
[highlight color=”yellow”]حوار خاص بمنصة معنى.. الحقوق محفوظة لمنصة معنى والفيلسوفة سوزان هاك[/highlight]
شكرا لك بروفسور سوزان هاك على تفضلكِ بقبول هذه المقابلة للمرة الأولى معك في العالم العربي، ونأمل أن نتعلم منها الكثير حول وجهات نظرك في الشواهد والعلم والقانون. كما يسعدنا أنْ نرحب بكِ في “منصة معنى” التي تهدف إلي نشر الثقافة والمعرفة في العالم العربي.
***
وائل عبدالله: بروفسور هاك، لقد وضع اسمك ضمن كتاب “بيتر كنجس: الفلاسفة المئة: حياة وعمل مفكري العالم العظام؛ وطبقًا لاستطلاع أجرته هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) تم اختيارك ضمن أكثر عشر فيلسوفات أهمية في كل العصور، كما كانت أعمالك موضع إشادة كبيرة في العديد من الكتابات لعلماء عظام معاصرين. فهل يمكن أن تحدثينا عن مسيرتك الفلسفية وأهم الأعمال التي أهّلتك لمثل هذه المكانة؟
سوزان هاك: أولًا: دعني أقول لك إنَّ من بين الجزأين اللذين أشرت إليهما، أفضّل كثيرًا الجزء الأقل تحيزًا للجنس- أعتقد أن الفيلسوف هو فيلسوف، بغض النظر عن جنسه أو جنسها، ثم اسمح لي أن أضيف إنني وُصِفتُ علنًا مرتين بهذا الوصف: “يمكن القول إنها أهم فيلسوف على قيد الحياة”([1]). من الطبيعي أن أقرأ هذا الوصف بسرور كبير، لكنني أدرك كذلك أن مثل هذه الإشادة الكبيرة لا يمكن أن تفهم بالمعني الحرفي لها؛ فبلا شك إنه وصف محدود النطاق إلى حد كبير – من يدري، بعد كل هذا، فربما هناك فلاسفة عظماء يعملون بعيدًا عن الأنظار في الهند أو التبت أو الإكوادور أو …؟
ثانيًا: دعني أقول إنني لم أكن فيلسوفًة “مشهورًة” أو “معروفًة” حتى، أعلمُ جيدًا أن عملي يحظى باحترام وإعجاب عديد من المفكرين الجادين حول العالم؛ لكنني لم أسعَ أبدًا أن يكون لي تلامذة؛ وأنا أفضّل بشدة احترام وإعجاب الأشخاص الجادين على أولئك الذين يجاملونني أو يتملقونني. وبالطبع أكتب بوضوح قدر المستطاع؛ لذلك طالب الدكتوراة الذي يكتب في عملي سيضطر إلى دفع الأمور إلى أبعد من ذلك، وليس قضاء معظم وقته في معرفة ما قصدته!
هاك: هل يمكنني إخبارك عن مسيرتي الفلسفية؟
عبدالله: بالتأكيد!
هاك: حسنًا، لكن لا أستطيع أن أختصر ذلك في بضعة أسطر؛ لقد كانت مسيرة طويلة ومعقدة إلى حد كبير، سأبدأ بالأساسيات.
لقد حصلت على درجتي الجامعية ودرجة البكالوريوس في الفلسفة في أكسفورد (حيث درستُ أفلاطون على يد جيلبرت رايل، والمنطق لمايكل دوميت، والأخلاق على يد فيليبا فوت، والميتافيزيقيا من ديفيد بيرز)، ثم كانت الدكتوراة في كامبريدج (حيث تعلمت على الأرجح عل يد إيان هاكينج وإليزابيث أنسكومب).
الوظيفة الأولى لي كانت محاضرة مبتدئة في كلية البنات في نيو هول بكامبريدج، ثم ذهبت إلى جامعة واريك في المملكة المتحدة، حيث درَّستُ الفلسفة لما يقرب من عشرين عامًا، بعد ذلك انتقلت إلى الولايات المتحدة وجامعة ميامي، في البداية كأستاذ للفلسفة، وبعد ذلك – لأكثر من عشرين عامًا حتى الآن – كأستاذ في القانون أيضًا.
عملت لسنوات عديدة بشكل أساسي على المنطق وفلسفة اللغة، مما أدى إلى صدور كتابين ناجحين للغاية: “المنطق المنحرف” (1974)([2]) و”فلسفة المنطق” (1978)([3]). لكن كما تعلم، نمت اهتماماتي على مر السنين بشكل أكثر اتساعًا، بدأتُ في المنطق وفلسفة اللغة، ولكن سرعان ما أصبحتُ مهتمةً بمجالات أخرى أيضًا، لقد لخصتُ الأفكار الرئيسة لعملي كله في ورقتين حديثتين: واحدة من هذه الأوراق بعنوان: (العالم وكيف نعرفه، عام 2018)([4]) مرتبة ترتيبًا موضوعاتيًا، والأخرى (ليس واحدًا من الأولاد، عام 2020)([5]) مرتبة ترتيبًا زمنيًا أكثر منه موضوعاتيًا.
سأقتبس من الورقة الأخيرة، بدءًا من تأليف كتاب الشواهد والبحث العلمي:
بدأتً في المنطق وفلسفة اللغة، ولكن بعد أنْ طُلب مني تدريس دورة مدتها عام حول الإبستمولوجيا والميتافيزيقيا، التي يقدمها قسم الفلسفة في جامعة واريك، توسعت اهتماماتي مثلما خططت لذلك، ودرَّست، وكتبتُ في النهاية حول هذه المسائل الجديدة. في الوقت نفسه تقريبًا، بدأتُ بجدية في قراءة “تشارلز ساندرس بيرس”، مدفوعًة برفض “كواين” السببي لملاحظاته حول الحقيقة([6])؛ حيث كان مصدر إلهام لي للغوص أعمق وكذلك للامتداد أكثر. لذا بدأت عملي الإبستمولوجي بعد كتابيّ “المنطق المنحرف” و”فلسفة المنطق”. وفي النهاية، بعد سنوات عديدة، انتهيت من كتاب الشواهد والبحث العلمي([7]).
نتيجة لذلك، توسعت اهتماماتي حتى الآن، حيث تلقيت مبكرًا:
… سيلًا جارفًا من الدعوات غير المتوقعة؛ للدفاع عن موضوعية المعايير المعرفية ضد المتشككين من ضروب شتى، مما تطلب مني أن أمد نطاق اهتماماتي إلى أبعد من ذلك بكثير؛ حيث طورتُ ردودي المستمرة على مشككي ما بعد الحداثة، التي عبَّرتُ عنها في مقالات كتاب “بيان لمعتدل انفعاليًا“([8]). كان من بين أهدافي انتقاد النسويين الراديكاليين، وما بعد الاستعماريين، والنقاد السوسيولوجيين لمزاعم أن العلوم تخبرنا شيئًا عن كيف يكون العالم؛ وهكذا أدى هذا النقد، في الوقت المناسب، إلى النقاط والموضوعات المشوقة التي وردت في كتاب “دفاعٌ عن العلم – ضمن حدود العقل“([9])، الذي يقدم تقريرًا ليس فقط حول إبستمولوجيا العلم وافتراضاته الميتافيزيقية، لكن كذلك حول مكانته في المجتمع، وعلاقته بالقانون والأدب والدين.
