تمهيد
تعرضنا في مقال سابق إلى طبيعة العلاقة بين اللغة والموسيقى من حيث النشأة والأصل، ومن حيث إنه يمكن الوقوف على بعض السمات اللغوية في الموسيقى. وبذلك يمكن اعتبار أن التأليف الموسيقيّ قوامه لغة موسيقية، هي تختلف بطبيعتها عن اللغة العادية، وبهذا تختلف تخارجات هذه اللغة-ما يتم إنجازه واقعًا-عن طبيعة ما يتم إنجازه باللغة العادية، سواء كان نثرًا أم شعرًا. واللغة الموسيقية تكون إما خاصة وإما عامة، وغالبًا ما تكون أوّل الأمر على هيئة لغة خاصة تصبو إلى العمومية والانتشار. لهذا، يمكن الحديث عن لغات موسيقية، نظرًا لأن كل مؤلف موسيقيّ له لغة خاصة به، ما يمثل الاستعمال الخاص للغة موسيقية تتميز بأنها عامَّة سائدة. تبعًا لذلك يمكن القول، على نحوٍ استعاريّ أيضًا، أن لغة المؤلف الموسيقيّ الفرد هي ما يُناظر اللهجة idiolect في اللغة الجارية؛ تنبثق هذه اللغة أساسًا من الاستعمال وترتبط به، إلى أن تتعين لها سمات محددة تميزها عن اللغة الأصلية الأم، وتميزها كذلك عن استعمالات وأساليب المؤلفين الآخرين، مما يؤسس فردية الفنان، ويُدخل إياه في علاقة مع مؤلفي عصره من جهة، ومؤلفي الماضي من جهة ثانية.
في سياق ما يُسمى بالثورات الفنية والتحولات في تاريخ الفن، نتعرض في هذا المقال، ووفقًا للمنظور نفسه، إلى أوّل محطات التحول اللغويّ-الموسيقيّ الذي طرأ على اللغة الموسيقية إبان الفترة المُسماة في تاريخ الموسيقى بـ فترة الممارسة الشائعة common practice period، وهي تعني تلك الفترة التاريخية الممتدة منذ الباروك وحتى أوائل القرن العشرين. يُسلط هذا المقال الضوء على الكيفية التي حدث بها الانتقال أو التحول من الباروك إلى الكلاسيك، ونشأة اللغة الموسيقية الكلاسيكية في أعقاب تأزم أسلوب الباروك المُتأخر الهَرِم، وكما تبلورت هذه اللغة بعد ذلك عند كبار مؤلفين المدرسة الألمانية-الفيناوية الكلاسيكية: هايدن، وموتسارت، وبيتهوفن الشاب.
1.إحياء الكلاسيكية
تجيء اللغة الموسيقية الكلاسيكية لتحل محل اللغة الموسيقية لأواخر الباروك (1700-1750) وهي اللغة الفنية التي كانت سائدة آنذاك في أوروبا. والواقع أنه لا توجد مدرسة تتألف من موسيقيي الباروك المُتأخر تقابل مدرسة الكلاسيكيين الثلاثة (هايدن، وموتسارت، وبيتهوفن المبكر) من حيث الأهمية أو من حيث أن مجموع أعمالهم يشكل كلًا واحدًا متماسكًا (ما نعنيه اليوم باللغة الكلاسيكية). برغم ذلك، يمثل الأسلوب السائد في أواخر الباروك (+1730) لغة موسيقية مُنظَّمة ومُترابطة بحيث يمكن تمييزها والإشارة إليها بـ لغة موسيقى الباروك؛ حيث كان في وسع الكلاسيكيين الثلاثة استعمال هذه اللغة وتطبيقها وقتما شاءوا، وإليها كان يمكنهم الرجوع ومقارنة لغتهم الموسيقية الناشئة[1].
