تمتلك اللغة قدرة هائلة على الاكتفاء بذاتها داخل سيرورات تمثيلية لا تستنسخ أشياء العالم أو تحاكيها، إنها، على العكس من ذلك، تُعيد بناءها ضمن سجلات قد تكون مساحة الرمزي فيها أرحب من مقتضيات مرجعية تشد الكلمة إلى الأشياء التي تمثلها. وتلك هي الماهية الحقيقية للإنسان، فبدون هذه الرمزية كان من الممكن أن يظل أخرس في ذاته وفي علاقته بمحيطه، “فالإنسان هو الكائن الناطق في اللغة” (أرسطو)، إنه بذلك ” لا ينطلق منها، بل يعود إليها” (هايدغر)، فهي سبيله إلى التعرف على عالمه كما يُبنى في المعنى لا في مظان أشيائه وكائناته.
وهذا معناه أننا لا نستطيع قول أي شيء عن العالم الخارجي دون توسط المفاهيم، فهي الشكل الوحيد لوجودنا فيه، فداخلها فقط تصبح الأشياء والكائنات قابلة للإدراك. “فعندما تولد الكلمة تعود الأشياء إلى طبيعتها، حينها ينتصب الإنسان واقفًا” (ريكور)، مستقلًا عن محيطه. وتلك صيغة مجازية للقول إن الإنسان يروض الطبيعة بالكلمات الدالة عليها. فهذا التعريف هو الذي يجعله كائنًا ” في العالم” لا “داخله”، فالموجود حالة تستعصي على المعنى خارج اللغة.
وتلك كانت وسيلته للتنويع من حضوره في الوجود وفي الذاكرة، ووسيلته أيضا لأَنْسنة العالم وضمه إلى متاعه الرمزي. فكل الأشياء والكائنات التي التقطها وفصلها عن محيطها ووجَّهَها نحو استعمالات أخرى، وبث فيها المتعة واللذة والرهبة والتقديس، كانت من طبيعة مخيالية، أي ممزوجة بالأسطورة والمجاز والسحر والعبق الديني؛ إن وجْهها الرمزي وحده يمكن أن يكون دالًا على ما يتجاوز متطلبات المعيش اليومي وإكراهاته.
استنادًا إلى ذلك، نُظر إلى اللغة باعتبارها واسطة نحو عوالم موجودة في ما هو أبعد من الحس بكل منافذه. وذاك تعبير آخر عن رغبة الإنسان في الاحتماء بما يندرج ضمن “الاستعمالات الاستعارية”، فهذه الصيغ المضافة وحدها تُسهم في تنظيم الأشياء والكائنات خارج التصنيف التقريري والتسميات المتداولة، أي خارج إكراهات مرجعية تحد من انتشار المعنى وتنوعه. إنها تفتح العالم على ما يأتي من الذات المدرِكة لا من موضوع إدراكها. فلا يشكل هذا الموضوع سوى مثير عرضي يُغذي العلامة ويمدها بعناصر التمثيل، ولكنه لا يمكن أن يوجد إلا من خلالها. ” فالكلمة لا تدل على شيء، إنها تدل على إنسان يفكر في هذا الشيء… فلكي تكون الكلمات واضحة وجب التزحلق فوقها، ومن يهده التعب يكون قد فهم معناها” (فاليري).
وهذا معناه أن قدرَ العلامة لا يكمن في التعيين أو الوصف المباشر، بل في قدرتها على فتح ما تقوم بتعيينه على ممكنات دلالية جديدة توسع من ذاكرة العالم وتجعله قادرًا على استيعاب مضافات الثقافة: إن القمر في السماء واحد، ولكنه في اللغة متعدد، تمامًا كما أن العشق واحد أما العشاق فلا حصر ولا عد لهم. ووَفق هذه الحقيقة ستكون حركة التدليل في النصوص سيرورة لامتناهية في المنطلق وفي المنتهى، من الناحية النظرية على الأقل. فالعلامة لا تحيل على شيء، بل تحيل على “علامة موازية، أو علامة أكثر تطورًا، إنها شيءٌ تُفيد معرفتُه معرفةَ شيء آخر” (بورس). يتم ذلك ضمن سلسلة من الإحالات التي قد لا تتوقف أبدًا. ذلك أن الأشياء تولد وتنمو وتضمحل داخل اللغة ضمن حركة تدليليّة موطنها الكلمات وحدها. “فنحن في نهاية الأمر لا نتكلم سوى جملة واحدة والموت وحده يمكن أن يضع لها حدًّا “(تشومسكي).
وقد يكون هذا هو السبب الذي دفع تيارًا واسعًا من المشتغلين في ميدان التأويل إلى تَسْفيه الفكرة القائلة بوجود “معنى كلي” هو ما يفيض عنه النص ويقوم بتشخيصه، فليس لهذا النص في تصور هؤلاء من قصد مسبق يمكن أن يرتهن إليه في حالات توليده وتأويله سوى “اللعب الحر ” لدوال تائهة بلا وجهة ولا غاية، وذاك هو مصدر المتعة فيه. إن المدلول يقتلها، فعندما تتخلص العلامة من مؤلفها تُسلم نفسها لمتاهتها الأصلية حيث لا قدرة للمؤول أن يحيط بكل دلالاتها” (دريدا).