تميلُ العديِد من تحولاتي الفلسفية إلى كونها فرص شبه خالصة، واستغلال جيد لأفكار عارضة:
… لقد دفعني اكتشافي أنَّ زميلًا في كلية الحقوق بجامعة ميامي كان يستخدم كتابي “الشواهد والبحث العلمي” في دورة تدريبية حول تحليل الشواهد إلى معرفة أن هناك كثيرًا من الأسباب تربط بين عملي وبين علماء الشواهد. حيث اكتشفتُ أنه في حين كان لدي نظرية في الشواهد وجودتها، كان النظام القانوني يتعامل يوميًا مع شواهد أكثر تعقيدًا وتشابكًا مما يمكن أن يتخيله أي فيلسوف. لذلك أمضيت سنوات عديدة في صقل أفكاري ومد نطاقها حول النزعة الأسسية المتسقة(*) أثناء تطبيقها في القانون، واستكشاف ما لنتائج فلسفتي للبداهة النقدية في العلم من أثر على تعامل المحاكم مع شهادات الخبراء([10])؛ حيث اضطلعت على إمكانات جديدة من زاوية نظري؛ فبدأتُ بالتعرف تدريجيًا على عمل القاضي أوليفر ويندل هولمز، ثم طورتُ رؤيتي الخاصة حول فلسفة قانون البراجماتية الجديدة([11])، تضمن هذا التطوير، جزئيًا، التفكير في النظم القانونية باعتبارها مؤسسات اجتماعية متطورة، والرجوع إلى الأفكار التي كنتُ قد طورتها سابقًا في الميتافيزيقيا وفي فلسفة العلوم الاجتماعية.
كان تأثير البراغماتية موجودًا منذ فترة طويلة:
… في السبعينيات، منذ أنْ بدأتُ في قراءة بيرس بجدية، كان عملي مسترشدًا دائمًا برؤى التقليد البراغماتي الكلاسيكي – نفور من المنهج القَبْلي (النظري) والتركيز فيما يتعلق بالعالَم، ونبذ الثنائيات الزائفة والبحث عن الاستمرارية، والأكثر صلة بالتقليد البراغماتي هنا هو عدم الاهتمام بالحدود الضابطة والاختصاصات الفرعية.
[بفضل البراغماتيين القدامى] تطورت أفكاري الميتافيزيقية إلى ما هو أبعد من التركيز التحليلي على لغتنا أو مخططاتنا المفاهيمية كما كان سائدًا آن ذاك: إن ميتافيزيقاي “دنيوية” مثل فلسفتي في العلوم، وبالتالي فهي تعتمد على الخِبرة؛ إلا إنها لا تعتمد على الخبرة البحثية التي تحتاجها العلوم، ولكن تحتاج إلى الاهتمام الوثيق بجوانب التجرِبة اليومية المألوفة جدًا، والتي قد لا نلاحظها عادةً.
كان هذا هو النهج الذي أدى إلى تشكيل رؤيتي الواقعية البريئة، وهي صورة وجودية- تختلف تمامًا عن الأشكال الأكثر شيوعًا للواقعية- لعالم أفضل تم وصفه بأنه عالم تعددي([12]). الأمر الذي تطلب مني مراجعة قضايا كتابي “الشواهد والبحث العلمي“، حيث طوَّرت من فَهم وجهة النظر التي بدأت بتكوينها وعمقتها ردًا على شكوك ستيتش وتشرشلاند حول وجود المعتقدات والمواقف الافتراضية الأخرى. وقد أعادني كذلك تفكيري حول دور المنطق في العلم أولًا، ثم دوره في القانون، إلى قضايا كتاب “فلسفة المنطق“، وخاصة مجال وحدود المناهج الصورية ([13]). كما أن تدريس مساق الفلسفة والأدب– مع تركيزي على الروايات الإبستمولوجية – قادني أيضًا إلى جميع أنواع الأسئلة المثيرة للاهتمام حول الأمانة الفكرية، والشواهد المضللة، والمعقولية الزائفة، وما إلى ذلك. حيث عالج كتابي “وضع الفلسفة للعمل“([14]) قدرًا كبيرًا من هذه الأسئلة، إلى جانب بعض الإحالات الساخرة حول حالة مهنتي، تلك المنتشرة كما هي عليه الآن، مع دوافع سيئة تقوض تدريجيًا الرغبة الحقيقية في اكتشاف الأشياء التي بدونها تكون الفلسفة الجادة صعبة المنال.
وفي الآونة الأخيرة؟
في الآونة الأخيرة، لاحظت ارتفاعًا واضحًا للعلموية في الفلسفة، كما هو الحال في ثقافتنا بشكل عام، عُدْتُ إلى بعض قضايا كتاب “دفاع عن العلم“؛ لتوضيح طبيعة هذا الخطأ، والأشكال التي يتخذها، وما الخطأ فيها ([15]). ومؤخرًا، بعد عقود من الصراع مع المطالب غير المعقولة للمحكمين والمحررين ومحرري النسخ، وخاصة الناشرين الأكاديميين منهم، حولتُ انتباهي إلى الحالة المزرية للنشر الأكاديمي([16]).
كما قلتُ أيضًا في ورقتي البحثية “ليس واحدًا من الأولاد“، وما قصدته من خلال عنونته “مذكرات أكاديمي غريب الأطوار”، لم يكن عملي مطلقًا مقتصرًا على الاتجاه الفكري الرائج؛ لقد كنت دائمًا، بطريقة ما، أغرد بعيدًا عن السرب. لهذا السبب، مع تقدم حوارنا، سأحتاج منك غالبًا إلى استجماع تركيزك لاستيعاب ما إذا كان عملي في هذا الاتجاه الرائج أو ذاك.
عبدالله: نالت كتبكِ كثيرًا من الشهرة وتُرجِمتْ أعمالك إلى أكثر من ثلاث عشرة لغة، لكن ما السبب الذي ترينه وراء الاهتمام الكبير من العلماء والفلاسفة والمفكرين والقانونيين بكتابك الرائد: “الشواهد والبحث العلمي: نحو إعادة البناء في نظرية المعرفة”؟
هاك: حسنًا، إنه كتاب جيد- كما ينبغي أن يكون- لقد استغرق تأليفه خمس عشرة سنة من السنوات الشاقة! وقد نال بالفعل حفاوة كبيرة. علاوة على ذلك، أيَّدته بحراره بعض الشخصيات المهمة، مثل: اللورد كوينتون، السير بيتر ستراوسون، هيلاري بتنام، ورودريك تشيزم. ولكن من بين هؤلاء، لم يكن هناك سوى واحد فقط من الإبستمولوجيين (تشيزم)، كما إنه لم يكن شريكًا في “الإنتاج” الإبستمولوجي الجديد الذي ازدهر في أواخر القرن العشرين.
ولهذا لم يَستقبِل هذا الإنتاج الإبستمولوجي الجديد كتابي بحرارة؛ لم يفهمه كثيرون، وأخشى أن بعض أولئك الذين فعلوا ذلك، فعلوه لإحساسهم بالغيرة نحوي، ولم يريدوا التعرف على ما فعلته، من أجل تهميشي! علاوة على ذلك، تعالج نظريتي مجموعة كبيرة من الانقسامات الزائفة التي أصابت الإبستمولوجيا الجديدة، مثل: السببية في مقابل المنطقية، والنزعة الداخلية في مقابل النزعة الخارجية، والنزعة الطبيعية في مقابل العلموية، والنزعة الأسسية في مقابل النزعة الاتساقية، وعلى وجه الخصوص، تجمع نظريتي بين عناصر كل من السببية وعناصر المناهج المنطقية، وتجمع كلًّا من النزعة الأسسية والنزعة الاتساقية.