وميلاد اللغة الموسيقية الكلاسيكية في هذه الفترة يتزامن تقريبًا مع نزوع عام نحو الكلاسيكية، حيث كان الفنانون والمفكرون في القرن الثامن عشر (قرن التنوير) شديدي التعلُّق بالأدب والفكر اليوناني الكلاسيكي؛ يتضح هذا النزوع نحو الكلاسيكية في عودة كانط إلى أفلاطون، وفي اهتمامات لِسنج المسرحية والأدبية، وافتتان جوته بأوربيدس، وكان فِنْكلمن يُعيّن الحدود بين الفن اليوناني القديم والفن الروماني. والقرن الثامن عشر كذلك هو عصر الإنسكلوبيديا الفرنسية. وبوجه عام، كان يلوح في الآفاق ما يُنذر بالمرحلة التالية، أي ميلاد الرومانتيكية من رحم الكلاسيكية (هو ليس ميلادًا بمعنى أن الأولى لم يكن لها وجود من قبل ثم تحققت، بل بالأحرى أن ننظر إلى الحركة الرومانتيكية بوصفها كانت ماثلة فعلًا، ومنذ التنوير، تتحرك مستسرة في الوراء، ثم أعلنت عن نفسها بعد ذلك فيما يشبه أعراض انسحاب موجة فكرية كانت شائعة). حتى أن بعض هؤلاء، أمثال جوته وبيتهوفن، يمثل قنطرةً أو معبرًا أساسيًا بين كلاسيكية القرن الثامن عشر ورومانتيكية القرن التاسع عشر؛ وهكذا، كان كانط أستاذًا لهيجل، مثلما كان موتسارت أستاذًا لبيتهوفن.
2.التحول اللغويّ-الموسيقيّ: من الباروك إلى الكلاسيك
تشهد الفترة منذ وفاة هِندل (1759-1780) غياب أي لغة موسيقية مُكتملة تحل محل الباروك في أشكال فن الموسيقى كافة. وكحال أي فترة انتقالية في تاريخ الفن، فإن تأزم أو أفول أي من اللغات الفنية يُعد مناسبة جيدة للتجريب؛ إن التجريب هو محاولة المؤلف الموسيقيّ أن يطوِّر من اللغة العامة، المُعطاة والقائمة، لغةً فنية خاصة تكون أول الأمر غامضة غير متشكلة، بالتالي تبدو غريبة نوعًا على مسامع مُعاصريه. ونجاح التجريب يرتهن (ذلك فيما عدا نجاحه العارِض) بأن تنطوي اللغة الموسيقية الجديدة على إمكانات تضمن بقاءها، كإمكان أن تؤول إلى مشروع تأليفي كبير يُكتب له الاستمرارية والنجاح، وأن تُطبَّق وتغزو الأشكال الموسيقية كافة، ولو بعد حين. أي أن نجاح التجريب يرتبط برؤية شاملة وبعيدة المدى، وأن يتبين الفنان محصلة عمله حتى وإذا كانت-وغالبًا ما تكون-هذه الرؤية حينئذ بالنسبة إليه ضبابية وغير واضحة تمامًا. وهذا ما يميز التجريب حين يمارسه فنان وحين يمارسه فنان آخر، حينما يكون مرتبطًا بالجهة والرؤية بعيدة المدى، وحينما يكون التجريب غاية في ذاته. وبطبيعة الحال ليس المؤلفين الموسيقيين جميعهم على القدر ذاته من الحساسية والكفاءة ما يتيح لهم الاستبصار بجدوى مشروعاتهم الفنية والدرجة التي تمثل بها هذه المشروعات حياة المجتمع والعصر الذي يحيون فيه. هكذا، فما حدث في القرن الثامن عشر تبعًا لتدهور النظام الباروكيّ (مثلما سنتعرض إلى بذور ذلك التدهور بقليل من التفصيل) أنه طفق الموسيقيون آنذاك كل واحد منهم يجرب أسلوبه الخاص. لذلك فإننا نشهد في الفترة التي تعقب موت هِندل حزمةً من الأساليب واللغات الموسيقية الخاصة التي تحاول شق طريقها من أجل ملئ الفراغ الذي خلفته لغة الباروك المتأخر التي أصبحت الآن مُتأزمةً، تُعاني الأفول، بعد موت آخر أعظم ممثليها.