وتلك طبيعة الكتابة، “إنها لا تحيل سوى على الكتابة ذاتها. لذلك، سيكون وصف أنساق المعنى استنادًا إلى فرضية وجود مدلول نهائي معناه السير ضد طبيعة المعنى ذاته” (بارث). فالمتعة لا تكمن في الاستقرار على دلالة تطمئن النفس على حقيقة الأشياء في العالم، بل في الذهاب بالكلمات في كل الاتجاهات. فقد يكون الوصول إلى مدلول نهائي حلما يراود كل الناس، ولكنه لن يتحقق إلا في النصوص التي خرجت من الزمنية الإنسانية ووضعت نفسها خارج إكراهاتها.
والحاصل أن لعبة الدّوال لا يمكن أن تتوقف، وستظل كذلك لاستحالة الوصول إلى حقيقة هي الغاية من كل تمثيل. فما يمكن الوقوف عنده هو شظايا دلالية عارضة شبيهة بإشراقات الصوفية أو بحالات استبطان لا تلتقط من المرئي والظاهر سوى نسخ من أصل لا يدركه الفهم العادي. فلا وجود لمركز يمكن أن يكون ضامنًا لانسجام نص منذور للتشظي. إننا لا نستطيع فهم النور الرباني، لذلك نكتفي منه بكل الأشياء المنيرة، كما يقول المتصوفة.
وذاك هو الفاصل بين القراءة العادية التي تكتفي بردّ العلامة إلى مرجعها، بما يقود إلى الاستقرار على مدلول نهائي يقلص من المدى التمثيلي فيها، فهو الدليل على أننا “فهمنا” ما تود العلامة قوله، وبين التأويل الذي يقوم بفك الطاقات الدلالية من عقالها ويدفع بها إلى تسليم مكنونها وفق ما تبيحه السياقات المضمرة، لا استنادًا إلى ما يمكن أن يقوله المعنى المباشر. وذاك ما يفسر تعدد تأويلات النصوص المقدسة وتعدد القواعد المشتقة منها.
بعبارة أخرى، نحن لا نؤول وقائع العالم، وإنما نستحضر وجودها في اللغة أولًا. وبذلك يكون التأويل اللامتناهي آلية مركزية في تحديد مقاصد النص، أي ما يقود إلى الكشف عن ممكناته الدلالية التي لا يمكن أن تُستنفد إلا ضمن سياق تأويلي هش، وبصفته تلك، فإنه لا يشكل حقيقة نهائية يمكن الاطمئنان إليها، بل يرسم سبيلًا قد يقود إليها. ومصدر ذلك طبيعة اللغة ذاتها، فهي قاصرة أو مخاتلة أو مهددة بالاستعمالات الاستعارية، وذاك ما يمدها بالقدرة على استيعاب مجموع حالات حضورنا في العالم، أي الكشف عن التعددية في النفس وفي الوجود. فلا يمكن تصور حالات إشباع دلالي إلا باستحضار اللحظة التي كانت شاهدة على ميلاد النص.
إن الأمر شبيه بالحالة التي يتحدث عنها كيركيغارد، فهي حالة مثيرة حقًا، فهي لا تنفي وجود المعنى، بل تؤكد استحالة القول بنهائيته. لذلك يُشْرط الفهم الكلي باستحضار موقف” الحواري الأول”، ذاك الذي كان يلتقط كلام المسيح بشكل مباشر، فهو وحده كان بإمكانه التعرف على حقيقة الكتابة وإدراك سرها. أما المؤمنون الذين جاؤوا بعده فليس بمقدورهم الوصول إلى حقيقة اللحظة الحميمية التي كانت مهدا للمعنى وشرطًا من شروط وجوده. وليس غريبًا أن ترتبط الهرموسية، وهي فن التأويل، بفكرة مركزية ترى في العمل الفني مصدرًا لمعنى أصلي يجب استعادته كما أراده صاحبه أو فكر فيه. إنها ” بقايا حريق يلتهم كل شيء في طريقه، ولكنه يترك آثارًا دالة على وجود المحروق” (شلايرماخر).
وفي هذه الحالة وحدها يمكن الحديث عن مدلول من طبيعة قدسية. فالتأويل في هذه الحالة يندرج ضمن إحالات محكومة بنقطة بداية صريحة وموجهة نحو نهاية بعينها. إنه لا يقود إلى كل المدلولات الممكنة، لأن ذلك يُعد خرقًا للغاية من وجود محكوم بالعودة إلى أصله، بل يستحضر ما يؤكد حقيقة الكتابة وصدقيتها في السلوك وفي المعتقد. إن سيرورة التأويل في هذه الحالة شبيه برحلة عوليس اليوناني، لقد تاه زمنًا طويلًا وسط البحار والجبال والأدغال بحثًا عن مغامرة أو صيد أو مأوى، ولكنه ظل طوال رحلته تلك مشدودًا إلى نقطة بعينها: إيطاكيا عاصمة الملك، بداية الرحلة ونهايتها حيث بينيلوب وتيليماك في انتظاره.