حاول بعض الإبستمولوجيين المحترفين جاهدين إظهار أنني بلا شك أسسية، بينما رأى إبستمولوجيون آخرون أنني كنتُ بلا شك اتساقية؛ وزعم فريق ثالث خطأ أنهم يمتلكون نظريتي منذ وقت طويل. لكن الكتاب كان موضع تقديرٍ كبيرٍ من قبل أناس من خارج الإبستمولوجيا، فليس فقط الفلاسفة عمومًا الذين ربما يكونوا قد شعروا بالملل أو الإرهاق بسبب العمل الخاص والقاصر على المختصين في الإبستمولوجيا فقط، ولكن كان كذلك موضع تقديرٍ من قبل المؤرخين، ومن قبل علماء شتى من كل العالم، ومن قبل المحامين المهتمين بمسائل الشواهد، وهو أمر مهم جدًا. ومن الواضح أنَّ هؤلاء الأشخاص قد فهموا أنَّ الأسئلة حول ماهية الشواهد، وما الذي يجعلها أفضل أو أسوأ، كانت حاسمة في كل مجال من مجالات البحث؛ وإنني قمت بمحاولة جادة للإجابة عن هذه الأسئلة. وعلى عكس الرابطة الإبستمولوجية، التي كانت تميل إلى الاكتفاء بإجابات لفظية بحتة غير مفيدة، فقد عملت في الواقع على صياغة نظريتي بالتفصيل الدقيق – التفاصيل التي يقدرها الأناس الجادون بشأن الشواهد.
عبدالله: كما قلتِ، أنت تقدمين نظرية وسيطة، تجمع بين النزعة الأسسية والنزعة الاتساقية. فهل يمكن أن نتحدث عن “نظرية الكلمات المتقاطعة” الخاصة بك، حيث إنها استعارة مهمة بالنسبة لك؟
هاك: لا: الكلمات المتقاطعة هي استعارة مثمرة للغاية، لكنها ليست في حد ذاتها نظرية. وبدلًا من ذلك، إذا استخدمنا تعبيرًا آخر، فالكلمات المتقاطعة هي نقطة انطلاق نحو التعبير المفصل لنظريتي، ولكنها ليست النظرية ذاتها([17]).
كما تعلم، فإن النزعة الأسسية المتسقة هي نظرية وسيطة، بين النزعة الأسسية والنزعة الاتساقية. حيث إنَّ النزعة الأسسية المتسقة، على عكس النزعة الاتساقية، تشبه النزعة الأسسية في اعترافها بأن تجربة الشخص تلعب دورًا في تسويغ معتقداته حول العالم؛ كذلك، على عكس النزعة الأسسية، تشبه النزعة الأسسية المتسقة النزعة الاتساقية في كونها لا تتطلب أي معتقدات “أساسية” مميزة، ولكن يمكنها الإقرار بالدعم المتبادل الشامل لمعتقداتنا.
أدركت لأول مرة فائدة استعارة طريقة الكلمات المتقاطعة عندما كنت أحاول فهم كيف يمكن أن يكون هناك دعم متبادل دون أن أدُورُ في حلقة مفرغة؛ وذلك مثلما يحدث بين مُدخلات الكلمات المتقاطعة. ثم أدركت أن حل اللغز يكمن في شواهد الإدراك الحسي المتماثلة (تماثل شواهد الإدراك مع شواهد الذاكرة)، ومُدخلات المعتقدات السابقة. إن المعايير التي يمكن من خلالها الحكم على معقولية الاعتقاد، كما رأيتُ، كانت مماثلة للمعايير الخاصة بتحديد مدى معقولية إدخال الكلمات المتقاطعة، فعلى سبيل المثال: مدى دعم الشاهد الشخصي يتمثل في التماثل بين (مدى ملاءمة المُدخل لحل اللغز، ومدى ملاءمته للمُدخلات الأخرى المكتملة)؛ مدى ضمان استقلالية المعتقدات السابقة التي تضمنتها، عن ذاك المعتقد المعني يتمثل في (التناظر: بين مدى معقولية تلك المُدخلات الأخرى، بغض النظر عن هذا المدخل الفردي)؛ وكم الشواهد ذات الصلة التي تتضمنها شهادته (يمثل مقدار اكتمال الكلمات المتقاطعة). بالطبع، كل هذه كانت بحاجة أيضًا إلى توضيح التفاصيل الدقيقة.
لكن الاستعارة الآن تشبه إلى حد ما كلبًا أليفًا: لقد سمحت له بأخذي للتنزه، لنرى أين نذهب!
عبدالله: هل يمكن أن يُعد كتابك: “دفاع عن العلم.. ضمن حدود العقل: بين العلموية والتهكمية” تكملة لما بدأتِه في كتابك “الشواهد والبحث العلمي: نحو إعادة البناء في نظرية المعرفة”؟
هاك: من ناحية ما، نعم يعد ذلك. إنَّ الفكرة القائلة بأنَّ البحث العلمي عمل متصل بالبحث الإمبريقي اليومي العادي قد تم اقتراحها بالفعل وباختصار شديد في كتاب “الشواهد والبحث العلمي“؛ كما تم استخدام التقرير الخاص بالشواهد وجودتها المذكور في كتاب “الشواهد والبحث العلمي“؛ حيث تمت توسعته وصقله في كتاب “دفاع عن العلم“.
ولكن من الناحية الأهم “لا” يعد ذلك. إنَّ التقرير التفصيلي للشواهد العلمية والبحث العلمي، والتقرير الجديد لميتافيزيقيا العلم، كلها أمور جديدة تمامًا في كتاب دفاع عن العلم.
أنا أزعم أنه لا يوجد ما يطلق عليه “المنهج العلمي”: أي لا يوجد أسلوب للاستدلال أو إجراء خاص بالبحث العلمي يستخدمه جميع العلماء ووحدهم، ويشرح نجاحات العلوم؛ فلا يوجد سوى:
- الاستدلالات والإجراءات المستخدمة من قِبَل جميع الباحثين الإمبريقيين الجادين (قدم فرضًا جيدًا يهتم بتفسير بعض الظواهر الغامضة، ثم تحقق من مدى موافقته للشواهد التي لديك، وأي شاهد آخر يمكنك الحصول عليه)؛ وهذه لا يستخدمها العلماء فقط.
- الأدوات والتقنيات الخاصة التي طورها العلماء تدريجيًا على مدى قرون (أدوات الملاحظة، وحساب التفاضل والتكامل، والتقنيات الإحصائية، والنماذج والاستعارات، وأجهزة الكمبيوتر وبرامج الكمبيوتر، والخدمات الاجتماعية مثل مراجعة الأقران، وما إلى ذلك)؛ والتي غالبًا ما تكون محدودة النطاق ودائمة التطور، ولا يستخدمها جميع العلماء. و:
- مشاركة كثير من الناس في الممارسات العلمية؛ أولئك الذين قد يكونون بعيدين عن بعضهم آلاف الأميال أو تفصل بينهم مئات السنين.
إن جميع ما سبق هو ما يفسر كيف تمكنت العلوم من الحصول على مزيد من الشواهد، وتقدير قيمتها على نحو أفضل، والحفاظ على صدق الناس، وتشجيع الإبداع، وما إلى ذلك؛ ومن ثم نجاحاتها.
أزعم أنَّ الشواهد العلمية تشبه الشواهد التي تتعلق بالأمور التجريبية بشكل عام؛ إنها مسألة خبرة وتعقل. لكنها غالبًا ما تكون أكثر تعقيدًا وتشابكًا من الشواهد اليومية، والتي عادة لا يمكن لشخص واحد امتلاكها بالكامل، ولكنها المصدر الذي يربط بين عديد من الأشخاص. ونظرًا لأن البشر هم من يمتلكون الخبرة الحسية، فقد رأيت من الضروري البدء بهم، كما يمكنني استخدام الأفكار التي تم تطويرها في كتاب “الشواهد والبحث العلمي“؛ ومع ذلك، فإنَّ الانتقال من هناك إلى تقرير مدى صلاحية نظرية علمية لمجموعة من الناس، وكذلك الانتقال من هناك إلى فَهم مدى صلاحية نظرية علمية في وقت بعينه، يتطلب قدرًا هائلًا من العمل الإضافي. لقد ساعدت الاستعارة الخاصة بالكلمات المتقاطعة في اقتراح كيف يمكن للأشخاص ذوي المواهب المختلفة التعاون. (يعد تعاون جيمس واتسون وفرانسيس كريك في اكتشاف بنية الحمض النووي مثالًا جيدًا على هذا) ([18]).