وقبل تبلور اللغة الكلاسيكية في موسيقى الآلات، كانت الكلاسيكية المُحدَثة قد بدأت فعلًا في الظهور-على استحياء-في ميدان الأوبرا مع جلوك، وفي ميدان موسيقى الآلات في أعمال كارل فيليب إيمانويل باخ، وفي سيمفونيات هايدن عند منتصف القرن. كان أبناء يوهان سيباستيان باخ قد اقتسموا فيما بينهم إمكانات اللغة الموسيقية لهذه الحقبة. فظهرت لغة يوهان كريستيان باخ “باخ لندن”، وطريقته في التأليف المُتأنِق (ما يُعرف بأسلوب الجالان Galant) وكارل فيليب إيمانويل باخ بأسلوبه الحساس empfindsamer Stil. كانت كلها لغات موسيقية خاصة تحاول شق طريقها محاولة ملء الفراغ الهائل الذي خلفه الباروك في الحياة الموسيقية، وسد فجوة انعدام وجود لغة موسيقية مُتكاملة.
هكذا، فإن تلك الأساليب وغيرها، كانت تمثل آنذاك حلولًا طريفة مطروحة لتجاوز مشكلات موسيقية قائمة، مثل المواءمة بين الشكل والمضمون، بين التعبير والأناقة في التعبير. لكن الملاحظ أن التحولات الدرامية في أعمال يوهان كريستيان باخ وشقيقه فيليب إيمانويل-على الرغم من تفاوت لغة كل منهما الموسيقية-إلا أن هذه التحولات كانت تحدث مباغتة وغير مبررة. وفي أعمال الأوّل بالذات، كانت الأناقة على حساب التعبير واضحة كل الوضوح (ما يمكن اعتباره تعبير عن رفض الابن يوهان كريستيان المُتعمَّد والواعي للغة الموسيقية التي كان يؤلف بها باخ الأب).
وبحلول الستينيات، كانت الحاجة إلى مشروع موسيقيّ متماسك قد تخللت الأشكال كافة (فيما عدا الموسيقى الدينية، فقد ظلّت هذه القلعة الحصن الأخير من القلاع التي شيّدها الباروك). وبالرغم أن هذه الفترة التجريبية، والتي تدين بالكثير من التجديدات إلى أبناء باخ الثلاثة-الذين اختلفوا كثيرًا كل واحد منهم في أسلوبه والسبيل الذي اتخذه-إلا أنها عمومًا كانت فترة استكشاف مناطق جديدة. وبرغم حزمة التقنيات والتجديدات التي أدخلتها أوركسترا مانهايم على يد مؤلفيها الكبار شتاميتس وريختر، مثل الارتفاع أو الانخفاض التدريجي للصوت (الكريشندو والديمنوندو) والتدرجات المختلفة في العلو من القوة العنيفة (فورتسيمو) إلى الهدوء (بيانسيمو)-وهي طرائق من التعبير الموسيقيّ لعلّها، فيما يقول لايختنتريت، كانت محاكاة للبلاغة في الإلقاء أو السرد، حيث للنبرات والتدرج في شدة الإفصاح أبلغ الأثر. رغم ذلك لم يكن في إمكان هذه الحقبة أن تنتج أسلوبًا مكتملًا قائمًا بذاته، أو مشروعًا تأليفيًا واحدًا كما أشرنا؛ لم يتمكن أحد من هؤلاء الفنانين أن ينجز على أتم وجه ممكن أمر التمكن من/وتطويع عناصر الموسيقى والتأليف بينها في مشروع واحد مُتكامل الأركان (لم يحقق أحد منهم الغاية من التجريب، كما أشرنا، بل كانوا مُجربين ومُستكشفين فحسب)؛ كما لم تستطع هذه الأعمال في مجملها أن تتبين أو تستوعب آمال وتطلعات أساليب موسيقية جديدة كالجالان أو الكلاسيكي الناشئ، بل كان هؤلاء الفنانين المجربين إما مستمسكين إلى حد ما بتقاليد تعزو إلى الماضي (تقاليد أصبحت بالية في ظل السياق الكلاسيكي الجديد-ذلك أن السمة التي تغلب على هذه الأعمال هي سمة التوليف بين بعض العناصر السالفة مع عناصر تبدو أنها جديدة) وإما كانوا مجربين لأفكار جديدة لم يُكتب لها الاتساق والتناسب مثلما حدث مع الثالوث الكلاسيكي. وبإيجاز، لم تستطع هذه الأعمال خلق أسلوب له من الانسيابية والتعبير ما كان للباروك فيما قبل-أو يُضاهي الكلاسيك والرومانتيك فيما بعد. كما أنها جاءت تخلو من التحولات الدينامية المدروسة، والتي سوف تصبح العلامة المميزة للأسلوب الكلاسيكي عند موتسارت وبيتهوفن بعد ذلك بسنوات قلائل. وهي أعمال-نظرًا لافتقارها عمومًا إلى النَسَقيَّة-جاءت تخلو من كل تصور عن الوحدة العضوية للعمل الفني. لهذا، كان نجاحها جزئيًا[2].
