انفتاح الآفاق، والانطواء على النفس حدًّا أمام لا نهائية الأبعاد الممكنة. والوقوف عند مقام بعينه ضياعًا أمام رحابة التنقل، والاقتصار على الحاضر هزالًا أمام كثافة الزمن».
عبد السلام بنعبد العالي: جرح الكائن
لا يشكّل كتاب “جرح الكائن” للمفكّر المغربي عبد السلام بنعبد العالي، بنية كلية أو نسقًا متماسكًا في حدّ ذاته، ففصوله أو بالأحرى مقالاته وشذراته المتفرِّقة، ذات ثيمات وإشكاليات مختلفة ومتنوعة.
نتحدث ها هنا عن: الجرح. جرح ماذا؟ جرح الكائن والوجود، أو لنقل: جرح ميتافيزيقا الكائن والوجود معًا. أوَ ليست الفلسفة مع مفكري الاختلاف في نهاية المطاف إستراتيجية؟
الجرح بوصفه إستراتيجية فلسفية:
استهلَّ الكاتب كتابه، بالديباجة الآتية: «النص البلّوري: انعكاسات الكائن وهو يتحول ويمتزج ويتصفح المعنى». ديباجة بمثابة استهلال ومقدمة، وهو في الأصل قول مقتبس من كتاب المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي الموسوم بـ: La blessure du nom propre“ (Denoel, 1974.p14.)”، أو بالأحرى من مقدمته المعنونة ب: “بلّور النص”. وقد ترجم إلى العربية تحت عنوان: “الاسم العربي الجريح” (محد بنيس، منشورات الجمل، بيروت، 2009).
ماذا يعني هذا الاقتباس أو لنقل هذه الاستعارة؟ لا شك في أنّ موقع هذا القول المكثف في الكتاب له أكثر من دلالة. لا سيما وأنّه حل محل الاستهلال أو المقدمة بمعناها السائد: مقدمة مقتبسة ومستعارة، بغض النظر عن كونها مترجمة، وللترجمة هنا دلالتها أيضًا. لكن مِن بين ما يمكن أنْ يعنيه ذلك، أو أهم ما يمكن أنْ يعنيه والحالة هذه، يكمن في عنوان المؤلَّف المقتبس منه: “جرح الاسم الخالص” أو لنقل: “جرح الاسم البلّوري” انسجامًا مع عبارة “بلّور النص”. هنا وهنا فقط يكمن سر الاقتباس، وتكمن دلالة الاستعارة. اقتباس واستعارة ماذا؟ إنه اقتباس للكلمة والمفهوم، واستعارة للمعنى والإستراتيجية، بهذا يكون جرح الكائن، بمعنى أو بآخر، جرحًا للاسم الخالص للكائن، لبلّورية الكائن، لميتافيزيقا الكائن.
باقتباس كهذا، وباستعارة كهذه، يدعونا بنعبد العالي إلى قراءة كتاب عبد الكبير الخطيبي الآنف الذكر أو بالأحرى إعادة قراءة الكائن على ضوء إستراتيجية عبد الكبير الخطيبي: النقد المزدوج باعتباره إستراتيجية تفكيكية (وتجريحية) مزدوجة للكائن والوجود؛ بل لميتافيزيقا الكائن والوجود، تفكيرًا وممارسة. وهل الكتابة شيئًا آخر، أكثر من إعادة القراءة؟ على هذا الأساس: يمكن اعتبار الجرح.. إستراتيجية فلسفية.
هل يتعلق الأمر بجرح أم بتجريح؟
يُحيل الجرح من الناحية اللغوية والقاموسية إلى أكثر من معنى، وأكثر من دلالة، حسب السياق والمجال اللذين يستعمل فيهما، وسنكتفي في هذا المقام بوجهين: أولهما الاستعمال الطبي، وآخرهما الاستعمال الفقهي. أمّا الاستعمال الأول: فيستعمل الجُرْحُ عادة بمعنى الشّقّ والفتح، فجرح البدن معناه إحداث شقّ أو فتحة فيه سواء كان نتيجة حادث ما أو بفعل الطبيب – الجرّاح عينه. فالجرح بهذا المعنى له حدّان: حد مرضي وآخر علاجي. هذا بغض النظر عن فعل التشريح من الناحية الفيزيولوجية من جهة، وفعل التشخيص من جهة أخرى. هذا عن الوجه الأول. فماذا عن الوجه الآخر؟
أمّا الاستعمال الفقهي، فيستعمل عادة كمجال فقهي قائم الذات: “علم الجرح والتعديل”. يشير الجرح في هذا المقام، إلى نوع من التحقيق في صحة النصوص، نصوص الحديث؛ لتبيان صحتها من عدمها. جرح أم تجريح؟ هو تجريح أكثر منه جرح. إنه الحد السلبي للتعديل. إذا كانت مهمة التعديل هي الكشف عن صحة الرواية ومدى نسبها إلى الرسول، فإنّ التجريح يضطلع بالعكس تمامًا: رصد مغالطات الرواية، والطعن في مدى صحّتها.
لكن ما محل جرح الكائن مِن هذه المعاني والحالة هذه؟ أيّ المعاني والاستعمالات أقرب إلى جُرحنا هذا من غيرها؟ إنه أقرب ما يكون إلى الجرح التشخيصي والتشريحي والعلاجي، أكثر منه إلى الجرح المرضي، وأقرب مِن التجريح أكثر منه إلى التعديل؛ لكنه والحالة هذه، جرح (وتجريح) لا يكاد يلتئم أو يعتدل، إنّه جرح لا ينفكّ يندمل، قطيعة لا محدودة، وفصل لا نهائي، إنه سؤال مسؤول: لا ينفكّ عن المساءلة.