كان من الصعب للغاية وضع تصور اجتماعي لمدى صلاحية نظرية علمية بعينها. لكن العمل الإضافي أفادني كثيرًا: فقد مكّنني من تحسين وتوسيع التقرير الخاص بكتاب الشواهد والبحث العلمي، وفهمني لماذا التبادل الواضح وغير المعوق للنتائج بين العلماء مهم جدا- والذي بدوره مكّنني من توضيح كيف أن علم اجتماع العلم الواسع المعرفة من الناحية الإبستمولوجية قد يعمل جنبًا إلى جنب مع مفهوم معقول للشواهد العلمية والمناهج.
إن هدف العلم، كما أزعم، هو اكتشاف حقائق تفسيرية مهمة حول العالم (وليس مجرد الوصول إلى نظريات “مقبولة تجريبيًا”، كما ادعى التجريبيون البنيويون). والعالم الذي يسعون حوله للوصول للحقائق هو بالطبع العالم الواقعي الوحيد- العالم المركب والمتكامل الذي وصفته في ميتافيزيقاي الواقعية البسيطة([19])– عالم من الأشياء المادية والظواهر والأنواع والقوانين، والمشاهد التي نراها من زاوية صغيرة للكون “خاصة بنا” من خلال الحالات والعمليات العقلية البشرية، ومن خلال جميع المصنوعات المادية والاجتماعية والفكرية والخيالية التي أنشأناها نحن البشر.
لكن بالطبع ليس هناك ما يضمن صحة النظريات العلمية. اتضح أن كثير منها على خطأ. ولا يوجد أي ضمان على أنَّ العلم دائمًا ما يحرز التقدم أو سيستمر في إحرازه.
عبدالله: في هذا الكتاب تحاولين التوفيق بين اتجاهين ترينهما متطرفين في موقفهما من العلم: الاتجاه الأول تمثله النزعة التبجيلية للعلم؛ تلك النزعة التي تفرط في تبجيل العلم، بحيث تصل إلى تقديسه. أما الاتجاه الثاني، فتمثله النزعة التهكمية من العلم؛ تلك النزعة التي تفرط في الحط من قدر العلم لدرجة تصل إلى القول بأنه ليس هناك سوى القوة والسياسة والخطابة. فهل يمكن أن تذكري لنا أمثلة من تاريخ العلم على هذين الاتجاهين؟
هاك: حسنًا، قد يكون كتاب إي. أو. ويلسون “التكاملية: وحدة المعرفة”([20]). أفضل مثال حديث على العلموية. إنه حقًا يشبه أن يكون كتابين بسعر كتاب واحد! يقول أحدهما إن كل الحقائق حول العالم يجب، بطريقة ما، أن تتكامل معًا. وإنني لا أجد غضاضة في ذلك. في حين يقول الآخر، متناغمًا مع الأول إن كل الحقائق المتعلقة بالمجتمع، والدين، والأخلاق، وعلم الجمال، والقانون، وما إلى ذلك، يمكن اختزالها في حقائق علم الأحياء. هذه هي العلموية – وهي بالطبع خاطئة بشكل صارخ.
ولكن لأسباب واضحة، فإن التقليل من شأن العلم ليس شائعًا جدًا بين العلماء أنفسهم؛ بل هو بالأحرى، موقف يتبناه علماء الاجتماع الراديكاليون ومؤرخو العلوم، مثل “البرنامج الراديكالي” لبارنز وبلور أو “البرنامج القوي” لهاري كولينز، إلخ([21]).
لطالما كانت هناك جذور للعلموية في الفلسفة؛ فعلى سبيل المثال تظهر العلموية في إصرار تشيرشلاند على أنَّ علم الأعصاب يُظهر بطريقة ما عدم وجود معتقدات([22]). لكن في الآونة الأخيرة، يؤسفني أن أقول، أصبحت العلموية شائعة بشكل مزعج في الدوائر الفلسفية: فعلى سبيل المثال بين أولئك الذين يعتقدون أننا يجب أن ننظر إلى العِلم في إطار معاييرنا المعرفية، أو من أجل التزاماتنا الميتافيزيقية([23])، وحتى أولئك الذين يؤكدون على ذلك بصراحة وعلى أكثر من ذلك أيضًا، دون جدال، مثل أليكس روزنبرج الذي يرى أن “الفيزياء تُصلِح جميع الحقائق”، توصلوا إلى نتيجة غريبة مفادها: أنه لا توجد قيم أخلاقية، أو جمالية، أو معرفية على ما يبدو، وأن “الدماغ يفعل كل شيء دون التفكير في أي شيء على الإطلاق”([24]).
عبدالله: هل تنتمي فلسفة العلم لديك إلى تيار فلسفة العلم الجديدة، التي تميل إلى الواقعية والاعتدال، وترفض المغالاة في أي شيء، فهل هذا صحيح أم أنني أخطأت التقدير؟
هاك: لا أعرفُ حقًا ما تعنيه بـ “فلسفة العلم الجديدة”. ومع ذلك، أعلم أن أقوى التأثيرات على تفكيري هنا كانت لكثير من الفلاسفة والعلماء الكبار، أمثال: توماس هكسلي، بيرسي بريدجمان، ألبرت أينشتاين، جون ديوي،..([25]).
وأعلمُ أيضًا أن الأشكال الحديثة للواقعية العلمية، والتي لا أتعاطف معها كثيرًا، تميل نحو التطلع إلى علوم تترنم بمصطلحاتنا الأنطولوجية. وهذا كما قلت سابقًا هي شكل من أشكال العلموية!
عبدالله: تنتقدين بشدة فلسفة العلم عند كارل بوبر. فلماذا هذا النقد؟
هاك: حسنًا، لقد خدعني بوبر لبعض الوقت: لقد صدقته عندما قال إنه من أنصار القابلية للتكذيب. لكن بعد ذلك، عند كتابة الشواهد والبحث العلمي، أدركت أنه ليس لديه حل معقول لمشكلة “الأسس التجريبية” للعلم: لا يمكن أنْ تكون هذه تصورات العلماء، كما يقول بوبر، لأن الإدراكات الحسية لا يمكن أنْ تدخل في علاقات منطقية مع النظريات العلمية؛ حيث إن اتفاق أعضاء المجتمع العلمي هو الذي يحدد قبول العبارات الأساسية المدركة حسيًا من عدمه – والذي لا يُظهر بالطبع أنها صحيحة.
من المعروف أنَّ تأكيد بوبر ينكر إمكانية إظهار النظريات العلمية على إنها صحيحة أو محتملة أو “مؤكدة”، ولكن يظهرها على أنها تم اختبارها فقط ولكن لم يتم تكذيبها بعد. ما لا يدركه معظم الناس هو أنه إذا تم قبول العبارات الأساسية فقط عن طريق الاتفاق، فلن يتم تناول هذه العبارات على أنها صحيحة مطلقًا – وهذا يعني أنه من غير المعروف أبدًا أن النظريات العلمية خاطئة أيضًا! هذه ليست قابلية للتكذيب. إنها نزعة شكوكية صريحة وواضحة!
عبدالله: هل تغيرت معايير العلم في هذه الأيام التي تمثل عصر التقدم العلمي والتكنولوجيات الفائقة عن معايير العلم التي كانت سائدة لدى فلاسفة ما بعد الوضعية؟
هاك: الإجابة المختصرة هي “لا”. أولًا، كان هناك كثير من التقدم العلمي قبل الوضعية بفترة طويلة، وما إلى ذلك. ثانيًا، لا أعتقد أن العلماء أنفسهم قد تأثروا بالفلسفة بالقدر الذي يوحي به سؤالك. صحيح أنه في النصف الثاني من القرن العشرين أعلن بعض العلماء أنهم بوبريون. وعلى الرغم من ذلك عندما تدقق النظر، سرعان ما ترى أنهم ببساطة لم يفهموا بوبر.