كان إنجاز الثالوث الكلاسيكي الأساسي هو تصورهم للعمل الموسيقيّ كوحدة واحدة، ذلك بأن جعلوا حدوث تلك التحولات الدرامية مبررًا منطقيًا. هكذا ألفوا/وفقوا ما بين عنصري التعبير والشكل الأنيق المنضبط؛ ففي صيغة الصوناتا بلغ الانسجام بين الشكل والمضمون مبلغ الكمال تقريبًا. وأسسوا أشكالًا جديدة قُدر لها أن تفتح فصلًا جديدًا في تاريخ الموسيقى. وعلى نقيض من أسلوب العاطفة الواحدة Affektenlehre أو وحدة الموقف الدرامي عند مؤلفي الباروك، يمكن للمقطوعة الكلاسيكية الاحتواء على عواطف مُتباينة، بل أن ذلك يعد أساس البنيان الكلاسيكي من حيث إنه بناء متنوع، مُعَد لأغراض درامية أصلًا. إذن، البناء الكلاسيكي، بوصفه وحدة للأضداد، يتيح للمستمع إمكان أن يَخْبر مشاعر مختلفة، بل متناقضة جوهريًا في العمل الموسيقيّ نفسه. وهي إمكانية سعى الرومانتيكيون بعد ذلك نحو استثمارها، بل استنفادها كليًا، على أكمل وجه ممكن.
3.الثالوث الكلاسيكي (هايدن، وموتسارت، وبيتهوفن المبكر)
إن ميزة الجمع بين هؤلاء الثلاثة في مركب واحد مُفترض، أو ثالوث (مع ملاحظة أن لكل واحد منهم مشروعه الخاص) أنها تمكننا من تتبع التغيرات التي طرأت على اللغة الموسيقية إبان هذه الحقبة التاريخية عند هؤلاء الثلاثة-وهؤلاء الثلاثة وحدهم-دون الوقوع في فوضى التشتت والتخبط بين كثرة المؤلفين الموسيقيين من معاصريهم، ومشروعاتهم الأقل أهمية وشأنًا، الذين لم يكن لهم النصيب نفسه من حيث التأثير على مسرح الأحداث في التطور اللاحق في تاريخ الموسيقى. والواقع أن ما يجمع هؤلاء الموسيقيين الثلاثة ويجعلهم يُشكلون ثالوثًا واحدًا هو فهمهم المشترك للغة موسيقية واحدة، هي اللغة الكلاسيكية، والتي تدين لهم أكثر من غيرهم (وهي التي على وشك المرور بمنعطف خطير، شأنه أن يُغيّر من ماهية الموسيقى ذاتها إلى غير رجعة على يد أحد أعظم ممثليها، لودفِج فان بيتهوفن، بأسلوبه الفردي ولغته الموسيقية الخاصة). باختصار، لم يكن هايدن، وموتسارت، وبيتهوفن الشاب وحدهم الذين انفردوا بالمرحلة التي تفصل بين أواخر الباروك وأوائل الكلاسيكية، لكن حدث أن اجتمع في أعمالهم وتضافر عناصر اللغة الموسيقية الجديدة، من إيقاع ولحن وهارموني، في كل واحد متماسك.