الكتابة الشذرية باعتبارها أداةً للجرح والتجريح:
يحق لنا أنْ نتساءل: لماذا الكتابة الشذرية في جرح الكائن وتجريحه؟ ليست الكتابة الشذرية والحالة هذه كتابة مزاجية أو مجرد ميل أو نزعة من نزعات الكاتب، وإنما هي اختيارٌ إستراتيجيٌّ بالضرورة. بأيّ معنى؟ بالمعنى الذي تكون فيه الكتابة الشذرية أداةً إستراتيجية لجرح الكائن وتجريحه.
لا ينبغي أنْ يُفهم من الكتابة ها هنا، بأنها عملية فكرية ميتافيزيقية تأملية خالصة أو عملية ميكانيكية محضة، وإنما هي حركة جسدية- فكرية مزدوجة بين يدين أو لنقل بين قدمين (الكتابة مشيًا، الفلسفة مشيًا): إنّ الكتابة في هذا السياق، هي شكل من أشكال التفلسف.
ما يميز الكتابات والكتب من هذا الضرب أنّها تختلف عن ضروب الكتابات والكتب السائدة والمعهودة، ولعلّ مؤلَّفات من هذا القبيل لا يصدق عليها ما يصدق على التأليف الفلسفي الأكاديمي، إنّها تقذف بالفلسفة خارج الفلسفة، خارج الكتابة الفلسفية المعهودة. ويتعلق الأمر بالكتابة الشذرية، على غرار الرومانسيين الألمان: نيتشه، بلانشو، فرولان بارت، ثم هيراقليطس قبلهم.. وغيرهم من الكتاب الذين يجعلون القارئ في هالة راقصة؛ إلا أنّنا لا يجب أنْ نعد هذا النوع من الكتابة “المبعثرة” و”المشتتة” ضدًّا في إعمال العقل، بل هي تقع في كنه هذا الإعمال ومن أجله، إنها تقوم على التكثيف بما هي لحظات وومضات من الانفصال، إنها تبعثر معقولًا وعقلانية ساخرة.
إن الكتابة الشذرية هي كتابة ساخرة، تقوم على السخرية النيتشوية بدل التهكم السقراطي، بهذا المعنى تكون الكتابة الشذرية أداةً لجرح الكائن وتجريحه؛ مما يجعل من جرح الكائن في نهاية المطاف، تشذّرًا للكائن.
جرح الكائن أم جرح ميتافيزيقا الكائن؟
لا يمكن التعامل مع الجرح في هذا السياق؛ إلا بوصفه إستراتيجية فلسفية، إستراتيجية خلخلة وتقويض وتفكيك. خلخلة ماذا؟ خلخلة ميتافيزيقا الكائن أكثر منها خلخلة للكائن في حدّ ذاته، سواء تعلق الأمر بميتافيزيقا النص أم بميتافيزيقا الحياة اليومية؛ فإن الأمرين سيان.
أليست الفلسفة بعد هيجل هي “الانفلات من قبضة هيجل”؟ إنّ التحرر من قبضة هيجل، معناه التحرر من الأسس الميتافيزيقية للفلسفة، أو بعبارة أخرى الانفلات من قبضة الميتافيزيقا بثنائيّاتها وكلّياتها المطلقة، إنّ الفلسفة المعاصرة تأسّست على هذه الفكرة: مجاوزة الميتافيزيقا. إنّ رهان الفكر الفلسفي المعاصر هو التحرّر مِن قبضة هيجل، على اعتبار أن الميتافيزيقا كتبت واكتملت معه. يقول بنعبد العالي: “الحديث عن أصول الفكر الفلسفي المعاصر إذن هو أساسًا حديث عن الأصول الفلسفية لهذه الإشكالية، وقيام جينيالوجيا الميتافيزيقا لرصد مختلف المفاهيم الأساسية التي يحاول الفكر المعاصر أن يخلخلها بغية الانفلات من قبضة هيجل ومجاوزة الميتافيزيقا”.
إذا كان هناك من تصنيف لهذا المفكر وكتاباته، كما هو شأن كتابنا، فهي تدخل في هذا المجرى وفي هذه السيرورة: سيرورة مجاوزة الميتافيزيقا. شأنه في ذلك شأن مفكري الاختلاف، فهو يلتقي معهم مِن حيث الانخراط في المشروع نفسه: تفكيك الميتافيزيقا وخلخلتها وتقويضها، غير أنّه، لا ينبغي حصر الميتافيزيقا وانحصارها في بعدها الفكري والفلسفي، وإنّما باعتبارها تطال جميع مستويات التشكيلة الاجتماعية. إنّها تتغلغل وتتجذر في أبعاد الوجود الإنساني كلها، وفي مختلف مناحي الحياة اليومية المعيشة المتعددة؛ لهذا، فإنّ إعمال الفكر (والكتابة) بالنسبة لكاتبنا لا ينحبس فيما هو نظري فحسب؛ بل يتعداه إلى الوقوف على الحياة اليومية والبحث عمّا ليس يوميًّا (بحسّ بارتي- نسبة لرولان بارت) فيما وراء اليومي، والحفر في إشكالات وموضوعات لم تكن الفلسفة، سابقًا، لأن تحفر فيها وتعنى بكياناتها. كيف لا وهو الذي يريد أن يجعل من الفلسفة سيميولوجا للحياة اليومية، التي تزخر بالدلالات والمعاني والرموز.
وعلى هذا النحو، فإن جرح الكائن بمعنى أو بآخر هو جرح لميتافيزيقا الكائن، نصًّا وحياة يومية معيشة. إذا ما نحن استعرنا عبارة الخطيبي سنقول: إن جرح الكائن، هو جرح لاسمه البلّوري، إنْ لم يكن جرحًا لوجوده البلّوري.