فعلى سبيل المثال، أحب السير بيتر مدوار اعتراف بوبر بأن العلْم يحتاج إلى الخيال، ولكن بالطبع لم تكن هذه الفكرة جديدة أو أصلية تفرد بها فكر بوبر. وعلى أية حال، اعتقدَ مدوار أنه بمجرد أن يتخيل العالِم تفسيرًا محتملًا، تكون الخطوة التالية هي تأكيد ما إذا كان هذا التخيل صحيحًا أم لا!، كما يبدو أن السير جون إكليس أحب فلسفة بوبر؛ لأنها ساعدته في التغلب على الاكتئاب عندما تبين أنَّ فكرة سابقة له كانت خاطئة. وقد أحب السير هيرمان بوندي أن يتحدث عن الفرض الكوني الأول القابل للتكذيب والذي تم تكذيبه تمامًا، ثم تم اعتماد فرض جديد- والذي “أكده جيدًا بالملاحظة” لاحقًا كما يَذكُر([26]).
كما أن كثيرًا من العلماء الآخرين من المرتبة الأدنى، الذين يعتقدون أنهم بوبريون، عادة ما يرددون أشياء عن النظريات العلمية بأنها “قابلة للتكذيب”، مع عدم وجود دليل على أن جميع النظريات العلمية لا تتوافق مع هذا الوصف، ولا حتى كلمة “القابلية للتكذيب” عند بوبر لا تعني أنه “يمكن رؤيتها على أنها كاذبة”.
لكن لحسن الحظ، لا يبدو أنَّ هذه النزعة البوبرية الكاذبة المضللة كان لها تأثير كبير على عمل العلماء.
عبدالله: هل يمكن أن نسمي هذه العصر الذي نعيشه “عصر البيانات الضخمة”؟، وهل يمكن أن نعد البيانات الضخمة مصدرًا جديدًا من مصادر المعرفة؟
هاك: إنَّ الحديث عن “عصر البيانات الضخمة” فيما أعتقد هو سابق لأوانه. هذا هو عصر الكمبيوتر بالتأكيد. لكننا لا نعرف حتى الآن إلى متى سيستمر التمركز الذي ظهر مؤخرًا حول مجموعات البيانات الضخمة.
على أية حال، إذا فهمتُ “البيانات الضخمة” بشكل صحيح، فإنها تمثل ببساطة أداة جديدة للعلوم (كما فعل حساب التفاضل والتكامل وعلوم الإحصاء وأجهزة الكمبيوتر). أعتقد أنها من المحتمل أن تكون مفيدة جدًا في علم الأوبئة على سبيل المثال؛ وأنا أعلم أنه قد تم استخدامها لابتكار طريقة للتمييز بين التوائم المتماثلة عن طريق “بصمة الحمض النووي”، أو كما يَزعمون ذلك([27]).
بالتأكيد سيحتاج العلماء إلى أن يكونوا على دراية ببرامج الكمبيوتر التي يمكن تسخيرها لمعالجة البيانات الضخمة، حيث يحتاجون إلى استخدام برامج خاصة بالتحليل البعدي للدراسات الوبائية المتعددة.
عبدالله: أشرت في كتابك: “دفاع عن العلم…ضمن حدود العقل: بين العلموية والتهكمية” إلى أن هناك علاقة بين العلم والأدب، من وجهة نظركِ ما طبيعة هذه العلاقة؟
هاك: إن الهدف من الفصل المعني بالعلم والأدب في كتابي “دفاع عن العلم” هو استكشاف أوجه التشابه والاختلاف بين المجالين. لنأخذ مثالًا واحدًا مهمًا: تتطلب كل من ممارسة العلوم والكتابة الأدبية الخيال، لكن العلماء يأملون أن تتحول بناياتهم الخيالية إلى حقيقة، وأن تكون نظرياتهم واقعية، في حين أن الروائيين لا يقصدون أن يكونوا بارعين في التصوير المجازي فحسب، بل يقصدون أن يكونوا خياليين أيضًا، وفوق ذلك يكشفون النقاب عن العالم الحقيقي والأشخاص الحقيقيين.
عبدالله: هل هناك أيضًا علاقة بين العلم والقانون؟ وهل هناك علاقة بين الاستدلال العلمي والاستدلال القانوني؟ وهل يمكننا الاستفادة من نظريتك حول الشواهد والبحث العلمي داخل المحاكم؟
هاك: في الحقيقة هذه ثلاثة أسئلة في سؤال واحد- كلها أسئلة كبيرة؛ سأحاول أجيب عن كل منهم بشكل فردي.
لكن أولًا يجب أن أقول إنه ببساطة لا يوجد شيء يمكن وصفه بأنه “النظام القانوني”، أو” القانون “؛ لا يوجد سوى عدد لا يحصى من الأنظمة القانونية المنتشرة حول العالم التي تختلف عن بعضها إما بشكل بسيط وإما على نحو معقد. والذي أمكنني معرفته عن النظام القانوني السعودي – القائم على الشريعة، مع إضافة تشريعات قانونية جديدة تحكم التجارة والأعمال مؤخرًا([28])– يخبرني بأنني ببساطة غير مؤهلة للتعليق عليه. حيث سيستغرق ذلك سنوات عديدة من الدراسة وحياة جديدة تمامًا! لذا سأخبرك، بدلًا من ذلك، شيئًا عن الأنظمة القانونية الغربية.
تنقسم هذه الأنظمة إلى فئتين عريضتين: تمثل الفئة الأولى أنظمة القانون العام: (المملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، وما إلى ذلك)، وتمثل الفئة الثانية أنظمة القانون المدني: (قارة أوروبا وأمريكا اللاتينية وما إلى ذلك). تعتمد أنظمة القانون المدني على القضاة لتحديد المسائل الواقعية وكذلك القانونية.
إن جميع الأنظمة القانونية لديها بعض القواعد التي تنظم مسؤولية البرهنة (أيِ الأطراف يجب عليه أن يقدم الشاهد من أجل الحكم لصالحه) وبعض القواعد التي تتعلق بمعيار الحكم على البرهنة (ما مدى قوة الشاهد المطلوب). في قانون الولايات المتحدة، كما هو الحال في جميع أنظمة القانون العام، تقع مسئولية الدفاع في القضايا الجنائية على عاتق المدَّعي عليه، ويكون معيار البرهنة “بما لا يدع الشاهد مجالًا للشك”؛ أما في القضايا المدنية فيقع عبء إثبات الذنب على عاتق المدَّعي، والمعيار هو “البراهين الدامغة”. تفرض مثل هذه الأنظمة أيضًا قيودًا مختلفة على الشواهد، حتى الشواهد وثيقة الصلة، التي يمكن تقديمها إلى القائمين على تقصي الحقائق: على سبيل المثال لا تعد الشائعات شاهدًا، لأن الشخص الذي يُفترض أنه قال كل شيء لا يمكن استجوابه ثانية. وعلى العكس من ذلك نجد في أنظمة القانون المدني عادة ما تكون جميع الأدلة ذات الصلة مقبولة، والأمر متروك للقاضي للحكم عليها، وليس لهيئة المحلفين، كما هو الحال في أنظمة القانون العام.
ترتبط جميع النظم القانونية الغربية الحديثة على الأرجح بالعلم بطرق مختلفة.
التفاعل ما بين العلم والقانون: أعرف جيدًا أن في الولايات المتحدة تنظم الحكومة البحث العلمي الذي تعتقد أنه قد يكون خطيرًا؛ حيث تلاحق بين الحين والآخر علماء يتبين أنهم ارتكبوا عمليات احتيال في عمل تم إجراؤه بتمويل فيدرالي، فقد يتم الرجوع إليها للفصل في النزاع القائم بين العلماء وممثلين قانونيين، كما هو الحال مع الخلاف القانوني حول الهيكل العظمي “كينويك مان”([29]) البالغ من العمر 9000 عام؛ وما إلى ذلك. لكن ربما يكون التفاعل الأكثر أهمية ما بين القانون والعلم تجاوز مرحلة الشهود العلميين الذين يُستدعون أحيانًا في المحكمة: فعلى سبيل المثال علماء الطب الشرعي، أو الأطباء النفسيون في القضايا الجنائية، أو علماء الأوبئة أو علماء السموم، وما إلى ذلك، في قضايا الضرر السامّْ (حيث يدعي المدعي أنه تعرض للأذى بسبب مخدر أو ملوث).