تُمثل اللغة الكلاسيكية قطيعة أسلوبية مع التقاليد الموسيقية الماضية، وتطهير من بقاياها وعناصرها التي قد تبدو غريبة عن النسيج الهوموفوني الكلاسيكي الجديد[3]، وهو النسيج الذي يتميز بالخط اللحنيّ الواحد الواضح المعالم؛ فعلى نقيض من النسيج البوليفوني المُعقد كما نجده في موسيقى الباروك، تعني الهوموفونية، بإيجاز شديد، وضع لحن أو موضوع واحد واضح التكوين بمُصاحبة تآلفات. يتعارض ذلك مع بوليفونية الباروك ذات الخطوط اللحنية الطويلة المُتشابكة. لهذا فإن النسيج الهوموفوني يسمح بالتركيز أكثر على بنية العمل وتكوينه عوضًا عن تكثيفه نغميًا، فهو أخف وأوضح من نسيج الباروك، والأسلوب الكلاسيكي بشكل عام يوظف صيغًا واضحة تمامًا، ذات قفلات سهلة التعيين. ويمكن القول أيضًا أن الفن الباروكي (بوجه عام، وليس في الموسيقى فحسب) هو النفي نفسه للمُحدد، والثابت، والواضح.
ساهمت فوضى التشتت بين أساليب متعددة في تشكيل النسيج الجديد، فهو لم يظهر بشكل مفاجئ في تاريخ الموسيقى. والاهتمام بأعمال هذه الفترة ودراستها يطلعنا على كيفية حدوث هذه النقلة من البوليفونية polyphony إلى الهوموفونية homophony، من الباروك إلى الكلاسيك؛ فهي تطلعنا على كيفية تحوّل النسيج البوليفوني، مرورًا بالنسيج الفسيفسائي المُنمنَم-الذي يُميز أساليب كالجالان، إلى كلاسيكية خالصة بمنطقها المعماري الأنيق وروحها التعبيرية الدرامية.
يعتمد البناء اللحني الكلاسيكي على عبارات لحنية قصيرة نسبيًا (في مقابل العبارة المطولة، والمتصلة، في موسيقى الباروك) بحيث تمثل هذه وحدات بناء العمل الكلاسيكي. تلك العبارات أول ما تظهر نجدها في لغة الباروك المُتأخر، وهي تُمثل عنصر الفساد والهدم في ذلك الأسلوب الهرم؛ فهذه الجمل اللحنية القصيرة ظهرت أول ما ظهرت عندما بلغ الباروك أسمى تطوراته، وأعلى قمة بلغها، عندها بدأ المؤلفين في الاقتصاد في الزخرف، أي حينما حدث التحول اللغوي وأخذ نظام الباروك فعلًا في الانهيار. ترتبط تلك الجمل اللحنية المقطعة والقصيرة أكثر بالرقصات في موسيقى الباروك، ذلك أنها جمل إيقاعية بطبيعتها، وقد ساهمت بعد ذلك في إثراء موسيقى القرن الثامن عشر إيقاعيًا، وتناظريًا، وهي سمة تميز الكلاسيكية. والمشكلة الأساسية التي تثيرها تلك العبارات القصيرة تظهر فورًا إذا أخذنا في الحسبان ضرورة أن تقودنا كل عبارة منها إلى العبارة التي تليها، إلى ما سوف يحدث بعدها. إن الحركة من الماضي إلى المستقبل، (وهو ما يحدث في خبرة تلقي العمل الموسيقيّ) أكثر جوهرية، على سبيل المثال، من حركة العينين من اليمين إلى اليسار في تلقي العمل التصويريّ أو اللوحة. لهذا، كان ينبغي أن يحدث ذلك بانتقال منطقي، ومعالجة انسيابية خاصة تحل محل انسيابية الباروك.
يمكن القول إن مُجمل الأساليب الموسيقية التي ظهرت في تلك المرحلة هي محاولة في الأصل لحل المشكلة الأخيرة، مشكلة عدم الاتصال، التي كانت نتيجة استعمال تلك العبارات اللحنية القصيرة المنفصلة، إذ أنها مشكلة حركية في الأصل، تتعلق بفكرة الاستمرار، والاتصال، والتدفق، في مقابل انتفاء هذه العناصر، ما يهدد وحدة العمل الموسيقيّ. ولهذا فهي مشكلة تمس جوهر الموسيقى بما أنها حركة. وكان المؤلفون يملؤون الفراغات بين هذه الجمل عادة بإقحام أسلوب التفويج الباروكيّ، لما يتركه من انطباع بالحركة والصيرورة.