لقد خضع قبول تلك الشهادات (فدراليًا، في الوقت الحالي، وفي معظم الولايات) لأحكام المحكمة الأمريكية العليا في قضايا دوبير([30]) وجوينر([31]) وكومهو للإطارات([32]). ومن المحزن أنَّ المحكمة العليا في قضية دوبير قد ورطت نفسها مع فلسفة علم شبه بوبرية– حيث خلطت بين بوبر وهمبل، والأسوأ أكثر، كون هذه الشهادات معتمدة وكونها علمية. إن قضية دوبير وما شابهها لم يكن لها تأثير كبير في القضايا الجنائية، لكن التأثير الرئيس لما يُعرف باسم “ثلاثية دوبير”- على الرغم من أنها صُنعت على الأرجح على أمل الحفاظ على الشهادات غير المعتمدة من تضليل هيئة المحلفين– كان يتمثل في جعل عملية الحصول على شهادة علمية معترف بها عملية صعبة على المدّعين، حيث يوجد الآن عديد من العراقيل التي قد يضطرون إلى تخطيها إذا تحداهم المدعى عليهم.
في الاختصاصات القضائية للقانون المدني- على الرغم من أنَّ قضية دوبير كان لها بعض التأثير هناك أيضًا- تحدث هذه الأمور بشكل مختلف: فعلى سبيل المثال عادة ما يكون القاضي هو الذي يعين الشهود الخبراء، وليس أطراف النزاع. ولكن، كما قلتُ سابقًا، في جميع النظم القانونية الغربية الحديثة، سيكون هناك تفاعلات عديدة بين العلم والقانون.
فائدة الإبستمولوجيا (الجيدة) بالنسبة للقانون: يحتاج القانون إلى فَهمٍ جيد للشواهد وكفاءتها؛ وذلك لأن القرارات القانونية تستند أو ينبغي أن تستند على أساس من الشواهد المقدمة. يمكن أن تشرح مقاربتي على سبيل المثال السبب وراء قوة مجموعة من الشواهد بما يجعلها كافية للوصول إلى معيار البرهنة المحدد، والتي لا يكفي أي شاهد منها بمفرده، وحتى عندما يحدث ذلك([33]). مرة أخرى، يمكن أن تشرح مقاربتي لماذا الشاهد على أن احتمال تطابق الحمض النووي لهذا المتهم مع الحمض النووي الذي تم العثور عليه في مسرح الجريمة لا يمكن أن يخبرنا في حد ذاته باحتمالية ارتكاب المدعى عليه للجريمة، أو لماذا الشاهد الوبائي على زيادة خطر الإصابة بمرض الاضطراب بين أولئك الذين تعرضوا لعقار معين لا يمكن أن يخبرنا بمفرده عن احتمال أن يكون هذا العقار هو الذي قد تسبب في مرض هذا المدعي([34]).
في الواقع، لقد أقر القاضي راسل براون من المحكمة العليا الكندية بفائدة مقاربتي، في “تمهيده” الرائع للكتاب التذكاري حول أعمالي، والذي تحدث فيه عن “مساهمتي الأساسية والدائمة في هذا الأمر”([35]).
ومع ذلك، أعتقد أن نظريتي في المعرفة العلمية تُستخدم بشكل مفيد للغاية في تثقيف القضاة والمحامين، بدلًا من محاولة ذلك داخل المحكمة- حيث من المحتمل أنْ يكون أمر فهمها صعبًا للغاية بالنسبة للقضاة أو المحلفين عند تقديمها بإيجاز وبسرعة.
الاستدلال العلمي والاستدلال القانوني: أولًا: لا يوجد نوع من الشواهد أو شكل من أشكال الاستدلال ينفرد به العلم؛ حيث يتوصل العلماء بشكل أساسي إلى الاستدلالات مثل أي شخص آخر، على الرغم من أن شواهدهم غالبًا ما تكون معقدة جدًا. ومع ذلك فهم قد يستخدمون أحيانًا أدوات استنتاجية يختص بها مجالهم؛ على سبيل المثال استخدامهم لبعض الاستدلالات الإحصائية القاصرة على مجال تخصصهم.
ثانيًا: بينما توجد أشكال مختلفة من الاستدلال القانوني، على الأقل في البلدان التي تطبق نظام القانون العام- تتميز هذه الحالة من الاستدلال وتختلف عن حالات الاستدلال السابقة، حيث يمكن الزعم بأن هذه الحالات ليست مجرد طريقة من طرق الوصول إلى بعض الحقائق القانونية؛ بل إنها مسألة محاولة المحامي إقناع القاضي بالتعامل مع هذه القضايا على أنها متشابهة أو مختلفة بالنسبة لقضايا أخرى، أو عرض المحكمة سببًا منطقيًا لحكمها([36]).
عبدالله: هل تصفين نفسك بأنك من بين البراغماتيين الجدد؟ وهل تفضلين البراغماتية الجديدة على القديمة؟
هاك: لقد كان لكثير من الناس بالغ التأثير على عملي – فلاسفة وعلماء وروائيين، إلخ. لكن التأثير الفلسفي الأقوى جاء من البراغماتيين القدامى، أمثال: تشارلز ساندر بيرس، وويليام جيمس، وجون ديوي، وجورج هربرت ميد، وأوليفر ويندل هولمز الابن. فعلى سبيل المثال تعلمتُ من خلط بيرس بين القابلية للخطأ و”الإيمان الكبير بواقعية المعرفة” ألا أتخيل أن القطعية والشكية هما الاحتمالين الوحيدين؛ لقد تعلمت دروسًا قيمة في مقاربتي الميتافيزيقية من تأملاته حول معنى “الحقيقي”. بدأت أدرك جيدًا أنني كنت دائمًا أبحث عن الاستمرارية مثلما كان يفعل؛ لقد أدركتُ من خلال التأمل في العديد من تعابيره الجديدة وأفكاره حول تطور المعنى، القيود العديدة للشكليات المنطقية وأهمية الابتكار المفاهيمي؛ كما رأيت (مؤخرًا) كيف أن فكرته عن الفلسفة باعتبارها ممارسة تجريبية، بمعنى الاهتمام الوثيق بالتجربة اليومية فقط، وليس على التجربة البحثية التي تسعى إليها العلوم، كانت السبب وراء ظهور الفلسفة على أنها يمكن أن تتم ببداهة بحتة، لكنها لا يمكن أن تتم هكذا.
تعلمتُ من التأملات غير التقليدية لوليم جيمس طريقة مختلفة للنظر إلى الأخلاق (وبعد ذلك القانون)، وقد ساعدتني كذلك في تفكيري حول العلاقة بين الفلسفة والأدب، وكما ترى في كتابي “الاختلافات التي تُحدِثُ فرقًا“([37]) تعلمتُ الكثير من دفاعه عن أهمية الأفراد، بما في ذلك كيفية مقاومة التفكير الجماعي الذي يستحوذ على الأكاديمية الأمريكية. تعلمتُ من جون ديوي طريقة للتفكير في اتصال العلوم بالبحث العلمي اليومي، وتعلمت منه كذلك الكثير عن الأخلاق، كما حصلتُ بالطبع على عمله الرائع عن الانقسامات الكاذبة، تلك التي تجنبها جميع البراغماتيين- مثلما تجنَّبتُها أنا في: “ثنائيات لا يمكن الدفاع عنها“، لقد ساعدني كذلك في التفكير في التعليم، وكذا الغموض الذي يكتنف مفهوم الديمقراطية وإساءة استخدامه من قبل الأنظمة الاستبدادي. وبالإضافة إلى كل ما سبق ساعدني أيضًا في فهم الكثير من قضايا الفن. لقد تم دعم تفكيري حول العقل واللغة بشكل كبير جدًا من خلال جهود ميد السابقة، والتي تم التعبير عنها على نحو جريء ولكن محكم للغاية. إنَّني مدينة أيضًا بالكثير لهولمز في تفكيري في القانون كمؤسسة بشرية دائمة التطور.
لست متأكدة تمامًا بخصوص من تقصده تحديدًا عندما تتحدث عن البراغماتية “الجديدة”. ولكن إذا كنت تقصد عمل ريتشارد رورتي، فلا بد لي من القول إنه ليس ثمة قاسم مشترك يجمعني به[38]). ودعني ألفت انتباهك مرة أخرى إلى تلك المقابلة الأخيرة([39]): بالتأكيد أنا لست من معجبي رورتي! في الواقع، ربما كنتُ أكثر منتقدي رورتي فاعلية- حتى أنني ذكرت في نعيه هذا الأمر! من وجهة نظري، ما قدمه رورتي كان عبارة عن خليط فوضوي للأفكار الغامضة لما بعد الحداثة تحت عنوان مضلل بشكل صارخ “البراغماتية”. لقد رفض بيرس، الذي ربما يكون أفضل عقل فلسفي أنتجته أمريكا على الإطلاق، ووصفه بأنه “مخبول هدّه التعب” وكان إسهامه الوحيد في البراغماتية هو إعطاءها اسمها. لقد أظهر كتابي “نحن البراغماتيون: بيرس ورورتي في المحادثة” (1996)([40]) كيف اختلف بيرس ورورتي حول كل شيء تقريبًا؛ وأن بيرس هو العقل الأفضل إلى حد بعيد.
في الواقع لم يتمكن رورتي حتى من فهم ديوي، على الرغم من تصريحه أنه شديد الإعجاب والتأثر به. ولكن على العكس من ذلك استمر بشكل سخيف في تقديم ما كان ديوي يَعرِفه بأنه انقسامات كاذبة. إما أن تكون الحقيقة هي مماثلة الأشياء مع ذاتها، أو هي ليست سوى ما يمكنك الدفاع عنه ضد جميع اعتراضات المحادثة؛ وإما أن تكون الفلسفة خادمة للعلوم، أو أنها ليست سوى نوع آخر من الأدب؛ .. إلخ. باختصار، كما أشرت في كتاب “الشواهد والبحث العلمي” وناقشتُ بالتفصيل في مقالتي ” إلى أن فلسفته بأكملها مصابة بهذا الخُبث أو العدمية.
وعلى نحو أكثر إيجازًا وتحديدًا، تشمل خلافاتي الكبيرة مع رورتي ما يلي: أعتقد أن الفلسفة هي شكل من أشكال البحث، لكن رورتي ينفي ذلك، مدعيًا أنها نوع من الأدب، أو مجرد “نوع من الكتابة”. أعتقد أن الإبستمولوجيا والميتافيزيقا مكونات أساسية ومهمة من الفلسفة (وقد كرست لها كثيرًا من الوقت)؛ لكن رورتي يدعي أنها غير شرعية، ويجب التخلي عنها ببساطة وليس فقط استبدالها. أعتقد أن هناك ما يسمى بالحقيقة الموضوعية، لكن رورتي يتفاخر بأنه “لم يستخدم هذا المفهوم كثيرًا. كما إنني أعتقد أن هناك معايير موضوعية للتفرقة بين الشواهد الأفضل والشواهد الأسوأ، وقد أمضيت سنوات عديدة في العمل على توضيحها، لكن رورتي يزعم أن هذه ليست سوى أعراف اجتماعية.
أما إذا كنتَ تقصدُ بدلًا من ذلك “البراغماتية التحليلية” الأحدث التي روج لها روبرت براندوم؛ فسأقول بكل بساطة إنني لاحظتُ الآتي، أولًا: إن براندوم ليس لديه الكثير ليقوله عن عمل تشارلز بيرس الرائد في السيميائية، أو عن مفهوم جون ديوي للمعنى باعتباره خاصية سلوكية، أو عن مساهمات “هيربرت ميد” الرائعة في الفلسفة أو اللغة والعقل؛ وثانيًا: إن البراجماتية التحليلية كانت مشغولة كثيرًا بفلسفة اللغة باعتبارها جوهر الفلسفة، وكانت كذلك متأثرة كثيرًا بأفكار فيتغنشتاين، إن عمل براندوم يبدو لي تحليليًا إلى حد يبعد كثيرًا عن البراغماتية.
عبدالله: أستاذة هاك، من واقع خبراتك ودراساتك المتعددة والمتشعبة في شتى فروع المعرفة؛ ما أهم القضايا التي يجب على الباحثين في هذه الأيام الاهتمام بها ودراستها في مجال الفلسفة والعلم والقانون؟
هاك: كما قلتُ لك من قبل، أحيانًا تكشف أسئلة بعض شباب الباحثين حول أي الموضوعات أولى بالدراسة عن سوء فهم منهم. وبصراحة أفضل عدم الإجابة عن هذا السؤال! فليس لي أن أتحدث عن الأسئلة التي يجب على الآخرين الاهتمام بها. إنَّ الباحثين العلميين الجادين حقًا، مهما كان مجالهم، سيعالجون بطبيعة الحال تلك الأسئلة التي يعتقدون أنها مهمة، والتي يمكنهم المساهمة فيها. وهذا تمامًا ما ينبغي أن يكون! فمن الأفضل أن يكون لديك عديد من العقول المستقلة لتتمكن من العمل من زوايا مختلفة.
لكن لأن مهنتنا في الوقت الحاضر، على الأقل في الجزء الذي أعيش فيه من العالم، منشغلة بشكل رهيب بالبدع والموضات العابرة، أود أن أحذر الفلاسفة من شيء واحد فقط؛ أقول لهم: لا تفكروا أو تكتبوا عما يحدث لتظهروا بشكل أكثر حداثة أو عصرية! بل فكروا واكتبوا عن مواضيع يكون لديكم اهتمام حقيقي بها؛ فإذا قمتم بذلك، فقد تجدوا لديكم شيئًا جديدًا لتقولوه؛ وبعدها يمكنكم البحث عن أفضل طريقة لقول ذلك([42]).
عبدالله: أستاذة هاك، في النهاية أنا شديد الامتنان لصبرك ووقتك، لقد أفدت أعظم إفادة من هذا اللقاء.
هاك: شكرا لك، لقد كان من دواعي سروري التحدث معك.
([1]) Timothy Crowley, Citation for Susan Haack. Unpublished, available here: https://www.academia.edu/33577151/Citation_for_Susan_Haack 2016. Robert Hanna, “Editor’s Introduction” to the reprint of Susan Haack, “Not One of the Boys: Memoir of an Academic Misfit” (Cosmos + Taxis 8, no.6 (2020): 92-106), APP August 3, 2020.
([2]) Susan Haack: Deviant Logic (Cambridge: Cambridge University Press,1974).
([3]) Susan Haack: Philosophy of Logics (Cambridge: Cambridge University Press, 1978).
([4]) Susan Haack: “The World and How We Know It: Stumbling towards an Understanding: ” Estudios filosóficos LXVII, no. 196 (2018).
([5]) Susan Haack: “Not One of the Boys: Memoir of an Academic Misfit,” Cosmos + Taxis 8, no.6 (2020): 92-106. All the quotations in this answer are from pp.94-96.
([6]) W.V. Quine: Word and Object (Boston: Massachusetts Institute of Technology Press, 1960), 23.