فطن الكلاسيكيون لهذه المشكلة (أو بالأحرى خلقوها) وإلى ضرورة إحداث الاتصال والتداخل بين هذه الجمل، وتتمثل محاولتهم لحل المسألة في إيجاد ضرورة باطنة تحرك العمل. حيث تُنظْم الألحان من عبارات قصيرة مقطعة ومنفصلة، تتلاحم معًا لتصنع اللحن، ثم المقطوعة ككل، ولعل هذا ما جعل موتسارت يقرر بأن “الموسيقى ليست في النغم، بل في الصمت الذي يتخلله”، أي الفواصل، ذلك أن التحدي الكلاسيكي الأساسي كان يتمثل في سؤال مفاده إلى أي حد يمكن الاعتناء ومُعالجة مشكلة الصمت، لا الموسيقى في ذاتها. يأخذ ذلك المبدأ مداه في موسيقى بيتهوفن، التي تمثل ذروة اختزال الألحان في عدد قليل من النغمات. حيث تبلغ العلاقة الجدلية بين الجزء والكل عنده أوجّها، ويصبح العمل وحدة واحدة بحق، ليس مجرد علاقة خارجية بين العبارات وأجزائها بعضها ببعض كما هي عند أسلافه، بل أن موسيقى بيتهوفن تُظهر نزعة أكثر جذرية من سابقيه في اشتقاق الألحان واختزالها[4]، نحو الوحدات الصغرى، الأمر الذي ربما اعتبره موتسارت على سبيل المثال غير ذي بال. ويطلعنا الاشتقاق البيتهوفني للألحان من هذه الوحدات على علاقة وطيدة أكثر بين الصمت والنغم. ويُعد مشروعه أنجح من حيث استثمار تلك الوحدات الأكثر أوليّة دونًا عن سابقيه. واستطاع بذلك حل المشكلة، بطريقته الخاصة طبعًا، بإيجاد قوة دافعة حية داخل العمل، حيث تبدو كل نغمة كما لو كانت نتيجة تلزم لزومًا منطقيًا عما قبلها.
يمكن القول لنفس السبب أن تلقي أعمال هايدن وموتسارت أسهل من تلقي أعمال بيتهوفن، لما في الأخيرة من عمق وكثافة، وما تتميز به من جذرية اشتقاقية، على حد تعبير كريم الصياد، وهي بذلك تتطلب حضورًا أكثر من جانب المتلقي؛ أن يكون المُستمع حاضرًا وأكثر قربًا من العمل بكل ذهنه وحواسه. وعن طريق هذه اللغة البيتهوفنية حدث أن تكشَّف أمام الموسيقيين إمكانات حقبة ولغة موسيقية جديدة، ووثبة تعبيرية لم يسبق لها مثيل في تاريخ الموسيقى، بل في تاريخ أشكال الفنون كافة.
[1] مثال ذلك ما أنجزه موتسارت من إعادة توزيع أوركسترالي لأوراتوريو المسيح Der Messias لفريدرك هيندل، وهو ما يُعد مزجًا بين نظامين للتعبير الموسيقيّ، الكلاسيك والباروك. كما أن أعمال موتسارت في الموسيقى الدينية تُمثل مزجًا وتهجينًا للغتين موسيقتين يصعب التركيب فيما بينهما.
[2] ينطبق القول ذاته حتى على بعض أعمال هايدن في الستينيات، لمّا كان الأسلوب الكلاسيكية في طَوْر النشوء.
[3] برغم ذلك، يمكن القول أن الروح الروكوكويّة، التي تفصل بين الباروك وبين الكلاسيكيين الثلاثة، ظلّت حاضرة متوارية في مينويتاتهم.
[4] الصياد، كريم، الفردوس المسموع | كيف أصبح بيتهوفن بطل بيتهوفن، معازف، 2016.
المصادر والمراجع:
- Rosen, Charles. The Classical Style: Haydn, Mozart, Beethoven, New York: W.W. Norton, 1971.
- الصياد، كريم، الفردوس المسموع | كيف أصبح بيتهوفن بطل بيتهوفن، معازف، 2016.
- الصياد، كريم، لاهوت السيمفونيّة التاسعة | العنصر الديني في موسيقى بيتهوفن، معازف، 2014.
- لايختنتريت، هوجو، الموسيقى والحضارة، ترجمة: أحمد حمدي محمود، مراجعة: حسين فوزي، الدار المصرية للتأليف والترجمة-بدون رقم طبعة أو تاريخ طبع.