([7]) See also: Susan Haack: Evidence and Inquiry (1993; second edition, Amherst, NY: Prometheus Boos, 2009).
([8]) Susan Haack: Manifesto of a Passionate Moderate: Unfashionable Essays (Chicago: University of Chicago Press, 1998).
([9]) Susan Haack: Defending Science—Within Reason: Between Scientism and Cynicism (Amherst, NY: Prometheus Books, 2003).
(*) الفوندهيرنتزم foundherentism: مصطلح من نحت هاك ذاتها، وتعني به النزعة الأسسية المتسقة أو النزعة الوسط ما بين النزعة الأسسية Foundationalism والنزعة الاتساقية Coherentism، وتعبر به عن نظريتها في التسويغ المعرفي، بحيث تأخذ من النزعة الأسسية والنزعة الاتساقية دن أن تلغياهما.
([10]) Susan Haack: Evidence Matters: Science, Proof, and Truth in the Law (New York: Cambridge University Press, 2014).
([11]) Susan Haack: “On Legal Pragmatism: Where Does ‘The Path of the Law’ Lead Us?”, The American Journal of Jurisprudence 50 (2005): 71–105; “On Logic in the Law: ‘Something, but Not All,’” Ratio Juris 20, no. 1 (2007): 1–31; “The Pluralistic Universe of Law: Towards a Neo-Classical Legal Pragmatism,” Ratio Juris 21, no. 4 (2008): 453–80; “The Pragmatist Tradition: Lessons for Legal Theorists,” Washington University Law Review 95 (2018): 1049–82; “The Pragmatist [Oliver Wendell Holmes Jr.],” in The Pragmatism and Prejudice of Oliver Wendell Holmes Jr., ed. Seth Vanatta (Lanham, Maryland: Lexington Books, 2019), 169–89.
([12]) Susan Haack: “Realisms and Their Rivals: Recovering Our Innocence,” Facta Philosophica 4, no. 1 (March 2002): 67–88; Susan Haack, “The World According to Innocent Realism: The One and the Many, the Real and the Imaginary, the Natural and the Social” (2014), in Susan Haack: Reintegrating Philosophy, eds. Julia Göhner and Eva-Maria Jung (Berlin: Springer, 2016), 33–58; Susan Haack, “Brave New World: Nature, Culture, and the Limits of Reductionism,” in Explaining the Mind, eds. Bartosz Brozek, Jerzy Stelmach, and Łuckasz Kwiatek (Kraków: Copernicus Center Press, 2018), 37–68.
([13]) Susan Haack: “Formal Philosophy: A Plea for Pluralism” (2005), in Susan Haack, Putting Philosophy to Work: Inquiry and Its Place in Culture (2008; Amherst, NY: Prometheus Books; expanded edition 2013, 2013), 235–50 (text) & 310–13 (notes).
([14]) Susan Haack: Putting Philosophy to Work, (Amherst, NY: Prometheus Books, 2008, second edition 2013).
([15]) Susan Haack: “Six Signs of Scientism” (2010), in Haack, Putting Philosophy to Work, 105–20 (text) & 287-83 (notes); Susan Haack, Scientism and Its Discontents (Rounded Globe, 2017).
([16]) See also: Susan Haack: “The Academic-Publication Racket: Whatever Happened to Authors’ Rights?” Borderless Philosophy 2 (2019): 1–21.
([17])See: Susan Haack: “Dry Truth and Real Knowledge: Epistemologies of Metaphor and Metaphors of Epistemology,” in Jaakko Hintikka, ed., Approaches to Metaphor (Dordrecht, the Netherlands: Kluwer, 1994), 1-22. Reprinted in Haack, Manifesto of a Passionate Moderate (1998),.69-89
([18](See: James D. Watson: The Double Helix (1968; critical edition, New York: W.W. Norton, 1980).
([19])Susan Haack: “Realisms and Their Rivals: Recovering Our Innocence,” Facta Philosophica 4, no.1 (March 2002): 67-88.
([20])E. O. Wilson: Consilience: The Unity of Knowledge (New York: Knopf, 1998).
([21]( See Haack: Defending Science, chapter 7.
([22]( See Hack: Evidence and Inquiry, chapter 8.
([23]( See, e.g., Ladyman and Ross.
([24])Alex Rosenberg: The Atheist’s View of Reality: Living Life without Illusions INew York: W. W. Norton, 2011).
([25](Se Haack: Defending Science, chapter 4.
([26]) Susan Haack: “Just Say ‘No’ to Logical Negativism” (first published, in Chinese, in 2012), in English in Haack, Putting Philosophy to Work, second edition, 2013, 179-94 (text) and 298-305 (notes). (This article includes references on Medawar, Eccles, and Bondi.)
([27]) Michael Krawczak et all: “Distinguishing Genetically between the Germlines of Male Monozygotic Twins,” PLOS Genetics 14, no. 12 (December 2018), https://doi.org/10.1371/journal.pgen.1007756. Some
prosecutors hope this might help them convict a guilty twin when otherwise this would be impossible; but so far the test is prohibitively expensive.
([28]) Saudi Arabia, Foreign Law Guide (Marci Hoffman ed., 2012), http://dx.doi.org/10.1163/2213-2996_flg_c1000045692. This is all totally unfamiliar to me, and harder to grasp even than Pakistani law (English with an Islamic overlay mandated by the Constitution) or Turkish law (Swiss, now with covert Islamic elements).
([29]) The legal issue was whether the skeleton should be given to the Umatilla tribe (under the Native American Graes Protetction and Repatriation Act) for proper burial, or whether scientists might do an mtDNA test to determne its ethnicity. Evenutally, the test were done; the ancestray was Native American! See, e.g., “New DNA Results Show Kennewick Man Was Native American,” https://www.nytimes.com/2015/06/19/science/new-dna-results-show-kennewick-man-was-native-american.html. “The Ancestry and Affiliations of Kennewick Man,” https://www.nature.com/articles/nature14625.
([30]) Daubert v. Merrell Dow Pharm., Inc., 509 U.S. 579, 587 (1993).
([31]) Gen. Elec. Co. v. Joiner 522 U.S. 136, 146 (1997(.
([32]) Kumho Tire Co. v. Carmichael, 526 U.S. 137 (1999).
([33]) Susan Haack: “Proving Causation” (2008), in Haack, Evidence Matters, 208-38.
([34]) Susan Haack: “Risky Business: Statistical Proof of SpecificCausation,” in Haack, Evidence Matters, 264-93.
([35]) Russell Brown: “An Immense and Enduring Contribution,” Foreword to Philosophy, The World, Life and the Law: In Honour of Susan Haack, ed. Mark Migotti, Cosmos + Taxis 8, nos.4 and 5 (2020): 1-2.
([36])See: Susan Haack: “Scientific Inference vs. Legal Reasoning? Not So Fast!” Anuario de Filosofía y Teoría de Derecho (2019): 193-213.
([37]) Susan Haack: “The Differences that Make a Difference: William James on the Importance of Individuals,” European Journal of Pragmatism and American Philosophy II, no.1 (2010): 1-10.
([38]) Except, possibly, a conviction that the epistemological clique was getting nowhere in intellectually.
([39]) I draw here on: Susan Haack: “From Analytic Beginnings to an Ampler and More Flexible Pragmatism: Muhammad Asghari talks with Susan Haack,” forthcoming in Journal of Philosophical Investigations 14, no. 32 (2020).
([40]) Susan Haack: “We Pragmatists: Peirce and Rorty in Conversation” (1997), in Haack, Manifesto of a Passionate Moderate, 31-47.
([41]) Susan Haack: “Pining Away in the Midst of Plenty: The Irony of Rorty’ Either-Or Philosophy,” The Hedgehog Review: Critical Reflections on contemporary Culture (summer 2016): 76-80.”
([42])Thanks to Mark Migotti for helpful comments on a draft, and to Pamela Lucken and Bianca Anderson for help in finding relevant materials.